المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السنجاب/رواية قصيرة/مختار عبد العليم. الفصل الرابع.



مختار عبد العليم
26/06/2009, 08:42 PM
[4]..
موت...
كانت الأيام تدخل من باب المرسم لتخرج من نافذته مرة كبرق يصعق الزجاج ويطفئ الأضواء, ومرة كشيخ بدين طاعنٍ في العمر يعاني ورماً كبيراً في قدميه, ومرة كثعبان أسود ضخم له ثلاثة رؤوس كُتِب على الأولى: عائد, ورُسِمت على الثانية: صورة مطمسة, وعلى الثالثة كُتِب: قريباً جداً. ومرات كعصفور رفراف, أو طفل جميل يرتدي ملابس الأعياد, أو عود أخضر ينمو وسط ركام من حشائش جافة..
وكرمة ترعى ميلاد لوحة خالد الجديدة خطاً خطاً ولوناً لوناً. حتى دخل اليوم المائة والذي سيكتمل فيه العمل الفني كله..
قررت كرمة عدم الذهاب غداً إلى عملها طلباً لقليل من الراحة وطلبت على استحياء من حبيبها أن يتركها للنوم حتى تشبع لتقوم رائقة صافية الذهن لرؤية كمال اللوحة والاحتفال بإنجازها..
ضمها إليه مترفقاً, مداعباً شعرها ليخفف عنها ثقل طلبها, وصحبها إلى السرير وشد عليها لحافاً من فوق بطانية, وقبلها موضحاً لها أنه كان سيطلب منها هذا, وأنه سيذهب باكراً إلى حياء ويتركها تستيقظ وقتما تشاء. ثم أطفأ نور الحجرة وأغلق بابها حتى لا تقلقها حركته وملابس خروجه في يده..
أعد نرجيلته, أخذ في نفخ دخانها في صدر قلقه على حبيبته وزلزلة صوت نرجيلته كرابيج تساعده على إلهاب جسده؛ حتى جعلاه يتوارى ليفسح للوحته التي استحضرها ذهنه من مرسمه ليضعها أمام عينيه بجوار فرع من عصفور الجنة لتستعرضا ما فنَّه عليها حتى الآن؛ فبدا لهما في صدرها غضنفران يقفان على طرفي كبري قصر النيل, وتحتهما غانيتان تمسكان بمشرطين وتجريان لهما عمليتين جراحيتين, ليصيرا لبؤتين تفقآن بكارتهما بنفس المشرطين؛ ليجري دمهما في مجرى النيل مندفعاً إلى صنابير يتدافع عليها الناس متزاحمين متقاتلين للحصول على أكبر نصيب منها.
وفي الخلفية وقفت سيدات يرتدين جلاليب سمراء يهللن ويزغردن, تدفع كل منهن ابنها ليتقدم الصف ليكون دوره أسبق بعد الأسدين..
وفي أسفل اللوحة جلست مجموعة تكتب هذا الحدث العظيم؛ ليتفاخروا به أمام العالم أجمع..
وعلى جانبي اللوحة بدت الشوارع خالية, والبيوت ملأى بالعيون والآذان الملتصقة بالشاشات وأجهزة الراديو يشاهدون وينصتون, والنوافذ المطلة على النيل محشوة بالرؤوس المدلاة إلى الخارج..
وفي يمين اللوحة ويسارها من أعلى مجموعتان من الجنود مدججتان بالمدافع الثقيلة والخفيفة والرشاشات, لحراسة هذا المجد الذي يتحقق, في انتظار أمر القائد الذي يقف على رأس اللوحة لضرب باخرة آتية من بعيد ترفع علماً أسود, والسماء يفترشها حصير الغيوم..
سعل خالد سعلةً شديدة فكتمها ببطن كفه كتمة أعادتها إلى صدره مدحورة؛ لتفيقه من غيبوبة الاستغراق, فلفع رقبة الشيشة بخرطومها مكتشفاً ترمد الحجر منذ وقت طويل وأنه كان يشرب احتراق فخاره..
هدأ مكانه قليلاً حتى رحلت حرقة صدره وحشرجة حلقه بكوب من الماء كان جانبه. ثم دخل إلى مرسمه يستشير لوحته في بقية ألوانها التي ترضاها؛ لتثير عليه فيطيعها متأنياً مدققاً حانياً عليها رقيقاً معها حتى لا تغضب منه, وظل الحال بينهما هكذا حتى اكتملت عروساً يتمنيان معاً رؤية وقع سحرها على العيون التي تراها وهو يتنهد ... متى؟.
أبى الليل على نفسه أن يوصف بالطمع, فيفقد جماله ثقة مريديه؛ فهَمَّ بلملمة عقول كائناته وطيِها في سمرته متسحباً خلف ظهر الفجر, مفسحاً الطريق أمام الصبح وليد النهار رفيقه في دروب الزمن؛ فقام السنجابي ودخل ملابس الشارع في لمح البصر, كاظماً نفسه في قبضة يده حتى لا يضعف أمام رغبته في إيقاظ كرمة, وخرج إلى الطرق التي ألِفَ سلوكها إلى صاحبه, تأكله هواجسه المخيفة, والتي كانت تأتيه بين الفينة والفينة؛ فتقطعها كرمة بتيقظها صباحاً رغم تأكيده الرغبة في الراحة من قبل, خاصة في الأيام الأخيرة عندما كان إعياؤها يتكرر, إلا أنها لم تفعل ذلك هذه المرة, وهذا هو السبب الوحيد الذي ينازعه بين الرغبة في العودة أو استكمال المسير وتركها على راحتها حتى رجحت كافة الأخير..
تاهت فرحة السنجابي باتمام تجربته الفنية الجديدة في حبائل تلك الهواجس, حتى وصل إلى حياء الذي لمح إرهاق ملامحه التي تعود عليها في وجه مرآته أو وجه صاحبه, أثناء وبعد أي عمل جديد..
سلك الاثنان طريق العودة, وحياء يخرج بصاحبه من حديث ليدخل في آخر, محاولاً إبعاد دفته عن الغرس في ضحالة طين القلق؛ حتى وصلا إلى عشهم. فطلب حياء منه وبعد طرقة خفيفة على الباب أن يفتح بمفتاحه دون دق الجرس؛ ليتركا كرمة ساعة أخرى أو أكثر, لتستزيد من الراحة, فما زالت الساعة العاشرة والنصف صباحاً, وليشربا كوبين من الشاي مع تدخين حجر شيشة في نخب اللوحة الجديدة..
اتجه حياء مسرعاً إلى المطبخ لإعداد ما اتفقا عليه؛ غير أن خالد لم يهدأ هاجسه أبداً؛ فاتجه إلى كرمة بطيئاً بطيئاً يسبقه صوت غصة في قلبه, وعيناه زائغتان في حلقات الدوار, الذي يلف رأسه وأمعاؤه مطاطاً يشد نفسه ليصل إلى حافة شرجه, ثم ينفلت راجعاً ليوسع كبده جَلْداً, فاتحاً فيه ثقوباً تندفع منها المرارة لتتجمع في حلقه, رافضة الخروج..
وقف أمام السرير زاهلاً ينادي العمى الأصم ليسكن عينيه اللتين تريان جمود الغطاء على صدر كرمة العاجز عن حركتي الصعود والهبوط لإصابة رئتيها بالخرس, وعبثاً يحاول منع يده أن تمتد لكنها عَقَّته, ورفضت الأمر بالشلل؛ فرفعت الغطاء الذي ثقل وزنه, وتحسست وجهها الثلجي المتصلب, ثم عرجت إلى الذراعين والكفين والفخذين والساقين والقدمين؛ لتجدها أعواداً رخامية تأبى الاهتزاز, فعادت هائجة تضغط كل جزء من جسدها الذي صار هيكلاً متجمداً..
غطى لعاب السنجابي الهاطل من تلف قنوات فمه حتى استقرت يده على قلبها الذي سقط في قاع الظَهر, كإسفنجة هامدة تضخمت لامتصاصها كل السم الذي نفثه فيها الأسود ذو الثلاثة رؤوس الذي رآه خالد رابضاً إلى جوار الهيكل, يلوك الدم ويخرج ألسنته الثلاثة له, عروقاً خشبية غليظة محببة لامتناهية الطول, شقوقها الطولية والعرضية أوكار للملايين من أكوام الدود التي تربت على بقايا الدماء المضمخة بها, وعيونه الألف قدور مجمرة تصب حممها في عينيه رعباً وتشفياً واحتقاراً, وفحيح رؤوسه –التي كُتِب على الأولى منها [عُدْت] وعلى الثانية [ليلاً] وعلى الثالثة اتضحت معالم صورة كرمة [التي كانت مطمسة] وصيغت تحتها عبارة [ما أشهى الطعام النادر]—بركان ثائر في كهف كبير مسقوف, تسكنه شياطين مقهقهة, فلا تستطيع أذنا خالد تحمل شدة الفحيح التي تعدت حد سمعها فأصيبت بالصمم؛ لتفقد القدرة على سماع صوت حياء المتململ القادم من ردهة الجلوس والذي تضجر من تكرار: الحجر ..... الشاي .... إنتَ نمت.....
ماذا حدث يا خالد؟.....
ما الذي جرى يا سنجابي؟..
ثم ارتعشت يده فألقى بخرطوم الشيشة على الأرض صارخاً..
انطق يا أخي.
كانت صرخة حياء صاروخاً دمر الكهف وأصاب الصمم في مقتل؛ لينتصب قَتَب المنكوب, فرع شجرة عجوز بين أضراس فصل الخريف, تزحف على لسانه كلمات محشورة في حلقه تتكرر واهنة:
- كرمة ... الوحش ... كرمة ... حياء ... الوحش ... البرد ... الوحش..
فهب حياء واقفاً مكانه يبحث دمه فيه عن منفذ يهرب منه, وهو يصيخ السمع إلى صوت صاحبه الآتي من أقصى الدنيا حتى تبين جلية ألفاظه؛ فهرع إليه مفَزَّعاً ليترنح بين سواد المنظرين, تارة إلى عناء السفر الأبدي على وجه صديقته, وأخرى إلى بقايا وجه صاحبه الذي صار في لحظات مُعَلَّقاً على مومياوية جسده المبدل؛ حتى هشَّت قدماه وسقط على عجيزته, فأدار وجهه خلفاً كارهاً النظر ونفسه في قتال مرير بين عقله المصدق تسانده رؤيته وفجيعة إحساسه, وبين رغبته في الحلم بأن تكون إغماءة أو غيبوبة ثقيلة يستطيع أي طبيب إفاقتها منها فتكون دواءً لصاحبه وله..
استطاعت نفسه مسمرة الحلم محل العقل؛ فأراد أن يقوم لتحقيق تلك الرغبة؛ لكن رجليه كانتا لا تزالان تنتحبان؛ فزحف على يديه وعجيزته, ورغبته تشتعل وتشتعل, حتى وصل إلى الباب, فارتفعت درجة غليان الأمل في رأسه إلى أقصاها؛ فانتفض متحدياً قدميه, وانطلق حافياً كالسهم تاركاً الباب مفتوحاً, وبداخل داخله صاحبه المحنط في تابوت تلعثمه, الذي لم ينقطع عنه قط.
كان حياء, وهو يتعثر في ذعره بالشارع, مصمصة شفاه للمجلببات وحوقلات واستخفافات بشعره الأسود من العجائز ونظرات استياء واشمئزاز واستنكار للمفستنات والمجيبات, ومدعاة ترفق ومساندة لعون العقلاء. والتفكير يشطره نصفين لا يعرف ماذا يفعل, فكل عيادات الأطباء تموت صباحاً..
ركن حياء برهة إلى حائط, يحاول لحام شطريه؛ ليتدبر بما استطاع لملمته من فُتات الرويّة, فقفز إلى عقله [كريم] الطبيب النفسي الشاب, أقرب صاحب لهم, الذي ولا شك يستطيع إحضار زميل له مختص لتوضيح حالة كرمة, فجعل يفتش عن مكان به هاتف في الطريق..
كان حياء يبدو لناظري عودته وكأنه منطاد يعمل على ابتلاع أكبر قدر من الهواء؛ لينتفخ أكثر وأكثر فيخف وزنه أكثر وأكثر وأكثر؛ فتكون قدرته على الطيران أشد قوة وأقصى سرعة؛ حتى رجع إلى حسرته بعشه المنكوب ليجد فريده على وقفته لا يزال؛ لكن الجديد هو بكمه عن كل شئ, حتى الهذيان, وعيناه مبعثرتان على حبيبته لا تحيدان. فحاول حياء إجلاسه عبثاً قاهراً نفسه مكبِلاً بصره؛ حتى لا يرتكب الوقوع على أخته الاختيارية, كي يستطيع إنقاذ ما بقى له من صاحبه, وليظل محتفظاً بوهم الغيبوبة الذي يؤمن به حلماً, إلا أن صديقه كان عموداً صلباً متشنجاً لا يحركه إلا تحرك كرمة..
تركهما حياء خائباً غارقاً في فقر حيلته, ووقف في وسط عصفور الجنة وارتصاصات اللوحات يعتصره ألم التحديق والسخط والنقمة والعجز, نازعاً بعض شعر رأسه بإظافره, وصليل سيوف التكزيب يطن بين عظام جمجمته:
- ربما أكون في كابوس, أو أمام شاشة سينما, أو ربما أهيم في أحدث أكتبها, أو أتوه في خطيط لوحة جديدة للسنجابي, أو حتى ربما أكون أمام حقيقة في مكان آخر غير هنا..
وكانت [هنا] عودة لعينيه إلى النرجيلة واللوحات والزهور والحوائط التي تخرج منها فوهة مدفع الحقيقة لتجزئ دماغه جزئين؛ فيسقط على وجهه عيياً لا حركة له إلا طرقات الباب القاسية المدوية, فإذا بكريم وزميله مصطفى الذي فهم منه الكثير أثناء الطريق, وعلى الفور يدخل ثلاثتهم إلى حيث يريدون؛ ليقف مصطفى أمام سرير كرمة, وقد كانت حالتها واضحة لعينيه؛ فأجَّل الكشف عليها ناظراً السنجابي الزاهل الذي لا رمش له, وكأنه تمثال مدقوق لا حركة لنظره الحاكم عليه أن يكون في اتجاه واحد منذ آلاف السنين..
التفت مصطفى إليهما مشيراً بالخروج وتبعهما قائلاً:
- الأمر لا يحتاج إلى كلام, يجب أولاً إخراج خالد من الحجرة بأسرع وقت؛ لينام أطول وقت ممكن؛ فصدمته العصبية الشديدة واضحة عليه, وأرجو أن أكون مخطئاً يا كريم, ثم بعد ذلك نكشف عن سبب الوفاة..
تزلزل كيان حياء بصفع الحقثقة رغم أنفه, وكاد يسقط لولا احتضانة كريم القوية له, ودموعه سيل يغرق صدريهما مردداً:
- ما السبب؟...
ما المبرر؟...
لماذا الموت؟...
لماذا الحياة؟...
لماذا هنا؟؟...
أقسم أنها لعبة خيوطها في يد العبث والفوضى....
زاد كريم من ضمته له, ماسحاً ظهره, مقبلاً رأسه, محاولاً تهدئته, مذكراًإياه اعتقاده هو نفسه في الوفاة عندما أبلغه بالتليفون؛ ففاض صوته حسرة وألماً واختناقاً, متمنياً لو كان غبياً أو كذاباً أو جاهلاً, أو حتى تعبيراً عن رغبة دفينة لو كان يكرههما؛ فكرههما بعد معرفتهما أفضل من بشاعة ما أنا فيه..
تدخل مصطفى الذي ارتسمت على وجهه علامات أسى نكبة هذا المكان الغريب الذي لم يكن يؤمن بوجوده أبداً, لافتاً نظر كريم إلى كريم إلى احتياج حياء لمهدئ ضروري أيضاً؛ فانتفض حياء من بين يدي صاحبه مانعاً ورافضاً وقاطعاً:
- كيف أنام في مثل هذا الوقت ولا راحةً لحبيبي إلا معي, لا شك أن مصطفى هذا معتوه أو مخبول جامداً لا يشعر..
طمأنه كريم بأنه لن يعطيه منوماً بل مهدئاً يجعله كل ما يريده بقدر الإمكان؛ ثم كتب كل مطلوباته لينزل مصطفى بسيارته ويحضرها من أقرب صيدلية, وهو يمسح على كتفه معتذراً..
دخل كريم إلى المطبخ باحثاً عن أشياء حتى وجدها, وصنع منها كوباً من الليمون المركز, وخرج به إلى حياء يستحلفه بكل عزيز لديه حتى شربه, ولملم حزنه في بطنه..
جلس صاحبه يحدثه عن ضرورة إبلاغ أهلهما لتتوفر على الأقل سيدة أو اثنتين لعمل اللازم مع كرمة. فأنزل حياء يده من فوق خده, وأخرج نوتة الاتصالات وأعطاه إياها مشيراً إلى أرقام هواتفهم..
عاد مصطفى إليهم؛ فهموا بتجهيز ما يلزم من دواء ما بين مخدر و[جلوكوز] وغيره داخل [سرنجات] الحقن ودخلوا على السنجابي؛ فحقنه كريم, وظل معه مصطفى يمسكان به حتى لا يسقط بفعل الدواء, بينما دخل حياء ليجهز له كنبة المرسم, وإلى جوارها وضع مسنداً عالياً لزجاجة المحلول؛ ثم دخلا عليه يحملان السنجابي وأرقداه حيث أشار حياء, ثم قال كريم:
- سيظل هكذا نصف يوم أو يزيد قليلاً, وعلينا الآن إنهاء كل شيء قبل انتهاء هذه المدة..
عاد ثلاثتهم إلى كرمة لكي يكشف مصطفى عن سبب الوفاة, ثم سأل حياؤ: ليجيبه أنها كانت تشكو الإجهاد على فترات متباعدة, وكان الإعياء يبدو واضحاً عليها؛ لكنها كانت دائمة الرفض بشدة لمعاودة الطباء, حتى لا تكون عبئاً على فن صاحبها, ولكن ربما كانت مرة أو اثنتين عندما لا تجد مفراً من ضجيج مالد وانفعاله عليها, وكان التشخيص, [الإجهاد والإرهاق] وكان العلاج مجموعة مقويات ومهدئات والركون إلى الراحة..
أكمل مصطفى الكشف والفحص؛ حتى تبين أن السبب هبوط حاد ومفاجئ للقلب أدى إلى توقفه..
تركهما حياء وخرج إلى باب المرسم, يبلغه الخبر بدموع سخينة حزينة, فجرى إليه الاثنان فأوقفهما في الطريق قائلاً:
- لا عليكما... لا شيء... فقد كنت أعزي نفسي, وأرجوك يا كريم فأنا لست في مهدئٍ كان, لا من أيديكم ولا من أوراقكم..
ضغط كريم على يده:
- العزاء لنا جميعاً, وكل منا سيقوم بدوره... مصطفى سيذهب إلى المستشفى ليتصرف في عربة خاصة, وتجهيز بقية المراسم لنقل كرمة إلى مثواها, وأنت ستبقى هنا إلى جوار السنجابي, وأنا سأنزل لمهاتفة أهلها, ثم أعود لأكون معك في استقبالهم لحين عودة مصطفى..
ضج البيت بالصراخ والعويل والنحيب والبكاء, وفتح باب المرسم وأغلقه مرات تلو مرات حتى خرجت أم كرمة من حجرة النوم ليخبر انتحابها بإتمام تجهيز الجسمان للخروج؛ فهب الجميع وقوفاً, وإلى جانب بعيد طلب حياء من كريم أن يبقى جوار السنجابي حتى يعود. ربت كريم على كتفه موضحاً أنه سيبيت معهما الليلة, وربما أسبوعاً إذا ما نجح مصطفى في الحصول له على إجازة من المستشفى..
خرج الجميع وراء كرمة للصلاة عليها ومواراتها سكنها الأخير..
ودع حياء كرمة الوداع الأخير, بعد انفضاض المكان من حوله, طالباً منها أن لا تكف عن الترنيم كي يشفى حبيبها, ويعود إليه فنه ثم عاد إلى البيت لينقبض قلبه المحزيون على كل ركن فيه ينعى نفسه وجاره, على اللوحات المترنحة على زهور عصفور الجنة, التي بهتت وأغلقت أوراقها على بصمات أصابعها, التي تجسدت أمامه حزينة فوق كل شيئ لمسته, ثم وقف ماسكاً قلبه متأملاً باب المرسم الذي بدى متشحاً بالسواد؛ حتى أجلسه كريم أمامه وقال:
- الآن لا بد أن أفهم منك كل بالتفصيل, قبل وبعد ما حدث حتى جئتك كي نحصى ونستنتج ونحلل, حتى تكون لدينا المقدرة لمعالجة السنجابي والحفاظ عليه..
هَزَّ حياء رأسه هزة ثقيلة, وأخبره كل ما حدث. وبدوره تذكر كريم كل ما كان يقص عليه خالد عن كوابيسه وأحلامه التي كانت تخيفه, كالوحش الأسود, والثعابين, والعجوز ذي النصف وجه المحروق, والمرأة المدببة الأسنان والجني الممسك بسيفه المسموم ليشطر به عشه, وغير ذلك الكثير والكثير م قال:
- اعلم أن صدمته العصبية ستخلف له حالة من الصمت المطلق, الذي ربما تتخلله جمل قصيرة, على فترات, غالباً ما ستكون لنفسه, أو للغائب, أو لك, باعتبارك ملاحقاً له وأقرب شخص إلى نفسيته..
فكر حياء ثم سأله:
- كيف جزمت بذلك قبل فحصه جيداً؟, هذا تشخيص مبدئي, ناتج عن حالته التي رأيته عليها كل ملابستها التي قصصتها وما تذكرته أنا, كما أن هناك بعض الحالات غالباً ما تظهر أعراضها بمجرد حدوث الحدث المسبب لها..
رجع حياء بظهره إلى الكرسي, وسأله عن درجة وعيه فأجابه كريم بأنه سيكون واعياً, ولكن يجب أن نتعامل مع وعيه بحذر, لأنه الوعي باللحظة بما يريد أن يفعله الآن, لأنه لربما يكون لا يدري أو لا يبالي بردود الأفعال أو ما ينتج عن فعله له هو, وربما تبدو على قسماته بعض علامات البله, وتكون عينه حائرة فتبدو للناظر إليه زائغة دائماً, وذلك لطول فترة الصمت والتوعد على عدم تثبيتها على شيئ, ولكن هذا يكون في مرحلة متأخرة للحالة, حيث لا متنفس لأي شيء داخل المصاب. أما عن خالد فأعتقد أن قبر كرمة سيكون متنفساً له..
سأله حياء عن تطور الحالة بعد تيقظ السنجابي, وماذا عن علاجه, فأجابه كريم بأن هذا سابق لأوانه, فلم أتمكن بعد من معرفة حالته بدقة, ولكن مبدئياً إذا استيقظ على صمته ودخل حجرة النوم فهذا يعني أنه قد وعى الوفاة وما ترديده بما قلت أثناء سخونة الحدث إلا تثبيت لهذا الوعي في رأسه, وأما عن العلاج فكما قلت إن هذا سابق لأوانه لكني أعتقد في مثل هذه الحالات –إن لم تفلح الأدوية والجلسات المتكررة—فليس هناك سوى التعرض المفاجئ لحادثة مماثلة, ولكن بالإيجاب أو أقوى منها تسبب صدمة عكسية, إما أن تعيده إلى طبيعته أو تقضي عليه نهائياً..
مال حياء برأسه إلى المنضدة باكياً صديقه وهو يقول:
- إذن فقد ضمنت أن لا عودة له من مرضه أبداً, فمن أين له بحدث مضاد يماثل ما أصابه في حبيبته وملهمته؟.
مسح كريم عيني صاحبه بمنديله وقال:
- لا تقل هذا أبداً ولا تشبع نفسك به, حتى تسطيع دفع الأمل داخله بالشفاء, فتريح كرمة في مرقدها, ثم أنني قلت أنه تشخيص مبدئي, وربما تكون الصدمة مؤقتة وتزول, بزوال سخونة المؤثر, أو بالراحة التامة, ثم لا تنسى أنه فنان والفنان سريع التأثر, وما يبدو لي صغيراً تافهاً يبدو له ضخماً كالجبل, أليس كذلك يا فنان؟. وعلى أي حال أهم شيء تفعله هو إبعاده بقدر المستطاع عن كل ما يستفزه ونحترس تماماً من القيام بفعل ذرة كانت تفعلها كرمة حتى تستقر الحالة ونعرف منحناها بدقة. والآن أريد أن أسألك واغفر لي سذاجتي:
- كيف ستوفق بين عملك في المكتب وبين السنجابي؟.
لم يستطع حياء إعفاء كريم من حدة نبرته التي تتهمه بالسخف وعدم الفهم وقال:
- لا مكتب لي, حتى لو ظل السنجابي على حالته هذه بقية العمر فسوف أكون ظله أينما ذهب حتى ولو ضجر وأراد قتلي..
مسح كريم على رأسه وضمها إلى صدره وقبلها معتذراً موضحاً أنه يعرف هذا تماماً لذلك حاول توصيف حالة السنجابي قدر إمكانه, لكنها سذاجة الاستطلاع ليس أكثر, ثم قال:
- أما أنا فسأكون على اتصال دائم بكما, وأما الآن فقد حان وقت الدخول للسنجابي لأنه وقت استيقاظه قد اقترب, حتى ألاحظ طريقة استيقاظه بدقة..
تعلقت عينا كريم بكل جزئ في صاحبه النائم تراقبانه وتلحظان كل دقيقة فيه, وقلب حياء يدب دبيب الخيل الجامح على أسفلت ناري, وظل هكذا قرابة الساعتين حتى ارتفع دبيب القلب وكاد يخلع صاحبه من مكانه, عندما تململ فريده على كنبته وانفتحت عيناه, وجالتا في المكان, ثم أغمضتا, ثم انفتحتا لتستقر على السقف..
اقترب كريم من خالد, رويداً رويداً, ملقياً الصباح الذي رفضته أذناه فتفرق في الهواء وحياء في مكانه لا حراك له جازماً بطنه بالتماسك, حتى بدأ خالد في الشروع بالقيام باعداً يد كريم التي تحاول مساعدته؛ فأشار كريم إلى حياء, فأسرع إلى خالد الذي نادى:
- [كرمة... كرمة].
ثم قال متراجعاً دامعاً:
- ولكن كيف تسمع وهي في بطن الوحش.
ثم رفع يد حياء إلى أعلى وقال:
- أريد أن أذهب إليها..
خطى خطوتين ثقيلتين نحو باب المرسم, وتوقف, ومثلهما, وتوقف, وظل هكذا حتى دخل بحياء حجرة النوم, بينما اتجه كريم لإعداد حقنة مهدئ تحسباً لأي مستجد, ثم عاد لينظر خالد متكئاً على حياء أمام السرير فيستريح الطبيب لأن هذا اعتراف منه مؤكد لِما حدث, وبأن وعيه حاضر وليس مجرد تذكر كما ردد في المرسم, ثم أشار إلى حياء أن يجلسه, فأجلسه متململاً ناظراً إلى حياء قائلاً:
- أريد الذهاب إليها الآن./.
فأشار إليه كريم بالموافقة فوراً,, ثم قال حياء للسنجابي:
- تذهب إليها حالاً..
فأشار خالد إلى ملابسه صامتاً, فأحضرها حياء, فارتداها السنجابي بنفسه, رافضاً أن يهيئه أحد, وخرجوا جميعاً...