المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مهرجاناتنا .. الواقع والمفترض : د / لطفي زغلول



لطفي زغلول
20/07/2009, 05:59 AM
مهرجاناتنا .. الواقع والمفترض

د / لطفي زغلول - نابلس

تشهد مدينة نابلس جبل النار هذه الأيام مهرجانا للتسوق يقام لأول مرة في محافظات الوطن الفلسطيني يستغرق شهرا من الزمان . والمهرجانات أيا كان شكلها ونوعها تشكل ظاهرة صحية هدفها النهوض بالوطن ، والتأكيد على أنه حي على خارطة الدنيا ، وأنه قادر على العطاء حتى في أقسى الظروف وأشدها وأصعبها ، كونه محاصرا من قبل قوات الإحتلال . إنها باختصار تحد للذات وللآخر المتمثل بهذا الإحتلال .
في حديثنا عنها نود ان ننطلق من ان المهرجانات ، تشكل احدى اهم التظاهرات التي تترجم الرؤى الثقافية لأية جماعة انسانية متحضرة الى فعاليات ابداعية على ارض الواقع . وبالتالي فهي تحيلها الى مشهد ثقافي مميز ذي خصوصية يصور الزمان الثقافي بابعاده الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل . وهي ايضا خطاب توجهه هذه الجماعة الى ابنائها عبر المكان الذي تقيم فيه على الدوام او تتواجد فيه ايا كان ، وتستهدف من خلاله تدعيم بنى الانتماء الى قيمها ومثلها العليا .
علاوة على ذلك ، فهي تبغي الظهور امام الجماعات الانسانية الاخرى بالمظهر الذي يعكس تميزها وتفردها وجوهر محليتها وجوانب شخصيتها الابداعية والسلوكية المتحضرة الأخرى . وبمعنى آخر فان المهرجانات هي بمثابة اعياد واحتفالات ثقافية وفنية وسياحية واقتصادية تتجلى فيها كافة اشكال الابداعات الملونة بالأصالة والمطعمة بالحداثة ، والتي في مجموعها تؤكد على ديمومة هذه الجماعة الانسانية في العطاء والابتكار والتصور والتخيل والتشكيل ، وهي المنظومة الابداعية التي تمنح الوجود معنى له ، في حين ان خلوه منها هو الاندثار .
في مقدمة حديثنا عن المهرجانات العربية سواء المحيطة بفلسطين او الفلسطينية والتي اخذت تشكل ظاهرة ملموسة خلال السنوات الاخيرة ، لا بد لنا من طرح مجموعة من الاسئلة تتناول الاهداف المتوخاة من عقدها والجهات التي يفترض ان تخطط لها ، وتقوم بتنفيذها على ارض الواقع وتشرف عليها وتتابعها . اضافة الى السؤال الاكثر الحاحا " لمن تعقد هذه المهرجانات ؟ " .
وتظل هناك قضايا اخرى على جانب من الاهمية تتناول موضوع تعددية المهرجانات في القطر الواحد وما ينجم عنها من اشكاليتي الكم والنوع . وتلك اسئلة في مجموعها ينبغي التصدي لها والاجابة عنها بهدف تكوين صورة مهرجانات فاعلة تتمتع بمصداقية وشمولية ودرجة عالية من الاعداد والتخطيط والتنفيذ والتقويم والمتابعة ، وبالتالي قبول الجماهير المعنية وتفاعلها معها واستقراء مغازيها وغاياتها الأخرى .
في تاريخ العالم العربي الحديث يعتبر مهرجان بعلبك اللبناني الذي اقيم في احضان آثار بعلبك الفينيقية اول المهرجانات العربية ورائدها ، وتلاه فيما بعد مهرجانا قرطاج في تونس ، وجرش في الاردن الذي أصبح يسمى مهرجان الأردن ، ونذكرها هنا مثالا لا حصرا . ويلاحظ انها جميعا تستند الى التاريخ وتحتضنه ، بل انها تنطلق منه حتى تكسبها امتدادا تراثيا وعراقة واصالة ، مع ان معظم فعاليات هذه المهرجانات لا تمت في كثير من الاحيان بصلة الى هذا التاريخ ، الا كونها تحمل اسماء من كنوزه .
وعلى ما يبدو فان مصطلح مهرجان – والكلمة بكسر الميم ، اصلها فارسي وتعني عيد الفرس ، وقد استخدمت عربيا بوتيرة متزايدة بعد منتصف هذا القرن - قد راق لكثير من منظمي الاحتفالات فأطلقوه على فعاليات فنية اخرى كالغناء والموسيقى والمسرح والتلفاز والسينما والرياضة باشكالها والتسوق .
وفيما بعد اطلق على مواسم القطاف كالتين والزيتون والعنب وغيرها . وفي هذه الايام فنحن نسمع عن مهرجانات خطابية وتسويقية وسياحية وغيرها الكثير . وهنا لا بد لنا من الحديث عن ما يفترض ان يشكل قاعدة اهداف معقولة متوخاة من أي مهرجان يعلن عنه . فالى جانب بث روح الفرح والمرح والنشاط وديمومة العطاء والتجلي ، فان ابراز الهوية الثقافية والحفاظ عليها من غائلة الذوبان في الآخر في عصر العولمة الثقافية التي تتهدد ثقافات العالم الثالث وانتماءاتها الاخرى ، يفترض ان تكون في رأس قائمة الاهداف المعلنة .
وانبثاقا من هذا الأهداف ، يشكل التراث اساسا ينبغي التأكيد عليه منطلقا ومنار هداية لا يفترض الوقوف عنده فحسب ، وانما العمل على تطويره بما يتلاءم وروح العصر . ومما لا شك فيه ان ابراز الابداعات بكافة اشكالها الفنية والادبية والمسرحية وغيرها وعرضها على المتلقين هو بمثابة هدف لا يمكن الاستغناء عنه ، ذلك انه يعمل بصورة حثيثة على تعهد الابداعات والكفاءات ايا كان شكلها وتطويرها بما تستحقه من عناية ورعاية ومأسسة متطورة لأنشطتها . وهنا وفي غمرة هذه الأهداف المعلنة تنخرط مجموعة اهداف اخرى غايتها خدمة الاقتصادات الإقتصادية والسياحية والترفيهية والاعلامية والفنية وغيرها .
وفي هذا الصدد يجدر بادىء ذي بدء التنويه الى ان هذه الاهداف يفترض بها ان تعمل تحت مظلة اللاربحية ، الامر الذي يفرض ان تكون هذه المهرجانات مدعومة اساسا من الجهات الرسمية العليا ، كما لا ينبغي اغفال مبدأ العدالة والمساواة والموازنة في تعهد الأنشطة والفعاليات المهرجانية بحيث لا تطغى فعالية على اخرى او فن على آخر .
ان شمولية فعاليات أي مهرجان وتعددها يمكن ان تستقطب اكبر عدد من المشاهدين المتلقين ، في حين ان اختصارها واقتصارها على شكل ابداعي دون آخر كفيل – وان ادى الى ربحية عالية كما هو الحال في المهرجانات الغنائية – ان يحول دون تحقيق بقية الاهداف الاخرى للمهرجان وحتى ان يفقده مبررات عقده او اسمه وان يتحول والحال هذه الى مجرد حفل غنائي على شرف مطرب او فنان او اكثر .
في اعتقادنا انه ليس ثمة جهة بحد ذاتها يفترض ان تكون مسؤولة عن التخطيط لهذه المهرجانات وتنفيذها وتقييمها ومتابعتها ، او الاشراف عليها . الا انه وبحكم تجارب الأقطار المتقدمة في عقد مثل هذه المهرجانات لا بد من الاستفادة من خبرتها . ففي بلدانها تتكون هذه الجهة العليا التي يطلق عليها مسمى – الهيئة العليا للمهرجانات الوطنية – من قطاعات رسمية تشمل الثقافة والسياحة والبلديات والمحافظات الى جانب ممثلين عن المراكز الثقافية والفنية التي يمكن ان ترفد هذه المهرجانات بفعالياتها وانشطتها . وهنا لا ينبغي اغفال دور الإبداع والمبدعين .
ويفترض بهذه الهيئة ان تعمل على تطوير مواصفات ومعايير خاصة بالمهرجانات كيما تفرضها وتعممها كشرط سابق لعقد أي منها . ان هذه التشكيلة المشرفة على أي مهرجان كفيلة بان تضمن له قسطا معقولا من النجاح وتحقيق الاهداف المتوخاة في حين ان الانفراد من قبل جهة ما وحدها ، او عدم وجودها على الاطلاق يمكن ان يؤدي الى عكس ذلك ، او ان يحد من مستوى النجاح ودرجته او ان يشكل كسبا فرديا خاصا بعيدا عن كونه عاما .
في فلسطين تتعدد المهرجانات وتتزايد عاما بعد عام ، الا ان ثمة تحفظات يمكن ان تثار حول كثير منها كونها تفتقر الى البنية الاساسية التي يفترض بأي مهرجان ان يقوم عليها ويشكلها . ونقصد بهذا – المكان والاجهزة والطواقم الفنية والتقنية والخبرات الانسانية والتمويل - وهي بالتالي لا ينطبق عليها الحد الأدنى من مواصفات المهرجانات ومقاييسها . ومما لاشك فيه أن الإحتلال يلعب دورا رئيسا في محدودية هذه المواصفات والمقاييس التي ذكرناها .
ومن جهة أخرى فهي غالبا ما تعاني من مشكلة التكرار والافتقار الى الابداعات المحلية واعتمادها بالتالي على الفرق الفنية من خارج الوطن عربية كانت او غير عربية . وهنا نؤكد على ضرورة الحفاظ على الصبغتين الوطنية والقومية لأي مهرجان ، والانتباه الى الموازنة بين المحلي والمستورد . وثمة ملاحظة هامة اخرى كون هذه المهرجانات تركز على فعاليات الغناء وهي الاكثر رواجا وربحا كما يبدو .
ثمة ملاحظة أخرى على جانب كبير من الأهمية ، تتمثل في كون الساحة الفنية والثقافية قد أقفرت من مهرجانات هادفة للأطفال وفئات الشباب . وثمة ملاحظة هي الأخيرة لا الأخرى ، تخص الشعر والشعراء فقد لوحظ أن بعض المهرجانات تخصص مساحة هامشية لفعالية شعرية " جبر خواطر " ، يكون روادها بالقياس مع رواد الفعاليات الأخرى محدودا للغاية . وحفاظا على الشعر واحتراما لدوره في المشهدين الثقافي والنضالي ، يفترض أن يكون هناك مهرجانات خاصة به . وبطبيعة الحال ، فان المهرجانات التراثية تظل هي الأساس .
كلمة أخيرة . إن المهرجانات تظاهرة حضارية ، تجسد المشهد الثقافي للأمة ، ومرآة تعكس كافة أشكال إبداعاتها . وهي مدرسة تعمل على تعميق الإنتماء للوطن والهوية والتاريخ والتراث ، وتحافظ على منظومة التميز والتفرد والخصوصية للأمة . ويفترض لكي تؤدي رسالتها ، أن يعد لها الإعداد الكامل ، وأن تعمل على خط تحقيق الأهداف المرسومة لها في اطار المواصفات والمقاييس التي يفترض أن تخضع لها .