المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لعبة الماء و الغربال



خالد ساحلي
17/01/2007, 11:49 PM
يجلس على الكرسي يترنح يمنة ويسرة ، يدوّح تارة للأمام و أخرى للخلف يداه تحت خاصرته ، رأسه منتصبا تكاد تنكسر رقبته ، عيناه مثبتتين على نقطة معينة لا يراه غيره حتى لو أنك حاولت أن تنظر
و تبحث عن موضع نظره لن تفلح، يستأنس بالهمهمة يتيّه النفس بها
لم تكن الهمهمة صلاة بوذية و لا تعويذة هندوسية و لا كلمات طلاسم فرعونية إنما كانت كلاما مبهما لا يعرف معناه خبير لغات لو حاول ، أصيب من زمن طويل بهذه الحالة المرضية الخطيرة ، كان عاملا محترما في العاصمة ، خدماته كحرفي صباغة تتم بطلب مسبـق
و موعد ،الذي لا يستطيع الانتظار يبحث عن غيره كما كان يقول دائما لزبائنه مازحا ، الكل يعرف أن كلامه طرافة و دعابة ، الجنون أحيانا عبقرية حين لا تجد مكان انفجارها ، يحب صنعته يتحدث عنها كثيرا يتحدث الواحد عما يحب ، لا أحد يملك حقيقة ما جرى لمحمد الشريف
و لا سبب الحالة النفسية التي يعانيها ، من قال أعرف فقد كذب ، لما استقدمه أخاه من العاصمة لم يجد لديه غير حقيبة مملؤة بالألبسة بدلات وقمصان و سراويل وبعض الكتب و دليل ألوان ، كل ما كان يملكه لم يعد له ، الشقة الفاخرة التي أهداها له مدير عام الوزارة ، لا أثاث و لا سيارة حتى أغراضه الشخصية لم تكن في الحقيبة ، عائلته استلمته من مستشفى علاج الحالات النفسية لما رجعوا به لإقليم سكنه الأصلي تابعت عائلته ملفه و أسباب تدهور حالته الصحية ، رفعت شكوى ضد مجهول تتهمه فيها بالاحتيال و التزوير و النصب و التدليس و السرقة وكل التهم التي توصلهم للجاني ، القضاء لم يكن ليفصل في قضية فيها دعاوى لا تستند على أدنى دليل ، لا خيط يقود للجاني ، الأمل الوحيد الذي ربما يوصلهم لحل اللغز هم شركاء صنعته ، لكنهم أخبروا عائلته آخر يوم شاهدوه فيه كان يرتدي بذلة سوداء و نظارات "ريبان" أمريكية ، ذاك اليوم حدثهم كثيرا عن الصورة بمفهومها الشامل وما تحمل من دلالة سياسية و فكرية و اجتماعية و دينية ، أخبروا عائلته أنه ذاك اليوم ضحك كثيرا لأخبار السياسيين و رؤساء الأحزاب ، الأمراء ، الملوك ، الشيوعيين اليمينيين ، المتطرفين ، و الإرهاب عصابات المافيا المالية والسذج قطاع الطرق ، تكلم عن القمم العربية الطارئة و الغير طارئة عن اتفاق العرب الغير متفقين ، على تقسيم فلسطين و أشياء أخرى ، كان مهووسا بالسياسة في رأيه كل من لا يخوض في السياسة هو عميل أو منبطح ، قال لنا أن كبسولة لون أحسن منه ، لأن اللون يخدم قضيته و معناه لأنه خلق له ، من حينها لم نره ، سألت العائلة جيرانه كان جوابا متقاربا ، هو لم يكن له صديق بالمعنى الحقيقي للصداقة لأنه يملك شبكة من علاقات وطيدة مع فنانين ، حقوقيين سياسيين حتى كانت له مخالطات مع بعض المنظمات الحرة ، أكتسب هذه العلاقات بطابع العمل الذي يمارسه و التقاءه مع هؤلاء لم يكن بالصدفة لكن عن طريق خدمات كان يقدمها لأنه يعيل نفسه بحرفة الصباغة و الديكور ، آخر مرة شوهد فيها كان يخرج مع عجوز ترتدي منطو أسود و حذاء مسطّح جلدي و شال على رقبتها برتقالي اللون تحمل معها محفظة جلدية سوداء كبيرة معبأة بالملفات كما تبدو من خلال حملها ووزنها فالثقل باد على يدي حاملها ، العجوز الكل يعرف أنها ممثلة المنظمة الدولية لحقوق الإنسان بهذه المعلومات أخبر أحد أصدقائه العائلة لم تصدق العائلة ذلك لأن العائلة تعرف أبنها لا يحتك بمثل هؤلاء ، لكن العائلة لا تعيش معه و هو لا يذهب للبلدة إلا نادرا كل سنة يزورها مرتين أو ثلاث ، تساءلت العائلة ما علاقته بمثل هؤلاء ؟ تركوا أمر البحث و التقصي لأملاكه للجهات المختصة و المعنية ، الملفت للانتباه أن شقته تسكنها امرأة و تملك وثائق شرائها من محمد الشريف، المصالح الطبية أعطت العائلة ملفه الطبي على أنه إصابة خطيرة أسبابها صدمة نفسية عنيفة أو ما يشبه هذا الطرح .... جلوسه وهمهمته صارا هكذا من حينها، نادرا ما يتكلم و إن تكلم قد يكون كلامه ألغازا
و خلطا في العبارات ، لمّا حان تاريخ المعاينة الشهري ذاك اليوم أعطى العائلة لغزا جعلها تعيد ترتيب أوراق القضية ، ذاك اليوم قال لأخيه : رأيتهم يعطون الرجل الماء و يقولون له غربله بالغربال إن لم تفعل مت عطشا ، إن فعل لن يشرب إلا ما غربله الغربال ، قلت لهم : لن أشرب فأنا أعرف حيلة الغربال أكثر منكم قمت حينها منصرفا تلطفوني لشرب الماء لأني رجل فطن و الخب لا يخدعني ، اكتشفت لعبتهم في الغربال حينها رفضت الغربلة و رفضت الماء أصلا...
سأله أخاه : ماذا فعلت حين رفضت الاثنين معا ، شربت من صنبور الماء الصدأ الذي تفوح منه رائحة الجيف ، ثم عاد للهمهمة و الترنح أماما ثم للخلف.[/size]