المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مشانق الاحتلال: من عمر المختار الي صدام حسين



غالب ياسين
15/01/2007, 09:14 AM
من التجاوز علي حقائق التاريخ حقا، ومن ليّ عنق السياقات أيضا، أن يعمد المرء الي اعمال مبدأ المقارنة لينظر فيما يجمع الشهيدين عمر المختار وصدام حسين، أو النظر فيما يفرق بينهما:
فعمر المختار حارب الاحتلال الايطالي بجلد كبير لما يناهز عقدين من الزمن، فكان بذلك بمواجهة مباشرة مع الايطاليين يوجعهم تارات عدة، ويقتلون من رفاقه وأتباعه النفر الكثير تارات أخري. في حين أن صدام حسين لم يمهله الزمن حتي يرتب المقاومة من حوله، ويعمد الي مجابهة الأمريكان بالارتكاز عليها أو من خلالها.
كان لعمر المختار سبل تنظيم الجهاد ضد الاحتلال الايطالي (وكان له الزمن الكافي أيضا)، في حين أسر صدام حسين قبل أن يتسني له تصريف ما أعده عندما تأكد لديه أن بغداد لا محالة ساقطة بيد الاحتلال الأنجلوأمريكي.
وعمر المختار كان مطمئنا لمعاضدة شعب بأكمله لما يجاهد من أجله، ولم يكن من بين ظهراني أبناء طينته مرتزقة كثر ولا متآمرون عليه متعددون، فكان رافع لواء جهاد شعب بأكمله والمعبر بامتياز عن مظلومية ندر مثيلها. في حين اشتكي عدد كبير من العراقيين من ظلم صدام حسين وبطشه، فناصبه العداء غرماء له بالداخل ومعارضون له بالخارج، ناهيك عن المرتزقة وعداء بلدان الجوار واستعدائه (عن قصد أو بالتوريط المضمر) لدول كبري اتخذت من الاستعداء اياه مطية لقلب نظام حكمه والزج بالبلاد في جريرة ذلك، في أتون اقتتال طائفي بدائي، لا تتراءي لنا نهاياته باعدامه، بل علي مذبح من التقسيم الجغرافي البدائي للبلاد.
وعمر المختار استنبط رمزية الكاريزما من جهاد كان العدو في ظله واحدا، معروفا ومباشرا، في حين أن صدام حسين (لو كان له أن يقود المقاومة) كان سيكون بازاء عدو أجنبي واحد، معروف ومباشر، لكن أيضا بازاء أعداء متحصنين به (بالاحتلال أعني)، أو مدعومين من دول الجوار، أو ذوي وظائف ارتزاقية خالصة لا حساب لديهم الا حساب الغنيمة حتي وان جرت علي البلاد القتل والخراب.
كان لعمر المختار (والشعب الليبي من خلفه) عدو واحد، في حين كان وبات لصدام حسين أعداء من كل الأطياف، بل قل ان كل الأطياف ناصبته العداء بمسوغ موضوعي ثابت، أو دونما مسوغ يذكر، اللهم الا المسوغ المبني علي غريزة الثأر الصرف أو ناصية الانتقام الفطري المباشر.
ثمة دون شك أوجه تباين كبري بين ظرفية الرجلين، والسياقات التي عملا فيها، والمحيط المباشر الذي أثر في فعلهما أو تفاعلهما مع الوقائع والأحداث... يجعل المماثلة بينهما (في الفعل أو السلوك) أمرا متعذرا بكل المقاييس.
واذا كان من غير المتعذر علي المرء ايجاد زوايا تباين عديدة أخري بين الرجلين طيلة مراحل حياتهما (بجهة أن عمر المختار لم يكن رئيس دولة مثلا، ولا كان صدام حسين رمزا دينيا وما سوي ذلك)، فان نهاية الرجلين متشابهة لدرجة التطابق في بعض من عناصرها الكبري:
فعمر المختار سقط أسيرا من فوق فرسه وألقي عليه القبض وهو محاصر، وبندقيته بعيدة عن مرماه لم يستطع التقاطها، فاقتيد للسجن من أرض المعركة كأسير حرب، وحوكم بقوانين احتلال هو يرفضها ولا يعترف بها، ولم يتلكأ أمام غرسياني (الحاكم العسكري لليبيا) في الجهر بأنه لن يتردد في معاودة محاربة الطليان ان سنحت له الظروف والسياقات. وصدام حسين اعتقل بدوره (عكس رواية الأمريكان) بعدما حاصرته قوات الاحتلال بضواحي بغداد وهو منهمك في الصلاة وسلاحه بعيد عنه، فاقتيد الي السجن مكبلا، ليحاكم فيما بعد بقانون وضعه الحاكم الأمريكي برايمر واستقت المحكمة مواده منه، لم يفتأ صدام حسين يطعن فيه ويرفضه، ويدفع بلازمة أنه الرئيس الشرعي للعراق.
وعمر المختار قدم أمام محكمة عسكرية صورية سريعة لم يستطع في ظلها الدفاع عن نفسه، في حين اعتبرت هيئة الدفاع عنه متطاولة علي قدسية المحكمة عندما اعتبر المحامي الايطالي المنتدب أنه لا يجوز للمحاكمة أن تتم وفق القانون الايطالي ما دام المتهم لا يعترف بكون ليبيا جزءا من ايطاليا.
لم يختلف الأمر كثيرا مع صدام حسين حين اقتيد أمام محكمة معين قضاتها ونيابتها من لدن الاحتلال رجحت علانية كفة الادعاء العام، ولم تتوان في استفزاز الدفاع بسبب مرة (تشبث الدفاع بلقب الرئيس في الاشارة لصدام حسين) أو دونما سبب يذكر في العديد من الحالات.
صحيح أن لائحة الاتهام الموجهة للشخصين مختلفة أيما يكن الاختلاف، ووتيرة السرعة متباينة (بضع ساعات لعمر المختار، وأكثر من سنة بالنسبة لصدام حسين)، لكن منطوق الحكم في الحالتين معا كان مهيأ وقائما، ولم تعمد المحاكمتان الا الي تسويغه واعطائه بعضا من المصداقية أمام الجماهير .
وعمر المختار حكم بالاعدام شنقا حتي الموت تماما كصدام حسين (وهما معا في العقد السابع من عمرهما لا يفصل بينهما الا عام أو عامان) ونصبت لهما المشانق قبل أن يتم النطق بالحكم.
في حالة عمر المختار أمر غرسياني المحكمة بالانعقاد للنطق بالحكم، وفي حالة صدام حسين "تنبأ" حكام العراق الجدد بأن الحكم لن يكون بكل الأحوال أقل من الاعدام... وكذلك كان.
تم تنفيذ الحكم علي عمر المختار غداة صدور الحكم مباشرة، في حين أعدم صدام حسين بعد أربعة أيام من صدور الحكم عليه، ليشنق الأول بالتاسعة صباحا أمام جمهرة من 20 ألفا من مواطينه منعوا من البكاء لولا صيحة امرأة كسرت جدار الصمت، وليشنق الثاني بالسادسة صباحا من توقيت بغداد بمقر الاستخبارات العسكرية... حيثما كان يعدم غرماءه عندما كان بالسلطة...هكذا قيل ويقال.
لم يرتجف عمر المختار وهو ينطق الشهادة. ولم يرتعش صدام حسين والحبل يحاك من حول عنقه. لم يستعطف الأول جلاديه، ولا استغاث الثاني بحكام العراق الجدد وهم من حوله مذهولون. لم يختلف الرجلان في هذه الجزئية. اذ بقدر مهابة الرجلين تأتي ضعف جلاديهم يوم الاعدام كما فيما أتي من أيام.
واذا كان عمر المختار قد دفن بمقبرة سرية لم يعرف مثوي قبره الا بعد سنين من الزمن علي يد من واري جثمانه، فان الأمريكان قد عمدوا الي تسليم جثة صدام حسين الي عشيرته ليدفن من بين ظهرانيها بعدما فتحوا له بيت عزاء...هما شنقا معا للعبرة فقط حتي بعلم الاحتلالين أن المشانق تنصب للصوص وقطاع الطرق ولا تقام للرموز والشهداء.
ما الذي أفاده اعدام عمر المختار لايطاليا؟ وفيم سيفيد شنق صدام حسين؟
لم يهنأ الاحتلال الايطالي هنيهة، اذ سرعان ما تجدد الجهاد علي يد أتباع عمر المختار ليجبروا ايطاليا فيما بعد بقليل من السنين علي الاندحار والاعتراف باستقلال ليبيا...ولن يفيد اغتيال قوي الاحتلال الأمريكي للرئيس صدام حسين، اذ في أعقابه ستفتح المواجهة مع الأمريكان دونما سبل للعودة... واذا كان من قدر الرجلين أن يعدما شنقا من لدن قوي احتلال فاشية في حالة عمر المختار واحتلال لا يقل عنه فاشية في حالة صدام حسين، فان الرجلين أضحيا جزءا ليس فقط من التاريخ الوطني المستمر، بل باتا دون منازع جزءا من ذاكرة جمعية لن تفني...
رحم الله الشيخين المجاهدين، ونخالهم صدقا ضمن الأبرار والشهداء.

ہ باحث وأكاديمي من المغرب
elyahyaoui@elyahyaoui.org