المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أبو العباس بن الرومية الإشبيلي .. أعظم النباتيين المسلمين / ترجمته لمحمد عبد الله عنان



عبد الرحمن الطويل
08/08/2009, 02:29 AM
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيد المرسلين .
و بعد :
نقلت هذه الترجمة من كتاب (تراجم إسلامية) لمؤرخ الأندلس المعاصر الأستاذ محمد عبد الله عنان رحمه الله .

************************************************** ***************


** أبو العباس بن الرومية **
أعظم النباتيين المسلمين
(561ـ637هـ / 1165ـ1239م)

كانت دراسة النباتات و الحشائش الطبية ، تحتل في العصور الوسطى مكانة هامة في البحوث الطبية ، و إليها ترتكز معظم الجهود في تركيب الأدوية و العقاقير الطبية ، و قد بدأت هذه الدراسات في عصر مبكر ، و كان أستاذها الأول ديسقوريدس اليوناني ، الذي عاش في القرن الأول للميلاد ، و اشتهر بكتابته عن الحشائش الطبية ، و مركبات الأدوية ، و كان يُعتبر طوال العصور الوسطى أنفس مرجع من نوعه ، حتى أن قيصر قسطنطينية قسطنطين السابع حينما أرسل سفارته الشهيرة إلى عبد الرحمن الناصر سنة 336هـ (948م) لم يجد أنفس من نسخة مصورة من كتاب ديسقوريدس المذكور ، هدية يهديها إلى الخليفة .
و قد عني العلماء المسلمون عناية خاصة بدراسة الحشائش الطبية و تصنيفها ، و دراسة خواصها العلاجية ، و ظهر منهم في هذا الميدان عدة من أكابر العلماء و الباحثين ، و اشتهر منهم بالأخص عالمان أندلسيان بلغا في هذا الميدان ذروة التفوق و النبوغ ، هما أبو العباس بن الرومية الإشبيلي ، و تلميذه ابن البيطار المالقي .

و يُعتبر أبو العباس بن الرومية أعظم النباتيين المسلمين ، و يعتبر بعد ديسقوريدس اليوناني أعظم العشابين سواء في الشرق أو الغرب ، و من ثم فقد اشتهر بالنباتي و العشاب ، و هو أحمد بن محمد بن أبي الخليل مفرج الأموي ، و يُعرف بالأخص بابن الرومية ، و ينتمي إلى أسرة قرطبية من موالي بني أمية ، نبغ فيها أطباء و نباتيون ، و نزحت فيما بعد إلى إشبيلية ، و في إشبيلية ولد أبو العباس في المحرم سنة 561هـ (نوفمبر 1165م) ، و كانت إشبيلية يومئذ قاعدة الحكومة الموحدية في الأندلس ، و قد غدت في ظل الموحدين مركز العلوم و الآداب بعد أن تضاءلت هيبة قرطبة السياسية و الأدبية .

و درس أبو العباس على جمهرة من أكابر العلماء في عصره ، و برز بالأخص في الحديث حتى غدا فيه إماماً حافظاً لا يُبارى في ذكر تواريخ المحدثين و أنسابهم و تجريحهم و تعديلهم .

و شغف في الوقت نفسه بدراسة النبات و خصائص الأعشاب الطبية ، و تجول من أجل ذلك في ربوع الأندلس و المغرب و شمال إفريقية و مصر و الشام و العراق و الحجاز ، و وصل في هذا الميدان ، من تحقيق أصول الأعشاب المختلفة و خواصها و تمييزها إلى ما لم يصل إليه أحد من قبل .

و هنا تبرز تلك الجامعة الغريبة المشتركة بين علم الحديث و علم النبات ، و إليك كيف يوضح الوزير بن الخطيب كنه هذه الجامعة بين الصناعتين خلال حديثه عن ابن الرومية ، فهو يقول مشيراً إليه : (( عجيبة نوع الإنسان في عصره و ما قبله و ما بعده ، في معرفة علم النبات و تمييز العشب و تحليلها و إثبات أعيانها ، على اختلاف اطوار منابتها بمشرق أو بمغرب ، حساً و مشاهدة و تحقيقاً ، لا مدافع له في ذلك و لا منازع ، حجة لا ترد و لا تدفع ، قام على الصنعتين ، لوجود القدر المشترك بينهما ، و هما الحديث و النبات ، إذ مواردهما الرحلة و التقييد ، و تصحيح الأصول ، و تحقيق المشكلات اللفظية ، و حفظ الأديان و الأبدان ، و غير ذلك )) .

و هذه الظاهرة في الجمع بين الحديث و بين العلوم البحتة تبدو في حياة كثير من أكابر العلماء المسلمين ، فإنا نجد مثلاً عميد بني زهر عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر المتوفى سنة 525هـ ، و ولده أبا العلاء بن زهر ، ثم حفيده أبا مروان عبد الملك أعظم طبيب في العصور الوسطى ، أو على قول تلميذه ابن رشد ، أعظم طبيب بعد جالينوس ، نجد هؤلاء جميعاً من أئمة الحديث و أكابر الحفاظ ، و هم في نفس الوقت من أعظم عباقرة الطب و الكيمياء .

و قضى ابن الرومية في رحلاته الدراسية في شمال إفريقية و بلاد المشرق ، مذ بدأها بعد سنة 580هـ بقليل ، زهاء ثلاثين عاماً ، و أدى فريضة الحج في سنة 613هـ و لقي خلال تجواله جمهرة كبيرة من العلماء المشارقة بمصر و الشام و العراق و مكة ، و أخذ و روى عنهم ، ثم عاد إلى الأندلس بعد طول التجوال ، و استقر ببلده إشبيلية ، و افتتح بها متجراً للنباتات الطبية ، فكان مقصد الأطباء و النباتيين و طلاب العلاج من سائر الأنحاء ، و هناك وفد عليه معاصره الفقيه المؤرخ الشاعر ابن الأبار القضاعي غير مرة حسبما يذكر لنا في ترجمته في التكملة .

قال ابن عبد الملك المراكشي في (الذيل و التكملة) يصف ابن الرومية و رحلاته و بحوثه : (( إمام المغرب قاطبة فيما كان سبيله ، جال بالأندلس و مغرب العدوة ، و رحل إلى المشرق فاستوعب المشهور من إفريقيه و مصره و شامه و عراقه و حجازه [نلاحظ هنا أن بن عبد الملك يجعل إفريقية مشرقاً.الطويل] و عاين الكثير مما ليس بالمغرب ، و عارض كثيراً فيه كل ما أمكنه ، و لم يزل باحثاً على حقائقه كاشفاً عن غوامضه ، حتى وقف منه [على] ما لم يقف عليه غيره ممن تقدم في الملة الإسلامية ، فصار واحد عصره فرداً ، لا يجاريه فيه أحد بإجماع أهل ذلك الشأن )) .

و كان ابن الرومية فقيهاً ظاهري المذهب شديد التعصب للعلامة ابن حزم القرطبي ، إمام الظاهرية و قطبهم الأكبر ، و على يديه انتشرت تصانيف ابن حزم بما أبداه من غيرة و عناية فائقة في إظهارها و الإنفاق على استنساخها ، و قد أنفق في هذا السبيل أموالاً جمة ، و كان إلى جانب ذلك ورعاً صالحاً زاهداً و كان شديد العطف على طلبة العلم يجود عليهم بالمال و الكتب التي يعز وجودها ، و مستعيناً على ذلك بيساره و جدته ، و له في ذلك أخبار كثيرة ، و كان كثير الشغف بالدرس يواصل سهر الليل في تقييد بحوثه و مصنفاته و يقضي أوقاتاً كثيرة في فحص المرضى و إمدادههم بالأدوية النباتية التي مهر في تمييزها و إعدادها .

و لابن الرومية تصانيف عديدة في الحديث و النبات ، منه في الحديث :

* رجالة المعلم بزوائد البخاري على مسلم .
* اختصار حديث مالك للدارقطني .
* نظم الدراري فيما تفرد به مسلم عن البخاري .
* الحافل في تذييل الكامل .

و غيرها ، و من مصنفاته في النبات :

* شرح حشائش ديسقوريدس و أدوية جالينوس و التنبيه على أوهام ترجمتها .
* التنبيه على أغلاط الغافقي .
* الرحلة النباتية .
* المستدركة .

و غيرها ، و له كتاب في الأدوية المفردة على نمط كتب بني زهر في ذلك ، و له غير ذلك مصنفات و رسائل عديدة بيد أنا لم نتلق مع الأسف من هذا التراث الحافل سوى القليل ، و معظمه فصول و شذور نقلت إلينا على يد المتأخرين .

و توفي ابن الرومية بعد حياة علمية حافلة بإشبيلية في شهر ربيع الآخر سنة 637هـ (نوفمبر 1239م) قبل سقوطها في أيدي القشتاليين بنحو تسعة أعوام فقط ، و جاء من بعده تلميذه ابن البيطار المالقي ، فحمل علمه ، و برع مثله في النبات و دراسة الحشائش الطبية ، و تجول مثله في المغرب و المشرق و طاف بمصر و الشام و آسا الصغرى ن و بلاد اليونان ، و وضع عدة تصانيف في الأدوية النباتية ، و توفي بدمشق في سنة 646هـ (1248م) .

و مما يلفت النظر ، أن يظهر في هذا الوقت الذي مالت فيه شمس الأندلس إلى الغروب و سقطت معظم قواعدها الكبرى عباقرة في ميدان العلوم البحتة أمثال ابن الرومية و ابن البيطار ، و لكن القوى الحضارية و الفكرية الأندلسية الكامنة كانت تتفتح خلال المحنة في سائر الميادين ، و تنساب من القواعد الشمالية ، التي سقطت تباعاً في أيدي القشتاليين إلى ما وراء نهر الوادي الكبير ، حيث كانت تجتمع أشلاء الأندلس الباقية في مملكة غرناطة الصغيرة التي شاء القدر أن تحمل علم الإسلام و مشعل الحضارة الأندلسية مئتي عام أخرى .