المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حاكم الأندلس المنصور محمد بن أبي عامر



نبيل الجلبي
19/06/2009, 07:36 PM
حاكم الأندلس المنصور محمد بن أبي عامر
التعريف به ونسبه

هو المنصور أبو عامر محمد بن أبي حفص عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر محمد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك، الداخل إلى الأندلس مع طارق، وكان له في فتحها أثر جميل؛ وكان في قومه وسيطًا، ونزل الجزيرة الخضراء لأول الفتح، فساد أهلها، وكثر عقبه فيها، وتكررت فيهم النباهة والوجاهة.
وكان أبوه من أهل الزهد في الدنيا، والقعود عن السلطان، سمع الحديث، وأدى الفريضة، ومات منصرفًا من حجه بمدينة أُطرابلُس المغرب، وكانت أمه تميمية، وأبوه معافريًّا.

النشأة والتربية

نشأ محمد بن أبي عامر بين جد دخل الأندلس فاتحًا فساق إليه ذكريات الجهاد وحلاوة الفتح، وبين والد تاركًا للدنيا زاهدًا فيها، فكان حسن النشأة، ظاهر النجابة، تتفرس فيه السيادة؛ وابن أبي عامر من المدينة المعروفة بـ(الجزيرة الخضراء) من قرية من أعمالها تسمى طرش على نهر يسمى وادي آروا.
رحل "محمد بن أبي عامر" إلى (قرطبة)، وتأدب بها، فطلب العلم والأدب وسمع الحديث وتميز في ذلك وكانت له همة يحدث بها نفسه بإدراك معالي الأمور، وكان بداية أمره أن اقتعد في دكان عند باب القصر يكتب فيه لمن أراد أن يكتب شيئًا يرفعه إلى السلطان، وظل في هذا الأمر إلى أن طلبت "السيدة صبح" أم "هشام المؤيد" من يكتب عنها، فعرّفها به من كان يأنس إليه بالجلوس من فتيان القصر، فترقّى إلى أن كتب عنها، فاستحسنته ونبّهت عليه الحكم المستنصر ورغبت في تشريفه بالخدمة، فولاّه قضاء بعض المواضع، فظهرت منه نجابة، فترقّى إلى الزكاة والمواريث بإشبيلية، وتمكّن في قلب السيدة بما استمالها به من التّحف والخدمة ما لم يتمكن لغيره، ولم يقصر - مع ذلك - في خدمة المصحفيّ الحاجب، إلى أن توفّي "الحكم" وولي ابنه "هشام المؤيد"، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فجاشت الروم، فجهز "المصحفيّ" "ابن أبي عامر" لدفاعهم، فنصره الله عليهم، وتمكّن حبّه من قلوب الناس، وكان شهمًا، شجاعًا، قوي النفس، حسن التدبير، استمال العساكر وأحسن إليهم، فقوي أمره، وتلقب بـ"المنصور"، وتابع الغزوات إلى الفرنج وغيرهم، وسكنت البلاد معه، فلم يضطرب منها شيء.

المنصور حاكمًا للأندلس

لقد خلد التاريخ ذكر رجال طلبوا معالي الأمور، وكانت لهم همم لا منتهى لكبارها، بلغوا بها العُلا، من هؤلاء "المنصور بن أبي عامر" الذي اعتبره المؤرخون أعظم من حكم الأندلس.
بدأ حياته طالبًا للعلم ثم تدرج حتى أصبح قاضيًا، ثم آل إليه الحكم بعد ذلك، وكان يمني نفسه به.
ومن القصص الطريفة التي رويت عنه، ما ذكره "المراكشي" في كتابه المعجب عن الفقيه أبي محمد علي بن أحمد: أن ابن أبي عامر كان يومًا جالسًا مع ثلاثة من أصحابه من طلبة العلم، فقال لهم: ليختر كل واحد منكم خِطَّة أولِّيه إياها إذا أفضى إليَّ الأمر!
فقال أحدهم: توليني قضاء كورة رية (وهي مالقة وأعمالها)؛ فإنه يعجبني هذا التين الذي يجيء منها.
وقال الآخر: توليني حسبة السوق؛ فإني أحب هذا الإسفنج.
وقال الثالث: إذا أفضي إليك الأمر، فأمر أن يطاف بي قرطبة كلها على حمار ووجهي إلى الذنب وأنا مطلي بالعسل؛ ليجتمع عليَّ الذباب والنحل!
وافترقوا على هذا، فلما أفضى إليه الأمر كما تمنى، بلغ كل واحد منهم أمنيته على نحو ما طلب!
وكان كثير الغزو لا يمل منه، وحسبت غزواته فكانت أكثر من خمسين غزوة، لم يهزم في واحدة منها.

جهاده.. وأهم المعارك

لقد ملك الجهاد قلب "المنصور بن أبي عامر"، حتى فقد الاستطاعة على تركه، وذكر "المراكشي" في كتابه المعجب عن مدى حب "ابن أبي عامر" للغزو والجهاد، فيقول: "وبلغ من إفراط حبه للغزو أنه ربما خرج للمصلى يوم العيد فحدثت له نية في ذلك، فلا يرجع إلى قصره بل يخرج بعد انصرافه من المصلى كما هو من فوره إلى الجهاد، فتتبعه عساكره وتلحق به أولاً فأولاً، فلا يصل إلى أوائل بلاد الروم إلا وقد لحقه كل من أراده من العساكر، ولم يتكاسل عن الجهاد حتى في مرضه، وقد مرض وهو في طريق للغزو، فلم يرجع بل رفع يديه طالبًا من الله أن تأتيه منيته وهو في الغزو، فكان كما أراد، لقد خلصت نيته لله فأعطاه الله ما تمنى.
استطاع "ابن أبي عامر" أن يصل إلى معاقل في أرض إسبانيا ما وصل إليها أحد من قبله منذ أن دخل "طارق بن زياد" فاتحًا وحتى عهده، فقد وصل إلى أكبر معاقل النصرانية في "إسبانيا"، وملئت بلاده من سبايا الروم وغنائمهم، حتى نودي على ابنة عظيم من عظماء الروم بقرطبة (وكانت ذات جمال رائع)، فلم تساوِ أكثر من عشرين دينارًا عامرية.
وكان يغزو غزوتين في السنة: مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، وبلغت غزواته أكثر من خمسين غزوة لم يهزم فيها، ولم ينل منه عدوه قَطُّ.
ومن آثار غزواته أنه افتتح حصن (مولة)، وظهرا فيه على سبي كثير، وغنم المسلمون أوسع غنيمة، وكان ذلك في عام 366هـ.
ودخل على (طليطلة) غرة صفر من سنة 367هـ؛ فاجتمع مع صهره "غالب"، فنهضا معًا، فافتتحا حصن (المال)، وحصن (زنبق)، ودوخا مدينة (شلمنقة)، وأخذا أرباضها، وعاد "ابن أبي عامر" إلى قرطبة بالسبي والغنائم، وبعدد عظيم من رءوس المشركين، وتمت هذه الغزوة في أربعة وثلاثين يومًا من خروجه إليها.
ومن أهم معارك التي قضى فيها على معقل من معاقل النصرانية في (إسبانيا) معركة (شنت ياقوب).
وقبل أن نخوض غمار المعركة نلقي نظرة على موقع هذه المدينة في قلوب النصارى وأهميتها عندهم، كانت هذه المدينة أعظم مشاهد النصارى في بلاد "الأندلس"، وكان النصارى يعظمون كنيستها، كتعظيمنا للكعبة المشرفة، وإلى هذه الكنيسة كان يحجون قادمين إليها من أقصى البلاد الرومية، وزعموا أنها بها قبر "يعقوب" من حواري سيدنا عيسى عليه السلام، ولم يتمكن أحد من المسلمين الفاتحين للأندلس دخولها أو فتحها حتى تم ذلك على يد المجاهد "محمد بن أبي عامر".
وقد خرج "المنصور" إليها من قرطبة غازيًا بالصائفة يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة 387هـ، متوجهًا إلى (شنت ياقوب)، ودخل على مدينة (قورية)، ولما وصل "المنصور" إلى مدينة (غليسية)، وافاه عدد عظيم من القوامس المتمسكين بالطاعة في رجالهم، فصاروا في عسكر المسلمين، وكان "المنصور" قد أمر ببناء أسطولاً بحريًّا فبعد أن تم بناؤه جهزه برجاله البحريين، وحمّل فيه المؤن والذخائر والأطعمة والأسلحة، وخرج "المنصور" إلى موضع على نهر (دويره)؛ فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل "المنصور" على العبور منه؛ فعقد هناك من هذا الأسطول جسرًا بقرب الحصن الذي هناك. ووزع المنصور ما كان فيه من الميرة على الجند؛ فتوسعوا في التزود منه إلى أرض العدو، ونهض يريد (شنت ياقوب)، فقطع أرضين متباعدة الأقطار، وقطع بالعبور عدة أنهار كبار وخلجان، وبعد أن خاض المسلمون غمار المعركة تارة في البحر وأخر في البر، سالكين الجبال والأودية، إلى أن أتم الله عليه فتح (شنت ياقوب)، ولما وصل إليها المسلمون وجدوها خالية من السكان، فحاز المسلمون غنائمها، وهدموا مصانعها وأسوارها وكنيستها، وعفوا آثارها،وانكفأ المنصور عن باب شنت ياقوب، وقد بلغ غاية لم يبلغها مسلم قبله.


أخلاقه

دخل "المنصور" (شنت ياقوب) أكبر معاقل لنصارى الروم في ذلك الوقت، إلا أنه لم يجد فيه إلا شيخا من الرَّهبان جالسًا على القبر؛ فسأله عن مقامه، فقال: أوانس "يعقوب". فأمر "المنصور" بالكف عنه.
ولا عجب فهذه هي أخلاق الإسلام، فقد كانت وصايا النبي صلى الله عليه وسلم للجيش ألاّ يقتل طفلاً ولا وليدًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة ولا راهبًا في صومعته، ولا يجهزوا على جريح، ولا يقطعوا شجرة، ولا نخلاً، وكذلك كانت وصايا الخلفاء من بعده.
كانت نشأة المنصور بن أبي عامر لها أثر كبير في تغيير مسار حياته؛ فقد نشأ متعلمًا لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فتربى على هذه الأحاديث حتى استقى أخلاقه من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.

من أقواله

كان المنصور بن أبي عامر شاعرًا، ومن شعره:
رميت بنفسي هول كلّ عظيمة ... وخاطرت والحرّ الكريم يخاطر
وما صاحبي إلا جنـانٌ مشيّعٌ ... وأسمـر خطّيٌّ وأبيـض باتـر
فسدت بنفسي أهل كلّ سيادة ... وفاخرت حتى لم أجد من أفاخر
وما شدت بنيانًا ولكـن زيادة ... على ما بنى عبد المليك وعامـر
رفعنا المعالي بالعـوالي حديثة ... وأورثناها فـي القـديم معافـر
وفاته

دامت دولته ستًّا وعشرين سنة، غزا فيها اثنتين وخمسين غزوة واحدة في الشتاء وأخرى في الصيف، وكانت وفاته في غزاته للإفرنج بصفر سنة ثلاثمائة واثنتين وتسعين، وحمل في سريره على أعناق الرجال، وعسكره يحفّ به وبين يديه، إلى أن وصل إلى مدينة (سالم). وكان في كل غزوة من غزواته ينفض عنه تراب الغزوة ويضعه في كيس، وكان يصطحبه معه في غزواته، وعند وفاته أوصى أن يذر هذا التراب على كفنه؛ ليكون شاهدًا على جهاده يوم القيامة. فرحم الله "أبا منصور"، وأسكنه فسيح جناته، وغفر له ما أصاب من زلل[1].




قالوا عنه

كان "المنصور بن أبي عامر" سياسيًّا بارعًا، وصاحب همة عالية متمنيًا أمرًا عظيمًا، وبعلو همته وحسن سياسته استطاع أن يصل إلى ما تمنى، فقال عنه "الذهبي": كان من رجال الدهر رأيًا وحزمًا، ودهاء وشجاعة وإقدامًا، استطاع استمالة الأمراء والجيش بالأموال، ودانت لهيبته الرجال، وكان حازمًا، قوي العزم، كثير العدل والإحسان، حسن السياسة.
وما يذكر عنه من حسن سياسته وتدبيره، أنه دخل بلاد الفرنج غازيًا، فجاز الدرب إليها، "الدرب: مضيق بين جبلين"، وأوغل في بلاد الفرنج يسبي ويغنم، فلما أراد الخروج رآهم قد سدوا الدرب، وهم عليه يحفظونه من المسلمين، فأظهر أنه يريد المقام في بلادهم، وشرع هو وعسكره في عمارة المساكن وزرع الغلات، وأحضروا الحطب، والتبن، والميرة، وما يحتاجون إليه، فلما رأوا عزمه على المقام مالوا إلى السلم، فراسلوه في ترك الغنائم والجواز إلى بلاده، فقال: أنا عازم على المقام؛ فتركوا له الغنائم، فلم يجبهم إلى الصلح، فبذلوا له مالاً، ودواب تحمل له ما غنمه من بلادهم، فأجابهم إلى الصلح، وفتحوا له الدرب، فجاز إلى بلاده.
ويقول ابن الأثير: كان المنصور بن أبي عامر عالمًا، محبًّا للعلماء، يكثر مجالستهم ويناظرهم، وقد أكثر العلماء ذكر مناقبه، وصنفوا لها تصانيف كثيرة، وكان حسن الاعتقاد والسيرة، عادلاً، وكانت أيامه أعيادًا لنضارتها، وأمن الناس فيها.
وقد مدحه الشاعر قائلاً:
آثارُهُ تُنْبِيكَ عَنْ أخْبَارِهِ ... حَتَّى كأنَّكَ بالعُيُونِ تـرَاهُ
تَاللهِ ما مَلَكَ الجَزيرَةَ مِثْلُهُ ... حَقًّا وَلاَ قَادَ الجُيُوشَ سِوَاهُ

[1] المراجع: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب - الكامل في التاريخ - المعجب في تلخيص أخبار المغرب - سير أعلام النبلاء - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب - نهاية الأرب في فنون الأدب.

عن موقع قصة الإسلام

عبدالجبار سعد
24/06/2009, 11:18 AM
بورك بالناقل والمنقول عنه وبورك بالنقل