عايده بدر
16/08/2009, 01:52 PM
الفضلاء جميعا
أهلا بكم
كنت أقرأ من فترة عن الشعر الفارسي و استوقفتنى مقالة مهمة جدا
رغم قدم تاريخ نشرها و هي تؤرخ للشعر الفارسي من خلال نشاته في كنف الشعر العربي
و حتى يتسنى لنا استيعاب الموضوع بصورة أوضح
أعتقد أننا لابد و أن نقرأ ما دونه هنا
د.خالد محيي الدين البرادعي
مجلة الموقف الأدبي - العدد 413 أيلول 2005
الإبداع العربي وهذا العالم ـــ د.خالد محيي الدين البرادعي - سورية
بدءاً من اللسان:
إن تتبع الألفاظ العربية في قواميس اللغة، يدفعنا للتساؤل عن الأحقاب الموغلة في القدم والتي مرت على العرب وهم يرصدون ظواهر الحياة وحركات الإنسان والحيوان، وحالات الخيال والحلم واليقظة والتوهم والتفكير. حتى اجتمعت لهم هذه الثروة اللفظية الهائلة، من مفردات وصفات. والتي لا يمكن لها أن تتجمع إلا مرافقة لمرور عشرات القرون من الزمن.
ألم نقرأ مثلاً أن اللغة السومرية ظلت ألفي سنة تشبه ما نسميه بـ (اللغة الرسمية) للأكاديين والبابليين، وبها يدونون وثائقهم على ألواح الفخار، بعد انقضاء الوجود السومري؟
وإذا كانت البديهة تقول إن اللغة نطقت أولاً فإن حركة التدوين لاحقة لها بزمن لا نعرف طولـه. والذين يعتمدون النقوش القليلة المكتشفة في بعض المناطق العربية للاستدلال على تطور اللغة، وقعوا في خطأ عدم التمييز بين النطق والكتابة. ورسم المفردات في القرآن مثلاً. ليس صورة للفظها ولا رسماً لنطقها وكما كان يتخاطب بها فصحاء قريش وشعراؤنا الجاهليون.
ألم نقرأ في التنزيل العزيز الحيوة والصلوة والزكوة؟ وكيف أن رسم القرآن استغنى نهائياً عن الألف في وسط الكلمة؟
الصلحات.. الظلمت.. الألبب.. جنت. بسلطن. فنبذنهم. الصعقة. يجدلون. الأعنق. الأغلل. السلسل. الكتب. جزؤه. الملئكة؟ وأصحب الئيكة. وهل أتك نبؤا الخصم.؟
وأنت تعلم أن رسم المفردات في القرآن الكريم ينتمي إلى عصر قَدْ تطورت فيه الكتابة ورسم الحروف. فهل لاحظت اختفاء الألف من الـ التعريف في كلمة الأيكة؟
لو قدر لغريب أن يتعلم العربية قراءة وكتابة كيف يقرأ مفردات القرآن الكريم عندما يراها للمرة الأولى. وهذا ينطبق على جانب من النقوش المكتشفة. خاصة وأنها دونت أو استخدمت قبل القرآن بزمن طويل. وقبل أن تتخذ الحروف العربية رسمها الدال الذي نعرفه.
ومع ذلك. نرى دفقاً كالسيل يحمل عشرات الدراسات المترجم منها والمنقول والموضوع. جاءت لتنصب كلها في سؤال واحد عجز أصحابها عن رؤية جوابه. كان ذلك بحثاً عن (اللغة الأم) التي تفرع منها عدد من اللغات كالعربية، والعبرية، والآرامية. كلغات ما تزال حية تتطور بحكم السنة المألوفة في الكون. الغربيون أطلقوا على اللغة الأم المفقودة (السامية) والعرب كتبوها وراءهم كذلك. وهؤلاء وأولئك يعلمون أن لفظة: السامية عبارة توراتية لا تحمل أي دليل علمي أو تعتمد على سند تاريخي. بعد أن أصبح بحكم المسلم به أن التوراة ليس كتاباً تاريخياً خاصة منه سفر التكوين الذي سلسل الناس كما لو كانوا أفراد أسرة مؤلفة من عدد من الأولاد. لو اعتبرنا سفر التكوين مجموعة رموز، لاطمأننا إليه لكن لا لنعتبره تاريخاً أو وثيقة من وثائق التاريخ. خصوصاً بعدما تدفق على الإنسانية هذا السيل العرم من الطمائر الحجرية والفخارية والتي جاء معظمها ينقض (تاريخية) التوراة بالدليل المحسوس.
قلة من المثقفين دفعتهم الجرأة الأدبية للخروج على هذا الإجماع الخاطئ. ليتساءلوا بدورهم: لماذا لا تكون العربية هي الأصل الذي تفرعت عنه تلك اللغات؟ خاصة وأن بعض القبائل العربية مازالت تتكلم لغة أشبه ما تكون بلغة القرآن. وقبيلة هذيل في الحجاز مثال صدق. فقد أنجبت هذه القبيلة في الجاهلية والإسلام عدداً من أرق الشعراء وأحسنهم بياناً وأغناهم فصاحة. ولشعراء هذيل ديوان مطبوع يحمل أسماء بعضهم ونكهة شعرهم(1).
أحد المؤرخين المعاصرين عايش هذه القبيلة وسمع لسان أهلها الأطفال والشيوخ(2) وتساءل: لماذا نفترض أن هؤلاء الذين يتكلمون لغة لم يطرأ عليها تبديل منذ ستة عشر قرناً. لهم لغة أخرى هجروها سابقة لها.وما الذي يدفعهم ليفعلوا ذلك؟ وكيف يتم هذا التبديل في لغتهم وهم يعيشون في نفس المكان؟ وما الذي يقنعنا أن بني هذيل كمثال غيروا لغتهم كالملابس. بل لماذا لا نقول أنهم يتكلمونها منذ عشرة آلاف سنة مثلاً؟
أحد مؤرخي أدبنا القديم يتساءل: هل يكون الشعر الجاهلي وليد فترة لا تتجاوز القرنين قبل الإسلام؟ وهل هي فترة كافية ليتكامل خلالها شعر يبهرنا ويبهر العالم بغناه وعذوبته وقدرته على الوصف والتعبير عن أدق العواطف وأعمق نأمات النفوس. ومن يقرأ قصيدة واحدة لأحد الجاهليين الكبار يدرك أن هذا الشعر نتاج آلاف السنين من الدربة والخبرة والتطور(3).
وإذا كان علماء الحضارات يلجأون إلى الفرضيات عندما تعوزهم الأدلة. لماذا لا نفترض أن الموجات العربية التي تدفقت إلى المنطقة العربية من آشوريين وبابليين وكنعانيين وفينيقيين ومصريين. هاجروا يحملون معهم اللغة الأم. والتي نفرضها (العربية)، ثم تبدلت على ألسنة أجيالها بحكم التعامل مع بيئات جديدة؟ أليس هذا الافتراض أقرب إلى المنطق من الفرضية المعاكسة التي تقول إن سكان الجزيرة العربية تبدلت اللغة على ألسنة أجيالهم، والذين يتوالدون في المكان نفسه؟
وتعاقبت الوقائع:
ينظر اللاحقون في علم العروض. هال بعضهم أن تتفتق العقلية العربية (البدوية) عن هذا العلم المفعم بالذهنية الرياضية المعمقة والمنظمة. وظل بين استهتار حيناً وتهاون حيناً.. حتى ظهر إلى الناس أن علم العروض عملية معقدة ومنظمة وتدل على وعي مكتشفه حتى لكأنه تجاوز به عصره. وأنه ليس مجرد إشارات يستدل بها على سليم الوزن من فاسده. وأن هذا العلم المكتشف في البيئة العربية يدل على ما هو أعمق. من دلالته. أن القافية الموحدة بطول القصيدة لم تعرف إلا في الشعر العربي بها منها: (استعمال القافية والغزل العذري. وشعر الحماسة)(4).
فيحاول الطيبون من العرب وراء أساتذتهم في الغرب الالتفاف على هذا التفرد الإبداعي لتهديمه. بمحاولة إيجاد سوابق له في الآداب الأخرى. وكما كثرت النظريات المفترضة بلا علم أو سند تاريخي حول فرعية اللغة العربية وأنها تنتمي لأصل ضاع.
كثرت الفرضيات حول تأثر العروض العربي بالإغريقي حيناً وبالهندي السنسكريتي حيناً. وعندما تتداعى هذه الفرضيات وكلها إنشائيات ذهنية بحتة. يلجأ بعض أصحابها إلى رأي آخر خلاصته أن العروض الهندي والعروض العربي والعروض الإغريقي ثلاثة فروع لها أصل آشوري أو بابلي أو سومري. كنا نتمنى أن يكون الرأي الأخير هو الصحيح لأن كلّّ شيء يظل كما نريده عربياً في نشأته وتكوينه.
الذين استدلوا عن طريق القياس لا عن طريق التحقق العلمي من أن الخليل اقتبس من الإغريق. استندوا إلى أن عصر الخليل كان عصر ترجمة ونقلت فيه العلوم الإغريقية إلى العرب. دون أن يقدموا شيئاً موثقاً. والذين اتهموا الخليل بالاستناد إلى العروض السنسكريتي اعتمدوا على رأي جاء به أبو الريحان البيروني في كتابه المعروف (ما للهند من مقولة)(5) ، ولعبت مخيلاتهم الروائية في قول البيروني حتى أخرجوه عن أصله، ثم سكبوه كما يشاؤون. فقال قائل منهم أن التشابه البعيد بين العروض الهندي والعروض العربي لا يترك مجالاً للشك في تأثر الخليل بن أحمد بطريقة التقطيع بالشعر الهندي مما هداه إلى وضع دوائر العروض(6). وعندما رجعنا إلى كتاب البيروني المذكور رأيناه يتحدث عن التقارب بين النحو العربي والنحو الهندي، وعن التقارب بين العروض العربي والعروض الهندي. لكنه لم يثبت أخذ الخليل عن الهنود بل العكس. ومما قاله البيروني:
"وهم يصورون في تعديد الحروف شبه ما صوره الخليل بن أحمد والعروضيون منا للساكن والمتحرك"(7). وفيما يتعلق بالنحو الهندي يقول البيروني، بعد أن يذكر أسماء كتب لغوية للهنود ضاعت ولم يهتد إلى واحد منها: "وحكي أن هذا الرجل (....) كان مؤدب الشاه في زماننا ومخرجه. وأنه أنفذ هذا الكتاب لما عمله إلى كشمير...)(8).
لاحظنا أن البيروني يقول إن الهنود يصورون شبه ما صوره الخليل. وهذا الخبر بينٌ لا لبس فيه. أي أن الهنود هم الذين أخذوا عن العرب علم العروض. كما أخذ الفرس عن العرب الشعر وعلم العروض. وإذا كان كتاب النحو الهندي الذي أشار إليه أبو الريحان قَدْ صنع (في زماننا) أي في القرن الهجري الخامس حيث عاش البيروني والخليل عاش في القرن الثاني الهجري. في أي منطق يكون السابق أخذ عن اللاحق.
ولماذا فهم هؤلاء الطيبون أن الخليل الذي عاش في (خص) حسب تعبير الأوائل قَدْ أخذ العروض عن السنسكريتية؟ أو عن الإغريقية؟
كافة المشتغلين بعلم العروض من العرب. وقليل من الأجانب المستعربين يرجعون الحركات والسكنات إلى طبيعة اللغة العربية. أي أن اكتشاف العروض عملية ذاتية لا يمكن أن تكون من خارج اللغة. وأن مصطلحات العروض بأكملها مشتقة من أسماء أجزاء الخيمة أي ذاتية في بيئتها. وأن الأنغام الشعرية التي اعتمدها الخليل في بناء الدوائر الخمس كان لها أساس قديم. قرأناه في عشرات المظان، وعشرات مثلها لمؤرخين ولغويين وعروضيين ورواة تخبرنا أن الخليل بن أحمد سئل بعد أن أحكم علم العروض عبر سنين من العذاب والاحتراق: هل للعروض أصل؟ قال: نعم مررت بالمدينة حاجاً فرأيت شيخاً يعلم غلاماً يقول له: قل:
نعم لا. نعم لا لا. نعم لا. نعم لا لا.
فقلت ما هذا الذي تقوله للصبي؟ فقال: هو علم يتوارثونه عن سلفهم يسمى التنغيم.
وأصبح غنياً عن الترديد والتكرار أن تشبيه بيت الشعر ببيت الخيمة إثر اقتباس أجزاء الخيمة لأجزاء البيت الشعري. وأن سير الجمل بحركاته المختلفة قَدْ أثر في موسيقى الشعر العربي. وكل دارس للعروض يتذكر أن أنغام بعض الأوزان جاءت محاكاة لحركة الجمل في سيره.
لم يكن العروض هو فرادة الخليل بن أحمد وتفرده عبقريته لكن كتاب "العين" الشامخ الباذخ وأول معجم من نوعه في تاريخ اللغات الإنسانية يشجب عنه الاتهامات التي لا تناله شخصياً بقدر ما يراد منها النيل من الفكر العربي كمسهم في صنع الحضارات الإنسانية.
وقاموس " العين" الذي لم يستطع كافة رجال اللغة حتى الآن تجاوزه يسطع دليلاً على عبقرية الرجل. من حيث فهمه للأصوات عند حديثه عن مخارج الحروف ولملمة شوارد اللغة وحصرها(9) وحديثه عن جذور اللغة وتطور ألفاظها. إضافة إلى علم النحو الذي أسس سيبويه كتابه المعروف على أساسه(10). ويذكر ابن النديم لهذا الرجل المعجزة كتابين لا يعرفهما أحد هما (النغم) والآخر (الإيقاع).
هل أتاك حديث الشعر، وللشعر حديث ذو شجون؟ حسناً...
لن أبدأ. لن استقصي معك البدايات التي أنشأها المستشرقون حول تفكك القصيدة العربية. فلهؤلاء الناس شأن هو في جوهره يختلف عما نحن فيه. هم لا يعرفون القافية الموحدة التي ميزت الشعر العربي بفرادة لا أقول أفضل. بل عرف الشعر العربي من خلالها. كما عرف الشاعر العربي بتعامله الحميم والخاص مع المرأة في إبداعه. أقصد إذا كان لكل إبداع لدى كلّّ أمة خصوصية تميزه. فالشعر العربي يحمل بعض الخصوصيات التي تصنع له فردانيته وبها عرف. كما العربي الجاهلي عرف بفردانيته من خلال الشعر.
صحيح أن الشاعر العربي الذي أخلص للبلاغة وجاهد للوصول إلى القليل الدال. حاول أن يكثف الشحنة الشعرية في البيت الواحد. حيث لا تتكئ معاني البيت أو دلالته أو إيحاءاته أو صوره على بيت آخر. وصحيح أيضاً أن الشاعر الذي جاء بعد الإسلام حاول أن يكثف لغته ليتفوق على سابقه الجاهلي وما من مثقف إلاَّ ويعرف حديث بشار ومحاولة التغلب على امرئ القيس من حيث تكثيف عدد المعاني في بيت واحد. هذان كمثلين: جاهلي وإسلامي.
لكن عناية الشاعر العربي بصناعة البيت لا تعني عزل البيت عن الآخر. وقد يكون تكثيف الأغراض في القصيدة العربية ميزتها الدالة على فردانيتها وخصوصيتها. والجاهلي كان رساماً بارعاً في تسلسل عدد من اللوحات الشعرية في القصيدة الواحدة، تلك التي أسماها القدماء أغراض القصيدة.
قَدْ تكون أهم ميزات القصيدة العربية الطويلة. وحدة إيقاعها وقدرة الشاعر على تسلسل لوحاتها كأن الواحدة تتخلق من الثانية بهذا اللون من الشعر ألف العربي وجوده وعرف ذاته ورحل إلى الكون من خلاله. لكن أيدي الوراقين وألسنة الرواة عبثت عفواً أو قصداً بمعظم القصائد الجاهلية. فروتها على غير ترتيبها الأول. مما هيأ للأجانب أنها مفككة متناثرة لا يربط بين أبياتها غير القوافي(11).
هذه الحالة التي أصابت القصيدة الجاهلية أخرجت لوحاتها عن وحدتها الفنية أو المعنوية. وقد تنبه طه حسين كواحد من كبار مثقفينا إلى هذه الحالة. وأن اختلاف الرواة في رواية الشعر الجاهلي وتغيير مواقع الأبيات أعطى للمستشرقين صورة سيئة عن هذا الشعر. لكنه يطرح رأيه في وحدة القصيدة كما يعرف الوحدة لا كما يراها المستشرقون، ويرى في معلقة لبيد مثلاً وحدة تبدو في (النفس القوية العالية السمحة التي أنشأها)(12).
وبعد أن أبدى المستشرقون ما أبدوه من موضوع تفكك القصيدة العربية. تطوع عشرات العرب لا ليدافعوا عن شعر أمتهم الذي كان أحد أسباب خلودها بين الأمم ذوات التراث الحي. بل ليعبروا عن هوسهم بحثاً عن وحدة عضوية مفقودة في القصيدة العربية، كما أرادها الغربيون.
عباس محمود العقاد مثلاً لجأ إلى المقارنة بين القصيدتين العربية والإنكليزية. متأثراً بالنقد الإنكليزي وبالمفهوم النقدي للقصيدة لدى النقاد الإنكليز(13). لا ننكر صحة رأي العقاد في النقاد القدامى الذين شجعوا الشاعر على استقلالية البيت. لكننا ننكر عليه المقارنة. ناسياً أن ما جاءت به القصيدة الجاهلية عندما نوفر لها عودة أجزائها كما أنشأها الشاعر الجاهلي هو الذي وفر لها فردانيتها وعندئذ تلغي عملية المقارنة بين أدب وأدب.
مثل هذا الرأي تبناه ميخائيل نعيمة في (الغربال) وجدد النقمة على الشعر القديم الشاعر التونسي أبو الشابي الذي شبه القصيدة العربية بحديقة الحيوان(14). وسأقف وقفة هادئة أمام واحد من هذه الآراء الخطيرة التي طرحها الأستاذ أحمد أمين في (فجر الإسلام) حول الشعر العربي القديم.
أهلا بكم
كنت أقرأ من فترة عن الشعر الفارسي و استوقفتنى مقالة مهمة جدا
رغم قدم تاريخ نشرها و هي تؤرخ للشعر الفارسي من خلال نشاته في كنف الشعر العربي
و حتى يتسنى لنا استيعاب الموضوع بصورة أوضح
أعتقد أننا لابد و أن نقرأ ما دونه هنا
د.خالد محيي الدين البرادعي
مجلة الموقف الأدبي - العدد 413 أيلول 2005
الإبداع العربي وهذا العالم ـــ د.خالد محيي الدين البرادعي - سورية
بدءاً من اللسان:
إن تتبع الألفاظ العربية في قواميس اللغة، يدفعنا للتساؤل عن الأحقاب الموغلة في القدم والتي مرت على العرب وهم يرصدون ظواهر الحياة وحركات الإنسان والحيوان، وحالات الخيال والحلم واليقظة والتوهم والتفكير. حتى اجتمعت لهم هذه الثروة اللفظية الهائلة، من مفردات وصفات. والتي لا يمكن لها أن تتجمع إلا مرافقة لمرور عشرات القرون من الزمن.
ألم نقرأ مثلاً أن اللغة السومرية ظلت ألفي سنة تشبه ما نسميه بـ (اللغة الرسمية) للأكاديين والبابليين، وبها يدونون وثائقهم على ألواح الفخار، بعد انقضاء الوجود السومري؟
وإذا كانت البديهة تقول إن اللغة نطقت أولاً فإن حركة التدوين لاحقة لها بزمن لا نعرف طولـه. والذين يعتمدون النقوش القليلة المكتشفة في بعض المناطق العربية للاستدلال على تطور اللغة، وقعوا في خطأ عدم التمييز بين النطق والكتابة. ورسم المفردات في القرآن مثلاً. ليس صورة للفظها ولا رسماً لنطقها وكما كان يتخاطب بها فصحاء قريش وشعراؤنا الجاهليون.
ألم نقرأ في التنزيل العزيز الحيوة والصلوة والزكوة؟ وكيف أن رسم القرآن استغنى نهائياً عن الألف في وسط الكلمة؟
الصلحات.. الظلمت.. الألبب.. جنت. بسلطن. فنبذنهم. الصعقة. يجدلون. الأعنق. الأغلل. السلسل. الكتب. جزؤه. الملئكة؟ وأصحب الئيكة. وهل أتك نبؤا الخصم.؟
وأنت تعلم أن رسم المفردات في القرآن الكريم ينتمي إلى عصر قَدْ تطورت فيه الكتابة ورسم الحروف. فهل لاحظت اختفاء الألف من الـ التعريف في كلمة الأيكة؟
لو قدر لغريب أن يتعلم العربية قراءة وكتابة كيف يقرأ مفردات القرآن الكريم عندما يراها للمرة الأولى. وهذا ينطبق على جانب من النقوش المكتشفة. خاصة وأنها دونت أو استخدمت قبل القرآن بزمن طويل. وقبل أن تتخذ الحروف العربية رسمها الدال الذي نعرفه.
ومع ذلك. نرى دفقاً كالسيل يحمل عشرات الدراسات المترجم منها والمنقول والموضوع. جاءت لتنصب كلها في سؤال واحد عجز أصحابها عن رؤية جوابه. كان ذلك بحثاً عن (اللغة الأم) التي تفرع منها عدد من اللغات كالعربية، والعبرية، والآرامية. كلغات ما تزال حية تتطور بحكم السنة المألوفة في الكون. الغربيون أطلقوا على اللغة الأم المفقودة (السامية) والعرب كتبوها وراءهم كذلك. وهؤلاء وأولئك يعلمون أن لفظة: السامية عبارة توراتية لا تحمل أي دليل علمي أو تعتمد على سند تاريخي. بعد أن أصبح بحكم المسلم به أن التوراة ليس كتاباً تاريخياً خاصة منه سفر التكوين الذي سلسل الناس كما لو كانوا أفراد أسرة مؤلفة من عدد من الأولاد. لو اعتبرنا سفر التكوين مجموعة رموز، لاطمأننا إليه لكن لا لنعتبره تاريخاً أو وثيقة من وثائق التاريخ. خصوصاً بعدما تدفق على الإنسانية هذا السيل العرم من الطمائر الحجرية والفخارية والتي جاء معظمها ينقض (تاريخية) التوراة بالدليل المحسوس.
قلة من المثقفين دفعتهم الجرأة الأدبية للخروج على هذا الإجماع الخاطئ. ليتساءلوا بدورهم: لماذا لا تكون العربية هي الأصل الذي تفرعت عنه تلك اللغات؟ خاصة وأن بعض القبائل العربية مازالت تتكلم لغة أشبه ما تكون بلغة القرآن. وقبيلة هذيل في الحجاز مثال صدق. فقد أنجبت هذه القبيلة في الجاهلية والإسلام عدداً من أرق الشعراء وأحسنهم بياناً وأغناهم فصاحة. ولشعراء هذيل ديوان مطبوع يحمل أسماء بعضهم ونكهة شعرهم(1).
أحد المؤرخين المعاصرين عايش هذه القبيلة وسمع لسان أهلها الأطفال والشيوخ(2) وتساءل: لماذا نفترض أن هؤلاء الذين يتكلمون لغة لم يطرأ عليها تبديل منذ ستة عشر قرناً. لهم لغة أخرى هجروها سابقة لها.وما الذي يدفعهم ليفعلوا ذلك؟ وكيف يتم هذا التبديل في لغتهم وهم يعيشون في نفس المكان؟ وما الذي يقنعنا أن بني هذيل كمثال غيروا لغتهم كالملابس. بل لماذا لا نقول أنهم يتكلمونها منذ عشرة آلاف سنة مثلاً؟
أحد مؤرخي أدبنا القديم يتساءل: هل يكون الشعر الجاهلي وليد فترة لا تتجاوز القرنين قبل الإسلام؟ وهل هي فترة كافية ليتكامل خلالها شعر يبهرنا ويبهر العالم بغناه وعذوبته وقدرته على الوصف والتعبير عن أدق العواطف وأعمق نأمات النفوس. ومن يقرأ قصيدة واحدة لأحد الجاهليين الكبار يدرك أن هذا الشعر نتاج آلاف السنين من الدربة والخبرة والتطور(3).
وإذا كان علماء الحضارات يلجأون إلى الفرضيات عندما تعوزهم الأدلة. لماذا لا نفترض أن الموجات العربية التي تدفقت إلى المنطقة العربية من آشوريين وبابليين وكنعانيين وفينيقيين ومصريين. هاجروا يحملون معهم اللغة الأم. والتي نفرضها (العربية)، ثم تبدلت على ألسنة أجيالها بحكم التعامل مع بيئات جديدة؟ أليس هذا الافتراض أقرب إلى المنطق من الفرضية المعاكسة التي تقول إن سكان الجزيرة العربية تبدلت اللغة على ألسنة أجيالهم، والذين يتوالدون في المكان نفسه؟
وتعاقبت الوقائع:
ينظر اللاحقون في علم العروض. هال بعضهم أن تتفتق العقلية العربية (البدوية) عن هذا العلم المفعم بالذهنية الرياضية المعمقة والمنظمة. وظل بين استهتار حيناً وتهاون حيناً.. حتى ظهر إلى الناس أن علم العروض عملية معقدة ومنظمة وتدل على وعي مكتشفه حتى لكأنه تجاوز به عصره. وأنه ليس مجرد إشارات يستدل بها على سليم الوزن من فاسده. وأن هذا العلم المكتشف في البيئة العربية يدل على ما هو أعمق. من دلالته. أن القافية الموحدة بطول القصيدة لم تعرف إلا في الشعر العربي بها منها: (استعمال القافية والغزل العذري. وشعر الحماسة)(4).
فيحاول الطيبون من العرب وراء أساتذتهم في الغرب الالتفاف على هذا التفرد الإبداعي لتهديمه. بمحاولة إيجاد سوابق له في الآداب الأخرى. وكما كثرت النظريات المفترضة بلا علم أو سند تاريخي حول فرعية اللغة العربية وأنها تنتمي لأصل ضاع.
كثرت الفرضيات حول تأثر العروض العربي بالإغريقي حيناً وبالهندي السنسكريتي حيناً. وعندما تتداعى هذه الفرضيات وكلها إنشائيات ذهنية بحتة. يلجأ بعض أصحابها إلى رأي آخر خلاصته أن العروض الهندي والعروض العربي والعروض الإغريقي ثلاثة فروع لها أصل آشوري أو بابلي أو سومري. كنا نتمنى أن يكون الرأي الأخير هو الصحيح لأن كلّّ شيء يظل كما نريده عربياً في نشأته وتكوينه.
الذين استدلوا عن طريق القياس لا عن طريق التحقق العلمي من أن الخليل اقتبس من الإغريق. استندوا إلى أن عصر الخليل كان عصر ترجمة ونقلت فيه العلوم الإغريقية إلى العرب. دون أن يقدموا شيئاً موثقاً. والذين اتهموا الخليل بالاستناد إلى العروض السنسكريتي اعتمدوا على رأي جاء به أبو الريحان البيروني في كتابه المعروف (ما للهند من مقولة)(5) ، ولعبت مخيلاتهم الروائية في قول البيروني حتى أخرجوه عن أصله، ثم سكبوه كما يشاؤون. فقال قائل منهم أن التشابه البعيد بين العروض الهندي والعروض العربي لا يترك مجالاً للشك في تأثر الخليل بن أحمد بطريقة التقطيع بالشعر الهندي مما هداه إلى وضع دوائر العروض(6). وعندما رجعنا إلى كتاب البيروني المذكور رأيناه يتحدث عن التقارب بين النحو العربي والنحو الهندي، وعن التقارب بين العروض العربي والعروض الهندي. لكنه لم يثبت أخذ الخليل عن الهنود بل العكس. ومما قاله البيروني:
"وهم يصورون في تعديد الحروف شبه ما صوره الخليل بن أحمد والعروضيون منا للساكن والمتحرك"(7). وفيما يتعلق بالنحو الهندي يقول البيروني، بعد أن يذكر أسماء كتب لغوية للهنود ضاعت ولم يهتد إلى واحد منها: "وحكي أن هذا الرجل (....) كان مؤدب الشاه في زماننا ومخرجه. وأنه أنفذ هذا الكتاب لما عمله إلى كشمير...)(8).
لاحظنا أن البيروني يقول إن الهنود يصورون شبه ما صوره الخليل. وهذا الخبر بينٌ لا لبس فيه. أي أن الهنود هم الذين أخذوا عن العرب علم العروض. كما أخذ الفرس عن العرب الشعر وعلم العروض. وإذا كان كتاب النحو الهندي الذي أشار إليه أبو الريحان قَدْ صنع (في زماننا) أي في القرن الهجري الخامس حيث عاش البيروني والخليل عاش في القرن الثاني الهجري. في أي منطق يكون السابق أخذ عن اللاحق.
ولماذا فهم هؤلاء الطيبون أن الخليل الذي عاش في (خص) حسب تعبير الأوائل قَدْ أخذ العروض عن السنسكريتية؟ أو عن الإغريقية؟
كافة المشتغلين بعلم العروض من العرب. وقليل من الأجانب المستعربين يرجعون الحركات والسكنات إلى طبيعة اللغة العربية. أي أن اكتشاف العروض عملية ذاتية لا يمكن أن تكون من خارج اللغة. وأن مصطلحات العروض بأكملها مشتقة من أسماء أجزاء الخيمة أي ذاتية في بيئتها. وأن الأنغام الشعرية التي اعتمدها الخليل في بناء الدوائر الخمس كان لها أساس قديم. قرأناه في عشرات المظان، وعشرات مثلها لمؤرخين ولغويين وعروضيين ورواة تخبرنا أن الخليل بن أحمد سئل بعد أن أحكم علم العروض عبر سنين من العذاب والاحتراق: هل للعروض أصل؟ قال: نعم مررت بالمدينة حاجاً فرأيت شيخاً يعلم غلاماً يقول له: قل:
نعم لا. نعم لا لا. نعم لا. نعم لا لا.
فقلت ما هذا الذي تقوله للصبي؟ فقال: هو علم يتوارثونه عن سلفهم يسمى التنغيم.
وأصبح غنياً عن الترديد والتكرار أن تشبيه بيت الشعر ببيت الخيمة إثر اقتباس أجزاء الخيمة لأجزاء البيت الشعري. وأن سير الجمل بحركاته المختلفة قَدْ أثر في موسيقى الشعر العربي. وكل دارس للعروض يتذكر أن أنغام بعض الأوزان جاءت محاكاة لحركة الجمل في سيره.
لم يكن العروض هو فرادة الخليل بن أحمد وتفرده عبقريته لكن كتاب "العين" الشامخ الباذخ وأول معجم من نوعه في تاريخ اللغات الإنسانية يشجب عنه الاتهامات التي لا تناله شخصياً بقدر ما يراد منها النيل من الفكر العربي كمسهم في صنع الحضارات الإنسانية.
وقاموس " العين" الذي لم يستطع كافة رجال اللغة حتى الآن تجاوزه يسطع دليلاً على عبقرية الرجل. من حيث فهمه للأصوات عند حديثه عن مخارج الحروف ولملمة شوارد اللغة وحصرها(9) وحديثه عن جذور اللغة وتطور ألفاظها. إضافة إلى علم النحو الذي أسس سيبويه كتابه المعروف على أساسه(10). ويذكر ابن النديم لهذا الرجل المعجزة كتابين لا يعرفهما أحد هما (النغم) والآخر (الإيقاع).
هل أتاك حديث الشعر، وللشعر حديث ذو شجون؟ حسناً...
لن أبدأ. لن استقصي معك البدايات التي أنشأها المستشرقون حول تفكك القصيدة العربية. فلهؤلاء الناس شأن هو في جوهره يختلف عما نحن فيه. هم لا يعرفون القافية الموحدة التي ميزت الشعر العربي بفرادة لا أقول أفضل. بل عرف الشعر العربي من خلالها. كما عرف الشاعر العربي بتعامله الحميم والخاص مع المرأة في إبداعه. أقصد إذا كان لكل إبداع لدى كلّّ أمة خصوصية تميزه. فالشعر العربي يحمل بعض الخصوصيات التي تصنع له فردانيته وبها عرف. كما العربي الجاهلي عرف بفردانيته من خلال الشعر.
صحيح أن الشاعر العربي الذي أخلص للبلاغة وجاهد للوصول إلى القليل الدال. حاول أن يكثف الشحنة الشعرية في البيت الواحد. حيث لا تتكئ معاني البيت أو دلالته أو إيحاءاته أو صوره على بيت آخر. وصحيح أيضاً أن الشاعر الذي جاء بعد الإسلام حاول أن يكثف لغته ليتفوق على سابقه الجاهلي وما من مثقف إلاَّ ويعرف حديث بشار ومحاولة التغلب على امرئ القيس من حيث تكثيف عدد المعاني في بيت واحد. هذان كمثلين: جاهلي وإسلامي.
لكن عناية الشاعر العربي بصناعة البيت لا تعني عزل البيت عن الآخر. وقد يكون تكثيف الأغراض في القصيدة العربية ميزتها الدالة على فردانيتها وخصوصيتها. والجاهلي كان رساماً بارعاً في تسلسل عدد من اللوحات الشعرية في القصيدة الواحدة، تلك التي أسماها القدماء أغراض القصيدة.
قَدْ تكون أهم ميزات القصيدة العربية الطويلة. وحدة إيقاعها وقدرة الشاعر على تسلسل لوحاتها كأن الواحدة تتخلق من الثانية بهذا اللون من الشعر ألف العربي وجوده وعرف ذاته ورحل إلى الكون من خلاله. لكن أيدي الوراقين وألسنة الرواة عبثت عفواً أو قصداً بمعظم القصائد الجاهلية. فروتها على غير ترتيبها الأول. مما هيأ للأجانب أنها مفككة متناثرة لا يربط بين أبياتها غير القوافي(11).
هذه الحالة التي أصابت القصيدة الجاهلية أخرجت لوحاتها عن وحدتها الفنية أو المعنوية. وقد تنبه طه حسين كواحد من كبار مثقفينا إلى هذه الحالة. وأن اختلاف الرواة في رواية الشعر الجاهلي وتغيير مواقع الأبيات أعطى للمستشرقين صورة سيئة عن هذا الشعر. لكنه يطرح رأيه في وحدة القصيدة كما يعرف الوحدة لا كما يراها المستشرقون، ويرى في معلقة لبيد مثلاً وحدة تبدو في (النفس القوية العالية السمحة التي أنشأها)(12).
وبعد أن أبدى المستشرقون ما أبدوه من موضوع تفكك القصيدة العربية. تطوع عشرات العرب لا ليدافعوا عن شعر أمتهم الذي كان أحد أسباب خلودها بين الأمم ذوات التراث الحي. بل ليعبروا عن هوسهم بحثاً عن وحدة عضوية مفقودة في القصيدة العربية، كما أرادها الغربيون.
عباس محمود العقاد مثلاً لجأ إلى المقارنة بين القصيدتين العربية والإنكليزية. متأثراً بالنقد الإنكليزي وبالمفهوم النقدي للقصيدة لدى النقاد الإنكليز(13). لا ننكر صحة رأي العقاد في النقاد القدامى الذين شجعوا الشاعر على استقلالية البيت. لكننا ننكر عليه المقارنة. ناسياً أن ما جاءت به القصيدة الجاهلية عندما نوفر لها عودة أجزائها كما أنشأها الشاعر الجاهلي هو الذي وفر لها فردانيتها وعندئذ تلغي عملية المقارنة بين أدب وأدب.
مثل هذا الرأي تبناه ميخائيل نعيمة في (الغربال) وجدد النقمة على الشعر القديم الشاعر التونسي أبو الشابي الذي شبه القصيدة العربية بحديقة الحيوان(14). وسأقف وقفة هادئة أمام واحد من هذه الآراء الخطيرة التي طرحها الأستاذ أحمد أمين في (فجر الإسلام) حول الشعر العربي القديم.