ابراهيم درغوثي
19/01/2007, 12:50 AM
الباب الكبير.
قصة قصيرة
ابراهيم درغوثي / تونس
جاء كل الأحباب إلى دارنا ، فهنأوني بالسلامة وفرحوا بقدومي وهم يسألون عن تلك البلاد البعيدة التي جئت منها هذا اليوم .
فحكيت لهم عن الثلج ، وعن الحدائق الجميلة التي تزين الساحات العامة ، وعن النوافير الملونة ، وعن قطار الأنفاق ....
وتمنيت أن يصل وأنا أحكي للشباب خفية عن البنات الجميلات الاتي طالما شاهدوهن من وراء زجاج الحافلات المكيفة أمام النزل السياحية .
ولكنه لم يأت ...
وشربنا الشاي الأخضر بالنعناع . وجاء من تخلف عن الحضور عندما وصلت في أول النهار . ونصب الخوان فأكلنا الكسكسي باللحم وشربنا اللبن . وتحدث الأصدقاء عن غربتهم في بلدهم ، فلعنا الزمن الرديء الذي ما عاد يفرق بين غربة في بلاد الآخر وغربة في بلدك .
وجاء الأقارب من كل مكان ، هنأوا الوالدة بقدومي وشربوا قوارير " الكوكاكولا " ، وذهبوا .
ولكنه لم يأت ...
وجاء المساء .
ولم يأت ...
ولما يئست من قدومه ، طلبت من أمي أن تناديه . قلت لها ، سأصالحه . ربما هو غاضب لأنني نسيته وأنا هناك في تلك البلاد التي تجعل الأم تنسى وليدها ، فلم أف بوعدي ولم أبعث له بالرسائل التي وعدته بها .
لكنها أدارت وجهها وخرجت من الغرفة .
ولم يأت ...
وانتهت السهرة ، وغادر آخر المهنئين المنزل فطلبت من أمي أن تترك الباب مفتوحا . قلت ، لعله يأتي عندما تهدأ الحركة فيعاتبني ونحن وحدنا بلا حسيب ولا رقيب .
ولكنه لم يأت ...
وأغلقت أمي الباب بعدما أطفأت جهاز التلفزيون وجاءت تتمدد بجانبي فوق السرير ، فقلت لها :
- لماذا لم يات عبد الشافي لزيارتي يا أمي ، هل أنتم وإياه في خصام ؟
قالت ، بعد تردد :
- عبد الشافي مات يا ولدي ...
قلت مهزوزا ، مهدودا ، مفجوعا :
- لا ... أبدا ... هذا لا يمكن ، فلن يقدر على عبد الشافي حتى ملك الموت .
ردت أمي على احتجاجي الكافر وهي تربت على كتفي :
- لا يا ولدي لا تعد لمثل هذا الكلام ، فتلك حكمة الرب ولا احتجاج على إرادة الله ...
ثم أخذت رأسي في حضنها وانخرطنا في بكاء مرير .
بعد مدة مسحت دموعها وهمهمت :
- مات عبد الشافي . قتله ابن عمه يا ولدي ...
قلت في استغراب :
- ابن عمه ؟
قالت وابتسامة صفراء مرسومة فوق شفتيها :
- نعم ... قتله عندما حكى له عن المستشفى .
كان كلما لقيه في الغابة أو في المنزل أو في الشارع إلا وحكى له عن " الخبز " المكدس هناك .
قال له إنه كان ينام فوق سرير دي شراشف بيضاء نظيفة ، وإنه كان يأكل كل صباح الخبز والزبدة والمعجون وبيضة ، وإن قطع اللحم في صحون الغداء والعشاء كانت أكبر من جمع اليد .
وحكى له عن أكداس صناديق البسكويت التي كان الزوار يحملونها له ، وعن " السجاير " التي ما عاد يعرف ماذا يفعل بها ، وعن الممرضات الجميلات اللاتي كن يبتسمن وهن يبدلن له الضمائد أو يفرشن له الملاحف ، أو يخزنه بالحقن .
كان يقول :
- آخ يا عبد الشافي ، إن الإبر من أيديهن أحلى من طعم العسل .
فصار عبد الشافي يرد على من يكلمه أو يسلم عليه بحنق وغضب . و كان غضبه يزداد أكثر إذا تمنى له محدثه الصحة والعافية .
- كيف أنت يا عبد الشافي ظ
- لست مريضا .
- لا أراك الرب مرضا يا أخي . الصحة كنز الفقراء .
- أنا أحب المرض يا صاحبي . أنا ارغب في النوم في المستشفى .
- اسعد فألك يا رجل . مالك والمستشفى ؟
- أريد النوم فوق سرير وأكل الخبز و الزبدة كل يوم .
- وهل يوجد ما ذكرت في المستشفيات ؟
- يوجد مثله ، وأكثر . جرب وسترى .
- معاذ الله يا أخي .
- أما أنا ، فإنني أتمنى الساعة التي ألج فيها أبواب المستشفى .
هكذا كان يحدث أصحابه . إلى أن كان يوم من أيام الشتاء الفارط . كانت منهمكا في العمل عندما عنت له فكرة عجيبة . قال :
لماذا لا أشج رجلي بالمسحاة فأحدث بها جرحا . وهكذا أجد الباب الكبير ، باب المستشفى مفتوحا في وجهي .
وضرب رجله بالآلة الحديدية الحادة ، فشجها شجا عميقا
سال منه دم غزير استبشر له عبد الشافي وفرح به .
كان كلما رفع رجله سال دم غزير على الأرض ، فقص خرقة ربط بها الجرح وذهب إلى المستشفى .
عندما وصل إلى قاعة العلاج كان الطبيب المداوم على وشك المغادرة فاستوقفته ممرضة وترجت معاينة رجل عبد الشافي .
- ما بك يا رجل ؟
- رجلي سيدي الطبيب ...
- ما بها رجلك ؟
- ضربتني المسحاة ، فصارت كما ترى ...
كانت بقعة كبيرة من الدم قد تجمعت تحت رجله . وكان قلبه يرتجف وركبتاه تصطكان .
لا بأس عليك يا رجل . أنت أقوى من جمل .
قالها الطبيب ولم ينزع عن الجرح الخرقة ليرى ما تحتها ثم نادى :
يا محمود ، أغسل لهذا الرجل جرحه وضع عليه ضمادة وتحرك الطبيب نحو الباب .
لحظتها فقط أفاق عبد الشافي من بهتته ، فجرى وراء الطبيب ودمه يلطخ جليز الممشى .
- إذن ، لن أنام في المستشفى يا سيدي ؟
فزجره الطبيب :
- وهل ينام في المستشفى كل من به جرح يا رجل ؟
وذهب ، ولم يلتفت للكلام الكثير والسباب القبيح الذي أطلقه عبد الشافي وراءه .
وجاء الممرض ، فغسل له جرحه ووضع عليه ضمادة ودعاه إلى مغادرة المكان .
خرج عبد الشافي إلى الشارع يجر رجله جرا .
لماذا أيها الطبيب تحرمني من النوم في غرف المستشفى النظيفة ؟
أنا لا أريدك أن تغسل الجرح . ولا أن تداويه وتضع عليه الضمادات النظيفة ، فالخرقة وحدها تكفي .
الخرقة مع اللحم والزبدة والخبز السخن وأكداس صناديق البسكويت وعلب السجائر والسرير العالي وإبر الممرضات الجميلات ، تكفي لشفاء هذا الجرح .
لماذا شججت رجلي بالمسحاة أيها الطبيب ؟
لماذا تركت كل هذا الدم يسيل ؟
لماذا يفغر هذا الجرح فاه كفاه الكلب ؟
قل لي أيها الطبيب الكلب ، لماذا كدت أقسم رجلي إذا كنت ستمنعني من النوم على سرير المستشفى ؟
كان عبد الشافي يهذي في الشاعر وفي البيت ....
وكان الجرح يتعفن ... ، إلى أن تخشب جسمه فما عاد في مقدوره الأكل والكلام ...
وجاءت سيارة الإسعاف ...
لكن الرجل مات أمام الباب الكبير .
باب المستشفى .
dargouthibahi@yahoo.fr
قصة قصيرة
ابراهيم درغوثي / تونس
جاء كل الأحباب إلى دارنا ، فهنأوني بالسلامة وفرحوا بقدومي وهم يسألون عن تلك البلاد البعيدة التي جئت منها هذا اليوم .
فحكيت لهم عن الثلج ، وعن الحدائق الجميلة التي تزين الساحات العامة ، وعن النوافير الملونة ، وعن قطار الأنفاق ....
وتمنيت أن يصل وأنا أحكي للشباب خفية عن البنات الجميلات الاتي طالما شاهدوهن من وراء زجاج الحافلات المكيفة أمام النزل السياحية .
ولكنه لم يأت ...
وشربنا الشاي الأخضر بالنعناع . وجاء من تخلف عن الحضور عندما وصلت في أول النهار . ونصب الخوان فأكلنا الكسكسي باللحم وشربنا اللبن . وتحدث الأصدقاء عن غربتهم في بلدهم ، فلعنا الزمن الرديء الذي ما عاد يفرق بين غربة في بلاد الآخر وغربة في بلدك .
وجاء الأقارب من كل مكان ، هنأوا الوالدة بقدومي وشربوا قوارير " الكوكاكولا " ، وذهبوا .
ولكنه لم يأت ...
وجاء المساء .
ولم يأت ...
ولما يئست من قدومه ، طلبت من أمي أن تناديه . قلت لها ، سأصالحه . ربما هو غاضب لأنني نسيته وأنا هناك في تلك البلاد التي تجعل الأم تنسى وليدها ، فلم أف بوعدي ولم أبعث له بالرسائل التي وعدته بها .
لكنها أدارت وجهها وخرجت من الغرفة .
ولم يأت ...
وانتهت السهرة ، وغادر آخر المهنئين المنزل فطلبت من أمي أن تترك الباب مفتوحا . قلت ، لعله يأتي عندما تهدأ الحركة فيعاتبني ونحن وحدنا بلا حسيب ولا رقيب .
ولكنه لم يأت ...
وأغلقت أمي الباب بعدما أطفأت جهاز التلفزيون وجاءت تتمدد بجانبي فوق السرير ، فقلت لها :
- لماذا لم يات عبد الشافي لزيارتي يا أمي ، هل أنتم وإياه في خصام ؟
قالت ، بعد تردد :
- عبد الشافي مات يا ولدي ...
قلت مهزوزا ، مهدودا ، مفجوعا :
- لا ... أبدا ... هذا لا يمكن ، فلن يقدر على عبد الشافي حتى ملك الموت .
ردت أمي على احتجاجي الكافر وهي تربت على كتفي :
- لا يا ولدي لا تعد لمثل هذا الكلام ، فتلك حكمة الرب ولا احتجاج على إرادة الله ...
ثم أخذت رأسي في حضنها وانخرطنا في بكاء مرير .
بعد مدة مسحت دموعها وهمهمت :
- مات عبد الشافي . قتله ابن عمه يا ولدي ...
قلت في استغراب :
- ابن عمه ؟
قالت وابتسامة صفراء مرسومة فوق شفتيها :
- نعم ... قتله عندما حكى له عن المستشفى .
كان كلما لقيه في الغابة أو في المنزل أو في الشارع إلا وحكى له عن " الخبز " المكدس هناك .
قال له إنه كان ينام فوق سرير دي شراشف بيضاء نظيفة ، وإنه كان يأكل كل صباح الخبز والزبدة والمعجون وبيضة ، وإن قطع اللحم في صحون الغداء والعشاء كانت أكبر من جمع اليد .
وحكى له عن أكداس صناديق البسكويت التي كان الزوار يحملونها له ، وعن " السجاير " التي ما عاد يعرف ماذا يفعل بها ، وعن الممرضات الجميلات اللاتي كن يبتسمن وهن يبدلن له الضمائد أو يفرشن له الملاحف ، أو يخزنه بالحقن .
كان يقول :
- آخ يا عبد الشافي ، إن الإبر من أيديهن أحلى من طعم العسل .
فصار عبد الشافي يرد على من يكلمه أو يسلم عليه بحنق وغضب . و كان غضبه يزداد أكثر إذا تمنى له محدثه الصحة والعافية .
- كيف أنت يا عبد الشافي ظ
- لست مريضا .
- لا أراك الرب مرضا يا أخي . الصحة كنز الفقراء .
- أنا أحب المرض يا صاحبي . أنا ارغب في النوم في المستشفى .
- اسعد فألك يا رجل . مالك والمستشفى ؟
- أريد النوم فوق سرير وأكل الخبز و الزبدة كل يوم .
- وهل يوجد ما ذكرت في المستشفيات ؟
- يوجد مثله ، وأكثر . جرب وسترى .
- معاذ الله يا أخي .
- أما أنا ، فإنني أتمنى الساعة التي ألج فيها أبواب المستشفى .
هكذا كان يحدث أصحابه . إلى أن كان يوم من أيام الشتاء الفارط . كانت منهمكا في العمل عندما عنت له فكرة عجيبة . قال :
لماذا لا أشج رجلي بالمسحاة فأحدث بها جرحا . وهكذا أجد الباب الكبير ، باب المستشفى مفتوحا في وجهي .
وضرب رجله بالآلة الحديدية الحادة ، فشجها شجا عميقا
سال منه دم غزير استبشر له عبد الشافي وفرح به .
كان كلما رفع رجله سال دم غزير على الأرض ، فقص خرقة ربط بها الجرح وذهب إلى المستشفى .
عندما وصل إلى قاعة العلاج كان الطبيب المداوم على وشك المغادرة فاستوقفته ممرضة وترجت معاينة رجل عبد الشافي .
- ما بك يا رجل ؟
- رجلي سيدي الطبيب ...
- ما بها رجلك ؟
- ضربتني المسحاة ، فصارت كما ترى ...
كانت بقعة كبيرة من الدم قد تجمعت تحت رجله . وكان قلبه يرتجف وركبتاه تصطكان .
لا بأس عليك يا رجل . أنت أقوى من جمل .
قالها الطبيب ولم ينزع عن الجرح الخرقة ليرى ما تحتها ثم نادى :
يا محمود ، أغسل لهذا الرجل جرحه وضع عليه ضمادة وتحرك الطبيب نحو الباب .
لحظتها فقط أفاق عبد الشافي من بهتته ، فجرى وراء الطبيب ودمه يلطخ جليز الممشى .
- إذن ، لن أنام في المستشفى يا سيدي ؟
فزجره الطبيب :
- وهل ينام في المستشفى كل من به جرح يا رجل ؟
وذهب ، ولم يلتفت للكلام الكثير والسباب القبيح الذي أطلقه عبد الشافي وراءه .
وجاء الممرض ، فغسل له جرحه ووضع عليه ضمادة ودعاه إلى مغادرة المكان .
خرج عبد الشافي إلى الشارع يجر رجله جرا .
لماذا أيها الطبيب تحرمني من النوم في غرف المستشفى النظيفة ؟
أنا لا أريدك أن تغسل الجرح . ولا أن تداويه وتضع عليه الضمادات النظيفة ، فالخرقة وحدها تكفي .
الخرقة مع اللحم والزبدة والخبز السخن وأكداس صناديق البسكويت وعلب السجائر والسرير العالي وإبر الممرضات الجميلات ، تكفي لشفاء هذا الجرح .
لماذا شججت رجلي بالمسحاة أيها الطبيب ؟
لماذا تركت كل هذا الدم يسيل ؟
لماذا يفغر هذا الجرح فاه كفاه الكلب ؟
قل لي أيها الطبيب الكلب ، لماذا كدت أقسم رجلي إذا كنت ستمنعني من النوم على سرير المستشفى ؟
كان عبد الشافي يهذي في الشاعر وفي البيت ....
وكان الجرح يتعفن ... ، إلى أن تخشب جسمه فما عاد في مقدوره الأكل والكلام ...
وجاءت سيارة الإسعاف ...
لكن الرجل مات أمام الباب الكبير .
باب المستشفى .
dargouthibahi@yahoo.fr