المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السنجاب/رواية قصيرة/مختار عبد العليم. الفصل الخامس/والأخير.



مختار عبد العليم
26/06/2009, 08:46 PM
[5]...
بعث...
ظلت الأيام تتوالد وتكبر وتشيخ ثم تموت, وهي تزيد صحة تشخيص كريم, الذي لم ينقطع اتصاله بصديقه أبداً, وقد أخذ على عاتقه توفير كل الأدواء اللازمة, ومداومة جلساته العلاجية لخالد, واستقطاع جزء كبير من راتبه الشهري؛ ليضعه في يد حياء الذي تشابهت في عينيه دورات حياة الأيام المكرورة, ولم يضق صدره بل يزيد تفسحاً لآلام السنجابي وتفزعاته المخيفة من تكرار صور الوحش والثعبانين في أحلامه وهم ينهشون كرمة, ومن تقافز اللحظات الأولى لنكبته بين جنبيه, عند اصطدام عينيه بأي لون أسود يصادفه في يقظته, وإنما كان حياء يتجرع مرارة قيده أمام صمت صاحبه, ونسيانه باب مرمه؛ إلا عندما بيده ليصطحب لوحة [شجرة السنجاب], وبعض أشرطة الموسيقى, وجهاز تشغيلها, مع صحبة من زهور عصفور الجنة في زياراته لحبيبته في قبرها؛ ليترك لها الصحبة ويعيد معه ما بقي إلى المرسم إلا شريطاً يتركه مدسوساً وسط صحبة الزهور؛ لتترنم على موسيقاه فتؤنس وحدتها؛ وهذا هو الفعل الوحيد الذي كان يفعله خالد بلا كلل أو انقطاع ووجهه خطوط تتوازى ثم تتشابك راسمةً صورة لوجه طفل لا يكتمل بهاؤه إلا بملاقاة أمه الغائبة..
كان دخان جحيم الحيرة الذي يأكل صدر حياء يُضَبِّب مكانه والذي ألِفت قدماه الوقوف فيه خارج فناءالمقابر؛ حتى لا يجرح خلوة صديقه بحبيبته في الداخل ورأسه شتات بين الليلة المروعة التي سيقضيها صديقه, ككل مرة يعود فيها من مثل تلك الزيارة مع الثعبانين الذين لا يتركانه جراء اصطحابه لوحة [شجرة السنجاب], وبين عجزه عن تفاديه هذا الكابوس الرهيب والذي دائماً ما يقض مضجيعهما, وبين استرجاعه الاإرادي لحوار قصير وحيد حزين متفرد, دائماً ما ينكسر فيه صمت صديقه الطويل, ثم يعود ليلتحم؛ حتى تلك اللحظة, حين يقول له:
- أكل الوحش يد كرمة, ولن تستطيع تقبيلها مرة أخرى طوال عمرك..
فيرد عليه حياء ونظرته في وجهه الزائغ تضيع أمله في عودة الحياة الأبدية للسان صديقه:
- رائحة يدها ستظل في يدك طوال العمر..
فيفاجؤه خالد بمرارة تعليقه المنتظم الأخير الغريب:
كالجوعى الخادعين لمعداتهم بوقوفهم تحت نوافذ مطاهي الشبعى ليأكلوا بأنوفهم..
فتخون حياء قدرته على التماسك أمامه وتعجز عيناه عن الصمود؛ فتنزلقا على دموعهما ساقطتان فوق كتف صديقه, لا يدري أيرجو منه الصمت أو مداومة الكلام..
هزت هذه الذكرى المكرورة وجدان حياء بمهزة الأسى والحسرة؛ فبرقت عيناه ورعدت, ثم هطلت وهي متشبثة بباب الفناء, انتظاراً لإنهاء شريط الموسيقى؛ ليعود إليه السنجابي الذي يحتضن القبر لا يبالي شتاءً, وسط حفيف عصفور الجنة ونغمات الموسيقى, عشقه مع حبيبته. ووجه لوحته يفترش صدر المقبرة؛ لتتمكن ساكنتها من النظر إليه..
كانت هذه الحالة مدعاة سخط واستنكار دائمين لمشايخ سكان أحواش القبور الذين يأكلون تلاوة القرآن في كروشهم الممتدة أمامهم أمتاراً, وقففاً من القُرَص والفطير والبلح الأبريمي, وقصعات من العصائد, وفتّات اللحم, والفول النابت. ويملأون حجورهم بأموال المصطفات من العاقرات, وأمهات وزوجات المرضى, والراغبات في فك عقد بناتهن بأصابع أبناء الحلال؛ ليمنوا عليهن ببركاتهم..
في هذه الليلة, وبداخل غرفة من الطوب اللبن يصل إليها صوت موسيقى محراب خالد القريب..
قال أحد المشايخ وهو يمتطي صهوة امرأة, هي إحدى زوجات زميل له جاءته جنازة في مقبرة أخرى بعيدة:
- استغفر الله العظيم, لقد انقلب حال الدنيا والآخرة؛ ففي كل مرة, بدلاً من القرآن الكريم تكون موسيقى ورقص وأغاني! وبدلاً من قُرَص الرحمة, ورد ورسم وكلام فارغ!. الله لا يرحمه البعيد, ابن الحرام, المجنون, ابن المهافيف..
تأوهت المرأة تحته بصوتٍ غليظٍ خارج من بطنها التي تبدو وكأنها حبلى في سبعين توأم, وقالت:
- وحتى الرسم حرام, وربنا لا يرضى بهذا الحال المائل الذي ما رأيت ولا سمعت مثله طول حياتي..
ثم تنهدت بأنفاس ملتهبة, وشخير متعتها كصوت حافلة ضخمة محملة بالأثقال, تسير وسط الليل, على أرض غير ممهدة فتحطم سكونه, وتزلزل أركان المنازل, وهي تقول:
- سمعت كثيراً أنها زوجته..
غرس الشيخ يديه السمينتين غزيرتي الشعر في رقبتها القصيرة المكتنزة, وثدييها الذين يزن الواحد منهما ربما عشرين أو ثلاثين رطلاً, وقال:
- الكفرة أولاد الكفرة, هو وهي وصاحبه االمضلل الواقف بالخارج باستمرار, كالشيطان الحارس لمعاصي ربنا..
لفَّت ذراعيها البقريتين حوله, تدلك قفاه العريض المُنَجَد وظهره الذي يقسمه عموده الفقري إلى ضفتين بارزتين من اللحم وإليتيه المقببتين, وقالت:
- أنا متأكدة أن أفعاله هذه سينزلها الله على جسمها كرابيج من نار تقطع لحمها تقطيعاً, وتطحن عظامها طحيناً ..
حك صدره الممتلئ الأشعث في صدرها وثدييها حتى تلونوا بلون الدم, وقال:
- اعلمي أن حفرتها واحدة من حفر النار, وأن الله لم يوردها على جنة, وسيحشرها في الدرك الأسفل مع الفجار وأهل السعير بإذنه تعالى..
لفت المرأة حوله فخذيها الجاموسيين وهي تقول:
- لقد سكت الشريط, إذن رحيله مع صاحبه في ستين ألف داهية؛ وسأقوم وألقي قشه الذي تركه في القمامة تحت الحائط, وأعطي الشريط للعيال ليلعبوا به..
خار الشيخ خوار ثور هائج صاعداً هابطاً فوقها, مجاهداً أكثر وأكثر, معتصراً فمها بفمه كقطعة دهن كبيرة التقطهافي غفلة من الأناجر؛ حاكاً ذقنه الكثة في وجهها الذي هو بحجم طست الغسيل الكبير, ثم قال, وعصير الدهن يخضب كتفيهما:
- ليس الآن, فما زال في الوقت متسع كبير , وربنا يبارك لنا فيه...
خرج خالد إلى صاحبه؛ ليسلكا طريق العودة, وحياء كعادته يتمنى لو كان معه مسدس لأفرغ طلقاته في العيون التي تأكل صديقه, حتى وصلا إلى بيته؛ فدخل السنجابي إلى مرسمه واضعاً ما بقى معه, ثم اتجه إلى غرفة النوم وتمدد في سريره, وألقى صاحبه الغطاء فوقه ثم افترش أرض الغرفة التي ارتضاها لنفسه, منذ الوهلة الأولى, رافضاً أخذ مكان كرمة, وعينه مدقوقة في السرير, انتظاراً لفزعة صديقه المعتادة في مثل تلك الليلة..
أخذ حياء عقلُه ليسبح في فضاء الأماني, محادثاً دواخله:
- كنت أتمنى أن أكون باعثاً للأرواح؛ فلماذا لم أكن كذلك؟.
آه لو كان هذا لما أصبح خالد هكذا.
آه لو كان هذا, لكانت كرمة بيننا الآن وإلى الأبد.
آه لو كان هذا, لما أصبح خالد هكذا...
غافلت كرمة حياء منتهزة فرصة شروده وبصحبتها السنجاب الذي أهدته لحبيبها, ولوحة شجرة السنجاب, وكومات من أنابيب الألوان. وظلت تحوم حول الزنزانة القابع داخلها حبيبها متكوراً, ثم فتحت الباب, ودخلت تهش عليه؛ حتى أفاق ملتفتاً إليها؛ فتفتت الدهشة أغلال لسانه:
- كيف عدتي من بطن الوحش؟, وكيف تخلصتي من الثعابين, وحراسة العجوز ذي نصف الوجه المحترق؟!.
نظرت إليه بعينين ملتهبتين بشرر الغضب, وبصوت حاد كاد يمزق أذنيه قالت:
- الوحش والثعابين والعجوز وكلهم في صدرك أنت, وهم الذين يأكلونني في اليوم مائة مرة, لم أكن أعرف أنني كنت لك جسداً فقط, لم أكن أتصور بأنك ستسلطهم لينهشوا روحي داخلك, كما أوعذت لهم بنهش جسدي..
أمسك يدها وصرخ بملئ حنجرته صرخة لا يسمعها أحد غيرها:
- أنا!.... لا,..... أنا!!..... كيف؟!..... أنا!!....؟!.
انتزعت يدها من يده بشدة, وضربت فوهة صرخته وملامح وجهها خناجر تحفر جلده:
- لا ليس هذا فقط, بل إن دخولك زنزانتك دمار لحلمي وقتل لكل جميل انتويته, انظر إلى عري فنك! قريني.... انظر السنجاب! قرينك.... وعينيه التين عميتا بكاءً منك وعليك, انظر إلى ألوانك! التي سالت على بلاط زنزانتك البارد وتجمدت وصارت كسيحة, انظر لوحاتك! في ركن سجنك خِرَق عاجزة عن نفض التراب الذي يأكلها. انظر إلى حياء! حبيبك... في ركن آخر, سجنته ليتسول خلاصك لأنك أصبحت عاجزاً سجيناً, مسلوب الحركة, بل لم يكفك هذا؛ فدفنته معك في خرابات البله؛ لتكونا مسخين لدمى كنتما يوماً تحتقرانها..
سقط خالد على الأرض غارقاً في نحيبه يطلب أن تكف. فتقدمت مقتربةً منه, وقد تبدلت خنجرية ملامحها بحمرة الإصرار والحسم, وفتحت رأسه؛ فخرج الثعبانان يزحفان نحو اللوحة, وبضربة واحدة بسيف اللوحة التي فردتها كرمة فصلت أمام عينيه رأسيهما عن الجسدين. ثم عادت وشقت صدره؛ فخرج الوحش طالباً القصاص لمقتل حفيديه؛ فأسرعت كرمة وسلطت شعاعاً منبعثاً من وجه اللوحة, استحال ناراً تأكل وجوهه الثلاثة..
انتفض خالد واقفاً يلتقط أنابيب الأوان من حضنها , ويرشقها في عيونه الألف , وبضربات متتالية بسيف اللوحة؛ صار الوحش جثة هامدة؛ ثم التقط خالد ألوانه من جديد, وراح يقذفها في زجاج زنزانته حتى هشمه. بعدها رفع الجثث الثلاثة بإصبعين, وطوحها جماعةً بطول ذراعه إلى الخارج..
رأى حياء تململ في فراشه, وسمع صوت فمه المذموم؛ فأيقن قرب فزعه..
أسرع يجهز حقنة المهدئ كما علمه كريم من قبل..
صفقت كرمة لخالد, واحتضنته, وقد صفى وجهها, ولمع بريق جبينها بفرحة الانتصار, وقالت:
- الآن ماتت كل ملوثاتك؛ وحتى يتم رضاي؛ فعليك أن تخرج مُحطِّماً باب زنزانتك, وتزأر ببراءتك في عمق عالمك؛ كي أعود وأحتفل معك كعادتي بفنك..
قبَّلَته متبسمة وانسحبة وهي تترنم ترنيمة النماء:
"عود.... الفجر لسة بيبتسم بين دمعتين.... عود.... الفرح ممكن يتقسم على شفتين.... عود.... الوهم مات..... والذكريات.... قالت لي حبك بالوجود.... يا ريت تعود...."...
ضرب خالد غطاءه بقدمه, وبقفزة واحدة, وقف أمام باب مرسمه يصرخ:
- انتظري يا كرمة؛ فأنا بريئ..... أنا بريئ..... يا حياء بريئ...
ارتجفت وقفة حياء في المطبخ, وارتعشت يده؛ فانكسر حد [السرنجة], وارتشق بين ظفره ولحمه؛ حتى وصل إلى عظام إصبعه, وهو يصيخ السمع لصرخات صديقه الغريبة هذه المرة, والتي لم يألفها من قبل..
ثم انتبه على ازدياد الصرخات. فانفلت من قيود استغرابه, وجرى إلى صاحبه؛ فوجده داخل مرسمه يقبل ألوانه, وريشاته, ولوحاته, ضاماً السنجاب إلى صدره. مردداً كلمات البراءة لتحتضنها حوائط المرسم..
ثم التفت؛ ليجد صديقه مسمراً على الباب ذاهلاً, غير مصدق تحطيم قفص الصمت؛ فقال له ورنين ترنيم كرمة لا يزال في أذنيه:
- ادخل يا حياء, لقد ماتت كل الملوثات. ألا تسمع كرمة معي وهي تغني؟!
طار حياء في الهواء, وارتمى على فريده, غير مبالٍ بتقاطر الدم من إصبعه على الأرض, وفوق السنجاب, وأدوات الرسم, ونصف [السرنجة], تبقر زنبيل الفرح الممزوج بألوان الدم, والدمع, والقبلات...
انتهت...