المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المسافر



د. حسين علي محمد
12/06/2009, 11:11 AM
المســافر

قصة قصيرة، بقلم: حسين علي محمد

لأول مرة يخرج من بيته مسافراً إلى الخليج دون أن ينظر في عيون أبنائه الستة، فيقولوا له:
ـ لا إله إلا الله.
فيرد في حماس، وهو يرمق الشفقة في عيون أبنائه وزوجته:
ـ محمد رسول الله.
قبل أن يشهق، وهو يجتاز الممر الطويل المؤدِّي إلى مقعده في الصفوف الأخيرة في الطائرة، قال له المضيف حينما لا حظ لحيته البيضاء .. كأنه قالها مستغرباً:
ـ هل تُدخِّن؟
ـ لا.
وكأن عينيه استفهمت عن مغزى السؤال، فقد ركب الطائرة أكثر من ستين مرة في هذه السنوات العشر. كان يأتي في إجازة رمضان، وفي إجازة عيد الأضحى، ثم الإجازة الصيفية، وأحياناً يأتي في زيارة سريعة تستغرق عدة أيام.
قال المضيف مبتسماً في آلية:
ـ لأنك ستجلس في مقاعد المدخنين.
أحس بصدمة، فقد قال له طبيبه الذي يُعالجه من السكر:
ـ احذر التدخين.
ـ أنا لا أدخن.
ـ لا يكفي أن تكون غير مدخن!، احذر من مجالسة المدخنين.
أشارت المضيفة ـ في مدخل الطائرة ـ دون أن تتكلم إلى الطريق الذي سيسلكه حتى يصل إلى مقعده في مؤخرة الطائرة، وهو يقول لها ( 65 c).
وصل مكدوداً، ووجد الركاب في مقاعدهم، ولاحظ أن بعض الركاب يدخنون.
أحس بدوار، غابت المرئيات .. قبل أن يشهق، ويخرج من شفتيه زبد أبيض، ويتعاون البعض على حمله لإنزاله من الطائرة، بعد أن فشلوا في حضور طبيب معالج. واستطاعت أذنه أن تميز بعض الألفاظ، منها أنه من المنصورة، كما سمع من بعض العجائز "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" تتردّد خافتة مُشفقة!
كان منذ ثلاث ساعات قد دخل المسجد الذي اعتاد فيه صلاة الجمعة، جلس في مكانه المفضل بالصف الثالث ـ رغم أنه كانت هناك أماكن خالية كثيرة في الصفين الأول والثاني، وجلس في مكان قريب من الباب حتى يكون من أوائل الخارجين من المسجد بعد أداء الصلاة، ليجلس مع أولاده ساعة قبل أن يتوجّه للمطار.
السنة الأولى التي سافر إلى الخليج فيها ـ تلك السنة التي اشتعلت فيها حرب تحرير الكويت ـ جرّت وراءها السنة الثانية فالثالثة … فالعاشرة.
لماذا لا تتوقف السنون عن الجري؟ كان يعد الأيام لعودته منذ وصوله:
ـ باق 120 يوماً، وأعود إلى مصر في إجازة رمضان.
ـ باق ثلاث جمع نصليها، ونعود في إجازة عيد الأضحى.
ـ باق أسبوعان في الامتحانات، ونعود إلى مصر الحبيبة.
حينما حصل على الدكتوراه ـ من الخارج ـ فشل في الحصول على وظيفة جامعية في مصر. كان يقرأ الإعلان، ويذهب سعيداً لتقديم نسخ رسالته مع الأوراق المطلوبة، وتتبخّر الآمال يوماً فيوماً، ثم يُفاجأ بأن الذي قد عُين في الوظيفة المطلوبة غيره.
قال له عميد كلية ساحلية:
ـ أنت أحسن المتقدمين للوظيفة، ولكنك تحتاج "زقة".
وحينما سأل صديقه محمد لطفي عن هذه "الزقة"، قال "دفعة للأمام يا محترم"، حتى تنال شرف التعيين في الكلية.
ـ هل يُريد ـ مثلاً ـ توصية من عضو مجلس الشعب؟
ضحك محمد لطفي واصفاً صديقه بالتخلف عن فهم آليات المجتمع المعاصر في عصر "البيزنس" وتداول النقود!!
حينما قرأ إعلان هذه الجامعة الخليجية التي يعمل فيها من عشرة أعوام قدّم أوراقه، وأجرت لجنة التعاقد مقابلة معه، وبعد عدة أيام وصلته برقية تستعجله إنهاء إجراءات السفر.
بعد أن وصل إلى الخليج، وجد أنه يتقاضى راتباً عشرة أضعاف أساتذة الجامعة في مصر، وأربعين ضعفاً لما كان يتقاضاه في وزارة التربية والتعليم قبل أن يجيء إلى الخليج، فحمد الله كثيراً.
ظل يعمل في هذه الجامعة معزيا نفسه أنه لم يجد له وظيفة أستاذ جامعي في جامعات مصر الكثيرة (لأنه لم يجد "الزقة" المطلوبة)، وأنه يعمل في جامعة عريقة لها اسمها، وأنه في الأعوام العشرة التي أمضاها بنى بيتاً يتسع له ولأبنائه، بعد أن ظل منذ تزوج يعيش في شقة صغيرة لا تتجاوز سبعين متراً، وأن زوجته تواصل الرحلة مع الأبناء بنشاط وهمة حتى التحقوا جميعاً بكليات القمة.
لكن زوجته التي ظلت معه سبعة وعشرين عاماً ماتت في هذا الصيف، وفكّر أن يبقى مع الأولاد، ويعود إلى وظيفته السابقة موجهاً بالتربية والتعليم أو مديراً لمدرسة ثانوية أو خبيراً بالكتب والمناهج، ليتابع أولاده في دراساتهم الجامعية، لكنه بعد تفكير ومُراجعة قرّر أن يذهب هذا العام إلى الخليج لآخر مرة ليُنهي بعض الأمور المتعلقة بالعمل، ويحضر كتبه وحاسوبه، ويعود إلى مصر الحبيبة، وربما يُنهي السنة الكاملة لا يقول فيها:
ـ باق 120 يوماً، وأعود إلى مصر في إجازة رمضان.
ـ باق ثلاث جمع نصليها، ونعود في إجازة عيد الأضحى.
ـ باق أسبوعان في الامتحانات، ونعود إلى مصر الحبيبة.
.. وفتح عينيه بعد جهد جهيد ليجد نفسه نائما على سرير أبيض، مغطى بملاءة بيضاء، ومصل الأنبوب المعلق يتصل بوريده، وأولاده جميعا حوله يقولون في فرح حقيقي:
حمداً لله على السلامة.

الرياض 22/8/1999

ياسر طويش
12/06/2009, 12:10 PM
أخي الحبيب الدكتور :

حسين علي محمد

شرف لي أن أكون أول معانقي هذا النص

ولا يسعني إلا أن أقول لك حمدا لله على سلامتك

أهلا بك بصالة كبار الشخصيات في مطار واتا الكوني في القارة السابعة

انت من ساهم بإعمار هذا المطار كما تشير بياناتي

مرحبا بك بيننا , أنت هنا بين أهلك وذويك , وناسك وأحبابك في رحاب

الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب wata .

ودي ووردي

ياسر طويش

نجوى النابلسي
12/06/2009, 12:35 PM
الدكتور حسين علي محمد

أسعدتني عودتك حين قرأت أنك من المؤسسين للقارة السابعة، القارة السابحة في فضاء فسيح بلا حدود من اي نوع! فمرحباً بك
قصة جميلة جداً لم تنحى نحو الغموض أو الهذيان ( جميل بعض الغموض لكن الكثير منه يفقد القصة مغزاها) بل صورت حال العربي الباحث حتى آخر رمق عن رزقه، صورت غربة المثقف الإجبارية أو الاختيارية.
قصة ذات أسلوب مميز كصاحبها.
دمت مبدعاً

د. حسين علي محمد
18/07/2009, 03:01 PM
قراءة في قصة "المسافر"

بقلم: يحيى هاشم
....................

- العنوان
من العناوين الجذابة التى تجذب القارىء وتدفعه للبحث عن هذا المسافر ورحلته كيف كانت وأين رست ؟
العنوان ذو الكلمة الواحدة من العناوين التى يفضلها القارىء لأنها لاتفضح النص ولا تكشف كل ما فيه .
- الفكرة
هى قصة من أدب الواقع الذى يثير فضول القارىء وحفيظته أحيانا حيث أن هذا النوع ينقل لنا المجتمع كما هو ( مراة تعكس الواقع بسلبياته العديدة التى نخجل منها كثيرا ) .
ونذكر هنا أديبنا العالمى ( نجيب محفوظ ) صاحب الريادة فى هذا النوع من الأدب قال مرة بسؤاله عن تقديمه للشخصيات السلبية فى رواياته ( ما قبل الثورة ) قال ( أنا أقدم الشخصيات السلبية التى تثير إشمئزاز القارىء رغم أنها موجودة أمامه طوال اليوم فى الشارع وفى العمل , ولكن أنا أقدم شخصية سلبية ذات دور إيجابى فى القصة وفى أحداثها ) .
أما عن قصتنا فهى قدمت لنا الواقع المصرى المرير فى دكتور يجب أن يستفاد منه فى بلده ولكنه يرفض بسبب
( عدم وجود الزقة اللازمة لذلك والتى يمكن أن تكون ( عضو مجلس شعب / رشوة ) والتى لم يملكها صاحبنا .
فيقدم أوراقه كمن سبقوه إلى دولة خليجية وهى الخلاص هنا التى تقدر درجته العلمية ومكانته وتطلبه بسرعة .
لتبدأ الرحلة التى عنوانها ( الخليج أموال كثيرة ومعاناة أكثر ) حين يتحول الانسان إلى الة لحصد المال لاشىء غير ذلك لاتفكر إلا فى ذلك لاتأكل كثيرا وفر من أجل العودة – لا تصرف كثيرا وفر من أجل الأولاد .
ثم الحلم الكبير فى العودة وعند العودة لانتحمل أن نبقى فهناك الكثير الذى لم نشتريه بعد , الأولد تعودوا على مستوى معيشة محدد لا يمكن أن نخل به ...... إلخ
فنعود ونقول ستكون اخر سنة ونعود , ولكن سنة تجذبها الأخرى وهكذا
حتى نجد صاحبنا ( المسافر الأبدى ) فى المستشفى ساعتها فقط نقول له حمدا لله على السلامة بعد أن إستنذفنا منه كل شىء وأصبح غير صالح للإستعمال ) .
- الشخصيات
- المسافر : هو الشخصية الرئيسة فى القصة والتى بنيت عليها القصة بالكامل .
شخصية مسطحة الهدف فهى تعبر لنا فى مضمون القصة عن أنها تريد توفير الحياة الطيبة للأولاد (وأنه في الأعوام العشرة التي أمضاها بنى بيتاً يتسع لـه ولأبنائه،)
ولكن براعة الكاتب ظهرت فى أنه لم يقدم لنا الشخصية على طبق من ذهب بل تركنا نسافر معه لنعرف من هو وإلى أين سترسوا مركبته .
لى ملاحظة فقط على ذكر إسم صديق الكاتب نفسه ( على ما أظن ) محمد لطفى أرى أنها كانت فى غير موضعها .
- الزمكان
الزمان : تجول بنا الكاتب فى أكثر من زمن فهو حاصل على الدكتوراه ويبحث عن عمل , وهو مسافر , وهو يمنى نفسه بالعودة إلى مصر .
كل هذا التجول لم نشعر به نظرا للحرفية الجميلة التى صاغها بنا كاتب محترف مثل د/ حسين .
المكان
ما بين مصر ودولة الخليج عن طريق الطائرة كان مكاننا الرئيسى – المكان البطل هو الطائرة ومنها إنتقلنا إلى المسافر وهو يطلب العمل فى مصر ويرفض , ثم تقديمه للعمل فى البلد الخليجى ويقبل , ثم السفر , ثم العمل لسنوات طويلة مع أمنية العودة لمصر , ثم العودة , ثم السفر مرة أخرى .
ولا ننسى أنه ذكر حدث جرن إلى مكان حرب 0 حرب الكويت ) .
كل هذا ما وراء النص لذا لم نشعر به وهنا تكمن البراعة .
- اللغة
لغة راقية متمكنة ووضح أن وراءها دراسة وتعمق كبير مثل
فيرد في حماس، وهو يرمق الشفقة في عيون أبنائه وزوجته .
قبل أن يشهق، وهو يجتاز الممر الطويل المؤدِّي إلى مقعده في الصفوف الأخيرة في الطائرة، قال له المضيف حينما لا حظ لحيته البيضاء .
وهى لغة رغم جودتها وقوتها إلا أنها ليست صعبة أو معقدة على القارىء العادى ( فنحن لا نكتب للصفوة فقط بل نكتب للجميع )


- الصور
حدث ولا حرج وهنا نقول إن القصة رغم أنها تمس الواقع وهذا يسقط الكثير من الكتاب فى بئر المباشرة والعبارات التقريرية إلا أنه تمكن من السير برفق بين خط الواقعية وخط البلاغة فكانت الصور جميلة معبرة مثل
يرمق الشفقة في عيون أبنائه وزوجته
واستطاعت أذنه أن تميز بعض الألفاظ،
البناء القصصى
- المقدمة
(لأول مرة يخرج من بيته مسافراً إلى الخليج دون أن ينظر في عيون أبنائه الستة، فيقولوا له:
ـ لا إله إلا الله.
فيرد في حماس، وهو يرمق الشفقة في عيون أبنائه وزوجته:
ـ محمد رسول الله. )
مقدمة عادية هادئة لا تثير حفيظة القارىء أو تلهفه ولكن خط الواقعية فيها ( كلنا نخرج ونقول نفس العبارة التى أصبحت عهدا لكل شخص ) جعلنا نتسائل ماذا سيحدث الرجل الذى يمثلنى فى الحياة .
- العقدة ( الصراع )
ماذا سيحدث للمسافر ؟ هل سيعود أم سيكمل , وما علاقة التدخين بالقصة ؟
- النهاية (ـ باق 120 يوماً، وأعود إلى مصر في إجازة رمضان.
ـ باق ثلاث جمع نصليها، ونعود في إجازة عيد الأضحى.
ـ باق أسبوعان في الامتحانات، ونعود إلى مصر الحبيبة.
.. وفتح عينيه بعد جهد جهيد ليجد نفسه نائماً على سرير أبيض، مغطى بملاءة بيضاء، ومصل الأنبوب المعلق يتصل بوريده، وأولاده جميعا حوله يقولون في فرح حقيقي:
حمداً لله على السلامة )
يقولون الحمد لله على السلامة ولكن هل لعودته أم لكونه بخير من وعكته الصحية ؟
حتى النهاية مفتوحة وهذا ما يثير الإعجاب فرغم الواقعية لم تكن النهاية متوقعة .
د/ حسين إعذرنى لتجرأى والتعليق على قصتك فأنت أكبر من ذلك وأقلم يشكر لك مداد قلمك
تقبل تحيتى وعذرى
يحيي هاشم
4/8/2006
.......................................
*موقع "أنهار" ـ في 5/8/2006م.

د. حسين علي محمد
18/07/2009, 03:02 PM
الدكتور حسين علي محمد
أسعدتني عودتك حين قرأت أنك من المؤسسين للقارة السابعة، القارة السابحة في فضاء فسيح بلا حدود من اي نوع! فمرحباً بك
قصة جميلة جداً لم تنحى نحو الغموض أو الهذيان ( جميل بعض الغموض لكن الكثير منه يفقد القصة مغزاها) بل صورت حال العربي الباحث حتى آخر رمق عن رزقه، صورت غربة المثقف الإجبارية أو الاختيارية.
قصة ذات أسلوب مميز كصاحبها.
دمت مبدعاً
شُكراً للأديبة المبدعة الأستاذة نجوى النابلسي
على التعليق الذي أعتز به،
مع موداتي.

د. حسين علي محمد
18/07/2009, 03:04 PM
أخي الحبيب الدكتور :
حسين علي محمد
شرف لي أن أكون أول معانقي هذا النص
ولا يسعني إلا أن أقول لك حمدا لله على سلامتك
أهلا بك بصالة كبار الشخصيات في مطار واتا الكوني في القارة السابعة
انت من ساهم بإعمار هذا المطار كما تشير بياناتي
مرحبا بك بيننا , أنت هنا بين أهلك وذويك , وناسك وأحبابك في رحاب
الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب wata .
ودي ووردي
ياسر طويش
شكراً للشاعر المبدع الأستاذ ياسر طويش
على تعليقه الذي أعتز به،
مع تحياتي.

د. حسين علي محمد
18/07/2009, 03:10 PM
نشرت في مجلة "الأدب الإسلامي"،
العدد (63) 1430 هـ-2009م، ص 44، 45.