المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاختزال السياسي في مراحل النضال الفلسطيني



د . أحمد عبد الرحمن شاكر
15/06/2009, 07:05 PM
الاختزال السياسي في مراحل النضال الفلسطيني
بقلم : د . أحمد عبد الرحمن شاكر
-----------------------------------------------
الاختزال في مفهومه المرتبط بعوامل التنشئة من جهة ، وعوامل التعبئة المعنوية من جهة ثانية ، والظروف والمتغيرات من جهة ثالثة ، يعني بالقطع إنشاء جيل مختلف عن الجيل أو الأجيال التي سبقته ، وهذا يعني إعادة تشكيل وصياغة ذهنية جديدة ، ونمط آخر من أنماط التفكير والرؤية والنهج ، متولداً من رحم ومخاض فشل تجارب الأجيال السابقة ، بحيث ينسجم تماما ذلك التشكيل الجديد مع إرادة الجماهير التي تتطلع دوما نحو الحرية والاستقلال ، والتي لا يمكن أن تتحقق بغير المقاومة ، كما انه يتناسب تناسبا طرديا مع تراجع وانهيار الأفكار والأيديولوجيات والأطروحات والتوجهات التي سبقته ، وهو نتاج لعوامل وإفرازات كثيرة من أهمها ضعف الأداء ، وتكرار الإخفاقات ، والفشل الذريع ، والعجز الفاضح ، الذي وقعت به الأجيال السابقة بقادتها وكوادرها ومنظريها وعناصرها ، بحيث يكون من المستحيل معها هدم هذه الذهنية الجديدة ، أو تلك الأنماط التي تشكلت من جديد ، ولو وقفت دونها كل قوى الأرض ، وأشد أنواع السلاح فتكا وتدميرا ، لأن إرادة الشعوب لا يمكن قهرها ، وهي القادرة على اختزال مراحل ومحطات الهزيمة ، التي مرت بها حركة التحرر من قبل .
لا شك بأن تراكم الأحداث وتلاطم مرارة التجارب ، ستؤدي حتما إلى إيجاد برمجة عقلية ونفسية من نوع جديد ، للجيل الذي عاش المحن ، وتعايش مع الآلام ، وذاق مرارة فشل الأجيال والقيادات السابقة ، هذه البرمجة الجديدة تعايشت إلى درجة التآلف ، مع جميع أهوال ومصائب المراحل التي خيمت على المحطات النضالية والتاريخية ، وبتأثير القوة المعادية المفروضة بطشا وعدوانا وظلما ، حتى باتت كل تلك الأهوال والمصائب أمرا عاديا ومألوفا ، اعتاد على أن يعيش في مناخه مئات الألوف من الفلسطينيين ، وبالتالي فقد هذا الجو المشحون بجميع أشكال البطش والتنكيل والظلم ، القدرة على تحقيق أهدافه ، والتي من أهمها كسر الإرادة وثني العزيمة ، والدفع إلى اليأس والاستسلام لمخططات الطمس والتذويب .
لقد اعترف قادة الكيان ومرات عديدة ، أن جميع المحاولات التي استخدمتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ضد الشعب الفلسطيني لم تجد نفعا ، وأنه لا بد من الوصول إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين ، وكان آخر اعتراف لأولمرت رئيس وزراء الكيان في شهر سبتمبر( 2008 م ) ، أنه يجب على إسرائيل أن تتخلى عن أهدافها الصهيونية في السيطرة من النيل إلى الفرات ، وأنه لا بد من حدود معترف بها لإسرائيل ، ولا بد من إنهاء النزاع العربي الإسرائيلي بقيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل ، ولم يكن تصريح أولمرت هذا هو الأول ، فقد سبقه تصريحات أخرى لقادة حزب العمل وميرتس وغيرها من الأحزاب الإسرائيلية أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ، يوسي بيلين ، وسريد ، وغيرهم حتى من الأحزاب العربية المنطوية تحت عباءة الكنيست الإسرائيلي ، والكثير من الصحفيين والكُتاب الإسرائيليين وصناع الرأي الإسرائيلي .
العدو الإسرائيلي أدرك هذه الحقيقة قبل اتفاقيات عار أوسلو ، والاعتراف المتبادل بين أزلام منظمة التحرير وبين قادة الكيان ، والتي لم تجلب على شعبنا غير المزيد من الذل والمعاناة والتنازل والتفريط ، واللقاءات المتكررة ليلا على بارات شواطئ بحر المجدل ونتانيا وتل الربيع ، أيقن العدو أن الاعتراف بمنظمة التحرير اليوم ، هو أفضل له ألف مرة من أن يعترف بالحركات الجهادية غدا ، من أجل سحب البساط من تحت أقدام القوى الفلسطينية المجاهدة والمتنامية في حينه ، والتي أدرك الكيان أنها قوى صاعدة لا يمكن لجمها ، أو تدجينها وتطويع قادتها ، كما حدث مع كثير من قادة ما عرف بمنظمة التحرير ومع الأسف .
إن فشل الأيديولوجية الصهيونية ، وتراجعها عن تحقيق أهدافها لم يأت من فراغ ، ولم يكن مبعث هذا الفشل هو البرنامج المرحلي واستجداء الحقوق ، و لا النقاط العشر ولا جبهة الصمود والتصدي ، ولا تبادل اللقاءات والقبلات ، ولا خارطة الطريق ، ولا المبادرة العربية ، ولا مؤتمرات أنالوليس وكام ديفد وشرك الشيخ ، ولا قرارات الأمم المتحدة ، ولا هو التوجه الحالي من القيادة الفلسطينية للصحف الإسرائيلية المحلية من أجل عرض المبادرة العربية وشرحها وإقناع الشارع الإسرائيلي بها ، بل إن الفشل يرجع إلى فعل تلك القوى الجديدة الفتية الناشئة ، من قوى المقاومة الفلسطينية والعربية ، والتي بفعل ضرباتها في غزة ولبنان والعراق والصومال ، ووفقا لعوامل الترابط العضوي بين الحركات المناهضة للغطرسة والاحتلال ، تلك الحركات التي تؤمن بمشروع المقاومة ، أدت إلى بداية انحصار المشروع الصهيوني في غزة تمهيدا لثنيه وانكساره بإذن الله تعالى ، كما انهارت الأهداف الصهيونية أمام المقاومة المجيدة لحزب الله ، وليس المشروع الصهيوني فحسب ، بل المشروع الإمبريالي الأمريكي في المنطقة ، ولعل ضربات المجاهدين في العراق ، دفع الحلفاء وعلى رأسهم أمريكا ، لمحاولات كثيرة من أجل الهروب من المستنقع العراقي ، بأقل ما يمكن من حفظ ماء الوجه ، كما أن المشروع الأمريكي في الصومال على أيدي أدوات أمريكا من الأثيوبيين والصوماليين بدأ تراجعه وانحصاره ، على أيدي قوات المحاكم الإسلامية ، التي تحقق في كل يوم مزيدا من الانتصارات ، وفي أفغانستان دفعت المقاومة المشروع الأمريكي أيضا إلى التقهقر للوراء ، يظهر ذلك جليا من خلال مطالبة كرزاي الحثيثة التفاوض مع قادة القاعدة ، ومن خلال إعادة احتلال المجاهدين لمناطق كبيرة في أفغانستان رغم الضربات الموجعة التي يتلقونها ، فإرادة الشعوب لا تقهر .
الشعب الفلسطيني اختزل عبر كل محطاته النضالية آلامه وجراحه ، وخرج منها أكثر قوة وثباتا ، وأفرز تنظيمات لا يمكن أن تقبل بالتفريط والتنازل ، أو الانجرار وراء سراب التسوية ، ولم تلن له عزيمة ، رغم الثمن الفادح الذي دفعه وسيدفعه ، فقد اختزل مرحلة التوطين في سيناء في حقبة الخمسينات ، واختزل إلحاق الضفة الغربية بالمملكة الأردنية الهاشمية ، واختزل منظمة التحرير الفلسطينية ، من منظمة كأداة للنظام العربي الرسمي في حقبة الستينات ، إلى منظمة ذات قرار وطني مستقل ( في حينه ) ، ورفع لواء اللاءات الثلاث ، والدولة الفلسطينية على جميع التراب الفلسطيني ، واختزل الشعب الفلسطيني جميع محاولات الطمس والتذويب وفقدان الهوية والاندثار حتى داخل فلسطين المحتلة عام 1948
واختزل محطات مؤلمة في تاريخه النضالي منذ ستين عاما منها مرحلة الشتات تحت أسقف أنظمة سياسية متباينة ، ولكنها لم تؤثر على حبه لوطنه ، وحنينه إليه وارتباطه به .
واختزل مرحلة خونة دايتون في غزة من خلال حسمه العسكري المشرف ، وهو سيختزل بإذن الله هذه المرحلة من مراحل نضاله ، رغم الوقائع المادية المؤلمة والمفروضة على الأرض ، ورغم تقديمه لحوالي مائة ألف معتقل وما يزيد عن خمسين ألف جريح وآلاف الشهداء .
وسيختزل الشعب الفلسطيني مرحلة الحصار مهما كان الثمن غاليا حتى لو كان آلاف الشهداء والجرحى .
وسيختزل أيضا قادته ، الذين يفرطون ويلهثون ويستجدون من أعداء شعبهم النصر والتحرير والكرامة ، كما اختزل الشعب الفيتنامي قادته في سايجون من المرتبطين بالإمبريالية العالمية الأمريكية والفرنسية ، وكما يختزل الشعب الصومالي الآن قادته المرتبطين بأمريكا من خلال الأدوات الأثيوبية ، فيا طالب النصر من أعداك مت كمدا كطالب الشهد من أفواه ثعبان ، فمتى يدرك قادة الهزيمة في فلسطين ، أنه لا يمكن ولا بأي حال من الأحوال أن تعطي أفواه الثعابين عسلا .
وعلى الرغم من فقدان مقومات الصمود ، وكسر عوامل استمرارية وتواصل النضال ، وعلى الرغم من ضرب الفلسطينيين في أهم مقومات وجودهم وحياتهم ، ضربهم في لقمة عيشهم ، وفي قوت أطفالهم ، وفي هدم بيوتهم ، وفي تجريف مزارعهم ، وهدم مصانعهم ، وسجن أكثر من مليون ونصف فلسطيني في مساحة جغرافية صغيرة ، تعتبر هي الأكثر اكتظاظا في العالم ، وعلى الرغم من خطط دايتون وأقزامها الخونة ، والذين لا زالوا يعملون كخفافيش الظلام ، فإن الشعب الفلسطيني سيختزل هذه المرحلة .
يخضع قطاع غزة لحصار لا مثيل له في العصر الحديث ، وينقطع عنه الماء والكهرباء وغاز الطعام ، حتى الشموع يحصل عليها عن طريق أنفاق التهريب ، ولن يجدها دائما ، ويعيش الفقر والبطالة والحرمان من كل شيء ، المياه ملوثة ، والبحر ملوث ، والتربة ملوثة ، والهواء ملوث ، وليس ذلك من باب التضخيم بل هي الحقيقة بعينها ، فبرك الصرف الصحي التي تحتاج إلى معالجة حدث عنها ولا حرج ، ففي الشمال من القطاع تهدد حياة السكان ، وفي غزة يتم التعامل معها من خلال تصريفها إلى مياه البحر، وفي حالة توفر مياه الاستعمال اليومي ، لا تتوفر الكهرباء ، وإذ توفرت الكهرباء لا تتوفر المياه ، وهذه مياه لا تصلح للشرب مطلقا . هذه هي الحقيقة فمن أراد المزيد فليأت إلى أحياء غزة ، ويرى بأم عينه ، حتى أن غرف عمليات المستشفيات تأثرت ، ولم يعد بالمقدور القيام بعمليات جراحية إلا المستعجلة منها ، وارتفع عدد شهداء الحصار، وكأننا لسنا بشرا في نظر العالم .
كل ما سبق هي أجواء اختزلها الوعي الفلسطيني في أعماق كينونته ، إلى درجة أن تعايش معها حتى ألفها ؛ ليبرهن للعالم من جديد أننا شعب لا يملك أحد القدرة على قهر إرادته ، وأن جميع محاولات التضييق والحصار والخناق ستبوء بالفشل ، حتى لو سقط منا الألوف ، وليس ذلك من قبيل الإنشاء ولا التضخيم أو الدعاية بل من قبيل معرفتي بحقائق الأمور على الأرض ،
لقد عودنا أطفالنا على أن لا يخافوا من طلقات المدفعية والصواريخ الإسرائيلية ، وأن يتقبلوها وكأنها قطعة موسيقية تعبر عن لحن الخلود ، فلم تعد تخيفهم أو تجزعهم ، هذه حقائق تشهد على الأرض ، وتشهد على حرمان الطفل الفلسطيني حتى من مصروفه اليومي بسبب الإغلاق والحصار .
إن من أعظم عمليات الاختزال هو اختزال مراحل الوعي في مجمل الحالة الفلسطينية ، فمن وعي وطني إلى وعي قومي ، إلى وعي ماركسي متشعب المشارب والتوجهات ، إلى وعي قومي جديد ينادي بالعودة للقومية العربية ، أو إلى دولة ثنائية القومية مع الاحتلال ، إلى وعي يدعو إلى اتحاد كونفدرالي بين السلطة والكيان ، إلى وعي يناشد الرأي العام الإسرائيلي حقوقه ، من خلال الصحف الإسرائيلية اليومية ، أليس ذلك من المضحكات المبكيات على ثورة وصلت في فشلها وسقوطها إلى هذا الدرك من الانحطاط ؟؟ .
لقد اختزل الشعب الفلسطيني كل تلك المراحل إلى مرحلة الوعي الإسلامي اليوم ، ذلك الوعي الذي أفرز حراكا هاما وقويا في جميع أنحاء العالم ، أيقن معه العرب والفلسطينيون أن مشروع المقاومة هو الأجدر والأنجع في استرجاع الحقوق ورد الكرامة .
نعم يختزل الشعب الفلسطيني كل من يقف أمام إرادته ويتآمر عليه ، كما يختزل البحر في أحشائه هشاشة كثبان الرمال التي لم تصمد أمام ضربات أمواجه .
المحن تخلق الرجال ، والنار تصقل المعادن ، والشدائد لا تدوم ، وهذه قوانين التاريخ ، فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يكيد العدى .