المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تأملات في المسألة الكاريكاتورية المسيحية/د. زينب عبد العزيز



نبيل الجلبي
06/07/2009, 02:43 PM
تأملات في المسألة الكاريكاتورية المسيحية

بقلم :الدكتورة زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية


المتأمل في قضية المسألة الكاريكاتورية، بموضوعية بعيدة عن الانفعالات العاطفية أو المستفَزّة، لابد وأن يصاب بشيء من الهلع لكثرة وتداخل الأحداث والحقائق المكونة لها، والتي يجب أن تراعى في نطاقها العام، حتى لا تنتهي هذه القضية، تحديداً، مثلها مثل العديد غيرها من القضايا، وخاصة الدينية منها، إلى عالم الكتمان والنسيان.. لذلك سنحاول تحديد معالم هذه الأحداث والحقائق إجمالياً لعله يمكن التوصل إلى بعض الخطوط المؤدية إلى النور أو إلى حلول حاسمة.

وتنقسم هذه الأحداث والحقائق إلى عدة مجالات يمكن تصنيفها مبدئيا كالآتي:


* موضوعات متعلقة بنا كمسلمين – أياً كانت جنسياتنا ومواقع بلداننا.

* موضوعات متعلقة بالغرب المسيحي.

* حقائق لابد من أخذها دائماً في الاعتبار حتى لا تتوه معالم الرؤية. وكلها أحداث وحقائق أدى تداخلها وتجاهلها أو التعتيم عليها إلى ما نحن فيه من مساس بديننا وكرامتنا، وإلى ذلك الانفعال الجارف أو الأهوج أحياناً، سواء في الساحة المحلية أو العالمية.

وما أدينه هنا أولاً هو اللجوء إلى الحرائق والتدمير الذي يفقدنا حقنا، بدلاً من اللجوء إلى الوسائل الفعالة كاستمرار المقاطعة وعدم التهاون فيها، واستخدام القانون، وأول هذه القوانين: قانون (جيسو الفرنسي Gayssot) الذي صيغ في فرنسا سنة 1990 والذي يرمي إلى " قمع كل التصرفات العنصرية، والمعادية للسامية، وكراهية الأجانب". وهو القانون الذي تمت محاكمة روجيه جارودي بمقتضاه بزعم أنه مس بكرامة عدد قتلى المحرقة! فلماذا لا نستعين بنفس هذا القانون؟! وما يندرج تحته في مسألة هذه الرسومات هو أنها تصرفات عنصرية أساساً وناجمة عن كراهية الأجانب بصورة واضحة ( وهم هنا المسلمون الذين يعيشون في الغرب و يتمسكون بدينهم)!

وننتقل إلى الأحداث والحقائق، لنبدأ بما يتعلق بنا كمسلمين، بما أن القضية برمتها تتعلق بالإسلام أولاً وأخيراً:

وأهم ما يأتي على رأس القائمة هو موقف الأزهر بكل مؤسساته، وذلك الكمّ المخزي من التنازلات التي نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، ما قام به المسؤولون فيه من باب الجهل، أو مراضاة للغرب، أو تفادياً لما يطلقون عليه ظلما أو جبناً: " تفادي الفتنة الطائفية"! وأقول ظلماً أو جبناً لأن المسيحيين في مصر، بكل طوائفهم، ليسوا أغبياء أو عاجزين عن الفهم و التفكير، وحين تعرض الحقائق بكاملها وبلا مواربة يتخذون المواقف السليمة سواء أكانت وطنية أو غيرها، وعليهم أن يعرفوا ما يحاك لنا، لأنهم في هذه القضية تحديداً، مستهدفون مثلنا في مسألة اقتلاع الدين، والباكي على دينه عليه أن يفهم الوقائع والحقائق ليعي ما نحن فيه..

والأزهر، الذي يمثل في مصر والعالم الإسلامي على اتساعه، أكبر و أعرق رمز للإسلام، والرمز أعلى وأسمى من أي مسمّى أو عبارة سلطوية، الأزهر، بكل أسف ومرارة، كان أول من فرّط في حق الإسلام وفي حق نبيه عليه الصلاة والسلام، وذلك بقبوله إلغاء مادة الدين من التعليم كمادة أساسية للنجاح والسقوط، وقبوله " تعديل" المناهج الدينية وتغيير الآيات في المناهج الدراسية بدلاً من شرح وتفسير أسباب نزولها، وإسناد المعاهد الأزهرية إلى التربية والتعليم أو تحويلها إلى مرافق أخرى، و" تعديل " الخطاب الديني، وإغلاق المساجد بين الصلوات، وتضييق نطاق بناء المساجد، و تحويل ما لم تُقم فيه الشعائر بعد إلى مرافق أخرى، بل وإزالة ما تم بنائه قبل استخراج تصاريح البناء، وهنا لا يسعني إلا أن أسأل: هل يمكن لنفس هؤلاء المسؤولين والوزراء القيام بنفس التصرف حيال الكنائس؟ فما أكثر ما تم بناؤه بلا تراخيص، بل ما أكثر الأراضي التي أُخذت بوضع اليد ولم يتحرك أحد.. بل لقد خرج العاملون بالأزهر عن تعاليم دينهم ووصايا الرسول عليه الصلاة والسلام بالتهاون في مسألة الحجاب في فرنسا، وبتسليم وفاء قسطنطين بدلاً من حمايتها، كما غضوا الطرف عن الدفاع عن الإسلام وعن نبيه الكريم في مهزلة مسرحية كنيسة الإسكندرية، بإحالتها إلى عالم الصمت والنسيان ببضعة عبارات مرتعدة جوفاء، والصمت حينما أهانت السلطات القمعية الأمريكية المصحف الشريف في جوانتنامو وغيرها.. والأدهى من هذا وذاك، وغيره جد كثير بكل أسف، هو التوقيع على اتفاقية بين الأزهر والفاتيكان والكنيسة الأنجليكانية بالموافقة على أن يقوم المبشرون بالتبشير في مصر دون أن يتعرض لهم أي شخص!؟.. قسماً بالله أرتجف خجلا وحزناً ومهانةً وأنا أكتب هذه الحقائق وكلها منشورة في الصحف المحلية والغربية!

ولا أقول شيئاً عن غياب دور "علماء" المسلمين وعدم القيام بواجبهم الأساس أو جزء منه، وهو تعريف الغرب المسيحي بالإسلام والدفاع عن حقوق الأقليات المسلمة، ومناقشة الخلافات الأساسية الحقيقية بين المسيحية والإسلام وتوضيحها للكافة، هنا وهناك، مسلمون ومسيحيون، فما أكبر جهل الاثنين بحقائق دينهم وتاريخه، وهذه الخلافات التي يجهلها الكثيرون هنا وهناك هي السبب الأساس في كل هذه المشاحنات والضغائن المكتومة والتي تشرئب من حين لأخر، بدلاً من ترك الساحة للتعصب الفاتيكاني ورجاله الذين لا شرعية لوجودهم إلا الحفاظ على ما قاموا به من تحريف على مر العصور وفرضه على الأتباع والإصرار على فرضه على الديانات الأخرى وخاصة المسلمين، أو تركها لوقاحة السياسة الأمريكية وعربدتها وأتباعها الغربيين، بل وبدلاً من التنطيط بين الفضائيات والقنوات الأرضية والبرامج الإذاعية والمؤتمرات واللقاءات التنازلية النزعة والدعْوات المظهرية والانسياق في لعبة البذخ والمظاهر على حساب الدين..

وفي نفس هذه السلسلة الممجوجة من التنازلات، صدرت نفس هذه الأوامر الخاصة بتجفيف الإسلام من المنبع، إلى كل البلدان الإسلامية... وسيأتي اليوم بعد بضعة سنوات ولا نجد في متناول اليد سوى "الفرقان الحق" – تلك البدعة المهينة التي ابتدعتها الأيادي العابثة في الإدارة الأمريكية وتقوم بتوزيعها على بلدان العالم الإسلامي والعربي.. ولا أقول شيئاً عن الفضائيات والبرامج التي تسب الإسلام ونبيه الكريم ولا نرد أو نشرح الحقائق بل ولا يسمح بذلك إلا على استحياء.


وهكذا أصبحنا نحقق مطلب القس زويمر، كبير المستشرقين والمبشرين، حين قال في مطلع القرن العشرين:" لن يقتلع الإسلام إلا أيادي مسلمة من الداخل ".. ويا للعار!

ولا يسع المجال هنا لسرد قائمة التنازلات السياسية التي قامت بها الدول الإسلامية والعربية، وأول ما أبدأ به هو: ما كشف عنه العدوان الغاشم على العراق من تضامن كافة الأنظمة، بكل أسف، مع الإدارة الأمريكية وخضوعها لكافة مطالبها الظالمة. وهو ما يُطلق عليه بلغة السياسة الكاشفة: مواقف خائنة. وما أكثر القضايا التي تندرج تحت هذا البند، ومنها عمليات التطبيع الكاذبة و الصمت المخزي حيال مأساة فلسطين ومسلمي البوسنة واحتلال أفغانستان والعراق والتحرش السافر بسوريا ولبنان، والصمت على كل ما تتعرض له هذه الشعوب من مختلف أنواع القهر والإبادة والتطهير العرقي والقتل العشوائي اليومي، عن غير وجه حق وبلا سبب إلا لأنهم مسلمون ولأن الغرب المسيحي طامع في الثروات وفي تنفيذ أطماعه وبرامجه.

وحين يَقْبل المرء على نفسه موقف الخيانة وموقف التنازلات والتواطؤ مع المعتدى، من أجل مزيد من المكاسب الشخصية أو من أجل الحفاظ على الكراسي، يصبح الشكل غريباً مستَغرَباً حين ينفعل غاضباً أو حتى حين يعترض، ولو شكلاً.. وذلك هو ما يأخذه علينا الغرب المستغرِب انفعالنا، فهم يعرفون مواقف الحكام، ويعرفون أنه لا يسمح لهذه الشعوب بالاحتجاج وعمل المظاهرات إلا إن كانت بالاتفاق والترتيب! وذلك هو ما يبدو واضحاً على الأقل في الصحافة الفرنسية ومجلاتها. فأكثر ما تناقلته هذه الجرائد سؤال واحد: كيف يمكن لهذه البلدان التي تكمم وتعتقل الإخوان المسلمين، وتقتلهم سراً وعلناً، ولا تسمح لهم بتكوين حزب سياسي، أن تثور لبضعة رسوم ساخرة بعد كل هذه التنازلات؟!

وهنا ننتقل إلى بعض أهم الموضوعات المتعلقة بالغرب المسيحي، وأولها التشدق بحق حرية التعبير. وكل الذين يتشدقون بهذه الحجة غير صادقين مداهنين ويهينون شرف المهنة والكلمة، فلا توجد دولة واحدة في العالم يمكن أن يقال عنها إنها تتمتع بحرية صحافة مطلقة، كما يتشدق الغربيون، فحرية التعبير لديهم، بكل ثقة، محددة بالقانون وبالأعراف الاجتماعية. وأول هذه الدول ذلك الغرب المتعجرف برمته فرنسا وسياستها ذات الوجهين.

فلو كان هؤلاء الذين يتشدقون بحرية التعبير صادقين ليتجرأ واحداً منهم وينتقد العربدة الصهيونية وما تعمله بكل الأعراف والقوانين، وضربها عرض الحائط بكل ما يصدر ضدها من الأحكام، ليتجرأ واحد منهم ويتحدث عن جدار العار وكل المحن الطاحنة القاتلة التي يفرضها على الفلسطينيين.

ليتجرأ واحد منهم وينتقد التحيّز الأعمى لحيازة الصهاينة ترسانة من الأسلحة الذرية، وبذلك: فهُم الذين يمثلون فعلاً تهديداً لكل المنطقة في الشرق الأوسط، وليست البلدان العربية المنزوعة السلاح والإرادة!.

ليتجرأ واحد منهم وينتقد تعامل حكامه بمكيالين في جميع القضايا المتعلقة بالصهاينة، أو الإسلام والمسلمين وعمليات القتل اليومية التي يتعرضون لها، أو مواقفهم من القضايا الحيوية بالنسبة للعالم الثالث الذي اختلقوه واعتصروه ويتقاسمون جيفته بكل جبروت..

ليتجرأ واحد منهم وينتقد التنازلات التي قدمها البابا بنديكت السادس عشر لليهود في أول خطاب رسمي له، وهى لا تقل فداحة أو تناقضاً – وفقاً للنصوص – من تبرئتهم من دم المسيح، ومع ذلك لم يجرؤ أحدهم على الانتقاد، فمن غير المعقول أن يصمت كل الذين يتشدقون بالعلمانية أو بالإلحاد ويتربصون أي مناسبة يسهبون فيها بانتقاداتهم، ليتجرأ واحد منهم وينتقد قداس يوم الأحد الماضي الذي تناول فيه البابا الآية التي تتحدث عن يسوع وإخوته في إنجيل متّى! فعندما أشار إليها الأستاذ أنيس منصور قامت الكنيسة هنا وثارت، لأنها تمس بالألوهية المزعومة للمسيح عليه الصلاة والسلام، وقد أصبحت الآن في الغرب من المعلومات العامة بين العلماء والباحثين، لكن حينما يتناولها البابا بالشرح والتعليق تنازلاً لليهود، يسود الصمت!

تلك هي حقيقة حرية الرأي وحرية الصحافة وحرية التعبير التي يتغنون بها في الغرب المسيحي المتعجرف لتبرير عنصريتهم الفاضحة. فهي حرية خاضعة للأوامر، وخاضعة للمطلوب، وخاضعة للأقوى! بل هي حرية قد تم توظيفها للتمهيد لما هو أبعد وأكبر مما يبدو على هذا السطح الكاريكاتوري – أياً كانت مرارته وآلامه.

أما النقطة الثانية التي يجب توضيحها فهي: موقف الغرب من المسيحية ومن الدين بعامة. فلقد كفر الغرب المسيحي بدينه منذ بداية عصر التنوير، الذي قام كرد فعل لقرابة ألف عام من الظلمات والجهل والقمع فرضتها الكنيسة بإصرار، بحروبها الصليبية وبمحاكم التفتيش وذبحت بواسطتها 68 مليون نسمة، ومنعت خلالها الأتباع من قراءة الكتاب المقدس والاكتفاء بما تقوله لهم حتى ترسّخت كل التعاليم التي نسجوها.. وما إن بدأ العلم ينتشر، وكان حكراً على القساوسة، حتى بدأوا في مراجعة النصوص والترجمات ومضاهاة التواريخ، فبدأت المعارك بين الكنيسة والعلم..

وهي معارك لم تتوقف ولم تنتهي وفي تصعيد متواصل حتى اليوم، معارك أثبت خلالها العلماء والباحثون أن الأناجيل بشكلها الحالي قد صيغت في القرن الرابع الميلادي، وأن القديس جيروم هو الذي دمج ووفّق بين قرابة خمسين إنجيلاً كانت متداولة، وأن المسيحية الحالية قد نُسِجت عبر المجامع على مر العصور، فما من عقيدة واحدة مما فرضتها واردة بالأناجيل، وتواريخ صياغتها ثابتة موجودة في قرارات المجامع وكلها منشورة وليست سرية. بل إن الأبحاث تدور منذ عدة عقود حول البحث عن يسوع التاريخي، وأنهم يفصلون بين يسوع الإنسان ومسيح الأسطورة، المنقول عن الأساطير السائدة آنذاك سواء في مصر الفرعونية أو في روما أو في منطقة بين النهرين، فهم يرون أن المسيح كما تقدمه الكنيسة لا سند تاريخي له، و كلها أبحاث تعتمد على الوثائق التاريخية الموثقة وعلى الترجمات الأمينة للنصوص.

لذلك اهتز إيمان الغرب المسيحي وابتعد الناس عن الدين، خاصة في فرنسا منبع عصر التنوير، وكثير منهم كنسيين، آثروا الإلحاد، بل آثر العديد منهم اتهام الكنيسة وكشف ما قامت به على مر التاريخ بدلاً من الصمت.

أما عامة الشعب فهم في كل مكان، كما يصفهم روبرت فانك ( Robert Funk ) رئيس"ندوة عيسى" ( التي انعقدت في الولايات المتحدة الأمريكية وحضرها حوالي مائتي عالم وباحث في اللاهوت، وأقروا بأن 82 % من الكلام المسند لعيسى عليه الصلاة والسلام لم يتفوه به) فيقول: "عامة الشعب غارقون في جهل يصل إلى درجة الأمية، فكثير منهم لا يعرف عدد الأناجيل المعتمدة، بل ولا يعرف الأسماء التي هي معروفة بها". وكلها حقائق يجب أن تناقش بموضوعية ويعرفها الجميع وألا يتم التعتيم عليها، بدلاً من الاتهامات الجوفاء والتحريض الخفي وغيرها، وكلها تؤدي إلى انفعالات مشحونة هوجاء لا طائل منها.

أما موقف الغرب من الإسلام فهو واحد لم يتغيّر، منذ أن تأكد الكنسيون أنه ليس بهرطقة من الهرطقات الدينية التي يتعيّن عليهم اقتلاعها حفاظاً على ما ينسجون، وما أكثر ما اقتلعوا، وإنما رسالة كاشفة لكل ما قاموا به من تحريف و تزوير في النصوص والعقيدة. ومن اللافت للنظر أن كل ما قاله العلماء في الغرب المسيحي منذ عصر التنوير حتى يومنا هذا، في اتهاماتهم للأيادي العابثة في الكنيسة، سبقهم إليه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام منذ أربعة عشر قرناً، بما أوحى إليه به في القرآن الكريم: فكل الذي يدينه القرآن هو بدعة التأليه، وبدعة التثليث، والشرك بالله عز وجل، وتحريف النص وتبديله. وكل ما يطلبه الله سبحانه وتعالى أن تحكم كل أمة بما أنزل إليها – وليس بما ثبت تحريفه وتزويره. ف { لا إكراه في الدين }، والإسلام لا يعرف نظام المبشرين ولا محاكم التفتيش ولا الإصرار على فرض الدين: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }. والحساب يوم الحساب.

وخلاصة كل هذه الحروب والمعارك، في نهاية المطاف، هو المحاولات المستميتة من الجانب الكنسي للحفاظ على كيانه، الذي تم نسجه باختلاق العقائد واقتلاع الآخر، أمام وضوح رسالة الإسلام وبساطته. وخاصة الدفاع عن كيانه أمام الأتباع. وذلك هو ما يقوله العلماء في الغرب وخشيتهم من رد فعل المسيحيين في العالم عندما يعلمون الحقائق التي توصلوا إليها وتكشف زيف هذا الكيان.

لذلك لا يكف التعصب الكنسي عن محاربة الإسلام كما لا يكف عن سبّ نبيه الكريم بأقبح ما يمكن تصوره من الألفاظ والصفات، والرسومات التي نشرتها الجريدة الدنمركية ليست بذات بال بل ولا تقارن بالنسبة لما سبق وقالوه عن الرسول صلوات الله عليه، وكلها موجودة منشورة في الكتب الغربية القديمة والحديثة سواء الأعمال الأدبية أو الدينية التبشيرية أو المدرسية، بل منها رسومات في بعض كنائس إيطاليا مأخوذة عن أجزاء من "جحيم " دانتي تصور سيدنا رسول الله بما لا يمكن لإنسان أن يصفه من إهانة جارحة.. ولا أحد يتكلم خشية الفتنة المزعومة!

إن حقيقة ما تكشف عنه فعلاً هذه الرسومات المغرضة هو: جهل فاضح بالإسلام، ومحاولة حمقاء لمواصلة ربطه بالإرهاب، فذلك هو مضمون هذه الرسومات، وتعمّد مفضوح لإذلال وإهانة الأقليات المسلمة التي تعيش في ذلك الغرب المتعصب والتي تعامل فيه كمواطن من الدرجة الثانية إن لم يكن من الدرجة الثالثة أحياناً، والذين مطلوب منهم أن يذوبوا عمداً وقهراً في الثقافة الغربية أو يُقتلعوا! – فما أكثر ما كُتب في هذا المضمار. ويستمر الصمت من جانب أهل الاختصاص..

وإن لم تكن كل هذه الحقائق لها وجودها ولها وزنها في الخلفية الدينية للغرب، فلماذا لم يتصدى هؤلاء الرسامين للديانة المسيطرة في بلدهم، والمتحكمة في اليمين المتطرف، إن كانت المسألة مسألة حرية تعبير؟ لماذا لم ينتقدوا الدستور الدنمركي الذي ينص على: "أن الكنيسة اللوثرية هي كنيسة الشعب الدنمركي وأن الدولة تساندها"، إن كانت المسألة فعلاً حرية نقد وحرية تعبير وأن الدين لا يعنيهم؟! بل لماذا لم يسخروا من العائلة المالكة التي تساند هذا اليمين المتطرف إن كانت المسألة حرية الرأي والتعبير؟!

إن وسائل الإعلام الغربي بتضامنها مع الإعلام الدنمركي ومحاولتها جاهدة الزج والربط بين "العالم العربي الإسلامي والإرهاب"، تكشف عن عنصرية اجتماعية وسياسية وثقافية لا حد لها – بل تكشف عن جهل وأكاذيب تدينها وتحسب عليها وعلى تعصبها، لأن أكبر ستة بلدان إسلامية في العالم أو بلدان بها أكبر تعداد من المسلمين، هي: إندونيسيا وباكستان وبنجلادش ونيجيريا وتركيا وإيران، وجميعها ليست عرب، فلماذا التركيز على العالم "الإسلامي العربي" إن لم تكن هناك خبايا أخرى غير معلنة في هذه الحملة المفتعلة التي شنتها الجريدة على سيدنا رسول الله ووصموه فيها بالإرهاب؟!

وما أسرع ما هرع الغرب ليساندها ليقود حرب دينية جديدة، سبق له أن استخدم فيها سلاح الصور، فما أكثر الصور والرسومات التي استعانت بها القوى الاستعمارية الأوروبية في الحروب التي خاضتها في استعمارها لأمريكا، في القرن السادس عشر، واقتلاعها للسكان الأصليين، وما أكثر استخدامها للصور والرسومات في حرب الجزائر وفي فلسطين، في القرن العشرين. إن الصورة والكلمة تمثلان سلاحاً من أقوى الأسلحة للثقافة الغربية المسيحية، منذ أن خرجت الكنيسة عن تعاليم دينها في الوصايا العشر، في مجمع نيقية الثاني، سنة 787، الذي أباح استخدام الرسومات والتصوير الزيتي والنقوش الجدارية لنشر المسيحية، إذ كانوا يعتبرونها "إنجيل الأميين".. والقارئ لتاريخ معركة الأيقونات في القرن الثامن يصاب بالغثيان مما استخدمت فيه هذه الفنون لفرض مسيحية روما!

ومما لا شك فيه أن الصور والكلمات هي أسلحة أيديولوجية عادة ما تستبق المعارك وتواكبها. ومما لا شك فيه أيضاً أن هذه الرسومات الكاريكاتورية التي حصروا مضمونها المهين أساساً بالمسلمين العرب، في الخطاب الغربي المتعصب، تخفي وراءها " قذارة حربية ما" في منطقة الشرق الأوسط. فمن ناحية، تحاول السياسة الأمريكية إقحام أوروبا مكانها، بجعل قوات حلف الأطلنطي ( ومعظمهم أوروبيون ) يأخذون مكانها في أفغانستان، وذلك توطئة للزج بها مكانها أيضاً عند بداية انسحابها من العراق، كما زجوا بها في قضية فلسطين ومساندة احتلالها، بل والزج بها في المعارك المختلفة التي سيقودها التحالف الأمريكي- الصهيوني في المنطقة، حتى يتفادى اتهام "التفرد" بالسيادة والعربدة، أو حتى لا يكون بمفرده هو الوجه القبيح الذي يسود العالم، وإنما يجر العالم المسيحي برمته في ركابه، في حرب كاسحة ضد الإسلام والمسلمين.

فقد بدأ موقف السياسة الفرنسية، ومعها السياسة الأوروبية، التي كانت تتسم بنوع من الحياد الشكلي، إلى الميل الواضح الفاضح للسير في ركاب التحالف الأمريكي الصهيوني ولملمة الفتات الذي يتساقط أو تقاسم ما يمكن اقتسامه..

وعلى الرغم من أن ما يعدّون له العدة حالياً، بخلاف السيطرة على منابع البترول وغيرها من الثروات الطبيعية، هو هدم المسجد الأقصى لبناء المعبد المزعوم، فإن نفس هذا التصور سيضع اليهود الصهاينة والمسيحيين بفرقهم المتعددة في مواجهة جد ساحقة. إذ لكل من الفريقين تصوره لما بعد تجمّع اليهود وإقامة المعبد: المسيحيون ينتظرون مجيء المسيح ليحكم العالم ألف عام، على أن يكون العالم قد تم تنصيره؛ والصهاينة ينتظرون إقامة مدينة "القدس السماوية الذهبية" ليحكموا هم العالم على أنهم شعب الله المختار! وبالطبع على أن تكون اليهودية هي السائدة! وفي كلا الحالتين التخلص من الإسلام والمسلمين مطلب مشترك بين الفريقين، لأن الإسلام أتى كاشفاً لما قاما به من تحريف وتزوير في رسالة التوحيد.

والطريف في الموضوع أن كلا الفريقين يعلم يقيناً بفارق الرؤية الشاسع لكل منهما، إلا أن التعصب الأكمه للاثنين، يحجب عنهما حقيقة ما سيكون عليه الوضع عند المواجهة وقد تخلصا من المسلمين أو على الأقل من أغلبيتهم.. ويا لغرابة أطماع البشر والكفن لا جيوب له! والأكثر غرابة من هذا وذاك، أن كلاً من الفريقين يعلم يقيناً أنه يعتمد على نصوص قام كهّان كل فريق منهما بصياغتها ولا تمت إلى التنزيل الإلهي الأصلي بصلة.

فالأصول اليهودية قد احترقت مع المعبد في القرن الخامس قبل الميلاد، وقام الراهب عزرا بكتابتها من الذاكرة في القرن الأول قبل الميلاد، وتواصل استكمال صياغة العهد القديم اليهودي حتى القرن العاشر الميلادي. والعهد القديم اليهودي يختلف عن المسيحي، واليهود لا يعترفون بالعهد القديم الذي صاغه المسيحيون، اعتماداً على الترجمة السبعينية، المكتوبة باليونانية. أما النصوص المسيحية فقد صيغت بداية العديد منها في أواخر القرن الثاني الميلادي، وقام القديس جيروم بضمها في شكلها الحالي بأمر من البابا داماز في أواخر القرن الرابع الميلادي. فكيف يمكن لكل فريق منهما أن يتغافل هذه الحقائق التاريخية، الثابتة علمياً اليوم، بل والتي أصبحت من المعلومات العامة لكل من يتناول هذه المجالات بالدراسة، فكيف ينساقون في اندفاع أهوج لتدمير العالم سعياً لتحقيق تنبؤات مزعومة؟!

وتبقى بعض الحقائق والاقتراحات أو النقاط التي لا بد من أخذها في الاعتبار أو تذكرها، رغم تنوع مجالاتها، حتى لا تتوه الرؤية، وحتى يمكن اتخاذ الخطوات الفعّالة:

· قرار تنصير العالم الذي اتخذه مجمع الفاتيكان الثاني سنة 1965 وفرض تنفيذه على الكنسيين وكافة المدنيين المسيحيين بل وحتى على الأطفال الذين كوّن لهم فرقاً تبشيرية اسمها "الأطفال المبشرون".

· إسناد مجلس الكنائس العالمي في يناير 2001 مهمة تنفيذ اقتلاع الشر ( الذي هو الإسلام في نظرهم ) في هذا العقد 2001 – 2010، وبناء عليه تم اختلاق مسرحية 11 سبتمبر 2001 للتلفع بشرعية دولية لتبرير عمليات الاحتلال والتدمير العشوائي، فالنداء الحربي كان: دكّوهم حتى العصر الحجري!

· تواكب العمليات العسكرية والاحتلال مع عمليات التبشير.

· الغرب الذي نشأ على الأكاذيب الدينية وعلى مبدأ اقتلاع الآخر، على مر التاريخ، لا يجد غضاضة فيما يفعله أو يكرر فعله، ولا بد من مواجهته بالحقائق في كافة المستويات وتوصيل هذه الحقائق للشعوب بكل شجاعة وموضوعية، فنحن أصحاب حق ونحن المعتدى علينا بكل المقاييس.

· لا بد من العمل على تحريم وتجريم عمليات التبشير بالقانون في جميع بلدان العالم الإسلامي وطرح الحقائق على الشعوب، ومناقشة هذه القضايا بموضوعية علمية لتوضيحها وحسمها، وحتى لا تقع في شراكها.


· لا يكف الفاتيكان وخاصة البابا الجديد عن ترديد: أن مسيح الفاتيكان وحده هو الحقيقة، وأية حقيقة أخرى ليست سوى جزئية ضئيلة من الحقيقة، والجميع عليهم الخضوع لذلك، ويندرج هنا بالطبع كل ما هو غير كاثوليكي من كنائس وكل الديانات الأخرى في العالم.

· إن الغرب المسيحي، على الأقل الجهات الرسمية فيه، يهب دفاعاً عن أي شيء يمس اليهود من قريب أو بعيد، ويتواطأ أو يغض الطرف عن كل ما يسيء إلى الإسلام والمسلمين.

· لا يجب التراخي في سلاح المقاطعة بل يجب تعميمه، والعمل على إضراب عمال الموانئ والمطارات والامتناع عن تفريغ بضائع المعتدين.

· مطالبة الغرب المسيحي والمتحكمين فيه بحلول حاسمة عادلة لكل القضايا، والتعامل معه على مستوى الندية، فنحن أصحاب حق وفي مقدورنا الحصول على حقوقنا لو لم نتخاذل، مثلما حدث أيام منع البترول عن الغرب المعتدي.

· ضرورة إيجاد جسور تعاون مع الأمناء المخلصين في ذلك الغرب المسيحي، فلا شك في أنهم ليسوا جميعا معتدون، و بينهم العديد من المعترضين على هذا العدوان بأنواعه.



عن موقع التاريخ

السعيد ابراهيم الفقي
06/07/2009, 03:37 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حماها الله ( د. زينب ) من كل شر
وبورك اختيارك
فالباحث عن الحقيقة = هو باحث عن التحصن = ثبتك الله