المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشخصية الرومانتيكية في عصر الحروب الصليبية



أشرف صالح المؤرخ الصغير
17/06/2009, 03:03 PM
الشخصية الرومانتيكية في عصر الحروب الصليبية
في الرابع عشر من ربيع الأخر سنة 583هـ/ 1187م التقى السلطان صلاح الدين الأيوبي بجيوش الصليبيين في معركة حربية حاسمة وفاصلة في تاريخ الحروب الصليبية والأمة العربية آلا وهي معركة حطين عند سفح جبل طبرية بفلسطين، فأنزل بهم صلاح الدين هزيمة عظيمة فارتدوا إلى تل حطين، فحاصرهم وساعدته حرارة الصيف وندرة المياه فتم له النصر الحاسم على الغزاة، ووقع في الأسر كثير من أمراء الصليبيين. وقد حطمت حطين قوة الصليبيين، كما تجلت فيها عظمة صلاح الدين، فقد كان السلطان المتحضر في عصر التعصب الصليبي المقيت.
وقد تلا هذه المعركة استعادة العرب مدينة القدس، فقد دخل صلاح الدين بيت المقدس في12 أكتوبر 1187م وأظهر من العفو والتسامح مع أهلها ما جعل المؤرخين المسلمين وغير المسلمين يذكرونه بالثناء. فقد ترك صلاح الدين الصليبيون يغادرون المدينة بعد دفع فدية معتدلة بلغت عشرة دنانير للرجل، وخمسة للمرأة، ودينارين للطفل، بل إنه افتدى من ماله الخاص عناصر من أعدائه ممن لم يتمكنوا من دفع الفدية. ويذكر أن صلاح الدين لم يحاول هدم الكنائس بل تركها، كما سمح أيضاً لليهود بالعودة إلى المدينة المقدسة بعد أن طردهم الصليبيون منها.
وفي الحقيقة؛ يأتي موقف صلاح الدين التسامحي ومروءته على النقيض من تلك الفظائع التي ارتكبها الصليبيون حين فتحوا بيت المقدس 1099م، حيث انطلق الصليبيون في شوارع المدينة وفي المساجد يقتلون كل من يصادفهم من الرجال والنساء والأطفال، فقد قتل هؤلاء الصليبيون الآلاف من المسلمين الأبرياء بغير ذنب، فيذكر المؤرخ وليم الصوري أن بيت المقدس شهد عند دخول الصليبيين مذبحة رهيبة حتى أصبح البلد مخاضه واسعة من دماء المسلمين.
الواقع أن؛ الصليبيين كانوا على علم بالترتيبات الإدارية للمعارك، فقد كانوا أساتذة في فن الحرب، ويكفي أنهم قد نجحوا في سنوات قليلة في زرع إمارات صليبية في شمال الشام وبلاد العراق، وقد اعترفت المصادر العربية بكفاءة الصليبيين الحربية، فلدينا شهادة أسامة بن منقذ في كتابه "الاعتبار"، حيث تحدث عن مهارة الصليبيين وأن مهارتهم الوحيدة الفروسية، فيقول: "...إن الفرنج ليس لهم ميزة إلا الحرب فكأنهم خلقوا لها". ونذكر أن الاندفاع والطيش والتهور والحمق هو الذي أضعف أحياناً كفاءة الصليبيين الحربية، وليس الأمر له علاقة بالضعف أو الإهمال الإداري.
فقد كان لدى الصليبيين منطق حربي في معاركهم خلال تاريخهم الذي امتد قرنين من الزمان، وفي حطين كان الصليبيون يواجهون عملاق مسلم نقل الحرب داخل فلسطين وتجهز ليضربهم ضربة حازمة، وهم الذين تجنبوا الدخول في معركة حاسمة. فقد تكون الجيش الصليبي من عناصر المشاة Infantry والفرسان Cavalry وكان الفرسان أخطر عناصر الجيش وتكلفت مادياً الكثير، وكانت وظيفة المشاة حماية الفرسان، فقد كان المشاة في الصفوف الأولى من الجيش ثم الفرسان المدرعين بالأسلحة والدروع، وكان من الممكن تعويض المشاة، أما الفرسان فكان من غير الممكن تعويضهم بسهولة لكفاءتهم الحربية، لذا يقال أن الصليبيين الذين كانوا يعانون من نقص العنصر البشري، تجنبوا المعارك الحاسمة لتفادي الفاقد البشري.
الجدير بالذكر؛ أن منطق الصليبيين إنهار أمام صلاح الدين في حطين، فقد كان الجيش الصليبي يتضور جوعاً وعطشاً على بعد 12 ميل من قاعدته في صفورية على تحو يظهر إهمال العامل المنطقي في الحرب، مما دفع أحد الكتاب الغربيين في التعليق على وضع الصليبيين في أنه "يقدم تناقضً تاماً مع عبور خالد بن الوليد لخمسمائة ميل من الصحراء السورية القاحلة مع جيشه، متخذاً ترتيباته لإطعام وسقاية الرجال والدواب". وهي مقارنة على جانب كبير من الأهمية بين حادثين، الأول عجز فيه الصليبيين عن الحفاظ على خطوط تمويل في منطقة قصيرة بين صفورية وحصين، والثاني هو كفاءة وعبقرية خالد بن الوليد في الحفاظ على خطوط تمويل طويلة مكنته من ضرب البيزنطيين وإلحاق الهزيمة بهم في معركة اليرموك 636م.
لقد قدمت معركة حطين بطلاً مسلماً مخلصاً ورعاً هو صلاح الدين، ومن بين صفات كثيرة له يذكر التاريخ التزامه الكامل بكل وعد وعهد قطعه على نفسه في عصر اشتُهر بعدم الالتزام بالعهود، وهذا الأمر كان ميزة للسلطان الأيوبي وعيباً في نفس الوقت، لأنه كان يتعهد بالالتزام بالاتفاقات مع الصليبيين وهم لا يلتزمون على نحو جر عليه مشكلات كبيرة، ويكفي أنه في أعقاب معركة حطين تعهد الملك الصليبي جي لوزجنان بألا يرفع سيفاً على صلاح الدين وأقسم بذلك، ثم نكث بوعده وعاد كي يحاربه، وهذا يوضح لنا الفارق الشاسع بين أخلاق صلاح الدين وأخلاق أعدائه.
ومن الملاحظ؛ أن الصفات التي نصف بها صلاح الدين وردت صراحةً في الحوليات الصليبية، فهذه شهادات الأعداء الذين انبهروا بأخلاقيات السلطان الأيوبي، فيذكر المؤرخ الصليبي وليم الصوري أن صلاح الدين كان كريماً لدرجة السخاء، وهذه الصفات لم يوصف بها مثلاً ريتشارد ملك إنجلترا وإنما وصف بها عملاق حركة الجهاد صلاح الدين. وقد يرى البعض أن هذه الصفات العديدة تعكس إعجاب الكاتب بصفات السلطان مما يضر بموضوعية الكتابة التاريخية، والواقع أن هذه الصفات حقيقية ولا تعكس أي تحيز للسلطان، مع ملاحظة أنه كان شخصية كاريزمية محبوبة ومؤثرة وجذابة للغاية.
لقد كان صلاح الدين رجل عسكري في العصور الوسطى ألف رؤية القتلى والجرحى إلا أنه كره رؤية الدماء، ولدينا وثيقة عبارة عن نصائح قدمها لأحد أبنائه فيقول له: "إياك وسفك الدماء فإن الدم لا ينام"، وهذا دليل واضح على أننا أمام شخص يوصف بأنه رحيم ومتحضر في عصر يوصف بالدموية. كما أن صلاح الدين رغم احتدام المعارك بينه وبين الصليبيين إلا أنه كان قارئ جيد، وكان مجلسه يتكون من عمالقة أعلام عصره، وربما يتبادر إلى ذهن البعض هنا ما ذكره المؤرخ العراقي الأصل ابن الأثير(ت 630هـ/1232م) من أنه حضر مجلس نور الدين ومجلس صلاح الدين فوجد الفارق شاسع، ففي مجلس نور الدين التَّقْوَى والورع، ومجلس صلاح الدين اللخط والكلام التافه، إلا أن رأي ابن الأثير لا يؤخذ مأخذ الجد لأنه ربيب البيت الزنكي ويتسم بتحيزه لهذا البيت.
ويكفي لصلاح الدين أن عاصره كبار أعلام عصره أمثال بهاء الدين بن شداد (ت632 هـ/1234م)، والعماد الأصفهاني (ت 597 هـ/1201م)، والقاضي الفاضل (596هـ/ 1200م). وعنه يذكر ابن شداد في كتابه النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية:"لقد كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحث عليه. لقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسائر بلاده، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة".
وعلى الرغم من قوة صلاح الدين وسلطته وانتصاراته التي حققها إلا أن سلوكه دائماً كان لطيفاً، فقد كره الفظاظة والخشونة والقسوة، وكان هادئ الطبع ومتواضع، وتلك الصفة لفتت أنظار معاصريه من المسلمين والصليبين، فلم يترفع عن رجاله ولم ينفصل عنهم وكان يخوض المعارك بنفسه ويحمل الحجارة والرمل لإقامة أسوار تحمي بيت المقدس هو وأبنائه والفقهاء، لذلك حظي بإعجاب الفريقين بل إعجاب الصليبيين فاق إعجاب المسلمين. يقول المستشرق البريطاني ستانلي لين بول:" لقد أجمع الناس على أن صلاح الدين كان نادر المثال في أخلاقه. فهو – بلا مراء- طاهر النفس، شجاع، غير أنه هادئ النفس، رقيق الطبع، لين الجانب، رحيم الفؤاد، زاهد في الدنيا، مجاهد، ليس فيه كبر بل فيه بساطة وورع".
لقد كان صلاح الدين وبحق واحداً من قادة الإسلام العظام، فقد حافظ على كفاح متساوي ضد جيوش الصليبيين العديدة والمتفوقة لمدة ربع قرن من الزمان، إلا أننا عندما نركز على صلاح الدين يجب آلا نغفل أن وراء هذا القائد الشعوب الإسلامية في مصر والشام والجزيرة الفراتية، حتى لا نقع في مأزق الاعتماد على دور الفرد فقط في حركة التاريخ. ومن ناحية أخرى؛ إذا كانت إنجازات صلاح الدين عظيمة، فلا ننسى أنه أكمل دور نور الدين محمود(1118 – 1174م) فقادة الجهاد الإسلامي كل منهم يكمل الآخر، فلا يوجد انفصال بين قائد وأخر، ومن المؤكد أن أكثر ثلاثة قادة ارتبطت أدوارهم ببعض هما عماد الدين زنكي (1126 – 1146م) ونور الدين محمود وصلاح الدين، وهذا يوضح ضرورة دراسة أدوار قادة حركة الجهاد من خلال متواليات تاريخية، فقد أكمل صلاح الدين دور القادة السابقين بدايةً من شرف الدين مودود (1108 – 1113م)، ولذلك يمكننا أن نعتبر عام 1187م هو حصاد السنوات السابقة منذ عام 1099م.
واقع الأمر؛ إن انتصارات صلاح الدين كان نتاج عوامل متعددة تكمن في أخطاء الصليبيين، والسياسة البعيدة النظر لأسلاف صلاح الدين، وإلى شخصية صلاح الدين نفسه، لكن أهم هذه العوامل هو الإسلام واستجابته الحتمية للاعتداء الصليبي، وذلك يذكرنا بنظرية المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي صاحب نظرية "التحدي والاستجابة"، التي يقول فيها أن التاريخ البشري مجموعة من التحديات والاستجابات، وإذا وجدت استجابة قوية فإن أهل الاستجابة يستطيعون التفوق على أعدائهم، وفسر بذلك التاريخ كله على أساس التحدي والاستجابة.
لقد كان انتصار صلاح الدين في حطين 1187م وإسقاط مملكة بيت المقدس الصليبية انتصاراً حربياً وحضارياً جعله يحتل مكانة عظمى في تاريخ العصور الوسطى، ليس فقط للإنجاز العسكري بل أيضاً لإنسانيته، فليس بالدماء تصنع المكانة التاريخية ولكن بالإنجازات ذات البعد الإنساني. فقد ورد في كتابات المؤرخين اللاتين المعاصرين وشهود العيان أن الصليبين عندما دخلوا بيت المقدس عام 1099م خاضوا في دماء ضحاياهم، فيذكر مؤرخ الجستا المجهول أن الخيول كانت تخوض في برك من الدماء، وعندما نقارن بين ذلك وما فعله صلاح الدين عند دخول القدس، نجد أن دخوله للمدينة كان أبيض لم تنزف فيه قطرة دماء واحدة، لذلك ذكر السير ستيفن رانسيمان أن صلاح الدين عبر عن روح الإسلام واحتفل عند قرون حطين وأبواب بيت المقدس بانتصاره كما يحتفل الرجل الشريف.
ذلكم صلاح الدين الأيوبي الذي طبقت شهرته الآفاق، فهو الشخصية الأكثر رومانتيكية لعصر الحروب الصليبية، تمكن من غزو الصليبيين في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم، وهذا ما لم يحدث بالنسبة لأي قائد صليبي على نحو يكشف لنا تفوق المسلمين في صورة صلاح الدين الذي يكاد يكون الشخصية المسلمة الوحيدة في عصر الحروب الصليبية – إن لم يكن في القرون الوسطى- الذي نُسج بشأنه أسطورة عاشت في العقل الجمعي الأوربي، وأعجب به الصليبيون وصوره فارساً على خلق ونبل، ولعل السبب الرئيسي في تكوين تلك الأسطورة الطابع الإنساني في طبيعته وتمكنه من غزو قلوب أعدائه.
إن العصور الوسطى هي عصور القديسين والأساطير، وتعد أسطورة صلاح الدين أكثر أساطير القرون الوسطى التي تربط الشرق والغرب ارتباطاً وثيقاً، ولا يزال اسم صلاح الدين مجلجلاً في أسماع الغرب حتى اليوم، وذلك دليلاً على أن صلاح الدين لم يمت في 1193م بل ظل أسطورة في عقول أعدائه.
المقال منشور في دنيا الرأي بتاريخ 17 يونيو 2009
http://pulpit.alwatanvoice.com/content-167737.html

فيصل كريم
20/05/2010, 09:45 PM
شكرا لك استاذ أشرف صالح على مقالتكم الطيبة عن القائد الفذ صلاح الدين. والحقيقة أن لهذا القائد مواقف مؤثرة كبيرة، منها مثلا وحسب المتداول عن قرائتنا لهذه الشخصية، أنه حين وافته المنية رحمه الله لم تكن تحتوي خزانته إلا على النذر القليل من المال التي لا تتكافأ مع مكانته كسلطان عظيم. وهذا دليل على أنه أنفق جل أمواله في سبيل الله ولم يخلف لابنائه منها شيئا. ومن مواقفه الصعبة، أنه دخل حروبه الجهادية ضد الصليبيين بلا أي دعم مادي من الخليفة العباسي في بغداد ذلك أن الأخير كان يتوجس منه خوفا من سيطرته على كرسي الخلافة وخلعه منها. وكان هذا أمر يدعو للحزن فيما بين المسلمين الذين انفتحت قلوبهم للجهاد ضد الغزاة الصليبيين. ولكن هذا العامل لم يثبط ذلك السلطان المؤمن الذي عجزت نساء المسلمين أن يلدن قائدا من طرازه مؤمنا بالله وموحدا للصفوف ودارسا لفنون الحرب ومتطلباتها إلى يومنا هذا. ومن المثير للدهشة أن السلطان صلاح الدين الأيوبي، وعلى خلاف ما نشاهده عنه في الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، وحسب ما ذكرته وأكدته العديد من المصادر، كان أعرج القدم. ولست متيقنا عما إذا كانت هذه الإعاقة نتيجة لأحد إصاباته بمعركة ما، أم أنها ناتجة عن تشوه أو مرض طبيعي. وأيا كان الأمر، فإنه يقدم لنا دليلا على أن الأمور لا تقاس بالشكل بل بالمضمون وأن المظاهر خداعة وأن القوة قد لا تخرج إلا من رحم الضعف. والعبرة هنا بالعقل الراجح والشخصية الفذة والصلابة الإيمانية من منطلق الحق. وهذه كلها صفات اتسم بها هذا السلطان التاريخي المسلم الذي شرب من ماء العروبة أكثر مما شربها ابناؤها.

وتقبل جزيل تحياتي

أشرف صالح المؤرخ الصغير
11/06/2010, 08:21 AM
الأخ الفاضل / فيصل كريم
تحية لك، واوافقك الرأي "أن الأمور لا تقاس بالشكل بل بالمضمون وأن المظاهر خداعة"
سعيد بالتواصل معك

شاكر عبد العزيز
01/07/2011, 07:46 PM
جزاك الله خيراً أخي المؤرخ الصغير أشرف صالح على هذا المقال المهم عن هذه الحقبة التاريخية من عصور المسلمين الذين صنعوا لنا المجد عبر تاريخنا المجيد

تقبل تحياتي و تقديري