المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فـضـاء الــولائـــم



فؤاد بوعلي
13/01/2007, 03:50 PM
لنأخذ فضاء الطعام والولائم لا لنلم بكل جوانبه ، إذ أعترف أن ذلك ليس من اختصاصي ، و لكن لأنبه إليه و لأقارب بعض رموزه و دلالاته و صورة أنفسنا التي نريد أن نعكسها عليه و صورته التي يعكسها هو علي . نحن لا نوظف الطعام فقط لإشباع حاجة حيوية بل نعتبره مرة واحدة مظهرا و تظاهرا يعبر عن الكرم و الجود و العطاء ، فالذي لا يطعم غيره و لا يفتح مائدته نعيره بالبخل و الشح و نحط من مكانته الاجتماعية . في تراثنا اللغوي نقول عن فلان كثير الرماد كناية عن كرمه و مائدته المفتوحة باستمرار ، كما أن أمثالنا الشعبية لا تنصح بصحبة البخيل الذي لا يطعم أحدا . من ذلك قولهم :" اللي ما تاكل معاه في ما يداه رفقته زايداه " . لم نرق بعد إلى تصور مفهوم الكرم لينسحب على فضاءات أخرى غير فضاء المائدة مثل فضاءات العمل الخيري أو التطوعي . قد ننفق ما عندنا و نستدين عندما يحل علينا ضيف صديق أو غريب لنبرهن على صدق العطف و التعاطف و روح الكرم و الشهامة . و لو حدث أن طلب منا صديق أو غريب ما يقل عما ننفق في الوليمة لسد حاجة ماسة من حاجاته الضرورية (علاج مثلا ) فلربما واجهناه بالصد أو الاعتذار . و قد نضرب مثلا على ذلك الولائم الكبرى التي ينظمها المتمولون و تسير بذكرها الركبان في مناسبات يفتعلونها افتعالا للإعلان عن ترفهم . فلو طلبت منهم أقساطا مما أنفقوا لإسعاف المحتاجين و المرضى و المعوقين و لتمويل مشاريع تعنى بذلك لكانت الاستجابة سلبية .
ما زال فضاء الكرم عندنا مرتبطا بفضاء البداوة بكل أعرافها و تقاليدها لم يتأثر بعد ، و لم يرتبط بفضاء المجتمع المدني و تقاليده الجديدة بحضور أكبر عدد من الناس على المائدة و بتنويع أصناف الطعام و رصها كما و كيفا ، يعتقد المضيف أنه بذلك يؤكد وجوده و يحقق ذاته . أما الإسراف الغفل فهو لا يحقق الذات و لا يؤكد الوجود و نلاحظ عندما نعيب على مضيف الإسراف و ملء المائدة بأكثر مما يجب ، فجوابه :" أن العين هي التي تأكل ". و المقصود بذلك الحصول على شهادة الاعتراف العلني بالكرم و البذل شهادة يثبت بها حضوره الاجتماعي و شهامته الإنسانية ضمن علائق اجتماعية تقننها أعراف و تقاليد مدعية . مازال الطعام و الوليمة يلعبان دور الوسيط ، و لنأخذ على سبيل المثال رمزا من الرموز المتداولة في هذا الباب "شركة الطعام ". و معنى ذلك أن الذي يشترك معه في الطعام أو نأكل على مائدته لا نرفع درجة اعترافنا به إلى مستوى الصداقة و حسب ، بل نصبح ملزمين بالتضامن معه في السراء و الضراء و ليس من الغريب أن نلاحظ استغلال هذا المعنى في بعض الأمور و الوقوف معه . و إلا فإن ثمن الخيانة هو انفجار الطعام في بطونهم لا محالة . و من العبارات الشائعة في كلامنا العامي عندما نطعن في مصداقية متحدث أو نشك في صدق وعوده قولنا :" كلامو ما يفور عليه طعام ". كأن مائدة الطعام هي التي توثق الوعود و العهود و جدية القول .
قد يطول الحديث عن التراتبية الاجتماعية التي تشهد عليها مائدة الطعام و ولائمه ، نوعية الحضور من يكون على اليمين و على اليسار ، متى تحضر المرأة و متى تغيب ، دورها ، ما يجب أن يقدم من الطعام ، من يجب تقديمهم و من يجب تأخيرهم من الضيوف ، ما يقدم من أصناف الطعام في الأفراح و المآثم ...إن أسئلة فضاء المائدة كثيرة و متنوعة و شهية ، و إذا لم نشبع منها فمن المستحسن أن نرفع أيدينا عن الطعام و نحن نشتهيه.
أحمد السطاتي