المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ادم سميث .. والمسمار الأخير



NAJJAR
06/06/2009, 06:12 PM
ادم سميث .. والمسمار الأخير

الإقتصاد العالمي الرأسمالي يتأرجح، وأكبر قوة عسكرية في العالم تعجز عن تحقيق الأمان الإقتصادي، ومعاشات ومدخرات الجميع تواجه حكم الإعدام الإقتصادي. وفي يوم واحد يفقد قرابة المائة ألف عملهم ويتكاثر المتوسط عشرة أمثاله عن العام المنصرم الذي بلغ في مجموعه أكثر من مليونين ونصف المليون عاملاً تم إلقاء ملفاتهم في الشارع وفقدوا مصدر قوتهم في ظل حالة إقتصادية متردية لا أمل فيها في الحصول على وظيفة.

لقد تعددت الأيام السوداء في مذكرات لإقتصاد الرأسمالي والأميركي على وجه الخصوص. ولم تعد هناك جدوى من ضخ المزيد من المليارات التي جاوزت التريليون دولارا في الإقتصاد الرأسمالي، وأصبحت المسكنات لا تهدئ من حدة ألمه وصراخه وعويله. ولم يعد هناك مجال لقولة "دعه يعمل دعه يمر" وتحولت إلى "دعه يتشرد دعه يموت". وفي ظل اقتصاد عجوز يفتقر منذ نعومة أظافره إلى مبادئ الرحمة والتكافل والعدالة في توزيع الثروة، يموت الإنسان على حافة الطريق أو أسفل الجسر بلا مأوى ولا يدفن إلا تُقية.

لم تعد هناك رغبة لدى كهنة الرأسمالية في وضع إكليل من الزهور على قبر الأسكتلندي آدم سميث، تلميذ مانافيل الذي قال بأن "الرزائل الفردية هي فضائل إجتماعية". لقد سقط الإقتصاد الفردي الذي غالى في الملكية الفردية على حساب الملكية الجماعية، كما سقط من قبل الإقتصاد الإشتراكي الذي غالى في الملكية الجماعية على حساب الملكية الفردية، وبقى صامدا لا يهتز الإقتصاد الإسلامي الوسطي الذي يقدر الملكية الفردية دافعة الإبداع والتجديد، والملكية الجمعية صمام أمان الفقراء والعدالة في توزيع الثروة، وبقي الإقتصاد الإسلامي عفيفاً، وانحط الإقتصاد الوضعي انحطاط منظريه. وظهر جلياً للعيان أن اليد الخفية "المصلحة العامة" التي أوكل إليها آدم سميث مهمة مساعدة الإقتصاد على تعديل آثار النزعة الفردية، كانت يداً مشلولة ولم تقم بمهمتها أبدا، حتى أصبح أقل من 10% من المجتمع الرأسمالي يملكون أكثر من 90% من الثروة، وتكالبت الجماهير 90% من المجتمع على أقل من عشر الثروة، في ظل اندماج الشركات العملاقة وتزايد ضغط حلقة الإحتكار على عنق نظام الأسعار الذي فقد حريته ونزاهته الديناميكية بفعل قوى الإحتكار المتنامية.

واليوم لم تسلم قوى الإحتكار نفسها من مثالب النظام الرأسمالي الوضعي، حيث انه ليس من الممكن أن يستمر النظام الإقتصادي مع تآكل الطبقة المتوسطة التي يعول عليها النظام كحلقة من حلقات صياغته والتي تتمثل في الإستهلاك، ولم يعد الأميركي أو الأوربي يدخل إلى السوق ويخرج بحقائب ممتلئة "بالماركات" والعلامات التجارية العالمية، وأصبح كل همه هو كيف يوفر قسط بيته أو سيارته أو كيف يدفع قسط دَينه الذي لا يريد أن ينتهي. وتكدست السلع في الأسواق، وأصبح التوسع الخارجي يعاني من نقص تدريجي ومشاكل عدة، لوجود نفس المشكلة في كل مكان. ولم تفلح سياسات الأسعار في إقناع المستهلك المحلي والدولي بشراء السلع الكمالية، حيث انتقل اللعب في الشوط الثاني إلى ملعب مُنظر الحاجات الإنسانية "مازلو"، وفي الحقيقة في إدنى مستويات هذا الهرم المبسط جداً، والذي لا يتحمل ضغط التعقيدات البشرية ولا يفسر كثيراً "دينامياتها" ومفاجأتها غير المتوقعة.

وبدأت تتساقط من عرش الرأسمالية قطع كبيرة من الصناعات الكمالية والتي كانت تمثل في الحقيقة وبسبب التشوه الإستهلاكي للنظام لرأسمالي؛ صلب النظام الرأسمالي ذاته والمصدر الرئيسي للثروة. ثم انتقل الحال تدريجيا ولكن بشكل أعمق إلى النظام الإئتماني والمالي، والذي تعرض لموجة "تسونامية" حادة أودت بحياة نظام التمويل العقاري وشلت حركته تماماً، وهو الذي كان يعول في استمراريته أساسا على الإقراض البنكي والتسهيلات الإئتمانية الربوية.

ولدغت عقرب الربا لسان الرأسمالية فلم يتمكن أحد من منظريها من النطق بحلٍ يحفظ به ماء وجه آدم سميث، ولم تفلح سبعمائة مليار دولار أن تنقذ السوق الأميركي، كما لن تفلح 800 مليار دولار أن تنقذ السوق الإنجليزي، ولن تفلح في إعادة الروح للشركات التي أفلست ولا لخمسين شركة من أكبر شركات أوربا فقدت في أقل من أسبوع ربع أصولها ولا تزال تدمي من كل شريان ووريد.
ويتطلع الأوربيون بأنظارهم عبر المحيط الأطلسي حانقين، ليلقوا باللوم على الإدارة الأميركية السابقة التي خسرتهم "الجلد والسقط"، ونثرت دماءهم على أرض العراق وأفغانستان بوعود براقة لم يجنوا منها شيئاً، كما يتهمون أميركا بجرهم إلى الهاوية معها إذ بدأت "انفلونزا الإئتمان الوبائية" بداية أميركية، وتضخمت حين عجزت أميركا عن السيطرة على انهيار النظام العالمي، وأنى لها وهي لا تملك السيطرة على نظامها الإقتصادي نفسه.

أخطاء بوش لن يقدر عليها أوباما:
لعل القارئ أن يعود إلى ما كتبناه سابقاً تحت عنوان " أميركا .. الرجل المريض " في مقالات ثلاثة تفصل الموقف الإقتصادي الأميركي لما قبيل الأزمة. والذي كان يدلل بما لا تخطئوه العين على قرب سقوط الإمبراطورية الهلامية للإقتصاد الرأسمالي الدعائي، وخاصة في ظل حماقات النظام الإداري لأميركا على كافة الأصعدة. ويرى المحللون أن أخطاء الإدارة الأميركية المنصرمة أكبر من أن يحلها رئيس جديد أيا كانت إمكانياته.

فأميركا التي انتشلتهم من قبل بمشروع مارشال تحتاج إلى معجزة في عصر بطلت فيه المعجزات إلا واحدة، إنها تكمن في كتب المسلمين وبين ثنايا أدبياتهم. وأفضل تعليق ورد في هذا الأمر هو أن "أوربا تتعرض لعولمة الأزمات" في إشارة إلى تصدير أميركا الأزمة الإقتصادية إلى أوربا، غير أنه في الواقع فإن البنوك الأوربية رغم أنها كانت أكثر تحفظا في عمليات الإقراض والرهن العقارية إلا أن الأزمة كانت تكمن في ثنايا وحنايا النظام الرأسمالي نفسه، وتنتظر فقط أن تنطلق الشرارة الأولى من أي مكان، وكانت أميركا هي المرشحة إقتصاديا المستبعدة جماهيرياً.

وبدأ كبار اللاعبين في حلبة الرأسمالية في التساقط والخروج من الملعب بأنوف تدمي، وطالت حمى الفصل التعسفي لتخفيض التكاليف والحفاظ على استمرارية الشركات ولو شكليا تجتاح العالم، وشاهد الملايين من عبيد الرأسمالية ذلك، وأفلت أنجم براقة في سماء الرأسمالية وتوجهت تلقاء الثقب السود في يوم جعلوه أسوداً وسنة تبدوا لهم من أول أشهرها سوداء.


سيناريو جديد: الرأسمالية تتهاوى

شركة مايكروسوفت العملاقة وصاحبها بيل جيتس أغنى رجل في العالم (أميركية)، مجموعة سيتي جروب (أميركية)، فيليبس (هولندية)، إنج للتمويل والتأمين (ألمانية)، شركة كوروس للحديد والصلب (هندية)، شركات كان المستهلكون ينظرون إليها كما لو كانت آلهة يقدسها رومانيون، هي اليوم تمثل أكبر مصدر للبطالة في الإقتصاد الرأسمالي المتهاوي.

ويأتي ذلك في وقت كنا نناقش فيه فكرة العولمة (Globalization) التي ابتدعتها القوى الرأسمالية الكبرى لإعادة احتلال العالم في ثوب جديد، بعد أن أصبح ثوب العملاء ممزقاً واتسعت كل خروقه على الرواقع. ويأتي ذلك كاستجابة لضغوط الشركات التي بدأت محلية، ثم أصبحت وطنية، ثم قومية ثم إقليمية، ثم قارية، ثم عابرة للقارات، ثم عالمية، ثم انفصلت ملكيتاتها عن إداراتها في تطور تنظيمي نوعي، ثم أصبحت متعددة الجنسيات بإجراء اندماجات استراتيجية للسيطرة الإحتكارية على السوق العالمي، ثم أصبحت لا جنسية لعبور عقبات القوانين المحلية والعوامل السياسية، ثم سيطرت على السياسة العالمية وخلقت نظرية للعمالة، ثم طمعت في السيطرة الإحتلالية على العالم من خلال التحكم الإقتصادي والمعونات المشروطة Conditional Aids، ثم وصلت إلى محطة العولمة التي وجدت فيها أملها المنشود. وحكمت الأرض وظنت أنها قادرة عليها، حتى أتاها أمر الله، وضربت مؤخرة الرأسمالية رأسها، وانقلب السحر على الساحر.

ولأن القلوب كانت غلفاً، والغرور بالنفس كان في أوجه، وانخداع المسلمين بالتنظيرات الرأسمالية تحت وهم التفوق الذي بثته في صدورهم أجهزة مخصصة للحشد المعنوي كان كبيراً، لم يلتفت العالم كثيراً إلى أن النظام الرأسمالي لابد وأن ينهار إلى الداخل وهو في طريق الصعود، وأنه لا يملك غير طريق واحد ينتهي إلى حفرة لا تنكرها التحليلات البعيدة النظر للنظرية الرأسمالية.

وحيث عجزت الإشتراكية عن الإستمرار والوصول إلى درجة الشيوعية التي كانت تنشدها، وهي الإنعدام التام للملكية الفردية (الطرف الأيسر من التطرف الإقتصادي)، والسيطرة التامة للحكومة على النظام الإقتصادي وعوامل الإنتاج؛ فيما يبسط المثالية الإشتراكية الوضعية، فإن سعي الرأسمالية نحو الوصول إلى الحالة المثالية لها وهي الإنعدام التام للملكية الجماعية (الطرف الايمن من التطرف الإقتصادي) وانعدام التدخل الحكومي في النشاط الإقتصادي، قد قادها نحو فوضى السوق وتحطم القواعد الديناميكية لنظام الأسعار وخضوعه للتكتلات الإحتكارية، ومن ثم تزايد القيود على السوق الى درجة الشلل والتخصص الشديد الذي قتل القدرة على نمو الصناعات الصغيرة، ومن ثم ازدادت حدة الطبقية وتداعت كل إمكانات التكافل، ووصلت إلى مرحلة الإنحياز شبه الكامل لطبقة الأغنياء في توزيع الثروة.

لقد بات الطريق مقطوعا تماما أمام الطبقات الدنيا لتعديل أوضاعها، وأصبح مبدأ "دعه يعمل، دعه يمر" يبدو هزلياً أمام فرص العمالة المتناقصة، وفرص الأعمال المعطلة بفعل الإحتكارات والوصول إلى مرحلة الإنتاج الكبير الذي يحتاج إلى تمويل ضخم لا تقدر عليه الدولة ذاتها، فضلا عن مفردات الطبقة الفقيرة.


الرأسمالية.. والصعود إلى الهاوية:

والذي أخفق العالم الرأسمالي في إدراكه هو أنه في حال انعدام تدخل الحكومة في النشاط الإقتصادي، لن يكون هناك نظام ضرائب ولا جمارك ولا سياسات ضبط للسوق، وبهذا سيكون البقاء للأقوى، وتسود إقتصاديات الغاب، وتحذف متغيرات هامة من قاموس المعاملات الرأسمالية. وهو ما يعني أن ما تسعى إليه الرأسمالية هو السقوط وليس المثالية. هذا فضلاً عن المقاومة الجماعية للمجتمع الذي سيرفض بالتالي تقاليد الرق التي تصاحب تسلط النظام الإحتكاري. وهو ما نجد لوصفه الكثير في أدبيات التبرير الإشتراكية ونقد الرأسمالية البرجوازية. لقد اختفى استعمال هذا المصطلح " الرأسمالية البرجوازية"، من الأدب الإقتصادي المعاصر في مرحلة تمثل بحق المرحلة المثلى لتداوله، إذ هو ما يتحقق اليوم رأي العين.

ولا يعني هذا بأن الإشتراكيين على حق في نظرياتهم، ولكن ما قالوه بشأن الإنفجار الإجتماعي في المجتمعات الفردية الرأسمالية لا يبتعد كثيرا عن الصواب. ولقد حدث ذلك بالفعل وفي تصاعد مستمر في أوربا حيث خرجت الجماهير الغاضبة إلى الشوارع، مما أدى إلى تحضير اجتماع طارئ للإتحاد الأوربي للنظر في استراتيجية للتعامل مع القلق السياسي والإجتماعي الناتج عن الأزمة الطاحنة التي لا يرى لها أحد من حل تحت قبعة ابناء "الكاو بوي ولا تحت الطاقية المحصورة عن الرأس".

والحق هو أن النظام الرأسمالي يتجه في تطوره نحو الثورة الإجتماعية، بينما يتجه النظام الإشتراكي في تطوره نحو ثورة الأفراد والبحث عن الذات، وكلا النظامين لا يحقق الإستقرار والعدالة الإجتماعية والحرية على المدى البعيد، رغم ادعاء الإشتراكيين التركيز على العدالة الإجتماعية، وادعاء الرأسماليين التركيز على الحرية. أما هذا التناغم التام بين الفردية والجماعية في النظام الإسلامي، والتوازن بين دور القطاع الخاص (الفردي) والقطاع العام (الجمعي)، وبين التدخل الحكومي وحرية السوق، فهو نوع من صياغة المتناقضات في وضع مثالي لا يقدر على مثله بشر. فالإنسان قد جُبل الناس على الحكم بالمقارنة والنسبية، ولا يملك البشرُ العلمَ الكافي لتحديد الأرقام المطلقة للمتغيرات البشرية، إذ يلزم ذلك أن يخرج من نطاق التحليل كيما يمكنه الحكم عليه بحياديه. وهو لا يملك أن يكون شيئاً آخر غير كونه بشراً. وهو الأمر الفارق أبداً بين القوانين الوضعية والقوانين الشرعية السماوية.

ولمن يطالب بأن يكون الحديث تجريدياً، فإن الواقع المعاش، وما نشهده هذا الأيام يرفض أن يكون تجريديا ويجتر في فمه مصطلحاتنا الإسلامية التي نهشها خلسة عبر مؤسساته الأكاديمية التي لا تفتؤ تتنسم عبق المصحف بعد أن فاحت رائحة الجيف من كتاب "ثروة الأمم"، ومن قبله "كتاب رأس المال"، ونقول لهم قول الله عز وجل " مَاْلَكُمْ لا تَرْجُوْنَ لِلَّهِ وَقَارَاً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارَاً" (نوح: 13-14)


الفارق الهيكلي بين الإقتصاد الإسلامي والرأسمالية

إن أول ما يتبادر إلى ذهن الباحثين، والمحللين الإقتصاديين، والمهتمين بالدراسات المقارنة بين النظام الإقتصادي في الإسلام وبين النظام الرأسمالي الوضعي؛ هو التفرقة على اساس احتواء النظام الرأسمالي على الفائدة الربوية في حين أن النظام الإقتصادي في الإسلام لا يسمح بها على الإطلاق.

بيد أنه قد آن الأوان للمحللين الإقتصادييين والباحثين أن يلتفتوا إلى فوارق أخرى لا تقل بحال من الأحوال عن فارق الربوية. ومن هذه الفوارق ما هو هيكلي، ومتغيرات أساسية يمكنها أن تشوه الهيكل الهندسي للنظام الإقتصادي برمته، وعلى أساس منه ترتكز العلاقات الإقتصادية الأخرى وتترتب عليه نتائج مباشرة على توزيع الثروة والعدالة الإقتصادية، وتعد ذات أهمية حيوية للتخطيط الإقتصادي القومي والمشروعات التنموية وأهدافها الأولية.

من النظرة الأولى إلى الهيكل الإقتصادي الرأسمالي الحر، فإن أول ما نلحظه في هيكلة الإقتصاد الرأسمالي هو أنه يعتمد في استقراره على توافر السيولة النقدية، وفي تمدده واتساعه على التراكم الرأسمالي. ولا يتحقق ذلك إلا بوجود آلية اقتصادية تهدف إلى تحقيق التراكم الرأسمالي مرتكزة على الإدخار وتصاعد الربحية لعوامل الإنتاج، والتبادل التجاري الذي تتراكم من خلاله الإحتياطات النقدية. و يعتمد الإقتصاد الرأسمالي على تلك الإحتياطيات النقدية في الخروج من أزماته الدورية.

ومن ثم فإن الإقتصاد الرأسمالي هو اقتصاد يعتمد في توسعه على التراكم الرأسمالي والثروة، وتهدف آلياته نحو حفز الميل للإدخار، في حين أن الإقتصاد الإسلامي يعتمد على مرجعية تجرم المبالغة في الإدخار، وتدعو إلى الإنفاق الرشيد. فالإسلام في جميع مدلولاته يدعو إلى الإنفاق، سواء كان في سبيل العيش الكريم والتمتع بالمال تحت شرط الرشد، أو التخلي عن جزء من المال في سبيل الله، ودعم الفقراء ودعم الأنشطة التي تفيد الأمة الإسلامية وتقوي من مكانتها وتحفظ حقوق المسلمين.

ولقد هاجم الإسلام الإكناز والتقتر وإذلال النفس من أجل تحقيق الثروة، ودعا الإنسان إلى التخلص من الشح والأنانية وحب النفس والمال، وأن يكون الفرد في تصرفاته الإقتصادية نابعاَ عن موقف الجماعة ومشاركاً إيجابياَ في النشاط الإقتصادي. ولكي يتحقق التمويل الكافي للأنشطة الإنتاجية، فلقد دعا الإسلام إلى الجماعة وتطبيق معايير الشراكة الإسلامية وشجع على الفعل الإقتصادي الجماعي.

تؤكد الدلائل الإقتصادية التاريخية أنه وكنتيجة للضغط الذي يمارسه النظام الرأسمالي على الإنفاق، ودفعه المجتمع إلى الإدخار حتى وصل ذلك إلى أن أفرطت بعض المجتمعات في الإدخار، مثل المجتمع الياباني الذي اضطرت فيه الحكومة إلى فرض قوانين مضادة للإدخار بعد فشلها في تحفيز الإنفاق والذي جعل الإقتصاد الرأسمالي المفتوح يعاني بشدة من آثار الكساد، ويضطر مرة بعد أخرى إلى تخفيض الإنتاج والتضحية بمستوى العمالة والناتج القومي.


هل يمكن أسلمة النظام الرأسمالي؟

من المؤكد أنه واضح للجميع أن الفارق بين النظام الإقتصادي في الإسلام والنظام الرأسمالي الوضعي هو أكبر بكثير من أن يتم اختزاله في مشكلة الربا، وفي الحقيقة فلسوف يكون ذلك نوعاَ من الغبن الشديد أن تختزل الفوارق الهيكلية في تخفيض الفائدة إلى الصفر أوتذويب عنصر الربا، وتخفيض الضرائب إلى نسبة 2.5 بالمائة ليتوازي (رقمياَ) مع النظام الإسلامي. فهذا لن يعبر هوة الفروق الهيكلية الأخرى مثل هيكل التوزيع وانتقال الثروات (الإرث) والذي يفصله الإسلام تفصيلاَ لا يسمو إليه عقل بشر.

لا جرم أن عدالة التوزيع في النظام الإسلامي هي الناتج الطبيعي لهيكله الإقتصادي المتسق، والذي يعتمد على التوازن بين الحاجة الإقتصادية والحاجات الإنسانية، مقوضاَ ببساطة شديدة كل المعوقات الطبقية التي تنشأ نتيجة تحقيق بعض الأفراد للثروة بشكل كبير. وفي حين تفشل النظم التقليدية للإقتصادات الوضعية في معالجة هذه الحالة فإن النظام الإسلامي يتضمن في هيكله الآليات التي تحول من التوسع في الثروة إلى عامل بناء ولا يسمح بالاحتكار الذي يؤثر سلبيا على آليات السوق ويتلاعب بمفهوم العدالة الإقتصادية Violating the economic equity concept.

ويفيد النظر في الهيكل الإقتصادي الإسلامي بأن دخول متغير الفائدة بالمواصفات الربوية في النظام الإقتصادي الرأسمالي هو الذي أربك العلاقات الرياضية للنظام وتسبب في الأخذ دائما بنتائج غير دقيقة وصعوبة في السيطرة على النشاط الإقتصادي بسبب معضلات النظام النقدي وتطرف السياسات المالية في محاولاتها لإعادة النظام الإقتصادي الرأسمالي إلى حالة الإستقرار، لما للمتغيرات الإقتصادية من تشابك ومضاعفات تجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يتم تحييد متغير اقتصادي أساسي كسعر الفائدة دون المساس بالمتغيرات الأخرى، سواء على المدى القريب أم البعيد. إنها دائرة من عدم التأكد هنا تعكس فوضاوية جذرية في النظام الرأسمالي برمته.

وفي حين تصل الضرائب إلى نسب عالية في الإقتصاد الرأسمالي تمثل عبئا يهدد المؤسات المكافحة، فإن الزكاة في النظام الإسلامي لا تكاد تؤثر على فرصة التراكم الرأسمالي والتوسع الإنتاجي، وهو ما يضطر المؤسسات في النظام الرأسمالي إلى الإعتماد على نظام الإقراض مما يزيد من وطأة الأثار الناجمة عن المعاملات الربوية مثل التوسع النقدي وخلق قيمة إسمية للنقود تختلف عن قيمتها الحقيقية. ولقد يكون من المناسب هنا أن نصف ذلك بالتكاثر النقدي وتنامي القيمة الإسمية للنقود وانتفاشها في أشكال مختلفة من المعاملات الإئتمانية، مما يجر الإقتصاد إلى تقلبات ودورات يتميز بها.

وفي الجانب الآخر، نجد أن النظام الإقتصادي في الإسلام يتمتع بالإستقرار والتجدد ولا يعاني من التقلبات الإقتصادية التي تعد علامة مميزة للإقتصاد الوضعي، نظراَ للحفاظ على القيمة الحقيقية للنقود، و عدالة نظام توزيع الثروة، كما يتمتع النظام الإنتاجي في ظل الإقتصاد الإسلامي بالحماية الكافية وعدم تعرضه لإنتهاكات إحتكارية تجعل من نظام الأسعار أداة لتصرفات اقتصادية جائرة.

وفي ظل الإستقرار النقدي الذي يتوافر للنظام الإقتصادي في الإسلام، يكون من المتاح منح القروض الحسنة (التي ترد على أصولها) من قبل الدولة والأثرياء لتشجيع الصناعات الصغيرة والناشئة دون أن يتعرض رأس المال المقرض للتآكل كما يحدث في النظام الرأسمالي بسبب تدهور قيمة النقود.

و بالتالي فإن تخلص الإقتصاد الرأسمالي من الربا، وخفض الضرائب إلى نسبة 2.5% الإسلامية لا يعني التحول إلى النظام الإسلامي، بل هو لا يزال بعيدا عن مفهوم الأسلمة. وأن النظام الإسلامي لا يمكن تجزئته، وإنما يمكن فقط الأخذ به على وجه الكلية، إذ هو في غنى عن أي تدخل من البشر.