المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أجواء الكابوس



توفيقي بلعيد
16/06/2009, 01:08 PM
أجواء الكابوس

توفيقي بلعيد*
مرت أكثر من اثني عشرة سنة ومع ذلك مازال يتعقبني بالرغم من أنني لم أقتله. أستطيع أن أورد الشكوك التي عندي حول من قتله. شكوك تتاخم اليقين. وبالرغم من كل ذلك تسترت عن القاتل أو القاتلة... لكنني لست، بأي حال من الأحوال، من ساهم أو تسبب في قتله، بالعكس تماما كنت حريصا أن أهبه الحياة، وأن أحميها كشيء مقدس لا يقبل التفريط أو المساومة لأن حياة الإنسان مقدسة فعلا...

في المرة الأولى سَرَتْ همهمة في الحي الذي أسكنه بأن هناك جريمة قتل حدثت، ليس الحي بل في "الحومة" التي أسكن بها، وأحسست أن الأمر له علاقة بي ، وأنه أن آجلا أو عاجلا سيصلون إلي...ونخرني خوف لم أعرف مثيلا له من قبل، فأنا لست قادرا على أن أُحجز في زنزانة، فلو حصل ذلك لزهقت روحي في الحال... أنا لم أعد أقوى على افتراش البلاط البارد كما حدث وتحملت من قبل عندما لم أكن قد تجاوزت العشرين سنة، وقتها. واسمحوا لي على هذا الاستطراد، كنت صاحب قضية في نظر العالم، كنت أسير على خطى العظماء الذين غيروا الواقع بالبندقية والفكر، وهي مكانة سمحت لي أن أتحمل كل الأوضاع القاهرة دون أن أغير رأيي أو أن أساوم على قناعتي، واستمر الصمود حتى بعد أن أُطلق سراحي، بعد تلك السنوات الطويلة المريرة مع القيود... وعدت مرة أخرى إلى زنزانتي وعاودت مناوشة الأعداء، وكنت كلما نشروا خبرا في الجرائد عن اعتقال أتعرض إليه أزداد إيمانا وانتفاخا... أما الآن فماذا سيقول الناس إذا ما سُقت بتهمة القتل.. وكيف سأبدو في نظر جيراننا الطيبين الذين وضعوا ثقتهم فيَّ وقصدوني ما مرة من أجل حل مشاكلهم ولو أنهم ،سامحهم الله،مع كل انتخاب يهرعون للتصويت على من يعطيهم، مقابل صوتهم، الورقة النقدية التي لاتسمن ولا تغني من جوع... ،غير عابهين بكل مقولاتي الصائبة في نظري...

في المرة الثانية التي أثير فيها الموضوع من جديد، بعد ثلاث سنوات من المرة الأولى، وبعد أن اعتقدت أن الأمر قد نُسي تماما، هي عندما تسربت أخبار، تكاد تكون صحيحة، عن جثة مخبأة في صهريج إسمنتي، وأن رجالا سريين يبحثون عنها لكي يتوصلوا من خلالها إلى القاتل ، وفعلا وحدي من يعرف مكان الجثة ، وحدي من يراها ،حتى حدود هذه الساعة ، من مكاني هذا...لست وحدي من وضعها هناك، كان معي " ح " ، وهو الآخر لم يشارك في القتل، هو ،ولأسباب تتعلق بالصداقة والتعاطف مع حالتي ، تطوع ليحمل معي الجثة ، ومنذ ذلك الوقت لم يثر معي الموضوع أبدا ، أنظر في عينيه فلا أجد فيهما ما يتهمني بالقتل أو حتى بكوني لم أحترم طقوس الدفن التي يجب أن يتمتع بها كل ميت كحق من حقوقه على الأحياء...

في المرة الثالثة كان ذلك فظيعا ، الرعب الذي عشته كان رهيبا ،جعلني أتساءل حول ما يشعر به القتلة عندما يجهزون على حياة الآخرين ، أنا لم أقتل ومع ذلك أعيش كل هذا الرعب ، فما بال الذين يختطفون معارضيهم السياسيين ويسوقونهم إلى أماكن معزولة ويجهزون عليهم بدم بارد ، بل في غالب الأحيان بفخر كبير؟ والذين يقصفون الأحياء الآهلة بالمدنيين ويحصدون أرواح المئات من الأبرياء ويرفعون التقارير لرؤساء عن هول التدمير والقتل الذي أحدثوه ،ثم بكل وقاحة يتحدثون أمام كاميرات والميكروفونات عن الديمقراطية وحقوق الإنسان..؟
سبب الرعب أنه لم يعد هناك أدنى شك من أن الجثة موجودة وفي حالة جيدة، لم تتعفن ولم يصبها أي تلف. معناه بالنسبة لي هو أنهم يستطيعون الوصول إلي ، وأنه لا توجد أية قوة في الدنيا تستطيع أن تقنعهم بأنني بريء من دم الضحية كما يقال عادة ، وأن كل جريرتي أن حبي الكبير للراحل دفعني للاحتفاظ به في ذلك الصهريج ، فأنا لم أتصوره مدفونا في التراب كأي قاذورات لم يعد فيها نفع ...
كنت في المرات السابقة استيقظ من الكابوس وقد حمدت الله على أن ما رأيته مجرد أضغاط أحلام ... وكنت غالبا ما أتساءل هل للأمر علاقة برغبة دفينة في قتل أحدهم ؟ أو أنني في لحظة لا أعرفها قمت بقتل رمزي أو حتى حقيقي لشخص لا أعرفه ؟ في هذه المرة ،وهي الرابعة ،استيقظت مذعورا ،وقد غطى العرقُ جسدي ، كانت أنفاسي متلاحقة وقلبي يدق بسرعة كبيرة خفت معها أن أصاب بمكروه ، كان آذان الفجر يغطي على السكون والظلام، فشعرت برهبة شديدة وأنا بين أجواء الكابوس الذي استمر يطاردني كل هذه السنوات وبين المناخ الذي يدثرك به ، في حالة الضعف ، صوت الْمُقَدَّس وهو ينادي النيام من عباد الله . مددت يدي فوجدت زوجتي تغط في نوم عميق وهي التي تركتها ،قبل أن أغادر الكابوس ، وقد ألقي عليها القبض متهمة بقتل الجثة التي واريتها ، وقد كانت، داخل الكابوس دائما ، تعرف علاقتي بالجثة لكنها كانت تحاول تضليلهم ، وكم من مرة تبادلنا الحديث عبر نظراتنا،أطلب منها أن تتركني ومصيري ، ولكنها رفضت أن تتنازل عن دورها البطولي في حمايتي....

واسمحوا لي أن أعود بكم إلى الوراء حيث أعتقدت في المرة الثالثة أنني توصلت إلى العلاقة التي تربط بين الكابوس وحادثة دفن إبني ، خارج الطقوس ، داخل تابوت زجاجي ورميه سرا في البحر خلال رحلة فوق قاربي السياحي ،وقتها اختفى الكابوس تماما وشعرت بارتياح لهذا الاستنتاج ،وقلت إن اللاشعور لم يستوعب أن أكسر البناء العقائدي ،بعدم دفن إبني على عادة أهل موطني ،وأن هذا اللاشعور، الغاضب عليَّ، يقيم لي كلما طغى محكمة لمعاقبتي ...لكن بماذا أفسر أن يعاودني الكابوس محاولا الانتقام مني بإيذاء الأهل والمقربين ؟
هل مضغة اللحم ، التي أطلقت عليها اسم "رضوان" حتى قبل أن تتحرك في الأحشاء ، لها كل هذه الأهمية لدي ، مع أنه لا يمر يوم دون أن تعرف المدينة ألف إجهاض وإجهاض ، بعضهم يتم الإجهاز عليهم في بطون أمهاتهن بدون أي رحمة أو شفقة ،والبعض الآخر يُُفعل بهم ذلك وهم يسيرون على أرجلهم ، حيث يجهزون عليهم هنا أو هناك ، ومع ذلك فإن شعور العالم ولا شعوره لم يستيقظا لمعاقبة القتلة ؟
أنا وعينيّ مفتحتين أرى الدم في الشوارع يغطي الجدران ، يسيل من النوافذ ، ينساب في بالوعات الطريق ،
يتصبب من كل صنبور أفتحه لغسل يدي ،تطلع علي الجثث الممزقة والمتحللة من شاشة التلفاز،وعندما أشيح بوجهي تطلع من صحن الأكل الذي أمامي،وكلما هربت لقناة أخرى طلع علي منها القتلة والقتل والضحايا ... ومع ذلك لم أر في نومي،مادمت لا أحلم بذلك في صحوتي، حاكما يتعقبه القضاة ولا جلادا يتخبط في الخوف...فلماذا يتعقبني كل هذه السنوات وأنا كل ذنوبي أنني دفنته في بحر قلبي داخل تابوت من زجاج لأستطيع ، كلما اشتقت إليه ، أن أراه...؟َ البيضاء 15 يونيو2007
* كاتب من المغرب