المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إضاءة على تاريخ مدينة دمشق



عدنان أبوشعر
17/06/2009, 05:56 AM
فتحت دمشق أبوابها لكل الناس، كما قال الدكتور سهيل زكار في أحد محاضراته، فألهب جمالـُها خيالَ الشعراء والأدباء والفاتحين، وبقي الغزاة خلف أسوارها مدحورين في نهاية المطاف.
لقد أخذت دمشق بألباب زوارها عبر التاريخ القديم والحديث، وهذا ما حذا برئيس جمهورية النمسا السيد (كورت فالدهايم- Kurt Josef Waldheim 1918 –2007) بالتعبير عن انطباع منْ أسَرهُ سحرُ هذه المدينة قائلاً:" إن الإنسان ليستطيع أن يلمس بيده التاريخ الطويل ، ويشاهدَ بعينه تسلسل الحضارات عندما يزور مدينة دمشق القديمة، ولا يسعه إلا أن ينحني ، وبكل إجلال واحترام، أمام عظمة هذا التاريخ القديم الحيّ الذي لا يجد مثيلاً له في أية بقعة من بقاع العالم "، ولعل ما قاله (فالدهايم) كان صدى لما وقع في قلب الإمبراطور الألماني (غليوم الثاني- William II 1859-1941) حين زار دمشق عام 1898م حين أحبّ أهلها إكرامه فجُعلت له مصطبة ٌ على سفح قاسيون يطل منها على دمشق، فتجلو بصره خضرة ُ الغوطة، ويأسرُ قلبه بهاءُ المدينة وجمالُ أنهارها وكثرة مياهها، الأمر عينـُهُ الذي لفت نظر الرحالةِ ابنِ ِ جبير حين قال : " إن أرض دمشق سئمت كثرة الماء فاشتاقت إلى الظمأ "، ولن نجد في قول ابن جبير كثير مبالغة حين نقرأ في معجم البلدان لياقوت الحموي أن عدد السبل في تاريخ دمشق قد قارب الثمانمائة سبيل.

وكلما طالعنا أحد زوار هذه المدينة المتميزة رأينا بين طيات عباراته كل الحب والاحترام لهذه البلدة الطيب أهلها، فهاهو الفارس ( لوران دارفيو- Laurent d’Arvieux") الفرنسي الأصل، حين زار دمشق عام 1660م يقول عن أهلها: «يحب سكانُ دمشق أن يظهروا بلباس لائق وأن يعيشوا برفاهية، وأن يقتنوا الأثاث الفاخر، وهم يحبون حريتهم، إنهم رعايا السلطان وليسوا بعبيد لأحد».
وأما الرحالة الفرنسي (جان تيفينو- Jean Tivino) الذي زار دمشق عام 1664م، فقد رسم لنا صورة حية لمقاهي دمشق المبعثرة على سور المدينة والتي أشار في مدوناته إلى أنها كانت في ضواحيها، واصفاً مقهى السنانية الذي كان يحوي عدداًً كبيراً من النوافير الدافقة في بحرته الكبيرة، مقارناً إياه بمقهى الدرويشية الذي اخترقه جدول كبير وأشجار كثيفة. وقد زال هذان المقهيان من الوجود. فكأني بسحر دمشق وفتنة أهلها قد غشـَّيا عيون زوارها من الفرنجة، فلم يلحظوا في مدوناتهم جوانب تعاسة أهلها التي تحدث عنها بدير الحلاق في يومياته وميخائيل الدمشقي واللذان لم يرصدا سوى الغلاء ِ والأحداث التي تعبّر عن معاناة الناس، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم.

إن ما يميز دمشق تاريخياً هو استمرارها عبر آلاف السنين رغم ما حلَّ بها من كوارث ونكبات. ويبدو لي أن المدن لا تموت بسبب ما يحل بها من دمار، ولكنها تؤول إلى الزوال إذا ما توقف ساكنوها عن عشقها. وقد كتب الله لدمشق أنه كلما استشهد لها عاشق قيضَّ لها عشاقاً من خيرة العلماء والفضلاء والقادة. فهاهي أفئدة الصحابة والتابعين وآل ِ البيت تهوي إليها، وهاهي تحتضن العلماء كأمثال الأئمة ِ ابن تيمية َ وابن ِ القيم ِ و النووي وابن كثير وابن الأثير وابن عربي.

وتعالـَوا معي نطلع بعجالة سريعة على تاريخ هذه المدينة الساحرة.
تعد مدينة ُ دمشق أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، ويعود نشوؤها إلى تسعة آلاف سنة قبل الميلاد أو أكثر، كما دلت الحفريات بالقرب منها في موقع تل الرماد. واختلف المؤرخون في تحديد تاريخ بنائها فهناك من قال إن الفضل في بنائها يعود إلى جيرود بن سعدَ بن عادَ بن إرمَ بن سامَ بن نوح عليه السلام، وأورد معجم البلدان لياقوت الحموي بأن سيدنا إبراهيمَ الخليلَ عليه السلام ولد بعد بنائها بخمس سنوات.
ومن المحقق تاريخياً أن العموريين والكنعانيين قد سكنوها حوالي الألف الثالث ق.م، ثم تعرضت للغزو الآشوري، وبعده للنفوذ الفرعوني في عهد (تحوتمس الثالث) في النصف الثاني من الألف الثالث ق.م وسكنها الآراميون، وهم من العرب العاربة، وأسسوا مملكة آرام دمشق في نهاية الألف الثاني ق. م. وكانت عاصمة لمملكة الزعيم الآرامي (ريزون). وغالب الأمر أن الفراعنة لم يستولوا على دمشق واكتفوا بالاستيلاء على ساحلها غير مرة. ثم مالبث أن استولى عليها الفرس ثم اليونانيون حين سقطت بأيدي الاسكندر الأكبر عام 333 ق.م، فحكمها اليونانيون 269 سنة، ثم احتلها الإمبراطور الروماني (بومبيي- Pompey) الأكبر عام 64 ق.م وأصبحت من أهم المدن في العصر الروماني حيث عُدَّت أولَ المدن العشر ( الديكابوليس- Decapolis ) الأكثر ِ أهمية في الإمبراطورية الرومانية وقد حصلت على الكثير من الرعاية، وتجلى ذلك في أيام أسرة القياصرة السوريين- أسرة (سيفيروس-Severus) - التي حكمت الإمبراطورية الرومانية لعقود. وظلت دمشق تحت حكم الرومان سبعمائة سنة. ونظراً لبقايا مخطط المدينة الذي جعلها مستطيلة الشكل وفق الأسلوب الهندسي الروماني، ووفقاً لما ذهب إليه بعض الباحثين، فإن الفضل في بنائها يعزى للرومان. وسقطت دمشق في أيدي دولة النبطيين العرب في سنة 85 قبل الميلاد، حيث فتحها الحارث النبطي فكانت نبطية من سنة 38 إلى سنة 54 للميلاد.

لكن المكانة السامقة التي تسنمتها دمشق في تاريخها الطويل كانت في ظل الحكم الإسلامي العربي حين أصبحت عاصمة الدولة العربية الإسلامية عام 661 للميلاد أيام الأمويين. وبذلك بدأ عصرها الذهبي وأصبحت طوال قرن من الزمن مركز إشعاع للدولة العربية الإسلامية الفتية التي بدأت بالاتساع لتصل رقعتها الجغرافية إلى شواطئ الأطلسي وجبال (البيرنيه) غرباً، وتخوم الصين شرقاً .

وقد اهتم الأمويون بعمران المدينة وتنظيم أسواقها وأحيائها وغوطتها وترتيب طريقة إروائها وإقامة القصور والمشافي. وبعد نهاية العصر الأموي أخذت دمشق بالتقلب بين فترات من الهبوط والصعود تماشياً مع قوة الحاكم ونفوذه، فعرفت الكوارث والدمار كما عرفت الازدهار والعمران في عهود العباسيينَ والفاطميينَ والسلاجقة ِ والأتابكة ِ والأيوبيين والمماليك ِ والعثمانيينَ والفرنسيينَ.
وبعد تفجر أحداث الثورة السورية الكبرى عام 1925 في دمشق و غوطتها وانتشارها لتعم البلاد، تحقق جلاء الجيوش الأجنبية في السابعَ عشر من نيسان عام 1946، وأصبحت دمشق عاصمة للدولة العربية المستقلة.

أسماء دمشق عبر التاريخ:

لقد اختلفت الروايات التاريخية في تحديد معنى تسمية دمشق، ولها روايات عديدة والأرجح أنها كلمة ذات أصول أشورية، فقد ورد في بعض نصوصها ورد الاسم ( دا ماش قا) أي الأرض الزاهرة أو العامرة، وقد ورد اسم دمشق في ألواح تحوتمس الثالث فرعون مصر بلفظ (تيماسك). كما ورد في ألواح تل العمارنة (تيماشكي)، ، وفي النصوص الآرامية ورد الاسم (دارميسك)، ولعل الكلمة تعني الأرض المسقية أو أرض الحجر الكلسي، وقد أحصى الباحثان أحمد إيبش وقتيبة الشهابي في كتابهما (معالم دمشق التاريخية) خمسةً وعشرين اسماً لدمشق أوردها لكم مع شيء من التحفظ على بعض ما ورد منها:

1- الشــــــــــــام وهو الاسم المرادف لدمشق على مر العصور.

2- جنـــــــــة الأرض وهو لقب أطلق على المدينة في عدة عصور

3- رأس بـــــــلاد آرام, كما وردت في العهد الآرامي.

4- مدينة نعمان الأبرص الآرامي.

5- بيت رمـــــــــون نسبة إلى هيكلها الذي ينسب إلى رمون اللودي.

6- قرية المســــــــرة من ألقابها في العهد الآرامي.

7- مدينــــة ألعــــازر خادم النبي إبراهيم.

8- جلــــــــــــق، وفيها قال حسان بن ثابت:


لله دَرُّ عصابـةٍ نـادمتُـهُم يوما بجُلَّقَ في الزمانِ الأولِ
9- جيرون أو حصن جيرون.‏

10- ديمــــترياس، وهو اسم الجالية اليونانية التي لحقت بالمدينة.

11- قاعدة سورية المجوفة في العهد الروماني.

12- عين الشـــرق كما أسماها الإمبراطور الروماني يوليانوس.

13- حاضرة الروم وبيت ملكها وهو من أسماء دمشق في العصر الجاهلي.

14- إرم ذات العمـاد قيل أنها إرم ذات العماد المذكورة في القرآن الكريم. وإياها عنى البحتري بقوله:

طَلَبَتك مـن أمّ العراق نوازعاً بنا، وقصور الشـام منك بمرصدِ
إلى إرَمٍ ٍ ذاتِ الـعمـاد، وإنـها لمَـوضعُ قصـدي مُوجِفاً وتعمّدي

15- التيــــــن قيل هي التين الواردة في القرآن الكريم.

16- حصن الشـــام وهو من أسماء دمشق في صدر الإسلام.

17- باب الكعبـــة وهو لقب أطلق على دمشق في صدر الإسلام.

18- ذات العمـــاد سميت بذلك لكثرة أعمدتها.

19- فسطاط المسلمين أي موئلهم وملاذهم.

20- دمشــق الشام تمييزا لها عن غرناطة الأندلسية المسماة دمشق الغرب.

21- شــام شريف وهو لقب أطلقه عليها الترك العثمانيون تقديسا لها.

22- قصبة الشــام لقب استعمله عدد من المؤرخين والجغرافيين المسلمين.

23- الفيحــــاء وهو أشهر ألقابها، وقد أطلق عليها لسعة سهلها وبساتينها.

24- الغنـــــاء ولقبت بذلك لخضرتها والتفاف غوطتها بالأشجار.

25- العــــذراء حيث نسبت إلى مريم العذراء، أو أنها تعريب كلمة (جينيق) التي تعني العذراء وهذه التسمية غريبة عن أسماء دمشق ذكرها عيسى اسكندر المعلوف .

لقد قيل فيما مضى أن كثرة الأسماء من شرف المسمى، وهذا لعمري ما ينطبق بحق على مدينة الياسمين.

مع كل الحب
عدنان أبوشعر:mh78:

هيمى المفتي
17/07/2009, 01:29 PM
الأستاذ عدنان أبو شعر المحترم

شكرا جزيلاً لهذا الموضوع الشيق والقيم..

أحب أن أضيف أن أحد معاني كلمة "دمشق" هو ذات العطر (لا أدري بأي لغة) وقيل إنها سميت كذلك لكثرة الياسمين والزهور فيها..

مودتي وتقديري

Hussam Zaghloul
17/07/2009, 09:42 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي العزيز أستاذ عدنان أبو شعر الدمشقي الأصيل: أنت تتحدث عن دمشق التي في قلوبنا وأرواحنا وذاكرتنا وليست دمشق الحالية التي يدمع القلب قبل العين لرؤيتها بسبب ما آلت إليه حالها! لا سامح الله كل من أساء لدمشق أو يفكر بالإساءة إليها. غادرت دمشق منذ 16 عاما وكأنني غادرتها منذ 16 قرنا! هواء دمشق تغير ... أخلاق الجيل الجديد تغيرت ... الكثير من العادات والتقاليد الأصيلة قد تغيرت لدى الكثيرين. على أصحاب الشأن أن يقوموا بتشكيل لجان للحفاظ على دمشق القديمة وإحياء تراثها الأصيل وأطالب أيضا العودة بدمشق إلى ما كانت عليه من جمال يأخذ الألباب وعادات أصيلة لا مثيل لها في العالم.
شكرا أستاذنا الكبير عدنان أبو شعر
:mh78:

عبدالله محمود
18/07/2009, 12:55 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الاخ عدنان لك الشكر الجزيل على هذا الموضوع الشيق المهيج لذكريات عطره كعطر ياسمين دمشق ام العشق كما اسميها حيث عشت سنوات من طفولتي وشبابي فيها ولها في قلبي مكان عزيز جدا رغم اني حلبي. سمعت مره من احدهم ان اسم دمشق جاء من: دم شق. وذلك بعد ان قتل قابيل هابيل (ابني ادم) عليه السلام شق دمه الارض فقال اخوه: دم شق. ولا ادري صحه هذه المقوله الا ان وجود مغاره الدم غرب دمشق حيث يقال ان اثار دم هابيل مازالت رطبه الى الان يلقي بعض من الضوء وشئ من الصحه على هذه المقوله ان صحت. ولعلك ان تؤكد لنا مشكورا صحة هذه المقوله ولك الشكر الجزيل سلفا وخلفا.
عبدالله محمود

عدنان أبوشعر
26/07/2009, 06:32 AM
أخي الأستاذ الفاضل عبد الله محمود
بداية ألتمس لديك عذراَ من سبعين منحني إياها معلم البشرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتأخري في الرد على سؤالك.
أصدقك القول بأن سؤالك حرّك مواجعي. ذلك أنك جعلتني أعيش من جديد إشكالية طريقة قراءتنا للمعلومة و النص التاريخي بطريقة تخلو من الاعتماد على المنهج العلمي والموضوعي. لذلك انكببت على كتابة بحث في هذا الصدد نشرته البارحة على الموقع تحت عنوان: قراءة النص التاريخي والديني، أرجو التفضل بقراءته. ثم قادني هذا البحث إلى موضوع : قراءة النص الديني وفق الكتاب المسطور والمنشور، أدعوك للتفضل بقراءته أيضاً. وبالعودة إلى سؤالك فإنني بدأت بكتابة ردي وتوقفت لكتابة الموضوعين السابقين، أعدك أن أكمل الرد بمقال أنشره على الموقع.
أستميحك عذراً للمرة الثانية
المخلص
عدنان أبوشعر