المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القصة الفنلندية القصيرة بقلم : نهاد عبد الستار رشيد



نهاد عبد الستار رشيد
06/10/2006, 10:31 PM
القصة الفنلندية القصيرة
بقلم : نهاد عبد الستار رشيد
كُتبت القصة القصيرة في فنلندة منذ أن وجد الادب بالمعنى الصحيح للكلمة في هذه البلاد- أي منذ أكثر من مئات السنين- ولم يكن هناك مؤلف، مع احتمال استثناء يوهاني آهو Juhani Aho وماريا يوتوني Maria Jotuni ، التي، ربما، تعتبر استاذة هذا النوع الادبي.
قدّم نقّاد الادب الفنلندي والباحثون الذين يتعاملون مع المصطلحات الفنية التقليدية، بصورة عامة، تعريفا ضيقا نوعا ما للقصة القصيرة – التي تدعى بالفنلندية Novelli ، والمستقاة أصلا من المصطلح الايطالي Novella ، ذلك المصطلح الذي تمّ استعماله باشكال مختلفة في العديد من اللغات الاوربية. من المفترض ان مصطلح (Novella)، كما في الاصل الايطالي، يسرد حادثة جديدة أو استثنائية، ويركّز فقط على تلك الحادثة ويُفضّل ان تكون لها نهاية غير متوقعة ومدهشة، وغالبا ما كانت ال(Novella) تعد كنمط نثري منقّح الى حد بعيد، وكانت في حد ذاتها، بعيدة عن متناول الكتّاب الفنلنديين وقرّائهم، الذين افتقروا الى خلفية التقاليد الادبية القائمة. ال (Novella) النموذجية هي، في الواقع، اكثر شبها  بالادب القصصي من بقية الانواع الادبية الاخرى، ومن الدقّة، الى حد ما، ان نرى الى أي مدى من الامانة للاصل كان الكتّاب والباحثون او النقّاد في فنلندة يستعملونها كمعيار للقيمة الادبية، مع انهم يدركون جيدا بان اعدادا كبيرة من النثر القصير لجميع الانواع كان مكتوبا في عصرهم في كافة الاقطار.
غابا ما كان الكتّاب الفنلنديون من منشأ اجتماعي متواضع ،وكثيرا ما كانت مواقفهم تبدو من اعمالهم مزيجا من البساطة والطموح. كانوا يعتبرون الروايات اعمالا فنية جادّة يجب ان تكتب باعتناء بالغ، الا أنهم يصفون أساليبهم النثرية القصيرة كصور وصفية أدبية او حكايات رويت على جماعة من الاصدقاء في المقام الاول. من ناحية ثانية، تحت هذه البساطة الظاهرية والاصيلة تماما في أحوال كثيرة، غالبا ما يوجد التضمين ايضا بان مثل هذه الحكايات البسيطة هي اقرب للواقع ولحقائق الحياة منها الى نصوص فنية منقّحة، وانها تناشد الناس بمشاعر واذواق صادقة وبسيطة لا الى المولعين بالجمال المصقول بافراط.
يعتبر (مايو لاسيلا) Maiju Lassila الاسم المستعار ل( الكوث تيتافاينن انتولا
Algoth Tietäväinen- Untola ) (1868-1918) افضل نموذج في هذا الصدد. والده، فلاح، توفي عندما كان (لاسيلا) يبلغ ثلاثة عشر عاما، وكان عليه ان يعمل كخادم قبل ان يصبح معلما في مدرسة ابتدائية ثم صحفيا وكاتبا. بدأ مهنته الادبية بنشر روايتين رمزيتين، ضخمتين، وطموحتين الى حد بعيد في عام 1909، الا انه غيّر اسلوبه ومواضيعه، بعدئذ، بشكل كامل، واتخذ له اسما مستعارا اشتهر به فيما بعد، وكتب قصصا هزلية في الغالب، قصيرة وطويلة عن سكان الريف في مسقط رأسه، يتحدث، بنفسه، عن اسلوبه واهدافه بطريقة تبدو متوافقة الا انها، بوضوح، انتفقادية لصيغ الكتابة الاكثر اناقة: " لا احب الفكرة القائلة بان جماعة مفضّلة من الناس سوف تقرأ كتاباتي، اذ يتعين على كل شخص ان يبقى ضمن سرواله الخاص "، او " لن تكون، بالنسبة لي، مهمة شاقة لاقدّم لهم، النوعية المكثفّه المطلوبة من (Novellas)، لكن قرّاءها لايفهمون الحكايات القصيرة المكثفة.
يقرا الناس العاديون ، بقدراتهم البطيئة في التفكير، هذا النوع من الكتابة اشباعا لرغباتهم، وليس استغراقا في التامل بقوة الصور البلاغية فيها. وبالنسبة لهم، الشيء الاساسي هو ان ما يقرأونه سهل الفهم ". وقد اعطى احدى مؤلفاته مدلول عنوان فرعي، " شيء " او " قطعة ادبية "¹.

بنتي هانبا Pentti Hãänpää (1905-1955)، الذي كتب كثيرا عن صغار الفلاحين والخشابين والمتشردين في موطنه الاصلي، شمال فنلندة ،أكد بان كتاباته القصيرة لاتدعى حكايات قصيرة (Novelli)، بل (حكايات) او (قصص) juttu من النوع التي تروى من قبل الشخصيات نفسها. تختلف الحالة ،نوعا ما ، مع (يوهاني آهو) Juhani Aho (1861-1921)، فقد كان ينتمي بالولادة للطبقة الوسطى، وسافر على نطاق واسع، وكان شخصية اجتماعية بارزة، وموضع اعجاب من قبل الجميع ،وعرف كاتبا عظيما في حياته، عبّر عن فهمه وتعاطفه وقلقه بشأن الفقراء والمعدمين، ولكن من منزلة اجتماعية رفيعة، ولم يبذل جهدا لجعل افكاره المتعلقة باعماله النثرية القصيرة الخاصة قابلة للوصول او الاقتراب من جميع القرّاء. بل على العكس، فقد اعتبرهم، كما يبدو، غير جديرين بجهد فني جاد. قال، بنفسه، عنهم : " حين يشكل نجار دافعا او هدفا، فان نشارة الخشب تسقط على ارض ورشته... فانا اقوم هنا بعرض هذه " النشارة " من عندي وكأنها سقطت من مكتبي " ². من ناحية ثانية، فان موقف ( آهو ) غامض الى حدّ ما، لان بعض " نشارته " Lastu معدّة باتقان ، خاصة تلك التي يتم فيها ابراز مزاج تأملي كئيب في المنظر الطبيعي الريفي وهي من بين كتاباته الاكثر نموذجية. التعابير التي وضعها كتّاب فنلنديون اخرون عن القصة القصيرة كنمط أدبي ما زالت، مع التاكيد على الشكل في المقام الاول، بدون تضمينات اجتماعية. يول لهتونن Joel Lehtonen (1881-1934)، المشهور كروائي، قال في مقدمة لمجموعته القصصية (البرية والجنينة) Korpi Ja Puutarha ، الصادرة عام 1923 " نكاد لا نكتشف أي شيء، في الوجود، بطريقة مختلفة عما اكتشفناه اصلا، لاشيء يمكن ان نطلق عليه حبكة الرواية تقريبا ". ³
من بين الكتّاب المعاصرين ( ايلابنانن) Eila Pennanen ، تولد 1916، تحدثت عن فائدة الرواية في القصص القصيرة، ومن وجهة نظرها، " راوية خارجي كلية باستخدام الشخص الاول، او مزاوجة بغيضة وشاذة بين راوية وشخصية... تنتهك، على ما يبدو، نوعا من المباديء الاخلاقية التي سادت القصة القصيرة بعد تشيخوف ومانسفيلد : الكاتب والشخصية هما عضوان في السلالة البشرية، اخوان واختان، " وكما تقول السيدة بنانن، عندما ينبذ الراوية نهائيا، تصبح الشخصيات من الناحية العاطفية، جزءا من المؤلف.4
من ابرز كتاب ما بعد الحرب فيوميري Veijo Meri، تولد 1928، اتخذ موقفا عدائيا من القوانين التقليدية لشكل القصة القصيرة. يقول، متحدثا عن كتاباته الخاصة : " لكل قصة قصيرة هناك تزايد عددي في هذه الاشكال الادبية الغامضة والقواعد المتناقضة، وكل قصة قصيرة هي ايماءة جديدة واكثر اثارة للعاطفة واريد ان ابين بوضوح الى أي مدى تم الغاؤهما، وكيف تبطل هذه القصة القصيرة، ايضا، جميع التوقعات ومتطلباتها الاساسية الخاصة. "5 .
تتبع القصص القصيرة الفنلندية، من ناحية المحتوى، الشكل الادبي العام للادب الفنلندي؛ منذ عهد قريب، ولا تزال حتى اليوم، غالبا ما تصف حياة الريف، والفقر والالم بدرجة اكبر من وصفها للسعادة والرفاه. كما كتبت اعداد كبيرة من القصص القصيرة الهزلية، لكن عنصر الفكاهة فيها كثيرا ما كان ذا هدف جاد. انها، احيانا، احتجاج سافر ومتمرد ضد كل انواع الاضطهاد في العالم، كما هو الحال لدى (هانبا) Haanpää، واسلوب رائع لتبديد الثروة والقوة، لدى ( لهتونن) Lehtonen و(هانبا) ايضا،او هجاء نقاط الضعف في الخلق او السلوك، عند ماريا يوتوني Maria Jotuni (1880-1934) او هزل مسترسل في مرح صاخب ضد جميع الحماقات التي ترتكب في العالم، لدى (فيكو هوفينن) Veikko Huovinen الذي ولد عام 1927، او هي محاولة يائسة وغير ناجحة في النهاية للحصول على شيء مفيد وصالح وسط دناءة المجتمع الانساني كما هو الحال عند (سيلانبا) Sillanpää (1888-1964)، او تاكيد لحالة الضياع و العبث العامة، لدى (ميري) Meri.
كانت اغلب القصص القصيرة في المراحل المبكرة وصفية على نطاق واسع . لقد سبق ان ذكرت اوصاف (آهو) للمناظر الطبيعية الريفية التي كانت تشاهد كحالات مزاجية او ذهنية، ولكن ، عندما يقدم الشخوص ، ايضا، فانما يفعل ذلك للوصف والرصد بدرجة اكبر منها الى عمل مسرحي مثير. في المجموعة القصصية (اسم امرأة) Vilhelmiina Väisänen وكذلك المجموعة المسماة (قطعة خبز) يتصور نفسه مسافرا في قطار، ويراقب رفيق طريق معه، ويحاول من خلال ذلك ان يخمّن ويكتشف ما قد تكون عليه حياته.
في مجموعة (اسم رجل) Sasu Punanen، صورة وصفية، هزلية،و لطيفة جدا، تمارس الشخصية الرئيسية دورها وتتحدث، لكن لايحصل أي شيء حاسم ولايحدث أي تطور، يُظهر نفسه كخبير محنّك ومحّب لحمّام الساونا الفنلندي فحسب. اما قصص (ماريا يوتوني) Maria Jotuni فتعتبر اكثر درامية من قصص (آهو )، لانها تحتوي عمليا على شخوص تتحدث وتعمل ( لأن كتابة الرسائل هي في الواقع نمط من التحدث او النطق ايضا)، ولكن ضمن اطار القصة، غالبا ما يكون قد وقع الفعل في الماضي وتمّ سرده من قبل الشخصية الرئيسية في حوار طويل تقاطعه هذه التعليقات فقط، " انك لم تقل، " او " حقا، " او " استمر، " التي يطلقها المستمع. المؤلفة بارعة في جعل القاريء يفهم ما تخفيه الشخصيات من انانية تحت تدفقاتها العاطفية، لكنها لاتتوقف عند هذه المرتبة البدائية من الهجاء. في الغالب، نساؤها اللاتي يبعن انفسهن للرجال للحصول على موقع زوجة شرعية او ربة بيت، لم يكن لديهن ثقة بانفسهن ويتصورن بان حديثهن عن الحب ياخذه الرجال بمعناه الظاهري، ويندهشن من الرجال الذين يبدون مغفلين بخصوص الزام انفسهم امام النساء اللاتي يبتغين ضمانا ماديا فقط، ويرغبن، برغم ذلك، ان يقال بانهن تعرضن للمآزق بسبب الحب.
القصص القصيرة عند (فولتر كيلبي) Volter Kilpi (1874-1939) و (هيكي توبيلا) Heiki Toppila (1885-1963) اتخذت موقفا منفردا من جميع الاعمال المشابهة الاخرى في الادب الفنلندي، وربما في الادب العالمي كله. كلاهما يصف موطنه الأصلي ، وينظرباتجاه الماضي ، وغالبا ما يرسم صورا شخصية للمسنين، الذين يموتون احيانااثناء القصة، والذين يروون تفاصيل حيواتهم اليومية ، ويتم اكتمالها اخيرا، في منلوجات داخلية او احاديث متفرقة حتى يتم اكتمال الصورة الذهنية، وكان كلاهما متاثرا بلهجته المحلية-( توبيلا )في الشمال الغربي،و( كيلبي ) في الجنوب الغربي- ويعتمد توبيلا من دون تحفظ على الفولكلور المحلي، ومع ذلك فان قصصه على الاطلاق حكايات شعبية معدّة للنشر. لايتحدث توبيلا عن قصص الاشباح، بل على العكس، انه يكتب عن الناس العاديين وعن حياتهم اليومية، انه مثل (كيلبي )، كتب روايات ايضا، لكن اسلوبه ملائم بدرجة اكبر للروايات القصيرة، لانها غير حافلة بالتكرار في نصوص طويلة.
بالنسبة الى كيلبي، لايمكن القول بان اسلوبه ملائم لشيء معين سوى انه ملائم لمؤلفات بقلم فولتر كيلبي . لقد انجز ماثرته الفذة في كتابة روايته الموسومة ( في الغرفة الرئيسية من مزرعة الستالو) Alastalon salissa، التي تدور احداثها حول مناقشة بين فلاحين اغنياء، واصحاب السفن، وربابنة. تمّ نشر قصصه القصيرة في مجموعته الموسومة (شعب صغير في البلد) Pitäjän pienempiä وهي مغايرة للرواية، بقدر ما يصف فيها الفقراء والاذلاء، الذين تكون اعمالهم ضرورية لنجاح الأغنياء. لايوجد فيها أي اثر للصراع الاجتماعي؛ لان كيلبي محافظ الفكر؛ انها تحليلات لاحباطات شخصية فحسب، بينما الرواية وصف لنجاح شخصي، وقصتاه ( ارملة ملاح) Merimiehenleski و(السير على الجليد) Jäälläkulkija تتألفان في الغالب من منلوجات داخلية تعيد بواسطتها الشخصيات مجريات حياتهم اليومية، وتسهب في حديثها عن احداث الماضي ونصوص الاغاني، والافكار والمشاعر. في قصة (السير على الجليد) رجل حطّم حياته وحياة عائلته لغروره وعناده رغم وعيه وادراكه لسوء التصرف هذا، وحاول تبرير موقفه المتشنج امام نفسه وامام الله حتى وفاته. في قصة (ارملة الملاح) امرأة عجوز فقيرة تحاول ان تجد مغزى من كل المعاناة التي تواجهها وكأن عقوبة انزلت بحقها، وتتمرد احيانا على ارادة الله دفاعا وانقاذا لعدالته وانصافه، لكنها تستلم بعدئذ وتخضع لمشيئته؛ القاص كيلبي الذي استنبط نظرية جمالية للحياة في المقالات النقدية التي نشرت له في بداية القرن العشرين، كان محافظا، ولم ينتقد الكنيسة او الدين بشكل صريح، لكنه كما يبدو لم يجد في المعتقد المسيحي ضالّته.
انها صورة نموذجية لاسلوب كيلبي من خلال اعماله الاخيرة التي اتسمت بالفردية الى ابعد الحدود، وهو يطمح الى ذروة الكمال الفني. وقد استخدم لغة الشارع طبقا للشخصيات التي يصفها.
الصور البلاغية والاستعارات التي يستخدمها بغزارة، استمدت من بيئات الشخصيات المألوفة كالابحار، والبحر، والحيوانات الاليفة- لكنه يستخدم هذه الادوات ليخلق رؤيا عن العالم الذي هو عالمه الخاص. اثناء حياته، اخبره البعض بوجود بعض التشابه بينه وبين بروست Proust، ولانه عرف الفرنسية فقد قرأ شيئا من ( بحثا عن الزمن الضائع ) A la Recherche du Temps Perdu واعترف بان اسلوب بروست واسلوبه يشتركان في اشياء كثيرة، الاانهما يختلفان تماما في الهدف 7 . وقف بروست دائما بصدق ضمن حدود الاستعمال اللغوي النظامي، بينما انهى كليبي امتثاله له ،وان قوة تفكيره وشعوره، وصوره البلاغية، التي حبكت باحكام داخل السرد تفسه ، و الاهمية في كون الاشياء المحسوسة تلفت الانتباه في عالمه كانعكاسات واسقاطات العقل الانساني، ومروره المتواصل من الحاضر الى الماضي، من الواقعي الى الخيالي والعملي، من المنلوج الداخلي الى القصص الهادفة تجعلني افكر ب – كلود سيمون- في ( الطريق الى فلاندرزLa Route de Flandres على سبيل المثال.
كثيرا ما كتب المؤلفون الفنلنديون – ولمدة طويلة – عن الحياة الريفية وشخصياتها، بشكل عفوي، دون اتباع لبرنامج مثبت سلفا او ايديولوجية معينة. كما ابدعوا في المعالجة الفردانية للمواضيع التي اختاروها.
بنتي هانبا Pentti Häänpää يختلف كليا عن (توبيلا) و (كليبي) وعن أي كاتب فنلندي آخر، وقد يوجد بعض الشبه بينه وبين (فيوميري). تجري الاحداث في اغلب قصص (هانبا) في فنلندة الحديثة: العشرينات وقانون الحضر، والكساد الاقتصادي الكبير، والحروب، وفترة ما بعد الحرب، انعكست فيها بصدق واخذت تؤثر في حياة شخصياته، الذين هم الفنلنديون العاديون المتحررون تماما من جميع المعتقدات الخرافية، والذين يقدمون انتقاداتهم دون تحفظ الى العالم، بعبارات تنتقد الرأسمالية واحيانا الاشتراكية والشيوعية ايضا. في عام 1928، اصدر مجموعة قصصية تحت عنوان (المزرعة والثكنات) Kenttä ja Kasarmi التي انتقد فيها بشكل حاد ما أسماه ب(الوحشية) و (الحماقة) اللتين يتصف بهما كل جيش في العالم، الا ان نقده هذا قوبل باستياء شديد، اذ ان فنلندة حافظت على استقلالها بصعوبة لاكثر من عشر سنوات في تلك الفترة واجتازت حربا اهلية. امتنع معظم الناشرين عن نشر كتبه لمدة تزيد على عشر سنوات، وقد صدرت معظمها بعد وفاته، ومنذ قرابة الستين عاما اعيد له اعتباره الادبي. كتب (هانبا) كثيرا عن شخصيات تعيش في موطنه الاصلي، حيث امضى كل حياته هناك وانتشرت حوله بعض الاشاعات والتعليقات اثناء حياته. كان يظن بانه احد الخشابين المتشردين الذين اسهب في وصفهم، ويستطيع الكتابة بطريقة او باخرى عن تجاربه فقط . كان والده فلاحاموسرا، ومع انه هو نفسه لم يتلق تعليما رسميا اعلى من الدراسة الابتدائية، فقد قرأ كثيرا وتعلّم، من خلال دراسته الذاتية للغة الانكليزية، وهو يمتلك عددا كبيرا من الكتب باللغة الانكليزية في مكتبته الخاصة، و تشمل على سبيل المثال، اعمالا لجميس جويس Although not Ulysses ، وغيرها ، وقد صاغ اثنين من مؤلفاته على غرار قصتين من مجموعة جميس جويس الموسومة (ابناء دبلن) Dubliners ربما اراد اختبار نقاد الادب والختصين فيما اذا كان بوسعهم ملاحظة الانتحال. لكنهم لم يفعلوا ذلك الا بعد بضع سنوات من موته 8.
يصف (هانبا) شخصيات مثيرة وحيوية في قصصه القصيرة، مع ان الميزة التي تتسم بها ليست سرد حبكة والوصول بها الى خاتمة، بل في تقديم وصف دقيق لشخص في مركز اجتماعي وبيئة معينين. انهم رواة فحسب، في اسلوب بسيط ودقيق، دون اية تحسينات في الاسلوب، وهو لايستعمل المنلوج الداخلي ونادرا ما توصف افكار الشخصيات. يوجد شيء من التشابه مع الاغاني الشعبيه الراقصة الامريكية في هذه القصص التي تتحدث عن الناس العاديين في مشاغلهم اليومية. تعيش شخصيات هانبا في ريف قاس موحش، شمال فنلندة، وتناضل ضد التمايز المنتشر في ارجائها، دون ان تحقق نجاحا باهرا، ودون ان تستسلم ايضا. وهي تستخدم الدعابة الساخرة والتهكمية، وتتناول الكحول، وتبذل الجهود غير المجدية للتخلص ولو لفترة قصيرة من عبء العمل اليومي الشاق.
تعتبر اعمال (هانبا) الادبية احتجاجا على الانظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، الا انه يصوغ احتجاجه بوضوح نادر جدا. والمؤلف، من غير شك، لايرغب في استثارة شفقة او عطف نحو شخصياته. انه يصفهم كأشخاص اقوياء ومستقلين في سلوكهم ولايعتمدون الا على انفسهم، ويلمّح ايضا بان المساعدة سوف تكون غير مجدية، لان سخريته تبدو في آخر الامر موجّهه ضد العالم، الذي يتحول على نحو خطير، بحيث ان الانسان فيه غالبا ما يقاسي ويكابد فقط .
منح اف.أي. سللانبا F.E.Sillanãã جائزة نوبل من الدرجة الاولى عن روايته (الخادمة سيليا) التي حجبت بقية نتاجه الادبي وطغت عليه خصوصا في خارج فنلندة، حيث ان قصصه القصيرة غير معروفة هناك.
نشر في بداية حياته الادبية روايتين قصيرتين قبل عام 1920، لكنه بعد تلك السنة كتب قصصا قصيرة فقط . ولانه مؤلف شاب واعد، فقد توقع الجميع بان يواصل كتابة المزيد من الروايات، اما بالنسبة اليه فكان يعتقد بعدم امكانية الوصول الى مستوى كاتب عظيم حقا  الا بعد كتابة رواية عظيمة، لذلك انتج في عام 1931 (الخادمة سيليا).
من الممتع حقا مقارنة الرواية مع قصته القصيرة الموسومة (حفلة راقصة في احدى ليالي نيسان) Huntikuinen tanssiaisyö، والتي نشرت ضمن مجموعة (التل والكوخ) Töllinmäki الصادرة عام 1925. هنا يمكن القول بان الحادثة التي وصفت في القصة القصيرة تعطي صورة كاملة للشخصية الرئيسة، بينما الرواية تضيف فقط احداثا  عرضية الى سيرتها، دون ذكر أي شيء جديد من الناحية الجوهرية.
في القصرة القصيرة، سيليا، الشخصية الرئيسية، تخسر خطيبها لانها فاضله ونبيله لدرجة انها ليست بحاجة للرد على الافتراء الخبيث الذي ينال من سمعتها، لكن الرجل الشاب، مع ذلك، يصدّق ما يشاع، تضيف الرواية قصة والدها- الرجل الفاضل والنبيل، كما كانت هي- ليكون رجلا ناجحا في هذا العالم، ولها علاقة حب رومانسية مع رجل شاب في المدينة، وموتها، وهي شابة وجميلة بمرض السل. وقد اكدّ جميع النقاد الفنلنديين بان قصة الاب تنسف وحدة الرواية من خلال تقديم شخصيتين رئيستين.
قصص سلانبا تشبه الى حد ما قصص هانبا، فالشخصيات فيها- على سبيل المثال- قد قدمت من خلال اعمالها واحاديثها في بيئاتها الاعتيادية المألوفة، ولكن بناءها اكثر تعقيدا. يستخدم سلانبا، في بعض الاحيان، منلوجا داخليا، يُمزج تلقائيا مع قصة ترتبط بالهدف المقصود، ويقدم هو ايضا تعليقات مباشرة ونتائج فلسفية على العمل، ويوجهها مباشرة للقاريء.
شخصياته كسولة وسلبية اكثر من شخصيات هانبا، فقد ظهروا الى الوجود ليستسلموا ويقاسوا، ويحاول المؤلف ان يثبت صواب عملهم وفقا لتصورهم، لان الرجال- استنادا لفلسفته- يكونون اكثر سعادة عندما يتبعون غرائزهم، وليس بما توحي به عقولهم، ومع ذلك، ادرك سللانبا تماما ان مجرد الاذعان للشقاء لايجلب السعادة للناس العاديين، وقد ابدى تعاطفا مع حالتهم المأساوية؛ رغم ان هذا التعاطف كان مشوبا بنوع من الغضب بسبب عجزهم عن النضال دفاعا عن انفسهم. دعابته هي ايضا نوع من محاولة يائسة يريد من خلالها ان يؤكد ويعلن لنفسه ولقرائه بان شخصياته بلهاء وضعفاء لدرجة انهم اصبحوا يمتلكون حسن الدعابة والنكته بسبب ذلك، كما هو الحال في روايته الموسومة (ميراث خنوع) Hurskas Kurjuus، على سبيل المثال.
الجيل الجديد من الكتّاب الذين ظهرواعام 1950 وقدّموا مظهرا جديدا، للادب الفنلندي لم يشتمل على كتّاب قصة قصيرة نموذجيين. لقد ظهروا صدفة تقريبا، كمجددّين، لانهم لم يشكلوا جماعة مترابطة منطقيا، او يصدروا بيانا رسميا باهدافهم، او يسرعوا لتغيير الادب والعالم.
من بين الكتّاب الذين نشرت اعمالهم قبل الخمسينات نجد فريقا قليلا منهم واصل الكتابة بنشاط وقدّم اعمالا مناسبة لعالم اليوم. ايلا بنانن Eila Pennanen هي واحدة من هؤلاء، يوجد شيء من التعارض والتناقض في اعمالها المبكرة بين الفنية والواقعية، ولايزال اهتمامها ظاهرا في الحالات النادرة والشخصيات في روايتين تأريخيتين رائعتين كتبتهما عام 1954 و 1958، لكنها في ذلك الوقت، كانت تتحول بلا تردد نحو بيئات وشخصيات معاصرة. تقنيتها تقليدية، لاتحاول ابتداع رؤيا جديدة للعالم باستخدام اسلوب مستقل نوعا ما، الا انها تمتلك، مع ذلك، هويتها الادبية الخاصةالى حد بعيد .
في قصصها القصيرة التي تضمنتها مجموعتاهاـ (مبنى بالغ الأرتفاع ) التي صدرت عام 1952، و (اثنان) Kaksin، عام 1961- كما في روايتها الاخيرة، تصف الناس العاديين في اوضاعهم اليومية، مع ان هذه الاوضاع كثيرا ما تقدم صراعات وتوترات وعدم التوافقات، انها قد تستعمل منلوجا داخليا، تربط ذهنيا بين افكار الافراد الذين تصفهم، او تقدمهم من خلال احاديثهم واعمالهم الخاصة. انها تظل بعيدة عن الانظار ولاتقّدم تعليقات او ملاحظات مباشرة او غير مباشرة على شخصياتها او على اية قضية خاصة تتعلق بالسياسة، او القضايا الاجتماعية، او السلوك الاخلاقي. ما تهتم به كثيرا، حالات ينشأ فيها صراع بين شخصين او بين شخص وجماعة ذوي نزعة اجتماعية اوبينه وبين العرف الاجتماعي من خلال ذنب لم يعرف مرتكبه. هذه الصراعات ليست درامية على الاطلاق ولاتتسم بالعنف ولم تُوجد حلا للمشكلة التي احدثتها، ما يثير اهتمام المؤلفة هو كيف تتورط الشخصيات في هذه الاوضاع وكيف تكون ردود افعالهم تجاهها. انها، على ما يبدو، تتأرجح دائما على خط يربط بين الهجاء المعتدل والمأساة المخففة ويتوقف ذلك على مشاهد التناقض بين الاهداف التي تعكسها شخصياتها وبواعثها اللاواعية باعتبارها مصدر سوء فهم مضحك الى حد ما او تجارب سلبية حقا.
من بين كتّاب الخمسينات الشباب الذين سرعان ما اصبحوا من الكلاسيكيين الشباب، فيو ميري Veijo Meri هو واحد من افضل الكتّاب البارزين، وقد نال اعجاب واستحسان اعداد كبيرة من القرّاء والنقاد على حد سواء. تبرز حقيقتان جليتان في انتاج ميري: اهتمامه بالحياة العسكرية والحرب، وما يدعي على نحو غير دقيق ب(لا معقولية) العالم الذي يصفه.
العبث واللامعقول مصطلحان كثر استعمالهما في الاونة الاخيرة وغالبا ما أسيء استخدامها. وينبغي ان يقال بان اعمال ميري هي واقعية جوهريا، لا لتقارن مع اعمال بكيت، وايونسكو Ionesco، وبنتر Pinter في الشكل او الاسلوب.
تتحرك شخصيات ميري في فنلندة الحديثة او الماضي غير البعيد جدا وتنهمك في النشاطات اليومية العادية، او في الصراع مع الطبيعة، وان اغلب قصصه اما عن الحرب، او عن الحياة العسكرية. سوف لا اقول على اية حال، بانها واقعية، نظرا لما قاله ميري نفسه بخصوص الواقعية في الرواية الحديثة 12. يتناقش ميري في كل المقالة حول الرواية الحديثة ،مع خصوم لم يذكر اسماءهم ، الذين، كما يقول هو، يتهمونها باعتبارها مليئة بتفاصيل لا علاقة لها بالموضوع ولاتهتم كما ينبغي في تقديم الحقائق الاساسية للحياة، اضافة لذلك، يقول، ان واقعيي القرن التاسع عشر يختلفون عن الروائيين الحديثيين، لانهم قدّموا فقط ما كان وثيق الصلة بالموضوع، لكن ميري يؤكد بان هؤلاء الكتّاب (بلزاك، تولستوي، وآخرين) هم غير واقعيين مطلقا لانهم ابتدعوا عوالم من صنع خيالهم، " النظير الذي لم نشاهده على الاطلاق ". وفقا لرأي ميري، الروايات الحديثة هي اكثر واقعية من الروائع الكلاسيكسة لانها تأتي بتفاصيل وثيقة الصلة وغير وثيقة الصلة بالموضوع عن الحياة، ولكن خصومه سوف يجيبون متذرعين بحجة ان العلة الرئيسية للرواية الحديثة تقع في تلك النقطة، مجرد واقعية، انتاج منمّق لامور تافهة.
بالنسبة لشكل القصة القصيرة، يقول ميري: " رفض الكتّاب الفنلنديون بصورة عامة اخضاع اعمال النثر القصير لاي نوع من الصيغ واطلقوا عليه أسماء مختلفة، متجنبين استعمال كلمة novelli- حكاية صغيرة-." تبدو هنا حجج ميري مرتبكة نوعا ما، لانه يريد ان يؤكد انه بسبب الاختيار لاسم معين، أهملت الاعمال النثرية الفنلندية القصيرة، التي لا يمكن ان تكون متفقة مع القواعد المتعارف عليها تقريبا، بالتأكيدلا تشمل هذه الحاله الكتّاب المشهورين، من امثال، آهو، يوتوني، سللانبا، وهانبا، على سبيل المثال، اما بالنسبة له فان ميري يعتبر أي نوع من انواع التأليف النثري القصير يجب ان يدعى Novelli أي حكاية قصيرة، وهو طلب يدل على حماقة الى حد ما، لان هذا معمول به منذ زمن بعيد. ويقول ايضا بانه كتب جميع اعماله كقصص قصيرة أولا، ثم وسّع بعضها الى روايات، ويبدو الطول فقط لديه كمعيار للتصنيف، لانه يقول، عندما يكتب روايتين عن موضوع واحد، " الاكبر حجما يمكن ان تدعى رواية والاصغر حجما قصة قصيرة". اذا كان هناك شيء من اللامعقول في اعمال ميري، فهو ليس بالشكل الذي وصف به، رغم ان مزج التفاصيل العادية مع الحقائق وثيقة الصلة بالموضوع وان بدا عاديا بالنسبة للقرّاء الذين اعتادوا اساليب التأليف التقليدية المنظمة ببراعة. وفي الحقيقة، ان التفاصيل العادية لها موقعها الخاص في بناء العمل الادبي، فقد سبق وان ابتدعها واختارها المؤلف، وهي لاتستهدف خلق صورة ذهنية عن عالم مرتبك خال من المعنى فحسب، بل ايضا لاستخراج الواقعية باسلوب حي جديد لانها متمرسة بالتجربة من خلال الشخصيات التي لاتكف عن ملاحظة شجرة، او لوحة اعلانات على جانب الطريق، او سيارة تمر في الشارع، او رجل على دراجة هوائية، حتى وان كانت هذه الاشياء لاتؤثر في حياتها باي شكل من الاشكال. ان عالم ميري عملي بشكل عام، يشك احيانا بطبيعة الدوافع البشرية وهو في الغالب قاس، كما لا يخلو انتاج ميري من التأمل والجمال رغم ان وقته لايتسع لهما. اما كالفي هايكارا Kalvi Haikara فقد نشر كتابا له عن ميري، بعنوان – كان ذلك هو البلد الذهبي- 15. ويقدم هايكارا في هذا الكتاب استشهادا عن ميري كمثل عن مروره دون انتقال او تحوّل من وصف العالم الخارجي الى ترجمة افكار ومشاعر الشخصيات، في الفقرة التي اقتبسها هايكارا، تعبر بعض الشخصيات امتدادا مائيا فسيحا على متن مركب، وصفت هذه الحادثة بشكل موضوعي أولا، ولكن بعد ذلك: " تلقي الشمس ضياء اصفر اللون على الشاطيء البعيد الى ما وراء زورق السحب والبرج. كان ذلك هو البلد الذهبي. كان دائما بعيدا جدا حتى انك لو وصلت اليه، تكون الشمس قد غربت، في البيوت السوداء المصنوعة من الخشب المسفع، العليلون من الناس يكسوهم القار، كان الاطفال يقتلون الحباحب في الغابات والشابات العذارى يسوّدن حواجبهن بكسرة فحم تؤخذ من الموقد." اول ما يلفت النظر، تلك الصفة السريالية للرؤيا، ثم الحقيقة التي تقدمها هذه الرؤيا بشكل مباشر دون تحوّل، كما انها لم تقدم كاستعارة تقليدية، بل قذفها قذفا الى العالم. توجد العديد من الفقرات الاخرى المشابهة في الاعمال ميري. ولناخذ على سبيل المثال، (الهروب) Sujut حيث يبلغ احد الجنود بانه، لن يعدم رميا بالرصاص نتيجة هروبه من الجيش بل يرسل الى وحدته. وبينما يشرع في الذهاب ويسير خطوات عبر ظل تل، " ظهر الجو كأنه مليء بخيوط افقيه جميلة لدرجة انها اخترقت جسده بسهولة وقسمته الى شرائح رقيقة متقاربة الى بعضها البعض. بدا جسمه يرتعش وتقيأ " هذا الاسلوب تعبيري بكل ما في الكلمة من معنى: ذلك هو، التعبير عن مشاعر شخص، وافكاره، وحالات التهيج النفسي والتوتر العقلي من خلال تغيير مباشر للعالم، وليس مجازيا او رمزيا.
سؤال آخر كثيرا ما تمت مناقشته مع ميري وهو فيما اذا تتصرف شخصياته باسلوب عقلاني ام لا، على وجه العموم، اولئك الذين مع التفسير اللاعقلاني يشكلون الاغلبية، الا ان هايكارا يختلف معهم في هذا الرأي ويخصص عدة صفحات لدحض آرائهم 16. لايمكننا ان ننكر بان شخصيات ميري تعمل في الغالب بطريقة خالية من المعنى، وقد عزا ميري سبب ذلك التصرف الى، انها تعيش في ظروف زمن الحرب حيث لايمكن التنبؤ باي شيء، وكل شيء لا معنى له. ومن ناحية ثانية، انها بصورة عامة الشخصيات الاكثر ذكاء وشجاعة وحيوية، وانها تتصرف بهذه الطريقة احتجاجا منها على حالة لاتطاق ولا يمكن معالجتها باسلوب عقلاني. يؤكد ميري ان اللامعقولية الاساسية تكمن في فلسفة الجيوش، التي انشئت لتنفيذ خطة عنف او دمار، لكنها ايضا من الضروري ان تفعل ذلك وفقا لقواعد وقوانين دقيقة. افضل الجنود بالنسبة لميري، هم اولئك الذين لا يتبعون القواعد والقوانين، لكنهم غالبا ما يؤنبون على ذلك بقسوة.
في الحياة المدنية، كثيرا ما يصف ميري الافراد الذين يخفقون في تكوين علاقات مع بعضهم البعض، يعمل كل واحد منهم بصورة عقلانية ضمن حدود منطقه الخاص لكن منطق الاخرين يختلف عنه نوعا ما، فهم بذلك لايبلغون الاهداف التي يسعون للوصول اليها. يسبب ذلك الكثير من الاختلافات والغضب والخيبة، لكنها لاتؤدي الى مآس عنيفة او نزاعات؛ وفي نهاية القصة، تستعد الشخصيات تماما لمواصلة جهودها السابقة.
يمكن القول بان (انتي هورو) Antti Hyry ، المولود عام 1931- هو من نواح عديدة لا يختلف عن ميري، بقدر ما يتعلق الامر بشكل واسلوب اعماله الادبية، لا توجد اختلافات جوهرية بين قصصه القصيرة ورواياته لان كلا منهما تتعامل مع نفس نوع الحالات والشخصيات وتختلف جوهريا في الطول فقط. ومن ناحية اخرى، فان موضوعات (هورو) تختلف تماما عن موضوعات ميري، ليس لان هورو يصف نشاطات سلميّة بنّاءة فحسب، بل ايضا لان شخصياته غالبا ما تنجح في المهام التي تناط بها. قصة اخرى من قصصه القصيرة، (حفر بئر) Kaivonteko، يصف نفس النوع من النشاط العملي، الذي ينتهي الى نجاح دون شك: رجلان، صاحب ارض في ضواحي المدينة وصديقه، يشرعان في حفر بئر في قطعة الارض، ورغم قلة خبرتيهما، فقد نجحا في تحقيق المهمة، في روايته الموسومة (حافة العالم) Maailman Laita فريق من الرجال يشرعون في حملة صيد على متن زورقين مزودين بمحركين. اصيب احد الزورقين بعطل، وينجرف بعيدا بفعل رياح عاتية، الا انه لم يعقب ذلك فاجعة خطيرة، وأخيرا وجد القارب في اليوم التالي. شخصيات (هورو) هم بالتاكيد نقيض شخصيات ميري، فهم يعيشون في عالم عقلاني ويقومون فيه بجميع انواع الاعمال الهامة الخلاّقة. يهتم (هورو) بالاشياء العادية البسيطة، وهو واقعي وذو اسلوب موضوعي ويهتم بوصف التفاصيل الثانوية كاهتمامه بالتفاصيل الرئيسية. وقد عقدت المقارنات بينه وبين كتّاب المدرسة الرومانسية الجديدة، في فرنسا، خاصة روب غرييه Robbe-Grillet الا أن هذه المقارنات كانت سطحية الى حد ما 17.
يبتدع (هورو) احيانا افكارا لشخصياته التي هي ليست بالضرورة بسيطة ومبهمة، ففي (حفر بئر) تفكر الشخصية الرئيسية وتتحدث عن موسيقى بارتوك Bartok، والصور الزيتية الحديثة، واعمال تشيخوف، وفي (حافة العالم) يحدث نفس الشيء تقريبا. هنالك، في الواقع، الشخص الذي يفكر في ايجاد افكاره الخاصة ذات النزعة البغيضة المزعجة باستخفاف بالغ، يدرك في اللحظة المعينة مدى اتساع الطبيعة الفسيحة والعالم وما اصغر الانسان وسطهما. لقد وصفه شاعران وبعض الكتّاب الفنلندين بانه من الشعراء الذين يندر وجودهم في فنلندة 18.
ميري، وهورو، وكتّاب اخرون من الخمسينات اصبحوا من طراز الكلاسيه الجديدة وقد ظهر جيل ادبي بعدهم. لم يشكل الكتّاب الجدد فرقا او مدارس اكثر مما فعل اسلافهم من قبلهم، لكنهم مع ذلك يمتلكون خصائص مشتركة. انهم كثيرا ما يقاومون التقاليد الادبية واللغوية القائمة، وهذا امر جديد في فنلندة، فهم يميلون للنقد المباشر الصريح ضد الاوضاع الاجتماعية والسياسية دون تحفظ، مع انهم لم يعدّوا برنامجا مشتركا محددا او يؤيدوا اية ايديولوجية قائمة، وينتهكون- دون تحفظ- المحرمات الجنسية.
يوركي بللينن Jyrki Pellinen، المولود عام 1940، احد هؤلاء الكتّاب الذي نبذ بشكل قاطع جميع الصيغ التقليدية في كل من شعره ونثره، احد اعماله الاخيرة (مازلت اتحدّث حتى الان)
Tähän asti olen puhunut من الصعب تصنيفه عدا كونه نصا ادبيا ذا طول معين. ويمكن ان ندعوها-رواية- لان نفس الشخصية تتحرك في جميع الاجزاء التي يقسم اليها الكتاب، او-مجموعة قصصية صغيرة- لان هذه الاجزاء لا تشترك مع بعضها كثيرا، عدا شخصية الرواية فقط، او ربما تكون-قصائد منثورة- لانه يوجد، دون شك، العديد من المقاطع الشعرية فيها.
لا يناصب جميع الكتّاب الشباب العداء لكافة الاشكال التقليدية كما يفعل (بللينن). (هانو سالاما) Hannu Salama، تولّد 1936، الذي اشتهر بعد محاكمته والحكم عليه بالسجن لعدم احترامه المقدسات، كتب كلا من الروايات والقصص القصيرة بمنهج تقليدي، لكن احتجاحه ضد تقاليد المجتمع كان عنيفا، وقد حاول بشكل فاضح نوعاما، وصف النشاطات الجنسية بصراحة تامة. (سالاما) من نواح كثيرة يشبه (بنتي ساريكوسكي)
Pentti Saarikoski، تولّد 1937، والمشهور كشاعر، وكتب النثر ايضا، كلاهما قلقان ومنزعجان داخل مجتمع برجوازي ويواجهان بتحد ودون تحفظ تقاليده البالية، وليس بوسع أي منهما ايجاد البديل الافضل-واخيراينتهيان الى كتابات ذاتية اغلبها عن نفسيهما وعن الكتّاب الشباب الذين يشكون في شرعية الادب ويتنقلون دونما هدف بين الكحول والجنس.
(تيمو موكا) Timo Mukka، تولّد 1944، مؤلف ذو شخصية متميزة جدا، يمكن ان يكون في الواقع رومانسيا ويكتب احيانا النثر باسلوب شعري، وهو يصف ايضا، باسلوب واقعي الحياة الحديثة التي لا جذور لها، ويقدّم باستخفاف هجاء سرياليا لكنه عنيف وفعّال ضد كل الحماقات التي ترتكب في عالم اليوم.
اول ظهور ل(مارتي يونبولفي) على الساحة الادبية كان في عام 1959، اذ كان شابا اضطر للنزوح عن موطنه الاصلي مرتين خلال فترة الحرب العالمية الثانية واستقر به المطاف اخيرا في مدينة صناعية في Häme، وهي منطقة في جنوب فنلندة. صدرت له اول رواية بعنوان (ستة ايام في الربيع)
Kevään Kuusi Päivää، كانت افضل عمل تقليدي لما يطلق عليه ب(رواية الطبقة العاملة). تصف الرواية الصراعات الداخلية المحتدمة في نفس عامل شاب وبحثه عن حياة افضل.
بعد عشر سنوات بدا مارتي في كتابة القصص القصيرة. وجدّد، في الوقت نفسه، تقنيته الفنية في السرد: اذ اصبح استخدامه للغة اكثر وضوحا وصقلا، واكتسب اسلوبه، غير المتكلف، قوة من خلال استخدام الرمزية والميل للواقعية والسخرية. وبدأت شخصياته، في نفس الوقت، تتحرك في بيئات الطبقة المتوسطة؛ أغلب أعماله قصص قصيرة. ويعد (مارتي) قاصا في المقام الاول، اصدر اول مجموعة قصصية له في عام 1967 تحت عنوان (شجرة الخرنوب) Johanneksenleipäpuu، اعقبتها عام 1969 المجموعة الموسومة (قطع نقدية نحاسية) Kuparirahaa، ثم مجموعة (الانعزال) Yksinäisyys في عام 1975، ومجموعة مختارة من القصص القصيرة ظهرت له عام 1979 تحت عنوان (ضيف شرف) Kunniavieras، و(اشجار التّفاح ذوات الازهار طويلة العمر)، Kaun Kukkineet omenapuut، عام 1982، و(وكيل المزرعة) Haastemies، عام 1984. اما (ايرنو باسيلينا) Erno Paasilinna، الذي تحدث في احدى مقالاته عن (شبه الكاتب)، الذي يكتب للصحافة ويشارك في المؤتمرات وتستضيفه الندوات ليجيب على ضروب من الاسئلة ويظهر مرارا وتكرارا على شاشات التلفزيون. اينما توجد مناظرة او مناقشة، او حديث عن شرعية الاضرابات، او قوانين الاجهاض، او الحركة البروتستانتية او الوضع الحالي للشعر الغنائي، نجد (شبه الكاتب) حاضرا بنشاط وثبات، راح يكفّر عن تعبيره الساخر بالاعتراف الطوعي بانه هو نفسه مثال نموذجي لهذا الصنف. اصدر (باسيلينا) العديد من المجاميع القصصية، منها على سبيل المثال: مجموعته القصصية الصادرة عام 1970 تحت عنوان (دموع ضحية) Alamaisen Kyyneleet، ومجموعته (ثورة رائعة) Mainio vallankumous، عام 1972، و(الجمال السيبري) Siperialainen estetiikka، عام 1978، كما كتب العديد من الروايات منها على سبيل المثال (الجيش المفقود) Kadonnut armeija عام 1977.
ومن ابرز القصاصين الذين ظهروا في القطب الشمالي، يوني سكيفتسفيك Joni Skiftesvik، الذي ولد في النرويج في 26 يوليو 1948، كان والده Otto Olof Skiftesvik قبطانا بحريا من برجن Bergen . كانت امه الفنلندية عاملة على رصيف الميناء في مدينة (اولو) Oulu. وقد عمل (يوني) كناشر وصحفي وحاز على جائزة J. H .Erkko لافضل اول رواية عام 1983. اصدر مجموعته القصصية الاولى الموسومة( Puhalluskukkapoika ja taivaankorjaaja) ، عام 1983، وبعد عام واحد اصدر مجموعته القصصية الثانية تحت عنوان (مكانة حسنة مغمورة) Pystyyn Haudattu، التي يقول عنها يوني بانها عبارة عن قصيدة قصصية. هناك بعض نقاط التشابه بينه وبين (موكا) Mukka. كلاهما ينحدران من نفس الخلفية، الحياة الشعبية البعيدة عن المدن، وكلاهما يحملان الكآبة السلافية نفسها.
يقول يوني عن كتابة القصة القصيرة: " انا لا اؤمن حقا بان عليك ان تاخذ قصة وتسردها فقط من البداية الى النهاية. تتشابه ثيماتي مع ثيمات (بنتي هانبا) Pentti Haanpää، نفس الخشابين ونفس سفن الشحن غير النظامية، الا ان بناء القصة، الذي يمنح النص ميزته وخصائصه، مختلف- باستخدام التلميحات والقطع المفاجيء بين المشاهد، والحدث يجري في وقت واحد على عدة مستويات مختلفة. اعتقد انه من الخطأ الكتابة عن المجتمع باعتباره مقسما الى طبقات اجتماعية. تكمن وظيفة الكاتب في ان يُظهر بان في كل طبقة اجتماعية يوجد أناس طيبون واخرون سيئون.
تومي كونتيو Tomi Kontio، تولد 1966، اول ظهور له على الساحة الادبية الفنلندية عند فوزه بالجائزة الاولى في مباريات J. H. Erkko للقصة القصيرة عام 1988. وقد تم ترشيحه مرتين لجائزة (رنبرغ)، عن مجموعته القصصية القصيرة (البذيءSäädyttömät، التي صدرت عام 1994، وروايته (الجوهر)، Uumen، الصادرة عام 1995. وقد اصدر (كونتيو) عام 1993 مجموعته الشعرية الاولى (تحت سماء صالة الرقص) ومنحت جائزة J. H. Erkko لافضل اول عمل في عام 1993. ويقوم الان باصدارمجموعته الشعرية الرابعة...
ماريانا اوماستو، Marjaana Aumasto ، تولد 1958، تسكن في هلسنكي مع زوجها وطفليها. اول عمل لها كان المجموعة القصصية الموسومة (الامير، ونساء أخر)Kuningatar ja muita naisia، صدر عام 1989. نشرت، بعد ذلك، الروايات (بيت القمر)، Koti kuin kuu، عام 1991، ورواية (غنية ونحيفة وجميلة) Rikas laiha ja kaunis، عام 1996، و(المراة الوشق)، Ilvesnainen ، عام 1998، ومن المؤمل ان تكون قد اصدرت روايتها الرابعة عام 2004.
Notes :
1) Pekka Tarakka ,"Novelli,"( Helsinki, 1970 )
2) المصدر السابق نفسه
3) المصدر السابق نفسه
4) المصدر السابق نفسه
5) Veijo Meri , " Kasityksiani Novellista , "( Helsinki 1967 )
6) القصة القصيرة في الأدب الفنلندي ، نهاد عبد الستار رشيد ، مجلة الأقلام ، العدد / 9 / 1980
7) ملاحظات واراء عن القصة الفنلندية القصيرة ، نهاد عبد الستاررشيد ، منشورات الرشيد ، 2004 ، بغداد
8) نفس المصدر السابق
9) نفس المصدر السابق
10) Kai Laitinen , Suomen Kirjallisuus K 1917 J 1967 , ( Helsinki , 1967 )
11) نفس المصدر السابق
12) نفس المصدر السابق
13) نفس المصدر السابق
14) Veijo Meri , " Kasityksiani , pp.33, 41-42
15) Kalevi Haikara, Se oli se kultamaa, ( Helsinki- 1969 )
16) نفس المصدر السابق
17) نفس المصدر السابق
18) Pentti Pylkkonen , " Nelja runodebyyttia , "Parnasso 4(1964)



نهاد عبد الستار رشيد
مترجم / قاص / صحفي مستقل