المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السنجاب/رواية قصيرة/مختار عبد العليم. الفصل الثاني.



مختار عبد العليم
26/06/2009, 08:31 PM
[2]...
اعتصار على ناصية الرحلة...
وقف خالد على باب شارع [طلعت حرب], ينتظر عودة كرمة كما طلبت منه, وشروده ريشة تضع الخيوط الرئيسة للوحة جديدة, استوحاها من وقفتهما على الكبري, رافعاً عينه إلى السماء التي بدت له شبحاً لسيدة مخيفة تأمر خُدّامها بكنس حواريها, وإلقاء قمامتها على رأس جسد القاهرة, التي تئن من أثقالها كعادتها وأضواء [النيون] تكشف انتشار القروح على جلدها وتخترقها أشعتها؛ لتصور بلايا أحشائها, ودموعها متحجرة أسى على عقوق مبانيها بهروبها من أسمائها, و[الجينز]و[التيشرت] والقمصان الملونة والجلاليب وأطواق النساء ومساحيقهن ترفرف على مشاجبها, وتقفز داخل الأكياس, وتتشكل بأشكال مرتديها, وشوايت [الهامبورجر]و[الشاورمة]و[البيتزا] ومحال الفول والطعمية والكشري, تكدس قناطر من لحوم البشر داخل أجولة فارغة تروح وتأتي. والقاهرة في ركن الحياة بثوبها القذر المرقع, وجسدها الهش المتهالك, تتسول الفرج من ديدان الملح التي تملأ فمها؛ فتحبس صراخها في أذنيها, فتمنع وصول تراتيل النجدة إليها, وتترك عينيها مفتوحتين لتدلف منهما ثعابين الغيظ؛ حتى تصل إلى مثانتها لتدفع السم من خراطيمها بولاً يشربه حرافيشها؛ فينزون رائحة كريهة تطفئ مصابيحهم؛ فيكونون مصدر تلوث للأسرَّة العائمة على صفحة الشيخ, ومهبط وحي لأرباب الدور المقببة, مالكي أخاديد النار مأوى الأنجاس, ومفاتيح الجنة, وأنهار الخمر التي تهب الوعي لتابعي برامج الحياة المستقيمة, وسخرية للفارين خلف أحجبة صدأ اليأس إلى الوجاهة وتطهير أقدامهم من دنس مياه المجاري والتخفف من حطام الشوارع والبحث عن مقالب أخرى للقمامة؛ ينفُضون فيها بقايا نشارة الألم عن أصابعهم ويقلمون أظافرهم بملاقط من ذهب..
كانت السيدة المخيفة ترمق كل هذا من علٍ؛ فترتج ضخامتها من وحشية ضحكاتها وتنويعاتها, صعوداً وهبوطاً, تعريضاً وحِدّة وغلظة؛ حتى انغلقت أذنا خالد على صفيرٍ حاد, واختلطت الأوان خلف صدره –أبخرة حزن—ضاق بهما؛ فتسلقت أحبال صوته ومرقت تحك في جدران حنجرته حتى جرَّحتها, وسالت من أنفه وعينيه ماءاً ساخناً مدمى, حاول مداراته بمنديله ليستر عورة حزنه ويصون جلاله...
عادت كرمة وفي إحدى يديها علبتا [جيلاتي] وفي الأخرى صندوق [كرتوني] صغير. وما إن رأت حبيبها وما يحيطه من بله العيون؛ حتى حبست فزعها في قفصها الصدري واضعة ما معها في حقيبة يدها, ومسحت على كتفه وضمته بعينيها منتشلة إياه من بين الجثث التي تابعتهما بنفس البله حتى اختفيا..
اصطحبته كرمة إلى الأرائك المحيطة بنافورة ميدان التحرير, وأهدته أول ملعقة من علبتها محمولة على بسمة رقيقة نفضت برادة الألم من صوته, وقالت: ذهابنا إلى الكبري كان خطأً؛ لمعرفتنا السابقة به. لكن عزائي, يكون في انتظاري للوحة رائعة تؤاخي اكتمال تكوينك الجديد في حضن مرسمك..
طلب منها تبديل ملعقتيهما بعد ما أهداها بدوره واحدة من علبته؛ فأيقنت أن الأزمة في طريقها للانفراج. وقال: حدسك صحيح, فهناك أفكار مهمة لعمل جديد, لكنه مجرد مؤشر لحقيقة أكبر؛ فقد كانت القاهرة كلها أمامي شريطاً مهلهلاً يدور على تروس متآكلة, أعتقد أن [صلاح جاهين] قد أصاب في رباعيته "الحزن ماعادلهوش جلال".
قاطعته بدقات حانية على علبته:
[صلاح] لم يقصد حزن خالد وكرمة وحياء ومَن ماثلهم؛ لكنه بالطبع كان يقصد مستقبليه والمتعاملين معه, بل إن الذين يلقون بأشرعتهم يؤمنون مهما ضحكوا على أنفسهم بأن حزنهم أضحى كائناً غير شريف. وبهذا يكون التفسير قد اكتمل, وإنك لست في حاجة لمَن يبرزه لك..
هز رأسه بحركة غير مفهومة, ونظر إلى السماء بتمتمة مسموعة, يحاول هضم التفسير وجوازه؛ فمدت يدها إلى صندوقها الصغير تخرج منه علبة سجائر بكبريتها, تسد حاجته لحين عودته لنرجيلته, وهي تؤكد صحة التفسير وصدقه ودقته, ثم أخرجت نموزجاً فرائياً صغيراً لحيوان السنجاب –اشترته آن عودتها من محل المرطبات بأكبر قدر من ما تملك في تلك اللحظة, حتى أن ما بقي لهما معاً كان يكفيهما العودة بالكاد—لتقدمه هدية له تقلل من تصلب شرايين النيل في مجرى دمه..
أشعل لفافة والتقط السنجاب, وقلّب فيه نظر التعجب والتهكم –وقد بدأ الشريط في دورانه الجديد—فسحب نصف سيجارته في نفس واحد, والتفت إليها؛ فاندفع إلى وجهها رزاز سعاله الكثيف محقوناً بالغضب والتبرم, فأدمعها وأسعلها؛ حتى كادت أنفاسها تهجرها, وقال:
- هل تظنين أن هذه الدمية تصلح غطاءاً لعُري القاهرة؟! هل تُشبِع جوعها؟! هل تستطيع أن تبيد ديدان الملح؟!..
مسحت عينيها وأنفها وبلعت ريقاً وراء ريق فاتحةً خزينة رفقها مطفئةً شرر ضيقها, واقتربت منه أكثر تجيبه:
- هديتي هذه أردتها لتمسح قليلاً مما حدث على النيل. ثم تبسمت قليلاً, وأضافت:
- ولو أعلم أن الموضوع أكثر من هذا؛ لتصرفت وجرجرت ورائي حديقة الحيوان كلها..
ساحت عيونه واختلجت نفسه بمشاعر متباينة, بمعاودة حالة التعب والاختناق؛ فهزته من طرف نصف كمه كهزهزاتها لعود وردها, ومالت عليه توشوشه في أذنه:
- أنت فنان عظيم, وعلى لوحاتك, كشف عُري الجسد للطرازين؛ حتى يخيطوا له ما يليق لستره..
خلع كتفه من يدها وقذف المقعد بكبريته الذي كان يفرك فيه توتره محتدّاً:
- كل الطرازين ماتوا, ولم يبقى إلا حائكو بِدَل الرقص, وعارضو الملابس المستوردة وقطع [الإكسسوار] العيرة, والتي لا يهم ضياعها أو حتى إهداؤها؛ لأن رخصها يسهِّل تغييرها وتجديدها وتعويضها..
استنشقت حدته وزفرتها في وجهه غضباً وسخطاً على استمرار حالته, وقالت بصوت ساخن منخفض وملامح مقطّبة:
- الحكم على الكل بالجزء, لا يكون حكماً مكتمل؛ لذا فمحكمتك ظالمة, لا تزال ترتدي بيشة جدتي على مصطبة دارها وهي تردد [الجواب يبان من عنوانه]. أما أنا فمؤمنة بوجود الجادين؛ لكن عذرك في التعميم أنك لا تعلم وجودهم كما أنهم لا يعلمون وجودك..
أدار وجهه أمامه وأشعل سيجارته الألف وهطل عرقه يغسل سمطه المفاجئ؛ فأشفقت عليه من غضب دبوسها الحاد, واغرورق قلبها؛ فوقفت أمامه تلاطفه وتجفف عرقه بأنفاس باردة ناعمة, معتذرة عن ضيق صدرها وهي تضمده بشاش الحنان الذي كتبت عليه: أن الدنيا التي تضم خالد حبيبي, لا يمكن أن تكون كلها فاسدة, فهذا هو مصدري الوحيد لتأكدي من وجود المخلصين..
أخذ يدها بين يديه واضعاً لفافته في فمه وأجلسها جواره ثانيةً؛ فداعبته مبتسمة:
- لم يهن عليك رميها وإشعال غيرها لتقول لي اقعدي يا كرمة يا حبيبتي. يا بخيل...
إحمرت رقبته وخذّاه؛ فبادرته ولملمت خجله وخبأته في قلبها ولقطت عينيه ببريق عينيها وقالت:
- وصلني كل ما تريد؛ لكن رغبتي أن أوضح لك أن هديتي كانت لحبيبي, بشقائه, وطهارة نزفه, وضيق عيشه, وسمو فنه, وكانت له بكل جماله, ولا علاقة لها بأي شيء مما تصورته, من خلاص فردي لحظي؛ ودليلي على ذلك أن الدنيا مهما تغيرت, حتى ولو إلى ما تريد؛ فستبقى لكل فرد نفسه. وهديتي كانت إلى نفسي..
ابتسم وجهه ابتسامة أضاأت المدى أمامه, وتنفست مسامه الأمل من عطر حبيبته, وقال:
- إن لم نعد إلى بيتنا فوراً؛ فلسوف أحتضنك, ونفترش ميدان التحرير, وساعتها سنصير عِبرة مشهرة, ومورد رزق سخي لباعة صحف الصباح والمساء..
وقف الاثنان, وتلفتت كرمة حواليها وأشارت إليه بشهقة وضربة على صدرها خفيفتين؛ ليجيل بصره في المكان ليرى معها أن جلستهما كانت مسرحاً يمتلئ بالجموع؛ حتى أنه لا يبقى مكان لقدم؛ لذلك فقد وجب إسدال الستار والعودة سريعاً إلى [الكمبوشة]؛ فتشابكت يداهما والتصقت شرايينهما وكان الملجأ موقف أوتوبيس العودة...