معروف محمد آل جلول
30/07/2009, 06:02 PM
العولمة .. أسر للأمة.
________________________________________
هل الأدب وحده من يدفع الأخطار عن الأمة؟
وما شروط ذلك قلت أهميته أم كثرت؟
بداية نذكر أن السياسة والأدب في حوار مفتوح غير متناهٍ، يتبادلان فيه التأثر والتأثير.. إن اختلفا تغالبا، وقضى الغالب على المغلوب، وإلا فمصيرهما الاضمحلال ثم التلاشي.. فالإبادة.. هنا تكمن فاعلية هذا الموضوع، والدواعي الحقيقية لتناوله.. ذلك أن الكلمة ليست مجرد رصاصة.. بل الكلمة خاصة في عصرنا الذي تيسّر فيه الاتصال، أصبحت هي القنبلة النووية، لأنها تبني أمة كما تهدم أخرى.. الحرب أراها فكرية بالدرجة الأولى،" فالفكرة دائما تسبق العمل"...
هل تنفرد العولمة وحدها بالأخطار المحدّقة بالأمة؟ وقد صاحبتها ملكية تكنولوجية متطورة تزيدها قوة وتفوقا، تختصر لها المسافات، وتقلص لها الزمن..
وإذا كانت التكنولوجيا المتخصصة في مجال وسائل الاتصال الحديث من فضائيات وانترنيت.. قد سخّرتها كل الأمم في العالم لخدمتها..
وإذا كانت كل أمة تجتهد في اختيار ما تقدم للمشاهد، وتوجه أنشطتها الثقافية المميزة لها إلى مختلف أرجاء الكرة الأرضية..
ألا يكون هناك تبادل ثقافي على الأقل.. ألا يحدث تأثر وتأثير.. ألا يحتمل أن تسلب ثقافة مميزة عقول مجتمع بأسره، أو مجموعة أفراد فتشدهم إليها، وتبهرهم فينسلخون من مجتمعاتهم ويذوبون في الجديد الوافد، ويضمرون أو يعلنون انتماءهم الفكري إليها.. إنها سياسة الغالب والقوي والفاعل.. وليس دائما تاجر العولمة هو النافذ لأن بضاعته لا تروج إلا بعسر..
إن أخطر ظاهرة في هذا التجاذب الثقافي هو ما اصطلح عليه العلماء بـ: "القطيع الالكتروني" من مؤسسات متعددة الجنسيات.(1)فتتشكل كما هي الآن منظمات عالمية، وأحزاب عالمية، وتنفذ في المجتمعات حتى تسيطر وتنال الحكم.. لكن الأكيد المؤكد أن هذه الأحزاب لن تصير عالمية ما لم تتبن القيم الإنسانية النبيلة التي هي في الأصل قيم إسلامية.. كما يتأكد أنه لن تقوم قائمة "العالمية "لأي نظام يتعارض مع الإسلام.. هذه حقيقة لأنه النظام العالمي الوحيد الذي يضمن كرامة الإنسان فعلا وتطبيقا..
وتبقى حيرة العامة قائمة حول إذا ما كانت تتمكن "القرية العالمية" التي تنبّأ بها مارشال ماك موهن 1962، وجعلها بشرى" النظام العالمي الجديد"، أن تختصر العالم بمذاهبه المتعددة، وثقافاته المتنوعة، في قرية؟؟.. وهل تتحكم هذه القرية العالمية في كل العالم فيصير قرية؟؟.. وتتحول هيئة الأمم المتحدة إلى مجلس الأمة الواحدة، تقوده القرية العالمية.. وهل يمكن للعالم أن يسير بقانون واحد.. منظومة عالمية واحدة؟؟..
هذه مجرد أماني، وأضغاث أحلام، تراود طواغيت، أغرتهم قوتهم العلمية التكنولوجية، فظنوا أن القوة المادية قادرة على حكم العالم.. والسبب بسيط، أن الأمة لا تكون أمة إلا إذا اختلفت عن غيرها إيديولوجيا.. والإيديولوجية هي مصدر تشريع يوجه الإنسان ويضبط سلوكه في مختلف ميادين الحياة.. لذا نقول: الأمة الإسلامية، الأمة الغربية.. ولكل أمة مقومات شخصية تمنعها من الانسلاخ والذوبان، وتدعوها إلى الحصانة والمقاومة.. لذا نادى بعض المفكرين: بـ "عالم متعدد الأقطاب". حتى يحدث توازن بين الأمم.
والنظام العالمي الجديد الذي هوـ في أصله ـ (عولمة العلمانية) يركز أكثر على الأمة الإسلامية، لأنها تحمل مذهب إيديولوجي نقيض هو بمثابة: "النظام العالمي الصحيح".. صحيح لأن الشريعة الإسلامية مُلْزِمةُ لمعتنقيها باتباع طريق واحد.. وترسم سبل التعامل مع الآخر في مجال التواصل والتعامل: السلم ـ العدالة ـ الحرية ـ الحق ـ الواجب ... حتى أثناء الجدل الذي هو باعث الصراع والاختلاف، المسلم ملزم بالجدل "بالتي هي أحسن"(2) أي مراعاة حرمة المجادل ومحاولة إقناعه فكريا بحجج عقلية، دون إثارته أو استفزازه..
إن هذا النظام الإسلامي لا يقبل الإدماج في نظام آخر، بل يأخذ ما يوافقه فيذوب فيه تابعا ؛لامتبوعا، ويترك ما يعارضه.. ولا يرضىالمذهب الإسلامي إلا باستقلاليته.. نحن أمة تغزو العقول ولا تغزى لأنها تملك الحقيقة.. وتملك الروح الموصولة بربها ولا تتلقى الأوامر والنواهي إلا منه، ولا تطيع إلا أولي الأمر منها.
ولكن هذه العولمة التي رافقتها حملة إعلامية ثقافية شرسة دخلت بيوت المسلمين.. هل لها من مخاطر؟ هل تستطيع أن تطمس معالم الشخصية المسلمة.. فتصير الرقعة الأرضية مجرد دشرة في قرية خربة.. وهذه العولمة هل نصدها أم نتبعها؟
هنا يأتي دور الأديب والمفكر والعالم والسياسي الحاكم.. والجولة الطويلة التي قضاها المسلمون في صراعهم المرير مع الاستعمار .. هي من ستجيب. وما العولمة إلا استعمار في ثوب جديد..
إن حرية الأديب من حرية المجتمع، والمجتمع منضبط بضوابط منهجه الإيديولوجي، فهذه الحرية مهما توسعت آفاقها فهي مقيدة بقيود المجتمع.. والأديب أديب لأنه يبدع.. يجدد المنهجية والنصوص والأفكار والأسلوب في التعاطي مع الحياة.. فهو يخرج عن المألوف المتعارف في الأدب لكن دائما في إطار ضمن مذهب الأمة.. فلسفتها.. إيديولوجيتها.. مقومات شخصيتها.. هُويتها.. كلها مرادفات لمصطلح واحد.
فإذا ما خرج عن هذه الأصول والمصادر، لا يجد متعاطفا معه.. لأنه خالف الشعور الجمعي.. كمثال ؛هذا ما جعل الأديب الجزائري قبل الثورة وأثناءها وبعدها يعبر عن حال المجتمع، فهو القلب النابض في جسده.. فبعد قرن وربع من الاستعمار، وبعد أن أعلنت فرنسا أن الجزائر فرنسية أرضا وثقافة.. ظهر النثر والشعر مطالبا بالحرية والانعتاق داعيا إلى التمسك بهُوية الأمة، مجندا المجتمع للانسياق إلى التحرر.. فبعد أن توالى معدل ثلاثة أجيال تحت الحكم الفرنسي الذي اجتهد في منع تدريس اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم، ليثبت أنه أبشع استعمار على وجه الأرض.. تفاجأ بأمة قائمة بفلسفتها.. حتى الذين درستهم الفرنسية أمثال مولود فرعون ـ مالك حداد ـ آسيا جبار ـ نددوا بالاستعمار وكشفوا نواياه الخبيثة ودعوا شعبهم إلى الثورة.. وكان الاستقلال الذي شارك فيه كل الأدباء الجزائريين معربين ومفرنسين..
لنلاحظ كيف يرجع الشيخ محمد العيد آل خليفة ـ رحمه الله ـ الرأي إلى المرجعية الشعبية، لمّا اختلفت الأحزاب السياسية في الجزائر حول دستور 1947 الذي سنته فرنسا:
قف حيث شعبك مهما كان موقـفـه -- أَوْلاَ، فإنك عضو منه منحســــم
تـقول أضحى شتـيت الرأي منقسما -- وأنت عنه شتيت الرأي منقسـم
فكن مع الشعب في القول و في العمل -- إن كنت بالرجل الشعبي تتسـم
ولا يرقك شـفيف الــذات مائعـهـا -- كالماء فيه وجوه الناس تــرتســــم
أعدى عدى القوم من يُعزى لهم نسبا -- و يسمع القدْحَ فيهم وهو يتســـــم
(3)
ومن مظاهر الانبهار والاستلاب، أولئك الذين سخّروا اللغة العربية لخدمة الفكر الغربي ومصالحه في أمتهم، وقد عبّر عنهم الشيخ البشير الإبراهيمي متحدثا عن منزلة المثقفين في الأمة...
"... فإن التباعد بين المثقفين وخصوصا بين أهل الثقافة العربية والثقافة الأوربية، أدّى إلى فتح الباب وكثرة المتطفلين، فأنا من وجهتي لا أرضى بحال أن أحْشُر في زمرة المثقفين كل من يكتب بالعربية الصحيحة مقالة في جريدة ولا كل من يستطيع أن يخطب في المجتمع..."(4)
وما الجزائر إلا جزء في الأمة الإسلامية إذْ نفس الخلاصة انتهى إليها د. عبد العزيز الرفاعي في محاضرة بعنوان: "التراث" أثارت ضجة واسعة في 1968، حيث يقول:
"إن بعض المثقفين يصطنع طرائق جديدة للتعبير ذات ظلال فكرية غريبة عن المناخ العربي.. استعملوا الحرف العربي، ولكنهم كانوا يفكرون بعقول غير عربية أو بعقول انفصمت كليا عن التراث العربي فهي إنّما تتحدث عن أجواء غربية، ثم لا تطاوعها في ذلك ملكة عربية.. فالملكة العربية إنما هي حصيلة تراث.."(5)
ومن هنا فالحديث عن العولمة وتحدياتها إنما يجرنا إلى الحديث عن خصوصيات الأمة..
إن خصوصيات الأمم تجعل تواجد سلطة عالمية تقود العالم مستحيلا لاستحالة توحيد مصائر المجتمعات.. فالحرية تنقض التبعية.. والعدالة لا تحققها إلا الحرية.. والإسلام هو النظام الوحيد القادر على تحقيق هذه القيم..
إن العولمة التي تجتهد عبر منظومتها في التأثير في النفوس كي تتقبلها راغبة فيها، لا تتوانى أن تمارس الترهيب عند اعتراض سيرها.. ولما كانت استعمارا حديثا يأسر الأمة التي تخضع له، فإن زمن ظهور الشعر السياسي التحريري في العصر الحديث الذي واكب حركات التحرير ضد الاستعمار الغربي للبلدان العربية والإسلامية ليس ببعيد.. وهو متواصل.. وهذا دليل على يقظة الأدب وحضوره الدائم والمصاحب لتقلبات الزمن ونكبات الدهر.وأدب القاومة حاضر بقوة عند كل المبدعين الغيورين..
حينما يتشبع الأديب بمقومات شخصيته الوطنية، ويغوص في عمق إيديولوجيته الإسلامية، يدرك في باطنه يقينا أن هذا المذهب الإسلامي هو الفكر النقيض الذي يواجه الاستعمار بقوة ويقتلعه من جذوره.. فيعمل جاهدا على تمكين فكره الوطني، كما عمل في الماضي، في نفوس المسلمين.. ويبعث الغيرة والحمية في النفوس، ليزيد المجتمع تشبثا بهُوية أمته..
وإذا كان من عبر تاريخية هنا هي أن ما تمسك به المجتمع لا يزول أبداً.. بل مصيره النصر دائما طال الزمن أم قصر..
والأدب الجاد يدعو المتلقي إلى النهوض بالتبعات والتكاليف الفردية والجماعية قصد مواجهة الانحراف والتخلف.. يدعوه إلى مسايرة عصره، وتطوير قدراته.. ويكسبه الثقة في النفس في إطار التنمية البشرية، حينما يغرس فيه القيم الروحية ويحثه على حب مقومات شخصيته حينما يجعلها محل فخر وقوة.. فيبعث حياة الرقي والتطور في مختلف الميادين.. السياسية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ الفكرية..
وما دام الأدب إبداع.. والإبداع يواكب الجديد الطارئ.. فهل واكب الأدب الإسلامي العولمة كموضوع جديد؟ وهل جسد العولمة بكل تفاصيلها وأبعادها في أعماله الإبداعية.. ثم ترجمتها الوسائل السمعية البصرية كالمسرح والسينما، لتصل الخاص والعام من أبناء الأمة، أم اقتصرت على البحوث العلمية.. وتوقف الفهم عند المختصين.. هل المجتمع مجند لمواجهة أخطار العولمة الهادفة إلى إبادته؟؟..
هل تناول الإعلام الظاهرة، وكرّر موضوعاتها وعدّدها ليصل إلى أكبر عدد ممكن، أم اكتفى بالإشارة.. هل المثقف في أمتي يدرك مخاطر العولمة أم هناك فئة ما تزال تعتقد فيها الحرية والنجاة؟
إن الأدب يرفع أقواما ويحط أقوامًا.. وحتى يبلغ هذا المستوى، على الأديب أن يتقن فهم مقومات شخصيته من لغة ودين وتاريخ ليفهم البنية الاجتماعية لقوميته.
ملاحظة :
محاضرة ألقيت في ملتقى تأسيسي وطني بالجزائر مارس 2008 تحت عنوان :
«الأدب الجزائري و تحديات العولمة »
لذا نعتذر عن الاستشهاد من الأدب الجزائري و هي بلد كل المسلمين.
إحالات:
1. العولمة والحياة الثقافية في العالم الإسلامي. د. عبد العزيز بن عثمان تويجري.
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
2. سورة النحل.
3. ديوان محمد العيد.
4. عيون البصائر.
5. الغزو الغربي: عبد الله عبد الجبار ص 36. دار ثقيف للنشر والتأليف 1980 الطبعة الثالثة.
ملاحظة: سنجعل مستقبلا التوثيق من إبداع واتا..
________________________________________
هل الأدب وحده من يدفع الأخطار عن الأمة؟
وما شروط ذلك قلت أهميته أم كثرت؟
بداية نذكر أن السياسة والأدب في حوار مفتوح غير متناهٍ، يتبادلان فيه التأثر والتأثير.. إن اختلفا تغالبا، وقضى الغالب على المغلوب، وإلا فمصيرهما الاضمحلال ثم التلاشي.. فالإبادة.. هنا تكمن فاعلية هذا الموضوع، والدواعي الحقيقية لتناوله.. ذلك أن الكلمة ليست مجرد رصاصة.. بل الكلمة خاصة في عصرنا الذي تيسّر فيه الاتصال، أصبحت هي القنبلة النووية، لأنها تبني أمة كما تهدم أخرى.. الحرب أراها فكرية بالدرجة الأولى،" فالفكرة دائما تسبق العمل"...
هل تنفرد العولمة وحدها بالأخطار المحدّقة بالأمة؟ وقد صاحبتها ملكية تكنولوجية متطورة تزيدها قوة وتفوقا، تختصر لها المسافات، وتقلص لها الزمن..
وإذا كانت التكنولوجيا المتخصصة في مجال وسائل الاتصال الحديث من فضائيات وانترنيت.. قد سخّرتها كل الأمم في العالم لخدمتها..
وإذا كانت كل أمة تجتهد في اختيار ما تقدم للمشاهد، وتوجه أنشطتها الثقافية المميزة لها إلى مختلف أرجاء الكرة الأرضية..
ألا يكون هناك تبادل ثقافي على الأقل.. ألا يحدث تأثر وتأثير.. ألا يحتمل أن تسلب ثقافة مميزة عقول مجتمع بأسره، أو مجموعة أفراد فتشدهم إليها، وتبهرهم فينسلخون من مجتمعاتهم ويذوبون في الجديد الوافد، ويضمرون أو يعلنون انتماءهم الفكري إليها.. إنها سياسة الغالب والقوي والفاعل.. وليس دائما تاجر العولمة هو النافذ لأن بضاعته لا تروج إلا بعسر..
إن أخطر ظاهرة في هذا التجاذب الثقافي هو ما اصطلح عليه العلماء بـ: "القطيع الالكتروني" من مؤسسات متعددة الجنسيات.(1)فتتشكل كما هي الآن منظمات عالمية، وأحزاب عالمية، وتنفذ في المجتمعات حتى تسيطر وتنال الحكم.. لكن الأكيد المؤكد أن هذه الأحزاب لن تصير عالمية ما لم تتبن القيم الإنسانية النبيلة التي هي في الأصل قيم إسلامية.. كما يتأكد أنه لن تقوم قائمة "العالمية "لأي نظام يتعارض مع الإسلام.. هذه حقيقة لأنه النظام العالمي الوحيد الذي يضمن كرامة الإنسان فعلا وتطبيقا..
وتبقى حيرة العامة قائمة حول إذا ما كانت تتمكن "القرية العالمية" التي تنبّأ بها مارشال ماك موهن 1962، وجعلها بشرى" النظام العالمي الجديد"، أن تختصر العالم بمذاهبه المتعددة، وثقافاته المتنوعة، في قرية؟؟.. وهل تتحكم هذه القرية العالمية في كل العالم فيصير قرية؟؟.. وتتحول هيئة الأمم المتحدة إلى مجلس الأمة الواحدة، تقوده القرية العالمية.. وهل يمكن للعالم أن يسير بقانون واحد.. منظومة عالمية واحدة؟؟..
هذه مجرد أماني، وأضغاث أحلام، تراود طواغيت، أغرتهم قوتهم العلمية التكنولوجية، فظنوا أن القوة المادية قادرة على حكم العالم.. والسبب بسيط، أن الأمة لا تكون أمة إلا إذا اختلفت عن غيرها إيديولوجيا.. والإيديولوجية هي مصدر تشريع يوجه الإنسان ويضبط سلوكه في مختلف ميادين الحياة.. لذا نقول: الأمة الإسلامية، الأمة الغربية.. ولكل أمة مقومات شخصية تمنعها من الانسلاخ والذوبان، وتدعوها إلى الحصانة والمقاومة.. لذا نادى بعض المفكرين: بـ "عالم متعدد الأقطاب". حتى يحدث توازن بين الأمم.
والنظام العالمي الجديد الذي هوـ في أصله ـ (عولمة العلمانية) يركز أكثر على الأمة الإسلامية، لأنها تحمل مذهب إيديولوجي نقيض هو بمثابة: "النظام العالمي الصحيح".. صحيح لأن الشريعة الإسلامية مُلْزِمةُ لمعتنقيها باتباع طريق واحد.. وترسم سبل التعامل مع الآخر في مجال التواصل والتعامل: السلم ـ العدالة ـ الحرية ـ الحق ـ الواجب ... حتى أثناء الجدل الذي هو باعث الصراع والاختلاف، المسلم ملزم بالجدل "بالتي هي أحسن"(2) أي مراعاة حرمة المجادل ومحاولة إقناعه فكريا بحجج عقلية، دون إثارته أو استفزازه..
إن هذا النظام الإسلامي لا يقبل الإدماج في نظام آخر، بل يأخذ ما يوافقه فيذوب فيه تابعا ؛لامتبوعا، ويترك ما يعارضه.. ولا يرضىالمذهب الإسلامي إلا باستقلاليته.. نحن أمة تغزو العقول ولا تغزى لأنها تملك الحقيقة.. وتملك الروح الموصولة بربها ولا تتلقى الأوامر والنواهي إلا منه، ولا تطيع إلا أولي الأمر منها.
ولكن هذه العولمة التي رافقتها حملة إعلامية ثقافية شرسة دخلت بيوت المسلمين.. هل لها من مخاطر؟ هل تستطيع أن تطمس معالم الشخصية المسلمة.. فتصير الرقعة الأرضية مجرد دشرة في قرية خربة.. وهذه العولمة هل نصدها أم نتبعها؟
هنا يأتي دور الأديب والمفكر والعالم والسياسي الحاكم.. والجولة الطويلة التي قضاها المسلمون في صراعهم المرير مع الاستعمار .. هي من ستجيب. وما العولمة إلا استعمار في ثوب جديد..
إن حرية الأديب من حرية المجتمع، والمجتمع منضبط بضوابط منهجه الإيديولوجي، فهذه الحرية مهما توسعت آفاقها فهي مقيدة بقيود المجتمع.. والأديب أديب لأنه يبدع.. يجدد المنهجية والنصوص والأفكار والأسلوب في التعاطي مع الحياة.. فهو يخرج عن المألوف المتعارف في الأدب لكن دائما في إطار ضمن مذهب الأمة.. فلسفتها.. إيديولوجيتها.. مقومات شخصيتها.. هُويتها.. كلها مرادفات لمصطلح واحد.
فإذا ما خرج عن هذه الأصول والمصادر، لا يجد متعاطفا معه.. لأنه خالف الشعور الجمعي.. كمثال ؛هذا ما جعل الأديب الجزائري قبل الثورة وأثناءها وبعدها يعبر عن حال المجتمع، فهو القلب النابض في جسده.. فبعد قرن وربع من الاستعمار، وبعد أن أعلنت فرنسا أن الجزائر فرنسية أرضا وثقافة.. ظهر النثر والشعر مطالبا بالحرية والانعتاق داعيا إلى التمسك بهُوية الأمة، مجندا المجتمع للانسياق إلى التحرر.. فبعد أن توالى معدل ثلاثة أجيال تحت الحكم الفرنسي الذي اجتهد في منع تدريس اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم، ليثبت أنه أبشع استعمار على وجه الأرض.. تفاجأ بأمة قائمة بفلسفتها.. حتى الذين درستهم الفرنسية أمثال مولود فرعون ـ مالك حداد ـ آسيا جبار ـ نددوا بالاستعمار وكشفوا نواياه الخبيثة ودعوا شعبهم إلى الثورة.. وكان الاستقلال الذي شارك فيه كل الأدباء الجزائريين معربين ومفرنسين..
لنلاحظ كيف يرجع الشيخ محمد العيد آل خليفة ـ رحمه الله ـ الرأي إلى المرجعية الشعبية، لمّا اختلفت الأحزاب السياسية في الجزائر حول دستور 1947 الذي سنته فرنسا:
قف حيث شعبك مهما كان موقـفـه -- أَوْلاَ، فإنك عضو منه منحســــم
تـقول أضحى شتـيت الرأي منقسما -- وأنت عنه شتيت الرأي منقسـم
فكن مع الشعب في القول و في العمل -- إن كنت بالرجل الشعبي تتسـم
ولا يرقك شـفيف الــذات مائعـهـا -- كالماء فيه وجوه الناس تــرتســــم
أعدى عدى القوم من يُعزى لهم نسبا -- و يسمع القدْحَ فيهم وهو يتســـــم
(3)
ومن مظاهر الانبهار والاستلاب، أولئك الذين سخّروا اللغة العربية لخدمة الفكر الغربي ومصالحه في أمتهم، وقد عبّر عنهم الشيخ البشير الإبراهيمي متحدثا عن منزلة المثقفين في الأمة...
"... فإن التباعد بين المثقفين وخصوصا بين أهل الثقافة العربية والثقافة الأوربية، أدّى إلى فتح الباب وكثرة المتطفلين، فأنا من وجهتي لا أرضى بحال أن أحْشُر في زمرة المثقفين كل من يكتب بالعربية الصحيحة مقالة في جريدة ولا كل من يستطيع أن يخطب في المجتمع..."(4)
وما الجزائر إلا جزء في الأمة الإسلامية إذْ نفس الخلاصة انتهى إليها د. عبد العزيز الرفاعي في محاضرة بعنوان: "التراث" أثارت ضجة واسعة في 1968، حيث يقول:
"إن بعض المثقفين يصطنع طرائق جديدة للتعبير ذات ظلال فكرية غريبة عن المناخ العربي.. استعملوا الحرف العربي، ولكنهم كانوا يفكرون بعقول غير عربية أو بعقول انفصمت كليا عن التراث العربي فهي إنّما تتحدث عن أجواء غربية، ثم لا تطاوعها في ذلك ملكة عربية.. فالملكة العربية إنما هي حصيلة تراث.."(5)
ومن هنا فالحديث عن العولمة وتحدياتها إنما يجرنا إلى الحديث عن خصوصيات الأمة..
إن خصوصيات الأمم تجعل تواجد سلطة عالمية تقود العالم مستحيلا لاستحالة توحيد مصائر المجتمعات.. فالحرية تنقض التبعية.. والعدالة لا تحققها إلا الحرية.. والإسلام هو النظام الوحيد القادر على تحقيق هذه القيم..
إن العولمة التي تجتهد عبر منظومتها في التأثير في النفوس كي تتقبلها راغبة فيها، لا تتوانى أن تمارس الترهيب عند اعتراض سيرها.. ولما كانت استعمارا حديثا يأسر الأمة التي تخضع له، فإن زمن ظهور الشعر السياسي التحريري في العصر الحديث الذي واكب حركات التحرير ضد الاستعمار الغربي للبلدان العربية والإسلامية ليس ببعيد.. وهو متواصل.. وهذا دليل على يقظة الأدب وحضوره الدائم والمصاحب لتقلبات الزمن ونكبات الدهر.وأدب القاومة حاضر بقوة عند كل المبدعين الغيورين..
حينما يتشبع الأديب بمقومات شخصيته الوطنية، ويغوص في عمق إيديولوجيته الإسلامية، يدرك في باطنه يقينا أن هذا المذهب الإسلامي هو الفكر النقيض الذي يواجه الاستعمار بقوة ويقتلعه من جذوره.. فيعمل جاهدا على تمكين فكره الوطني، كما عمل في الماضي، في نفوس المسلمين.. ويبعث الغيرة والحمية في النفوس، ليزيد المجتمع تشبثا بهُوية أمته..
وإذا كان من عبر تاريخية هنا هي أن ما تمسك به المجتمع لا يزول أبداً.. بل مصيره النصر دائما طال الزمن أم قصر..
والأدب الجاد يدعو المتلقي إلى النهوض بالتبعات والتكاليف الفردية والجماعية قصد مواجهة الانحراف والتخلف.. يدعوه إلى مسايرة عصره، وتطوير قدراته.. ويكسبه الثقة في النفس في إطار التنمية البشرية، حينما يغرس فيه القيم الروحية ويحثه على حب مقومات شخصيته حينما يجعلها محل فخر وقوة.. فيبعث حياة الرقي والتطور في مختلف الميادين.. السياسية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ الفكرية..
وما دام الأدب إبداع.. والإبداع يواكب الجديد الطارئ.. فهل واكب الأدب الإسلامي العولمة كموضوع جديد؟ وهل جسد العولمة بكل تفاصيلها وأبعادها في أعماله الإبداعية.. ثم ترجمتها الوسائل السمعية البصرية كالمسرح والسينما، لتصل الخاص والعام من أبناء الأمة، أم اقتصرت على البحوث العلمية.. وتوقف الفهم عند المختصين.. هل المجتمع مجند لمواجهة أخطار العولمة الهادفة إلى إبادته؟؟..
هل تناول الإعلام الظاهرة، وكرّر موضوعاتها وعدّدها ليصل إلى أكبر عدد ممكن، أم اكتفى بالإشارة.. هل المثقف في أمتي يدرك مخاطر العولمة أم هناك فئة ما تزال تعتقد فيها الحرية والنجاة؟
إن الأدب يرفع أقواما ويحط أقوامًا.. وحتى يبلغ هذا المستوى، على الأديب أن يتقن فهم مقومات شخصيته من لغة ودين وتاريخ ليفهم البنية الاجتماعية لقوميته.
ملاحظة :
محاضرة ألقيت في ملتقى تأسيسي وطني بالجزائر مارس 2008 تحت عنوان :
«الأدب الجزائري و تحديات العولمة »
لذا نعتذر عن الاستشهاد من الأدب الجزائري و هي بلد كل المسلمين.
إحالات:
1. العولمة والحياة الثقافية في العالم الإسلامي. د. عبد العزيز بن عثمان تويجري.
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
2. سورة النحل.
3. ديوان محمد العيد.
4. عيون البصائر.
5. الغزو الغربي: عبد الله عبد الجبار ص 36. دار ثقيف للنشر والتأليف 1980 الطبعة الثالثة.
ملاحظة: سنجعل مستقبلا التوثيق من إبداع واتا..