المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رسالة رمضان لبديع الزمان سعيد النورسي



حازم ناظم فاضل
22/08/2009, 10:45 PM
رسالة رمـضان
لبديع الزمان سعيد النورسي
ترجمه عن التركية : احسان قاسم الصالحي


هذا البحث عبارة عن تسع نكات دقيقة ومسائل لطيفة تبين تسعاً من الحكم الكثيرة لصيام شهر رمضان المبارك

بِ
سْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} شهْرُ رَمـضَانَ الَّذى اُنْزِلَ فيهِ القرآن هُدىً للِنَّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ{

(البقرة: 185)

C النكتة الاولى: أن صيام شهر رمضان يأتي بين أوائل الاركان الخمسة للاسلام، ويُعدّ من أعاظم الشعائر الاسلامية.

ان أكثر الحكم المتمخضة عن صوم رمضان تتوجّه الى إظهار ربوبية الحق تبارك وتعالى، كما تتوجّه الى حياة الانسان الاجتماعية والى حياته الشخصية، وتتوجه أيضاً الى تربية النفس وتزكيتها، والى القيام بالشكر تجاه النِعَم الإلهية.

نذكر حكمةً واحدة من بين الحِكم الكثيرة جداً من حيث تجلي ربوبية الحق تبارك وتعالى من خلال الصوم وهي:

ان الله سبحانه وتعالى قد خلق وجهَ الأرض مائدةً ممتدة عامرة بالنِعم التي لا يحصرها العد، وأعدها اعداداً بديعاً من حيث لا يحتسبه الانسان. فهو سبحانه يبيّن بهذا الوضع، كمالَ ربوبيته ورحمانيتَه ورحيميته. بيد أن الانسان لا يبصر تماماً - تحت حجاب الغفلة وضمن ستائر الاسباب - الحقيقة الباهرةَ التي يفيدها ويعبّر عنها هذا الوضع، وقد ينساها.. أما في رمضان المبارك فالمؤمنون يصبحون فوراً في حكم جيش منظــّم، يتقلدون جميعاً وشاح العبودية لله، ويكونون في وضعٍ متأهب قُبيل الافطار لتلبية أمر القادر الازلي: ))تفضّلوا(( الى مائدة ضيافته الكريمة.. فيقابلون - بوضعهم هذا - تلك الرحمة الجليلة الكلّية بعبودية واسعة منظمة عظيمة.. تُرى هل يستحق اولئك الذين لم يشتركوا في مثل هذه العبودية السامية، وفي مثل هذه الكرامة الرفيعة أن يُطلق عليهم اسم الانسان؟

C النكتة الثانية: ان هـناك حكماً عدة يتوجه بها صيامُ رمضان المـبارك بالشكـر على النعَم التي أسبغها الباري علينا، احداها:

أن الأطعمة التي يأتي بها خادمٌ من مطبخ سلطانٍ لها ثمنُها - كما ذُكر في الكلمة الاولى - ويُعدّ من البلاهة توهّم الاطعمة النفيسة تافهةً غير ذات قيمة، وعدمُ معرفة مُنعمها الحقيقي، في الوقت الذي تُمنح الخادم هبات وعطايا لأجلها. وكذلك الاطعمة والنعم غير المعدودة التي بثّها الله سبحانه في وجه الارض فانه يطلب منّا حتماً ثمنَها، ألا وهو القيام بالشكر له تجاه تلك النِعم. والاسباب الظاهرية التي تُحمل عليها تلك النعم وأصحابها الظاهرون هم بمثابة خَدَمة لها، فنحن ندفع الخدام ما يستحقونه من الثمن ونظل تحت فضلهم ومنتهم بل نبدي لهم من التوقير والشكر اكثر مما يستحقونه والحال أن المنعم الحقيقي سبحانه يستحق - ببثّه تلك النِعَم - أن نقّدم له غاية الشكر والحمد، ومنتهى الامتنان والرضا، وهو الأهلُ لكل ذلك، بل أكثر. اذن فتقديم الشكرلله سبحانه واظهار الرضا ازاء تلك النعم انما يكون بمعرفة صدور تلك النعم والآلاء منه مباشرة.. وبتقدير قيمتها.. وبشعور الحاجة اليها.

لذا فان صيام رمضان المبارك لهو مفتاح شكر حقيقي خالص، وحمدٍ عظيم عام لله سبحانه. وذلك لأن أغلب الناس لا يدركون قيمة نِعَمٍ كثيرة - غير مضطرين إليها في سائر الاوقات - لعدم تعرّضهم لقساوة الجوع الحقيقي وأوضاره. فلا يُدرِك - مثلاًِ ـ درجةَ النعمة الكامنة في كسرة خبز يابس أولئك المتخمون بالشبع، وبخاصة إن كانوا أثرياء منعّمين، بينما يدركها المؤمن عند الافطار أنها نعمة إلهية ثمينة، وتشهد على ذلك قوته الذائقة. لذا ينال الصائمون في رمضان - ابتداءاً من السلطان وانتهاء بأفقر فقير - شكراً معنوياً لله تعالى منبعثاً من ادراكهم قيمةَ تلك النعم العظيمة. أما امتناع الانسان عن تناول الاطعمة نهاراً فانه يجعله يتوصل الى ان يدرك بأنها نعمةٌ حقاً، اذ يخاطب نفسه قائلاً:

((ان هذه النِعم ليست مُلكاً لي، فأنا لست حراً في تناولها، فهي اذن تعود الى واحد آخر، وهي أصلاً من إنعامه وكَرَمه علينا، وانا الآن في انتظار أمره)).. وبهذا يكون قد أدى شكراً معنوياً حيال تلك النعم.

وبهذه الصورة يصبح الصوم في حكم مفتاح للشكر من جهات شتى، ذلك الشكر الذي هو الوظيفة الحقيقية للانسان.

C النكتة الثالثة: أن حكمة واحدة للصوم من بين حكمه الغزيرة المتوجهة الى الحياة الاجتماعية للانسان هي:

أن الناس قد خُلقوا على صور متباينة من حيث المعيشة، وعليه يدعو الله سبحانه الاغنياءَ لمدّ يد المعاونة لإخوانهم الفقراء. ولا جرم أن الاغنياء لا يستطيعون أن يستشعروا شعوراً كاملاً حالات الفقر الباعثة على الرأفة، ولا يمكنهم أن يحسوا احساساً تاماً بجوعهم، الا من خلال الجوع المتولد من الصوم..فلولا الصوم لما تمكن كثير من الأغنياء التابعين لاهوائهم أن يدركوا مدى ألم الجوع والفقر ومدى حاجة الفقراء الى الرأفة والرحمة. لذا تصبح الشفقة على بني الجنس - المغروزة في كيان الانسان - هي احدى الاسس الباعثة على الشكر الحقيقي، حيث يمكن أن يجد كل فرد أياً كان مَنْ هو أفقرَ منه من جهة، فهو مكلّف بالاشفاق عليه.

فلو لم يكن هناك اضطرار لإذاقة النفس مرارةَ الجوع، لما قام أحد اصلاً باسداء الاحسان الى الآخرين والذي يتطلبه التعاون المكلّف به برابطة الشفقة على بني الجنس، وحتى لو قام به لما أتقنه على الوجه الأكمل، ذلك لأنه لا يشعر بتلك الحالة في نفسه شعوراً حقيقياً.

C النكتة الرابعة: ان صوم رمضان يحوي من جهة تربية النفس البشرية حكماً عدة، احداها هي:

أن النفس بطبيعتها ترغب الانفلات من عقالها حرة طليقة، وتتلقى ذاتها هكذا. حتى أنها تطلب لنفسها ربوبية موهومة، وحركة طليقة كيفما تشاء، فهي لا تريد أن تفكر في كونها تنمو وتترعرع وتُربى بِنعمٍ إلهية لا حد لها، وبخاصة اذا كانت صاحبة ثروة واقتدار في الدنيا، والغفلة تساندها وتعاونها. لذا تزدرد النعم الإلهية كالانعام دون إذن ورخصة.

ولكن تبدأ نفسُ كل شخص بالتفطن في ذاتها في رمضان المبارك، ابتداء من أغنى غني الى أفقر فقير، فتدرك بأنها ليست مالكة، بل هي مملوكة، وليست حرة طليقة، بل هي عبدة مأمورة، فلا تستطيع أن تمدّ يدَها الى أدنـى عمل من غير أمر، بل حتى لا تستطيع أن تمدها الى ماء.. وبهذا ينكسر غرور ربوبيتها الموهومة، فتتقلد ربقة العبودية لله تعالى، وتدخل ضمن وظيفتها الاساس وهي ((الشكر)).

C النكتة الخامسة: ان لصوم رمـضان حكماً كثيرة من حيـث توجـهه الى تهـذيب النفس الامارة بالسوء، وتقويم أخلاقها وجعلها تتخلى عن تصرفاتها العشوائية. نذكر منها حكمة واحدة:

أن النفس الانسانية تنسى ذاتها بالغفلة، ولا ترى ما في ماهيتها من عجز غيرمحدود، ومن فقر لا يتناهى، ومن تقصيرات بالغة، بل لا تريد أن ترى هذه الامورالكامنة في ماهيتها، فلا تفكر في غاية ضعفها ومدى تعرضها للزوال ومدى استهداف المصائب لها، كما تنسى كونها من لحم وعظم يتحللان ويفسدان بسرعة، فتتصرف واهمة كأن وجودها من فولاذ وأنها منزّهة عن الموت والزوال، وأنها خالدة أبدية، فتراها تنقضّ على الدنيا وترمي نفسها في أحضانها حاملة حرصاً شديداً وطمعاً هائلاً وترتبط بعلاقة حميمة ومحبة عارمة معها، وتشد قبضتها على كل ما هو لذيذ ومفيد، ومن ثم تنسى خالقها الذي يربيّها بكمال الشفقة والرأفة فتهوي في هاوية الاخلاق الردئية ناسية عاقبة أمرها وعقبى حياتها وحياة اُخراها.

ولكن صوم رمضان يُشعر أشد الناس غفلة وأعتاهم تمرداً بضعفهم وعجزهم وفقرهم، فبوساطة الجوع يفكر كلُّ منهم في نفسه وفي معدته الخاوية ويدرك الحاجة التي في معدته فيتذكر مدى ضعفه، ومدى حاجته الى الرحمة الإلهية ورأفتها، فيشعر في أعماقه توقاً الى طرق بابِ المغفرة الربانية بعجز كامل وفقر ظاهرمتخلياً عن فرعنة النفس متهيئاً بذلك لطرقِ باب الرحمة الإلهية بيد الشكر المعنوي (ان لم تفسد الغفلة بصيرته).

C النكتة السادسة: ان من الحكم الوفيرة في صيام رمضان المبارك من حيث توجهه الى نزول القرآن الكريم ومن حيث أن شهر رمضان هو أهم زمان لنزوله، نورد حكمة واحدة فقط هي:

لما كان القرآن الكريم قد نزل في شهر رمضان المبارك فلابد من التجرد عن الحاجيات الدنيئة للنفس، ونبذ سفساف الامور وترهاتها استعداداً للقيام باستقبال ذلك الخطاب السماوي استقبالاً طيباً يليق به، وذلك باستحضار وقت نزوله في هذا الشهر والتشبه بحالات روحانية ملائكية؛ بترك الاكل والشرب، والقيام بتلاوة ذلك القرآن الكريم تلاوةً كأن الآيات تتنزل مجدداً ، والاصغاء اليه بهذا الشعور بخشوع كامل، والاستماع الى ما فيه من الخطاب الإلهي للسمو الى نيل مقام رفيع وحالة روحية سامية، كأن القارئ يسمعه من ا لرسول الاكرم e ، بل شد السمع اليه كأنه يسمعه من جبريل عليه السلام، بل من المتكلم الازلي سبحانه وتعالى، ثم القيام بتبليغ القرآن الكريم وتلاوته للآخرين تبياناً لحكمة من حكم نزوله.

ان العالم الاسلامي في رمضان المبارك يتحول الى ما يشبه المسجد، ويا له من مسجد عظيم تعج كل زاوية من زواياه، بل كل ركن من أركانه، بملايين الحفَّاظ للقرآن الكريم. يرتلون ذلك الخطاب السماوي على مسامع الارضيين، ويظهرون بصورة رائعة براقة مصداق الآية الكريمة: شَهْرُ رَمضَانَ الَّذى اُنْزِلَ فيهِ الْقرآن.. مثبتين بذلك أن شهر رمضان هو حقاً شهر القرآن. أما الافراد الآخرون من تلك الجماعة العظمى فمنهم من يلقي السمع اليهم بكل خشوع وهيبة، ومنهم من يرتل تلك الآيات الكريمة لنفسه..

ألا ما أقبح وما أزرى الانسلاخ من هذا المسجد المقدس الذي له هذا الوضع المهيب، لهاثاً وراء الاكل والشرب تبعاً لهوى النفس الامارة بالسوء! وكم يكون ذلك الشخص هدفاً لاشمئزاز معنوي من قبل جماعة المسجد؟ وهكذا الامر في الذين يخالفون الصائمين في رمضان المبارك فيصبحون هدفاً لازدراء واهانةٍ معنويين - بتلك الدرجة - من قبل العالم الاسلامي كله.

C النكتة السابعة: ان صيام رمضان من حيث تطلعه لكسب الانسان - الذي جاء الى الدنيا لأجل مزاولة الزراعة الاُخروية وتجارتها - له حكم شتى. الا اننا نذكر واحدة منها هي:

ان ثواب الاعمال في رمضان المبارك يضاعَف الواحدُ الى الالف. ومن المعلوم أن كل حرف من القرآن الحكيم له عشر أثوبة، ويعدّ عشر حسنات، ويجلب عشرثمار من ثمرات الجنة - كما جاء في الحديث الشريف - ففي رمضان يولّد كل حرف ألفاً من تلك الثمرات الأخروية بدلاً من عشرٍ منها، وكل حرف من حروف آيات - كآية الكرسي - يفتح الباب أمام الالوف من تلك الحسنات لتتدلى في الآخرة ثماراً حقيقية. وتزداد تلك الحسنات باطراد أيام الجُمع في رمضان، وتبلغ الثلاثين ألفاً من الحسنات ليلة القدر.

نعم، ان القرآن الكريم الذي يهب كل حرف منه ثلاثين ألفاً من الثمرات الباقية يكون بمثابة شجرة نورانية - كشجرة طوبى الجنة - بحيث يُغنِم المؤمنين في رمضان المبارك تلك الثمرات الدائمة الباقية التي تعد بالملايين.. تأمل هذه التجارة المقدسة الخالدة المُربِحة وأجل النظر فيها، ثم تدبر في أمر الذين لا يقدّرون قيمة هذه الحروف المقدسة حق قدرها، ما أعظم خسارتهم وما أفدحها؟

وهكذا، فان شهر رمضان المبارك أشبه ما يكون بمعرض رائع للتجارة الاُخروية او هو سوق في غاية الحركة و الربح لتلك التجارة وهو كالارض المنبتة في غاية الخصوبة والغَناء لإنتاج المحاصيل الاُخروية.. وهو كالغيث النازل في نيسان لإنماء الاعمال وبركاتها.. وهو بمثابة مهرجان عظيم وعيد بهيج مقدّس لعرض مراسيم العبودية البشرية تجاه عظمة الربوبية وعزة الالوهية.

لأجل كل ذلك فقد أصبح الانسان مكلَّفاً بالصوم، لئلا يلج في الحاجات الحيوانية، كالأكل والشرب من حاجات النفس بالغفلة، ولكي يتجنب الانغماس في شهوات الهوى وما لا يعنيه من الامور.. وكأنه أصبح بصومه مرآة تعكس "الصمدانية" حيث قد خرج مؤقتاً من الحيوانية ودخل الى وضع مشابهٍ للملائكية، أو أصبح شخصاً اُخروياً وروحاً ظاهرة بالجسد، بدخوله في تجارة اُخروية وتخلّيه عن الحاجات الدنيوية المؤقتة.

نعم، ان رمضان المبارك يكسب الصائم في هذه الدنيا الفانية وفي هذا العمر الزائل وفي هذه الحياة القصيرة عمراً باقياً وحياة سرمدية مديدة، ويتضمن كلها. فيمكن لشهر رمضان واحد فقط أن يمنح الصائم ثمرات عمر يناهز الثمانين سنة. وكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر - بنص القرآن الكريم - حجة قاطعة لهذا السر.

فكما يحدد سلطان أياماً معينة في فترة حكمه، أو في كل سنة، سواء باسم تسنمه عرش الحكم أو أي يوم آخر من الايام الزاهرة لدولته، جاعلاً من تلك الايام مناسبات وأعياداً لرعيته، فتراه لا يعامل رعيته الصادقين المستحقين في تلك الايام بالقوانين المعتادة، بل يجعلهم مظهراً لأحسانه وانعامه وأفضاله الخاصة. فيدعوهم الى ديوانه مباشرة دون حجب، ويخصّهم برعايته الخاصة ويحيطهم بكرمه وباجراءاته الاستثنائية، ويجود عليهم بتوجهاته الكريمة.. كذلك القادر الازلي ذو الجلال والاكرام وهو سلطان الازل والابد وهو السلطان الجليل لثمانية عشرألف عالم من العوالم، قد أنزل سبحانه في شهر رمضان أوامره الحكيمة السامية وقرآنه الحكيم المتوجه الى تلك الالوف من العوالم، لذا فان دخول ذلك الشهر المبارك في حكم عيد ومناسبة إلهية خاصة بهيجة، وفي حكم معرض بديع رباني، ومجلس مهيب روحاني، هو من مقتضى الحكمة. فما دام شهر رمضان قد تمثل بتلك المناسبة البهيجة وذلك العيد المفرح فلابد أن يؤمَر فيه بالصوم، ليسمو الناس - الى حدٍ ما - على المشاغل الحيوانية السافلة. فالكمال في ذلك الصوم هو جعل جميع حواس الانسان كالعين والاذن والقلب والخيال والفكر على نوع من الصوم، كما تقوم به المعدة. أي تجنيب الحواس تلك من المحرمات والسفاهات وما لا يعنيها من أمور، وسوقها الى عبودية خاصة لكل منها.

فمثلاً: يروّض الانسان لسانه على الصوم من الكذب والغيبة والعبارات النابية ويمنعه عنها، ويرطب ذلك اللسان بتلاوة القرآن الكريم وذكر الله سبحانه والتسبيح بحمده والصلوات والسلام على الرسول الكريم e والاستغفار، وما شابهه من أنواع الاذكار.

ومثلاً: يغض بصره عن المحرمات، ويسد أذنه عن الكلام البذئ، ويدفع عينه الى النظر بعبرةٍ واُذنَه الى سماع الكلام الحق والقرآن الكريم. ويجعل سائر حواسه على نوع من الصيام.

ومن المعلوم أن المعدة التي هي مصنع كبير جداً إن عطّلت أعمالَها بالصيام فان تعطيل المعامل الصغيرة الاخرى يكون سهلاً ميسوراً.

C النكتة الثامنة: ان حكمة من الحكم الكثيرة لصيام رمضان المبارك المتعلقة بالحياة الشخصية للانسان تتلخص بما يأتي:

ان في الصوم نوعاً من أنواع العلاج الناجع للانسان وهو ((الحِمية)) سواء المادية منها أو المعنوية، فالحِمية ثابتة طباً. إذ إن الانسان كلما سلكت نفسُه سلوكاً طليقاً في الأكل والشرب سبّب له أضراراً مادية في حياته الشخصية. وكذلك الحال في حياته المعنوية، اذ إنه كلما إلتهم ما يصادفه دون النظر الى ما يحل له ويحرم عليه تسممت حياته المعنوية وفسدت، حتى يصل به الامر ان تستعصي نفسُه على طاعة القلب والروح فلا تخضع لهما. فتأخذ زمامَها بيدها وهي طائشة حرة طليقة، وتسوق الانسانَ الى شهواتها دون أن تكون تحت سيطرة الانسان وتسخيره.

أما في رمضان المبارك فان النفس تعتاد على نوع من الحِمية بوساطة الصوم وتسعى بجد في سبيل التزكية والترويض وتتعلم طاعة الاوامر، فلا تصاب بأمراض ناشئة من امتلاء المعدة المسكينة وادخال الطعام على الطعام. وتكسب قابلية الاصغاء الى الاوامر الواردة من العقل والشريعة. وتتحاشى الوقوع في الحرام بما أخذت من أمر التخلي عن الحلال. وتجدّ في عدم الاخلال بالحياة المعنوية وتكدير صفوها.

ثم أن الاكثرية المطلقة من البشرية يُبتلَون بالجوع في أغلب الاحيان. فهم بحاجة الى ترويض، وذلك بالجوع الذي يعوّد الانسان على الصبر والتحمل. وصيام رمضان هو ترويض وتعويد وصبر على الجوع يدوم خمس عشرة ساعة أو أربعاً وعشرين ساعة لمن فاته السحور. فالصوم اذن علاج ناجع لهلع الانسان وقلة صبره، وعدم تحمله الامور اللذين يضاعفان من مصيبة الانسان وبلاياه.

والمعدة كذلك هي نفسها بمثابة معمل لها عمال وخَدَمَة كثيرون، وهناك في الانسان أجهزة ذات علاقات وارتباطات معها، فان لم تعطَّل النفسُ مشاغلَها وقت النهار مؤقتاً لشهر معين ولم تدعها، فانها تُنسي أولئك العمال والخَدَمَة عباداتهم الخاصة بهم، وتُلهيهم جميعاً بذاتها، وتجعلهم تحت سيطرتها وتحكمها، فتشوش الامر على تلك الاجهزة والحواس وتنغّص عليها بضجيج دواليب ذلك المصنع المعنوي وبدخانه الكثيف، فتصرف أنظار الجميع اليها وتنسيهم وظائفهم السامية مؤقتاً. ومن هنا كان كثير من الاولياء الصالحين يعكفون على ترويض أنفسهم على قليل من الاكل والشرب، ليرقوا في سلّم الكمال.

ولكن بحلول شهر رمضان يدرك أولئك العمال أنهم لم يُخلقوا لأجل ذلك المصنع وحده، بل تتلذذ ايضاً تلك الاجهزة والحواس بلذائذ سامية وتتمتع تمتعاً ملائكياً وروحانياً في رمضان المبارك ويركزون أنظارهم اليها بدلاً من اللهو الهابط لذلك المصنع. لذلك ترى المؤمنين في رمضان المبارك ينالون مختلف الانوار والفيوضات والمسرات المعنوية - كلٌ حسب درجته ومنزلته - فهناك ترقيات كثيرة وفيوضات جمة للقلب والروح والعقل والسر وأمثالها من اللطائف الانسانية في ذلك الشهر المبارك. وعلى الرغم من بكاء المعدة ونحيبها فان تلك اللطائف يضحكن ببراءة ولطف.

C النكتة التاسعة: ان صوم رمضان من حـيث كسرهِ الربوبية المـوهومة للنـفس كسـراً مباشراً ومن ثم تعريفها عبوديتها واظهار عجزها أمامها، فيه حكم كثيرة، منها:

أن النفس لا تريد أن تعرف ربها، بل تريد أن تدعي الربوبية بفرعونية طاغية. فمهما عُذبَت وقُهرت فان عِرق تلك الربوبية الموهومة يظل باقياً فيها. فلا يتحطم ذلك العرق ولا يركع الا أمام سلطان الجوع.

وهكذا، فصيام رمضان المبارك ينزل ضربة قاضية مباشرة على الناحية الفرعونية للنفس. فيكسر شوكتها مُظهراً لها عجزها، وضعفها، وفقرها، ويعرّفها عبوديتها.

وقد جاء في احدى روايات الحديث: ان الله سبحانه قال للنفس: ((مَن أنا وما أنتِ؟)) أجابت النفس: ((أنا أنا، أنت أنت)) فعذّبها الربُ سبحانه وألقاها في جهنم، ثم سألها مرة أخرى فأجابت: ((أنا أنا، أنت أنت)) ومهما أذاقها من صنوف العذاب لم تردع عن أنانيتها.. ثم عذبها الله تعالى بالجوع، أي تركها جائعة، ثم سألها مرة أخرى: من أنا وما أنتِ؟ فأجابت النفس: أنتَ ربيِ الرحيم وأنا عبدُك العاجز.

اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاةً تكون لك رضاءً ولحقّه أداءً بعدد ثواب حروف القرآن في شهر رمـضان وعلى آله وصحبه وسلم.

} سُبحانَ ربّكَ رَبِّ العِزَّةِ عمَّا يَصفون^ وسلامٌ على المُرسَلين^ والحمدُ لله رَبِّ العالَمين{

عمر أبودقة
28/08/2009, 03:01 AM
قرأت القليل من الكثير في نورانيات المبدع بديع الزمان سعيد النورسي يرحمه الله
وهذه أستاذي الفاضل ليست نكتاً إنما هي حكماً نورانية لفريضة الصيام أنقلها الآن كما هي لبعض المنتديات المحترمة وشكراً لك .