المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اسرار صاحب الستر - رواية- الجزء السابع والأخير - ابراهيم درغوثي - تونس



ابراهيم درغوثي
17/01/2007, 03:49 PM
أسرار صاحب الستر
رواية
الجزء السابع
والأخير

ابراهيم درغوثي / تونس


لعنة المحراب .




أفاق عالم الآثار من نومه مساء ، تمطى كقط هرم ، ثم اغتسل وأكل وجبة طعام ، وجهز نفسه من جديد للسهرة ، وبعث يستقدمني .
حين وصلت سألني كالعادة عن سير العمل وعن اكتشافاتنا الجديدة ، فأعلمنه أن كل شيء يسير على أحسن ما يرام ، وأن الحفر داخل المسجد يكاد ينتهي ، وأننا دعمنا حائط المحراب بخشبات خشية انهياره .
شد الرجل على يدي مشجعا وطبطب على كتفي هاشا باشا في وجهي ، فتشجعت وأعلمته أن العمال بدأوا في المطالبة بأجورهم التي تأخرت كثيرا . فقال ‘نه سيذهب قريبا إلى تونس ، وأمرني بتجهيز قائمات بأسماء العاملين في المشروع مع التنصيص على الغيابات باليوم والساعة .
فوعدته خيرا وهممت بالمغادرة ، لكنه استوقفني بإشارة من يده .
رأيت في عينيه تعبا ، وعلى وجهه ارتسمت علامات إرهاق شديد لكنه ما كان يشتكي ، بل بالعكس ، كان يكابر ويخفي تعبه وإرهاقه .
قال :
- أ لن تشاركني سهرتي هذه الليلة ؟ لقد أعددت لك مفاجأة سارة .
كنت أظن قبل حديثه هذا أنه سيحكي عن مخطوط
" صاحب الستر " . لكن الرجل لم يتطرق لهذا الموضوع بتاتا مما أدخل على نفسي كثيرا من الراحة والاطمئنان ، فقد رتبت أموري وأحضرت أجوبة عن أسئلته التي توقعت أنه سيطرحها علي . لكن الله كفاني وكفاه شر السؤال .
قلت له بأن لي شغلا في الليل يتطلب حضوري الأكيد ، وبأنني سأكون عنده حال الانتهاء منه .
فلم يلح كثيرا ، وطلب مني أن أغلق باب السقيفة وراءي برفق .
ولم أزره في تلك الليلة ، فقد كثرت مشاغلي وتعددت ، فنسيت موعده إلى أن كان مساء الغد .
حين وصلت أمام الدار ، وجدت الباب مغلقا على غير عادته ، فدققته عدة مرات إلى أن جاء يفتح لي الباب .
رأيت على وجهه ارتباكا وشممت في ثيابه رائحة الكتب القديمة . ولم يكذب حدسي فقد أعلمني أنه كان بصدد تصفح المخطوطات التي عثرنا عليها في صندوق الجامع .
وأدخلني الدار ثم عاد فأغلق الباب بالرتاج وهو يلتفت التفات الجاني .

وبدون مقدمات طلب مني أن أرتب له جلسة مع " للا فاطمة " .
قال إنه يريد أن يراها قبل الذهاب إلى تونس ، وإنه حلم به أكثر من مرة في الليالي السابقة ، وإنه سمعها البارحة وهو بين اليقظة والنوم تناديه وتستغيث به .
قلت " هي مريضة هذه الأيام ، وربما لن تفهم عنها شيئا حتى وإن قابلتها .
قال " لا عليك . استشرها في الأمر واسمع ردها قبل ـن تعود .
وأحسست كأن الرجل يختلق سببا لطردي ، فقمت مغادرا منزله ولكنني لم أذهب مباشرة لمنزل " للا فاطمة " وإنما قصدت المقهى ، فتحدثت مع الأصدقاء عن أخبار العالم ، وعن العودة القريبة إلى الجامعة ، وعن تحضيراتنا لاستقبال العام الدراسي الجديد . وتذاكرنا قصص الحب والغرام . وشربنا أكثر من قهوة ، ثم غادرتهم إلى
المنزل .
في الطريق ، تذكرت طلب عالم الآثار ، فعرجت على منزل العجوز .
كان الوقت حوالي منتصف الليل . وكان باب العجوز هرما مثلها . فهو عبارة عن قطع من خشب النخل المصقول والمشدود إلى بعضه البعض بعوارض من لوح شجر

المشمش بواسطة مسامير طويلة .
دفعت الباب ، فأز وخشخش . وذهبت إلى الدار الشرقية التي تحبذ العجوز النوم داخلها لأنها أبرد بيوت المنزل صيفا ، فوجدتها صاحية .
حين عرفتني ، سلمت بحرارة وهي تجلس على فراشها وتطلب مني أن أشعل قنديل الزيت مشيرة إلى طاقة في الجدار .
أشعلت عود ثقاب ، فرأيت القنديل القديم قدم التاريخ ، وامتلأت الغرفة بضوء خافت ، هادئ هو ضوء الزيت المشتعل في الفتيلة . وران على الغرفة سكون ورهبة ،
إلى أن قالت العجوز :
- لماذا لم يخضر معك صديقك " عالم الآثار ؟
فرددت على تسآلها ضاحكا :
- لقد طلب الإذن لمقابلتك .
فضحكت بدورها وهي تردد :
- أإلى هذا الحد صرت مهمة عند صاحبك ؟
وعادت تتكئ على الحائط وتهمس :
- أطلب منه أن يسرع في الوصول وإلا فإنه لن يجدني صاحية لو أبطأ بعض الشيء .
ثم أضافت بعد وقت قصير :
- إنني لم أمت إلى الآن من أجله .

لقد ترقبته كل هذا الوقت فاسأله أن لا يفسد ما قدرت
الآلهة .
وعادت ، فغابت عن الوعي .
حينما أفاقت ، كان المؤذن يرفع صوته مناديا المؤمنين لصلاة الصبح فقالت :
أمازلت هنا ، أطفئ القنديل يا ولدي واذهب لتنام . ولا تنس موعدي مع صاحبك غدا .
لا تنس الموعد يا ولدي .
وأغمضت عينيها ، ونامت ....



- 11 –


قمت باكرا ، فأنا ما نمت تقريبا ،فكأن منبها يدق في الصدر عوضا عن القلب .
عند السادسة بالضبط ، دق المنبه بصوت ثقيل أوجع دماغي ، فقمت وذهبت إلى دار عالم الآثار . وجدته في انتظاري ، فقصصت عليه ما جرى البارحة مع العجوز .
رأيت البشر يعلو محياه ، وسمعته يقول :
قم بنا إليها ، سنذهب لزيارتها هذه الساعة .
وأغلق أبواب البيت بالمفتاح ، وهي من عاداته الجديدة . إذ كان قبل اكتشاف الصندوق لا يأبه كثيرا لما في البيت من أثاث ورياش . ولكنه تغير بعد هذا الاكتشاف . فكأنك أخرجت من بين ثيابه رجلا آخر يكاد لا يشبهه في شيء .
وذهبنا إلى منزل " للا فاطمه " الزنجية .
كانت العجوز صاحية وقد تعطرت بذلك النوع من العطر الذي ما شممت له مثيلا إلا في دارها .
عطر هو مزيج من الحناء والقرنفل والجاوي الأسود

والسواك والزعفران ، لا تتعطر به العجوز إلا في ساعات
فرحتها القصوى .
نادت العجوز عالم الآثار ، وطلبت منه أن يجلس بجانبها على الفراش . وهمست في أذنه ببعض الكلمات .
رأيته يبتسم ويربت على كتفها الهزيل ، ثم رأيته يرفع يدها إلى فمه ، فيقبلها .
فمررت العجوز يديها الاثنتين على شعره ووجهه ، وباركته بكلام من لغة الزنوج .
فقال ، وهو ينظر في عينيها :
- لن تموتي قبل أن يرقص لك الزنوج رقصة الموت
يا خالة .
أعدك وعد شرف بهذا .
وانصرفنا .
وكانت العجوز تبارك خطانا ، ونحن نغلق وراءنا الباب .


- 12 –

في الطريق ، ونحن عائدان إلى البيت ، طلب مني عالم الآثار أن أحدثه عن " سيدي مرزوق العجمي " .
قلت له ‘نه واحد من الأولياء الصالحين المعدودين في بلاد الجريد ، وإنه زنجي من إفريقيا السوداء وصل الجريد مع قافلة محملة بالعبيد والتبر وعاج أنياب الفيل .
وعن له أن يستقر هنا ، فخدم في زاوية سيدي " أبي علي السني " سلطان أولياء الجريد الذي كان أيامها في حرب مع الخوارج الأباضية الذين كانوا مسيطرين على هذه الديار .
وذات مرة لم يجد مرزوق حطبا لتسخين ماء الوضوء لشيخه ، فأشعل النيران في رجليه ومدها تحت القدر .
في تلك الأثناء مرت واحدة من بنات " السني " ، فرأت النيران تأكل رجلي الرجل ، وهو منهمك يهوي عليها حتى يزيد أوارها فذهبت تخبر بما شاهدت .
ومن يومها صار ل " مرزوق " كراماته ، فطلب منه سيدي " أبي علي السني " أن يستقل بزاويته .
ورفض مرزوق اقتراح شيخه ، وتشبث بخدمته ، لكن

الشيخ أصر على استقلال تلميذه بنفسه والخروج من
زاويته .
ولم يجد " مرزوق " بدا من ذلك ، فأخرج من تحت جبته عصا من الآبنوس كان قد أحضرها معه عندما كان ساحر قبيلته في إفريقيا .
ورمى العصا ، فطارت . صار لها جناحان من ريش لم ير له مثيلا طارت بهما ، ولم تحط على الأرض إلا عندما أشار لها " مرزوق " بذلك .
حطت العصا على بعد عدة كيلومترات من زاوية
" السني " ، فبنى العبيد هنالك زاوية لهجوا فيها بذكر سيدهم " مرزوق العجمي " سلطان عبيد الجريد .
وزادوا ، فكانوا يقرأون القرآن في النهار ويصلون صلوات المسلمين ولكنهم كانوا في الليل يسبحون تسبيح الزنوج ويرقصون رقصات صاخبة على أنغام الطبلة والشقاشيق .
قال لي عالم الآثار بعدما انتهيت من حكايتي :
- سنذهب هذا اليوم في زيارة لزاوية سيدي مرزوق ، فقد وعدت العجوز بإقامة " حضرة "في بيتها لترقص وتغني مع الزنوج .
فرددت عليه بأن لا مانع عندي .
وذهبنا سوية إلى الزاوية .

- 13 –

قابل عالم الآثار شيخ الطريقة وشرح له الموضوع ودفع له لفافة من الأوراق النقدية ، فوافق على إقامة " الحضرة " في منزل العجوز .
و لكنه اشترط أن نشتري تيسا أسود أقرن ، وباطية " لاقمي " من خمرة نخل الجريد المعتقة ، وكمية من الدقيق وخضرا وغلالا . وأن نحمل كل هذه المشتريات إلى منزل " للا فاطمة " لأن نساء الزاوية سيصلن بعد منتصف النهار بقليل للقيام بشؤون ّ الزردة " .
فوفرنا ما المستلزمات التي طلبها " شيخ زاوية الزنوج " وحملناه على عربة وعدنا إلى دار العجوز .
وجدناها قد جهزت نفسها . اغتسلت بالماء والصابون . واكتحلت . ومضغت السواك . ولبست الكسوة التي جاءت بها من " تمبكتو " . وأشعلت نارا كبيرة في وسط الدار ورمت فيها كثيرا من البخور وأعواد أخرى لها رائحة طيبة ، ثم فتحت باب الدار وسيعا للزوار .
بعد منتصف النهار بقليل ، وصلت نساء زاوية " سيدي مرزوق " . كن ثلاث زنجيات ، عجفاوات ، ليس من السهل تحديد أعمارهن . لكهن انهمكن بسرعة عجيبة في
إعداد " التكرة " ، فخلطن الدقيق بالماء وأضفن إلى العجين نقاطا من سائل يحملنه في قوارير صغيرة ، فاحمر العجين في الحال وتغير لونه إلى الأصفر الفاتح . ثم وضعنه على نار هادئة إلى أن صار عصيدة كعصائد عيد المولد النبوي ، فأفرغنه في قصعة كبيرة وهن يتمتمن بكلام غير مفهوم ويهمسن فيما بينهن ، ويزمزمن كزمزمة المجوس .
بعد ساعة من الزمن ، سكبت العجائز على الخليط الزج
" لاقمي " الباطية الذي تخمر في الشمس حتى صار مسكرا .
ووصل الزنوج إلى دار العجوز ، فوضعت النساء أمامهم قصعة " التكرة " ، فانهمكوا في التهامها ، وهم يتخاطفون العصيدة السخنة بأصابعهم الطويلة .
ثم شربوا بقية الخمرة حتى لم يبق منها شيء ، وحمدوا
الله ، وأقعوا على مؤخراتهم تحت الحائط في ترقب محموم لشيخ الطريقة الذي وصل بعد صلاة العشاء ، فطلب التيس وزينه بشرائط بيضاء وحمراء وصفراء . وزاد ، فألصق على شعره كثيرا من قطع البلور اللماعة والودع والخرز الملون ، ثم قرع طبلة معلقة على صدره وساق التيس

أمامه وخرج يطوف في شوارع القرية متبوعا ببقية
الزنوج .
طافوا في كل أزقة القرية يجمعون التبرعات والهبات للزاوية ، ثم عادوا إلى منزل العجوز ، فأوقفوا التيس الذي أنهكه التعب في حلقة وداروا حوله ، وجعلوا يقرعون طبولهم بعنف شديد ويشقشقون بواسطة قطع من الحديد مربوطة بأيديهم وهم يدورون والتيس يدور معهم ويرقص رقصة الموت .
رقصوا هذه الرقصة العجيبة إلى أن أصاب الإعياء
الجميع . ساعتها خرجت " للا قاطمة " من الدار تحمل في يدها مدية طويلة يلمع نصلها وهو ينعكس على أشعة شمس الظهيرة .
تقدمت بخطى ثابتة إلى أن اقتربت من حلقة الرقص ، فأوسعوا لها طريقا مرت منها باتجاه التيس .
ربطت العجوز المدية بخيط في عنقه ، ثم شدنه من قرنيه فجعل يرصع عاليا وهي تتثبث به حتى لا يسقطها أرضا . واشتد قرع الطبول والدوران حولهما ، فأصاب التيس الإعياء والعجوز ثابتة كالطود لا تتزحزح من مكانها إلى أن بدأ التيس يترنح . وقبل أن يسقط على الأرض ، استلت العجوز المدية وغرزتها في عنق التيس مرة أولى ثم استلتها وعادت تغرزها من جديد بعنف في الجرح الذي

أحدثته الطعنة الأولى .
فار الدم قانيا وسال على يدها وعلى وجهها ولطخ ثيابها وثياب القريبين منها من رجال البنكة . ومشى التيس خطوات ، ثم هوى على الأرض فوق الرمال الحارة ، فلحست العجوز نصل المدية من الجهتين ورمتها على الأرض ، وعادت إلى غرفتها .
ولم يصبر رجال البنكة إلى أن تفرق الحياة التيس ، فارتموا عليه وهو يحتضر ويخبط الأرض بحوافره ، وراحوا يمتصون الدم النازف من الجرح الغائر ويلحسون أيديهم الملطخة بالمتخثر منه .
واختار جماعة منهم أن يأكلوا بقايا الدم المبارك المتيبس على الرمل .
كان هؤلاء الرجال وأولئك قد تحولوا إلى مردة من الجان يسيل العرق من جلودهم الملساء ويقدح الشرر من عيونهم الملتهبة بنار الوجد ، فيصرخون صرخات الأبالسة ويرتمون على الأرض يتمرغون فوق رملها ، ثم يمدون الأيدي لجمرات النار فيأكلون منها أكل الصغار للحلوى ، و" للا فاطمة " من مكمنها في الغرفة تراقب الجميع
وتبتسم .
ظل الحال هكذا ، إلى أن وصل " شيخ الطريقة " ، فخلص التيس من الأيدي التي تعلقت به ، ثم وضعه على قطعة

خشب كبيرة وانهال عليه بالساطور فقطع اللحم ورماه كتلا داخل قدر كبيرة ارتفعت فوق ثلاث صخرات من الحجر الصوان . وأضافت العجائز إلى اللحم الماء والخضر ووضعن " الكسكاس " فوق القدر وأشعلن النيران وهن يهزجن ويغنين . وامتزج غناء الزنجيات بصياح أطفال الحي وهتافات الرجال إلى أن حل المساء .


- 14 –

في المساء ، أكل ضيوف " للا فاطمة " الكسكس واللحم حتى شبعوا ، وحمدوا الرب ، وبدأ الرقص على ضربات طبول الزنوج الكبيرة .
وخرجت " للا فاطمة " وقد تزيت بزي عجيب و غريب
" بو سعدية " ، صاح الأطفال حالما رأوها ، فقد لبست صدرية من ريش النعام غطت بها نصفها العلوي ، وغطت النصف الآخر بجريد النخل والسعف اليابس والليف . ووضعت فوق رأسها طرطورا طويلا ألصقت به قطعا من البلور الملون ، وأخذت في يدها اليمنى ترسا من الجلد وفي اليسرى رمحا طويلا .
وبدأت ترقص .
رقصت بجنون .
رقصت بخفة الشباب .
رقصت بإتقان الشيوخ .
رقصت بحكمة الكهول .
رقصت بمجون الغواني .
رقصت بخفر العذارى .
رقصت بتهور الشجعان .

رقصت كما لم يرقص أحد قبلها .
رقصت كما لن يرقص أحد بعدها .
أكثر من ساعة والرجال يدقون على الطبول وهي ترقص وتترنم بأهازيج زنجية وتخبط الأرض برجليها وتطعن بالرمح أعداء لم يرهم أحد غيرها وتتقي بترسها سيوفا نسمع لها صليلا ونرى لمعانها في ظلام الليل . وترقص وتهزج أهازيج فيها حزن وألم كبيران إلى أن هدها
التعب ، فسقطت على الأرض .
تقدم نحوها " شيخ الزاوية " ورشها بعطر أخرجه من
جيبه ، فأفاقت . فتحت العجوز عينيها وأدارتهما في كل الاتجاهات كمن يبحث عن فقيد .
وحين حاول الرجال إعادتها إلى بيتها لم يقدروا .
وعادوا يحاولون من جديد ، ولكنهم كانوا يفشلون في كل المرات إلى أن اقترب منهم صديقي " عالم الآثار " ، فمد يده بخجل وقال :
- اتركوني أجرب معكم لعلي أفلح .
مد يده إلى اليدين ، فجاءتا طائعتين . وناداها فردت على ندائه ، فاحتملها في حضنه كمن يحتمل طفلا صغيرا ووضعها على فراشها .
قالت له وهو يضع الوسادة تحت رأسها :
- لقد ترقبتك كل هذه المدة .

ترقبتك ألف سنة أو يزيد ، وما مت إلى أن وصلت ، فهل وجدت أمانتك في الجامع ؟
قال وهو يربت على كتفها بحنان الولد الرؤوف :
- نعم يا للا ، لقد استخرجنا من تحت أرضية المحراب صندوقا به مخطوطات كثيرة .
قالت وهي تشد على يده بلطف :
- هي مخطوطاتي ، أعطانيها رئيس القافلة التي جاءت من
" تمبكتو " وديعة قبل موته وقال لي ، احتفظي يا فاطمة بهذا الصندوق لرجل سيأتي لهذه الديار بعد ألف سنة . رجل يحمل في رأسه عقلا ويسكن في قلبه كثير من الدراويش .
إذا جاء يا فاطمة ، سلميه الصندوق ولا تخافي .
فقال لها :
- لقد وصلت الأمانة إلى أهلها ، فنامي مطمئنة .
فردت العجوز الغطاء على وجهها ، ونامت كما ينام الأطفال .

- 15 –

في الصباح ، باكرا قبل طلوع الشمس ركب صديقي " عالم الآثار " إلى العاصمة . حمل معه قائمة بأسماء العملة في مشروع ترميم الجامع وصندوق المخطوطات وحرك محرك سيارة " الأندروفر " ، وتوكل على الله .
وفي مساء ذلك اليوم وصلني هاتف من تونس .
كان على الخط صوت امرأة لم أتبينه مليا في أول الأمر ، ثم اكتشفت بعد جهد جهيد أنه صوت زوجة عالم الآثار التي عرفتها حين جاءت تزور زوجها في أول عهده بالقرية . كانت تبكي بحرقة وهي تطلب مني الحضور في الوقت والساعة .
قالت إن زوجها أصيب في حادث مرور إذ انقلبت به السيارة في الطريق الرابطة بين القيروان وتونس ، في المنعرجات الجبلية القريبة من مدينة الفحص ، وأكدت أن الطبيب المداوي لزوجها يرغب في رأيتي لأنه وهو يهذي على سرير المصحة ذكر اسمي أكثر من مرة من جملة أسماء أخرى كثيرة . وقالت إنه يهذي بتيس مذبوح ورقصة الموت و" للا فاطمة " ، ويقول ‘ن لعنة المحراب حلت بروحه . وترجتني المرأة مرة أخرى أن أحضر إلى

تونس في الحال .
رأيت من وراء دموعها صديقي عالم الآثار ممددا على سرير المرض ، فامتطيت حافلة الليل الذاهبة رأسا إلى العاصمة .
عند الساعة الثامنة صباحا ، كنت أمام المصحة الخاصة .
قدمت نفسي لممرضة التقيتها أمام الباب ، فقادتني إلى غرفة صديقي .
كانت زوجته جالسة أمام سريره .
عندما رأتني ، مسحت دموعها بكفها وقامت تسلم علي .
وقفت جامدا أمام السرير إلى أن جاء الطبيب ، فحياني بوجهه الجامد وطلب مني أن أتبعه إلى مكتب عمله .
عندما وصلنا المكتب ، أغلق الباب وراءنا وطرح علي عدة أسئلة حول حياة " عالم الآثار " في القرية ، وعلاقاته بالناس ، واتصالاته بالمسؤولين عن أحوال الدنيا والدين ، فأجبته بما أعرف وخرجت .
وعدت أقف أمام سرير الرجل .
كان جسمه موصولا بآلات مختلفة ، وكان ينام هادئا إلا أنه كان يتمتم بين الفينة والأخرى بكلام غير مفهوم .
إلى أن هممت بمغادرة المصحة ، فهمست في أدن زوجة عالم الآثار أسألها عن صندوق المخطوطات .


ردت مدهوشة :
- ماذا ... ؟ صندوق ...؟ مخطوطات ... ؟
وأضافت بعد قليل :
- لم نجد في سيارة " الأندروفر " سوى هذه الأوراق .
وأخرجت من حقيبة يدها قائمة في أسماء العاملين في مشروع ترميم الجامع .

أم العرائس / قفصة / تونس
من 15 08/1997
إلى 24/03/1998 .

dargouthibahi@yahoo.fr

نادية فريد لطفي
17/01/2007, 08:34 PM
تحية تقدير
برافو عليك
أكيد الرواية تحتاج إلى قراءة متأنية، بجمعها كلها في ملف واحد للاطلاع عليها
و لكن ما قرأته بشكل سريع يجعلني أحييك بصدق
كل التوفيق لقلمك
و إليك

ابراهيم درغوثي
30/01/2007, 10:52 PM
أختي نادية سعيد بمرورك على هذا النص

وسأسعد أكثر وأنت تطلعين على كامل الرواية

دمت في ألق