المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الى كل المغتربين!!!



ظلال
05/10/2006, 11:01 PM
حنيـــــــــــــــن
في ليلة اشتقت فيها للوطن اشتياق الرضيع إلى حضن أمه، جلست على المكتب وضوء المصباح الكهربائي يزعج عينيّ اللتين آنستهما ظلمة الليل بعد انتصافه، فالليل هو سر كونيّ غريب، والإنسان جزء منه لأن كلّ عواطفه وأشجانه وذكرياته تلمع كالبرق في حلكته، فهو سمير للنفس البشرية، حينها تذكرت الطفولة وأهازيجها، تذكرت أيام الشباب وعنفوانه، تذكرت إنسانة غالية على قلبي، شاركتني أيام الطفولة والشباب، بالكاد أذكر ملامح وجهها.
نهضت عن الكرسي متجهة نحو الخزانة، قاصدة صندوق الخشب الصغير الذي أكل عليه الدهر وشرب، نفخت عليه لأن بعض الغبار كان قد التصق به فشحب لونه، رؤية الصندوق أججّت عاطفتي. احتضنته ووضعته على سريري ليذكرني بوالدي الذي أهداه لي بعد أن اجتزت المرحلة الثانوية، فكانت فرحتي بامتلاكه عظيمة وما زالت، لأن أبي الفلاح البسيط قد صنعهُ لي بيديه الكادحتين اللتين امتزجتا بعرق جبينه، صنعه من أشجار بلوط غابة عجلون فتحته لأرى أشياء عزيزة على قلبي احتفظت بها لتذكري بالوطن وبترابه الطهور، ومن بين هذه الأشياء، ألبوم صور باللونين الأبيض والأسود، عتيق يكاد أن يتمزق بين كفيّ. أنظر إلى كلّ صورة فيه لتذكرني بحادثة طريفة أو محزنة حدثت معي في تلك الأيام الخوالي. ثم اغرورقت عيناي بالدموع لرؤية صورة لصديقتي العزيزة، وأرى نفسي أيام الشباب واقفة إلى جانبها أمام مدرستي القديمة ذات الأسوار الطينية. فقرت أن أكتب لها رسالة بعد أن ثارت عواطفي وذكرياتي.
أمسكت القلم وراح قلبي يخفق ويخفق، فالحزن والخوف سكناه في تلك اللحظة وأبيا أن يفارقاه. شعرت برغبة جامحة في الكتابة لها. لكن ماذا أكتب؟؟ اعتدت أن أكون صادقة معها، وهي تعلم هذا، لم أعرف الكذب يوماً لأنني كنت أخافه فقد كان أبي يقول دائماً: "الكذب حباله قصيرة". فهل أحوّل بياض صفحتي إلى سواد؟؟ لأقول لها: إن قلبي يهتف فرحاً. وحياتي يملؤها الأصدقاء بهجة كما لو كنت في الوطن. فمدينتي الجديدة هي وطني وأهلي وأحبائي، هي كلّ شيء أملكه وأحبه في دنياي.
أأقول لها إن خرير ماء الجداول ينساب مع هواء الربيع المشبع برائحة النرجس والياسمين إلى حنايا جسدي فينتفض كالعاشق إذا رأى الحبيبة؟؟
أم أسرد لها حكاية خيالية عن عرائش العنب وأشجار الفاكهة التي تزين الطرقات، وخضرة الجبال التي يزيدها نور الشمس الحُرّ بهاءً وروعةً؟؟
أم أحدثها عن حرية الكلمة التي تنبعث من بين شفتي في كل مناسبة وطنية أرى المجد فيها توجني وجعلني أرتجل الحروف والكلمات المزركشة بالوطنية والعنفوان؟؟
فكرت كثيراً بكلّ هذا، وهمس لي عقلي الباطن: "ستُسرُّ صديقتك لسماع هذا الكلام، حتى وإن كان كذباً فهي تعلم أنك صادقة معها دائماً، فهي تصنت لك دائماً كالبحيرة الهادئة يناجيها القمر، وهي تبتسم كإشراقة شمس الصباح للأخبار السعيدة التي كنت تنقليها لها. وخبر سعادتك هذا سيكون أجمل شيء تسمعه منك بعد كل هذه السنين.
أتذكرين حين هرعت إليها صارخة بأجمل كلمات النجاح والتوفيق بعد امتحان الثانوية العامة بأسابيع. تذكري، هيا، حاولي، حين كانت جالسة هناك على ضفة الجدول تحت ظلال شجرة الصفصاف تداعب عذوبة المياه وتزينها بأوراق زهرة الياسمين. هيّا، تذكري، قطعت حبل أفكارها العذبة. فنهضت مبتسمة معانقة، أتذكرين تلك المحبة العظيمة المقدسة من السماء التي جمعتكما؟؟ أتذكرين ذاك الجمال الذي رسمه الإله العظيم على وجهيكما فكانت البسمة أجمل شيء أرسل إلى الوجود. وكانت البسمة وما زالت أجمل من (فينوس وألوهيتها).
فنهرت ضميري: "اخرس، وتوقف، ولا تعذبني، لا تؤنبني لقد أخطأت خطأً لن تغفره لي نفسي إلاّ حين يعتقها الله من سجنها فتكون هائمة سعيدة فوق جسدي الميت، أخطأت حين دنست قدماي بتراب أرض غريبة، لا صديق ولا حبيب يسكنها، أرض اعتقدت أن حضنها أدفء من حضن الوطن. تخيلت أني سأجد أماً وأباً يغمراني بالحب، أخاً وأختاً أشاطرهما الأفراح والأحزان، زوجاً محباً يجعلني معبودته ويكللني بالحب، لكن هيهات".
منذ القدم، في طفولتي، والطفولة لها حنين خصصت له زاوية نابضة بالحياة في قلبي، كنت عند سماعي طائرة في السماء أركض إلى الحارة العتيقة وقد سبقني إلى هناك أصدقائي من أبناء الجيران، كنّا نرى الطائرة معجزة عظيمة، ولسذاجتنا نعتقد أننا نستطيع أن نسبق الريح وزمهريرها، وأن نسبق البرق ولمعانه، فكنا نطلق سيقاتنا للريح محدقين بتلك التي اقتحمت على طيور السماء حُرّيتها وباتت تشاطرها الهواء، كنّا نلحق بها ثم نمسكها لتحملنا معها إلى البعيد، إلى عالم الخيال اللذيذ الذي لا تصل إليه إلاّ الطفولة وبراءتها. وحين تذهب جهودنا أدراج الرياح نرجع إلى الحارة العتيقة محمري الوجنات. لتملأ قهقهاتنا زوايا بيوت الحجر والطين التي غلّفها الفقر.
ومن وقتها رسخت فكرة الطيران في دماغي، كما تعشش أسطورة الحياة في جسد كل من يحياها. فالبعيد والوصول إليه كان حلم حياتي الذي سلبني الحياة. رحلت عن الوطن لأكسر قيود الفقر والذل، لأنعم بالسعادة في أحضان الغربة. عتبت على الوطن ومن في الوطن، بعد أن كنت تلك الثائرة على الظلم والاستعمار، تلك المناضلة التي عرفتها مظاهرات الشوراع، تلك الوطنية المتمردة على الظلم، المدافعة عن الحق، تلك التي ترتجل خطاباً وطنياً وراء خطاب، لتقف الأجساد أمام هيبتها، شاخصة عيونها، فاتحة أفواهها لرنين تلك الكلمات المتناسقة الشرسة في آذانها.
عتبتُ على الوطن، لأنه لم يجلب لي غير الظلم، ظلم الاستعمار وسجون الاستعمار التي طالما طوّقتني بقضبانها وأذاقتني الحلو علقماً. ظلم الفقر الذي أصابني بمرض القرحة فلطالما رجعت من المدرسة وقد أجهد جسدي الضئيل، وحجارة الأرض مزقت قدماي العاريتين، وشمس الصيف أحرقتني، ومطر الشتاء أعياني. لطالما رجعت إلى البيت وقد سلب الجند قمحنا وزيتنا الذي قدّسه أبي بعرق جبينه، فما وجدت شيئاً أُسكت فيه ألم معدة خاوية سبح فيها الماء ولا شيء غير الماء.
فكيف بعد كل هذا لا أعتبُ عليك أيها الحبيب المتكابر؟؟ علمت الآن أن أفكاري تلك، أفكار شابة متمردة، شعرت أنها تريد الانتقام، الانتقام من كل شيء حتى من نفسها الضعيفة المريضة، فودعت الحياة ورحلت إلى الموت.
لم أكن أعلم أن قريتي الصغيرة أجمل من كل مدن العالم.
خنقني دخان المصانع، وقرحتي بات لها أصدقاء كثيرون، منهم من يغزو رئتاي، وآخر يغزو قدماي، وفي منزلي تمزقني الوحدة، حين أرجع بعد عشر ساعات من العمل المتواصل. وفي الشوارع الملوثة بشرٌ قتل الحب في نفوسهم وغرست الفردية والأنانية وعدم المبالاة مكانها، هنا أعيش غريبة. إن حزنت أو مرضت أو شرد الصمت والسكون أفكاري البائسة لا أجد صديقاً أو قريباً أبثّ له ما بي من ألم، فالإنسان لا يستطيع الصمت، لا يحتمل الوحدة، يجنُّ من السكون، ويعشق الصخب الذي يشعره بالأُنس.
هنا، حيث أعيش، تلوثت معاني الحياة، الحب، التضحية الوطنية، الكبرياء والكرامة، الجود والكرم. وتلوثت حياتي معها، فبتُّ واحدة من هؤلاء الغرباء فاقدي الإحساس.
فماذا اكتب لصديقتي، وماذا أخطُّ من حنايا قلبي المكسور وجرحي الأليم. الدمعة تسبق قلمي لتكتب على كلّ سطر كلمة حبّ واشتياق وتزرع بين كلّ وكلمة حنين، وتزركش الرسالة بأجمل عبارة:
العودة إلى الوطن
صديقتي العزيزة تحية وبعد،......
اشتقت والشوق كلمة لا تصدر إلا من قلب محبٍّ عاشق، أضنته الغربة.
عرائش العنب، الحارة العتيقة، الشاي بالنعنع، القهقهات البريئة، الدم الثائر، الجلوس على الحصير، فطور خبز القمح والزيت والزعتر، رائحة التراب، خضرة جبل عجلون، خرير وادي ابو الجود ، تغاريد الطيور، ماء البئر، مدرستي القديمة، دكان أبي عبده، شوربة العدس، طاحونة القمح، حمار أبي السعد، أشجار التين والتفاح، القهوة العربية، الحليب البلدي، مزمار شحادة الراعي، قنديل الزيت، بيوت الطين والحجر، زرائب المواشي، أقنان الدجاج، موقد الحطب، مشاعل الليل، والصداقة التي جمعتنا صغاراً ثم هجرتنا كباراً.
العودة، والعائد شخص أرهقه البعاد، ومزقت جسده العجوز ليالي الغربة الحمقاء، ونخرت عظامه الوحدة، فهل يجد حضن الوطن دافئاً حنوناً كما عوّده، ينقذه من ثلج الغربة وزمهرير رياحها؟؟


ظلال عويس
31/8/2000

صبيحة شبر
06/10/2006, 01:29 AM
الصديقة المبدعة ظلال عويس
قصة ممتعة جميلة تنقل لنا باسلوب جميل معاناة من اضطرته الظروف الصعبة الى مغادرة وطنه الحبيب ، الى ارض غريبة ، لاتعرف الحب ، ولا تمنح الدفء ، فيحيا المرء ، والقشعريرة تلاحقه ، والصقيع يحيط به ، ويكاد يقضي عليه ،
تحب بطلة القصة ان تكتب رسالة لصديقتها العزيزة ، فماذا تخبرها ؟ وهي الحريصة على ان تقول الصدق كما علمها ابوها ، فتفكر ، ثم تهتدي الى الجواب الشافي ، انها تشتاق الى الوطن ، بترابه ، بحياة البسطاء من ناسه ، تشتاق الى الشاي بالنعناع ، الى الزعتر ، الى امور بسيطة ، تمكنح الطعم وتعطي النكهة
لقد اشعلت شوقي ايتها العزيزة بقصتك الجميلة ، شوق كبير ان اعود الى ذراعي الوطن الحبيب ،، لاحظى بحبه الكبير ، ودفئه الذي لايضاهيه دفء في الارض كلها

الشربيني المهندس
06/10/2006, 03:42 PM
العزيزة ظلال كاتبة تمتلك ادواتها الفنية من لغة واسلوب سرد فضلا عن القدرة علي توظيف هذه الادوات بشكل جيد
العنوان يمثل مدخلا هاما للنص حيث يدفعك الي القراءة يمتاز بالرومانسية بجانب عنصر المفاجأة في التساؤل الحنين الي ماذ..؟ لتبدأ القصـة
أعجبتني المفردات
ليلة اشتقت فيها
الليل سر كوني
ذكريات تلمع كالبرق في حلكته
الصندوق
القلم
الرسالة والفلاش باك أو سرد الذكريات
مع تمنياتي بالمزيد من الابداع

ظلال
06/10/2006, 09:18 PM
القاصة المبدعة أستاذتي صبيحة,
قصتي هي بعض مما لديك سيدتي. تأثرت جدا بما خطت يداك لي بكل صدق واحساس مرهف. وتأثرت اكثر حين علمت انني بقصتي المتواضعة قد اشعلت شوقك للعودة. فبلا وطن لا يحيا الانسان. اشد على يديك للعودة. واسمحي لي استاذتي ان ابدي اعجابي الشديد بما تنشري في النتدى من قصص.

ظلال
06/10/2006, 09:23 PM
العزيز المبدع أستاذي الشربيني,
عندما يدلي كاتب وناقد وقاص مبدع مثلك رأيه بكل صدق وشفافية بقصة متواضعة كحنين يكون هذا شرفا عظيما لكاتبها. اشكرك من كل قلبي على كلماتك المشجعة متمنية ان تثريني بها دائما. واسمح لي يا استاذي ان ابدي اعجابي الشديد بقصصك المؤثرة والغنية والتي ارجو ان تثرينا بالكثير منها في النتدى. .