المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حارس الظلام...رواية ج2



بلقاسم.ع
12/06/2009, 10:36 AM
إنها صاحبة ذاك القبر، وصاحبة الملحمة. فهل لها أن تنسى؟
أم هل لها أن تدفن والتراب غطاؤها، والدود أنيسها؟
من أجل هذا كابد الشيخ والوفاء رفيقه، رحلت أمامه، وبين يديه رأسها، وعلى فراش المرض هي تلك الصورة التي لا تمحى من مخيلته، ولم تفارق أحلامه.
لقد عانى وصارع من أجل بقاء خليلته ونور أيامه على قيد الحياة، أن تبقى قربه تقاسمه حلو الحياة وعلقمها.. كانت جميلة وذات قوام فاتن، عاشت معه جل عمره.
وبين تلك الجدران التي تركت صدا في قلبه. والحديقة التي صففت حجارة سورها معه ولعبت و ضحكت ورقصت وبكت هناك .
تستدرجه الذكريات المخنوقة داخل هذا الكوخ ليذهب بعيدا بخاطره، يرسو على ذلك السّرير الذي نقلت منه إلى مثواها الأخير.. إلى حيث لا ترجع أبدا.
إلى حيث تستريح من هموم داء أتى على ذاتها البريئة، وجسدها الناعم رغم كبر سنها ورغم كل شيء تظل عنوانا لملحمة لا تنسى ..لأيام صنعت لها مكانا في زحمة هذا العالم وخاطت من خيوط الشمس المرسلة على هذا الكوخ، التي تسرق السمع وتدخل دونما إذن لتنير بعض الأشياء وتصنع لها مكانا فوق تلك الطاولة الملتهبة شوقا لسيدتها. لمن كانت تغازلها.
يمر الوقت والشيخ تائه لا يسمع إلا تلك التنهيدات التي تخترق نوافذ المنزل لترحل. لتحمل نفسها كهدية لسيدتها، صاحبة القبر المزهر فوقه الياسمين، الذي سقاها قداسة. نعم لقد شربت الورود من قطرات ندى الزفرات وتنهدات الشيخ، فكانت غاية في الجمال والروعة. ورمزا من رموز الكفاح، ودليلا لا يمحق رغم الاندثار، رغم هروب العمر إلى العدم، ورغم كل الأشياء...
في كل صباح تستيقظ الطبيعة، لترسل رسلها إلى الحقول، والمداشر والأكواخ، معلنة بداية يوم جديد. وتتفتّح الأزهار وينبعث شذاها وعطرها، من خلال خصاص الباب والنوافذ، يتسلل ليركن داخل البيت، ويوقظ صاحبنا، ليفتح عينيه الحزينتين عن حلم زاره في ليله المعتم،عن لحظة غمرته ساعة خلوة روحه، في دجى الظلام، خلوة رسمت له شخصا يكاد يكلمه ويلامسه، تحت ظل شجرة السنديان الممتدة أغصانها، والتي أبت إلا أن تعانق السماء.. لتبعد عنه لفحة الشمس غداة الظهيرة، وتتركه كالأمير لا يحمل من أعباء الدنيا شيء، سوى لهفة لحبيب جفاه، ونور أفل أمام عينيه.
يدنو منه طيف يكاد يختلط به، ليقف ويتمعن في هذا الجسد الرائع، وتقاسيم الوجه التي توحي وكأن صاحبها لم يرحل، مايزال يهدهد في أذنيه بكلماته العذبة الحلوة، والموجعة أحيـانا.
يكاد يكلمه، وبعينيه يسأله: هل أنت مني؟
هل أنت أنا ؟ هل أنت النصف الذي أنشُطر من قلبي؟
أم أنت الدم الذي إختلط بدمي؟!
هل أنت من جازاني القدر بفقدانه، ومن المرارة أشربني، وترك الوجع طبيبي والسلوى أنيسي والبكاء دوائي؟ هيّا إقترب، عانقني كما سلف..ذب بداخلي وانسجم مع دقات قلبي..هيا إقترب كي أعبث بشعرك وأسبح داخل كيانك الرحب، وأمزج عطرك بعرق تعبي في ذلك الحقل ليعطيني أحلى شهد لأحلى عسل سقيتنيه في أيام شبابي.
تسقط دمعة، فأخرى لترسم طريقها نحو غد مجهول.. وبحركة يمسح وجهه، ليغسل بدمعه تلك التقاسيم التي توحي كأنها شخصية نحتتها السنون على أبواب مدائــن محقت، وانطوت أخبارها من الوجود.
تبدأ تلك التقاسيم بالّتحرك، وترتعش من وقع دبيب الدّموع الصامتة على خديه، لتوقظه.
فجأة يتلمس الشيخ بيده سرابا أو طيفا، كان يراه أمامه، ليجد نفسه ممسكا وجه كلبه، الذي بجانبه وكأنه يحرسه أو جنِّد للوقوف بجانبه، فيستيقظ من ذلك الحلم، وياليته لم ينهض، ياليته كان حلما أزليا.
يستعين بعصاه ليقف ويمد بصره إلى الأفق، ليرسل آهات كانت تائهة داخل صدره الواسع. ويمشي باستحياء مثقل الخطى نحو قبرها، ليلقي نظرة على قلب أحبه، وشخص كان أعز ما يملك في دنياه، ليبوح لها أسراره، ليحكي لها مارآه في منامه وليعانق روحها المستترة وراء السحاب.
فمابقى له في هذه الزمن سواها، سوى نظرة يشبع بها لهفة تكاد تخنقه، لقبر يتمنى لو أنه ساكنه بدلا منها، أو بجانبها ليرتاح من تلك الذِّكريات التي توقظ بداخله ثورة لا تهدأ إلا بمعانقة طيفها، وحضور روحها وتجسدها أمامه، فكل شيء ذكرى، حتى التراب الذي يمشي عليه يخاف أن يدوسه بقوة، لأنها مشت من هنا، وجلست هناك، ونزعت الأعشاب منه.
فهل لها أن تنسى؟
هاهو المساء يهيئ حقائبه ليرحل، ليترك للّيل حصته، فيبدي ماشاء.
إن الشيخ يتجه نحو كوخه ليعد لقمة تشبع ذلك البطن المنطوي، الذي ماتركت له السنين لذة، ولا حبا في الأكل، فيكاد يشبعه التذكر وهمس طيف خليله، فهو مأكله ومشربه وملبسه حقا تكاد تمر أيام دون أن يأكل، دون أن يشعر في أي مكان هو نائم، فيستفيق تارة وهو نائم على طاولته والكتب تحاكيه وتشبع زاده، وتدغدغ أوتارا تكاد تمزق من شوقها. فينهض وكأن العالم لا يساوي شيئا في نظره، لا يساوي خصلة من شعرها، أو بسمة من تلك الشفاه التي شبعت منها الديدان.
بعد كل هذا العناء، واللقيمات التي وجدت لها مكانا في بطنه، يأخذ ما تبقّى لصديقه وأنسيه الكلب، فهو أيضا لقي من يومه مايكفيه، يتمشى الشيخ ليركن وينزوي فوق سريره الذي جعل منه شيئا رائعا منمقا ومزركش الأطراف، تعلو فوق رأسه صورا لرفيق عمره لزوجته وابنه. لقد أحسن أطرها وترتيبها، فمنها ما هو على شكل مستطيل ومربع ودائري تزيد من روعته الزوجة، وهي بذاك الفستان البرجوازي الطويل.
يسكت الأنين والبكاء، ليخوض طريقه، ويمسك الأب وجه ابنه بيديه، مخاطبا إياه: أين كنت؟ ماهذا الجفاء؟ ألم تحن إلى موطنك؟
أما يكفيني حرقة فراق أمك، حتى تلهب نارا بداخلي بغيابك؟
هل هذا هو جزائي؟ ويمسكه من يده ويدخله..
لكن الشيخ لا يعلم أن ثمة من ينتظر عند الباب، هنالك شخصان لم ينتبه لهما، انها سارة زوجة ابنه عدنان وابنهما الصغير، تدخل باستحياء مثقلة الخطى، كلها دهشة، لأنها ماعهدت هذه الصور أمامها.. لقد ارتسم لها منظر تنشطر القلوب منه.
لوحة من أروع مايرسم، للأب يحضن ابنه والدموع تجري على خديهما، فتسقط العبرات من مدامعهما دون سابق إنذار، لكنها خبأت كل هذا وبادرت بالسلام قائلة: السلام عليك ياعماه.
يلتفت الأب وكله حيرة! يردد بداخله، لمن هذا الصوت الملائكي؟ ليجد إمرأة كالعروس بجانب الباب، فيبادر عدنان قائلا: آه ..لقد نسيت ياأبتي أن أقدم لك زوجتي سارة، وابني الذي أسميته على اسمك، أسميته بأعز ما أملك في هاته الدنيا.
فيقترب الشيخ منها مقبّلا إياها مرددا: كيف أنتِ؟
سامحيني بنيتي لم أرك، والله ما أخذ بالي سوى عدنان فأنا آسف.
هاهي تقدم له الصغير، فيمسكه بيديه مقبلا ومناغيا إياه.
تهدأ ثورة جعلت من البيت مسرحية نادرة، في زمن ليس بالسهل أن تجد بين طياته أناسا ذوي قلوب رائعة ومرهفة الحس.
يجلس عدنان وأصابعه مشتبكة بأصابع أبيه وعلى يمينيه زوجته، والشيخ كله شوق لمعرفة أحواله فيسأله: حدثني بنيّ عن محطّاتك في هاته الدنيا، وما سر غيابك الطويل عنا! فيجيبه عدنان: أنا ما ذهبت من هنا إلا من أجل أن أصبح ذخرا ومفخرة لك، رافعا رأسك أمام الناس والحمد لله لقد تحقق لي ماأردت، فمن الآن وصاعدا لن أغادر بلدتي وبيتي، سأبقى هنا بجانبك وأستثمر بعض أموالي في التجارة الحرّة، لأني والحمد لله ميسور الحال وقد جلبت معي كل ما جمعت في غربتي، فأنت تعرف ابنك، ليس من المبذرين.
يلتفت الشيخ إلى سارة قائلا لها: أرى عليك علامات التعب، إذّا هاهي الغرفة المجاورة لغرفتي اتخذاها أنت وعدنان مكانا لكما، فلا ينقصها سوى بعض الترتيب، فاذهبي بنيّتي وتأكدي من وجود الأغطية، وأتمنى لكما نوما هنيئا، وموعدنا غدا فالكلام كثير.
يلتفت إلى عدنان قائلا: وأنت ساعدها أيضا.
يسير الشيخ نحو غرفته والسعادة لا تفارق محيّاه، وسارة وزوجها يرتبان الغرفة ويجهزان مكانيهما ومكان الصغير.
ماهي إلا دقائق حتى اتخذ كل منهم موضعا له وترك لأحلامه حرية التجوّل والتعبير وناموا...
تهدأ تحت رحمة الصمت تلك الثورة، تلك القصة المحزنة، لشيخ، لولد، لأم، لعائلة دخلت التاريخ كرمز من رموز الوفاء والكفاح، وتتجلى تلك المعالم في شخصية حارس الظلام وأسرته.
المنزل يتنهد ليشع نورا، فيشق طريقه نحو القبر الراقصة أزهاره، والتي تحكي لصاحبه ماجرى، شبه سيناريو رسم من خلال أدواره شيئا يكاد ينطق، وجوا يغرس بداخلك حلاوة الدنيا إذ التأمت الجراح فيها.
يغوص الجميع في أحلام تكاد تمزق المخيلة، لترحل إلى الدنيا، لتتجسد وتلبس ثوب الحقيقة وتسرد قصصها للأجيال.
هاهو الصبح يمد في الأفق بنوره، و تتهيأ الشمس لترسل خيوطها فوق رؤوس الجبال والتلال، إلى كل شيء يستحق أن يعرف، أن للحقيقة نورا لا يحجب.
ببزوغ الأنوار يستيقظ الطير والديك، ليبعث بصيحاته تخرق صمت المنزل، فينهض الشيخ كعادته ليتوضأ و يصلي و يحضر الفطور، وها هو يمر على غرفة ابنه التي ينام فيها مطمئنا
ليوقظه.
يدق الباب دقا خفيفا، فيرد عدنان قائلا: نعم يا أبي أنا مستيقظ، عمت صباحا، أدخل فالصبي ينتظرك لتسلم عليه، يلج الأب و الفرح يرتسم عليه، فيلقي السلام و يدنو ليقبّل الطفل و يناغيه.
تهم سارة بالنهوض من الفراش لتعد فطور الصباح، فيمسك الشيخ بكتفها قائلا: اجلسي فأنت الآن و اليوم ضيفي، فكل شيء من عملي، حتى الفطور قد أعددته بعد صلاة الصبح اذهبا و اغتسلا، فأنا هنا مع صغيري ألاعبه.
..ما أروع زقزقة العصافير وهي تعلو شجرة البلوط فتمنح الدنيا سنفونية خالدة، وقفزة إلى تاريخ اندثر، لعائلة بائدة داخل أسوار إمبراطورية لفّها الزمان بردائه و أخفاها.
تتجمع الأسرة على مائدة ما ذاقت صوت قرع الكؤوس أو الصحون منذ زمن، و يرحل حارس الظلام بفكره لترتسم أمامه زوجته على المائدة، فينتابه نوع من الهدوء، وبحركة يسترد ماضيه، لسنوات كانت فيها خليلته ملكة المجلس والمتربعة على عرشه، دونما منازع لينتبه على صوت يناديه، أين أنت يا أبي ؟ كنت أكلمك دون إجابة.
يهز الشيخ ذاك الرأس الممتلئ بالغموض والحكايا فيقول: أنا يا بني قد زارني طيف أمك، وكلمني بالأمس، وها هو يناجيني الآن فلا تلمني بني، حدثني عن حياتك عن محطّاتك في هذه الدنيا، عن كل شيء رأيته، و هل الحياة جميلة في أوربا ؟
هل تأكلون مثلنا؟.. أم أنها قاسية عليكم المعيشة هناك ؟
وهل يلائمك العمل؟
أعرف أنها أسئلة كثيرة يا ولدي، لكن شوقي لمعرفة أحوالك دفعني إلى هذا ...
صدقت يا أبي، فكل شيء مغاير المأكل والمشرب، طرق المعاملة تتغير...آه يا أبت كم أحنّ إلى خبز أمي وهي تصنعه بتلك الأيدي الرائعة، لتضفي عليه صبغة من الطيبة التي ترمي بي داخل نهر من الشهية.
لقد عملت أيضا بفندق فخم كعون استقبال منذ تسع سنوات، وبأجر محفز مرتفع، وقبلها كان عملي متغيرا حسب الطلب ونوعية العمل وأجره، ومنذ ذلك الزمن أي قبل خمس سنوات تعرفت على سارة، التي كانت نزيلة عندنا في الفندق، هي وأبوها، والتي دامت مدة إقامتها ستة أيام فقط.
لكنها كانت كافية للتعرف على ملاك تجسّد في صورة بشر أيقظ وجداني، وحرّك أحاسيس كانت تنعم بالدفء داخلي، فألهبتها وهيّجتها، ووجدت نفسي أعطيها موعدا للتعرف، فقبلت رغم التردد البادي على محياها.
رسمنا طريقنا في مدة قصيرة، وكانت النتيجة أن عرضت الزواج عليها فوافقت، وكان أبوها أيضا مرحبا بالفكرة، فهي ابنته ويحب لها كل الخير، قال لي ذات يوم لقد حققت أمنيتي يا عدنان...
أملي دائما أن أراها عروسا لرجل من أصلنا، عربي مثلنا، فهي وحيدتي منذ طلاقي من أمها ذات الأصول الغربية، التي عشت معها ما يقارب الإثنتا عشر سنة، فكانت هذه السنين بالنسبة لي شبه صراع دائم، فلم أستطع أن أجعلها سعيدة على حسب تقديرها وقولها.
السعادة يا بني عندها هي السفور والانحلال وعدم الطاعة، والحرية في الخروج ساعة ما تشاء، تحملت جهلها وكلامها وقساوة قلبها، من أجل شيء واحد، هو ابنتي ساره، والحمد لله انفصلنا وأخذت الفتاة كي تعيش بقربي .
ومضت شهور عن التعارف، وحددنا أجلا للزواج، كان ذلك اليوم بمثابة انطلاقة لرحلة أخرى في حياتي رغم أنكما كنتما بعيدين عني..
لم تهدأ عيناي عن البكاء لذكركما، تمنيت لو أنك بقربي نتقاسم الأفراح، لكن ما باليد حيلة يا أبت، والشيء الجميل الذي وجدته فيها أنها الصّديق و الأم والحب، وإن الله عز و جل قد رزقنا هذا الولد ، ليملأ حياتنا سعادة وأمل.
سأحاول أن أسترجع كل ما فات في هذه الدّيار والبوادي، فإن لها وقعا بداخلي، وذاكرة لا تمّحي، إني أرى نفسي الآن ألعب بترابها و أتسكّع بشوارعها...
يحاول خنق تلك الآهات التي تكسر الأغلال بداخله لتخرج، لتسمع الطير والوحش صداها وتنحدر دمعة تسللت لتبين للعالم لتقول: ها أنا ذا، فهل من معارض؟ يمسحها بسرعة كي لا يراها الشيخ فتزيد من حرقته و ألمه.
يدفع بضحكة لتمحي تلك الصورة، ليذكر أباه بأيام الصّبا، و كيف كان يغيظه عندما يكسر أغصان شجرة البلوط، فيفيض سيل غضبه ويطارده، ولا تهدأ عاصفته، إلا عندما يرتمي عدنان بين ذراعي أمه التي تبدأ بالعبث بشعره، فيزول كل شيء أمام هذا المنظر عندما يراه أباه، فيبتسم ويدنو منه ليقبّله، فهو ولده الوحيد المشاغب . يتبع ان شاء الله