مسلك ميمون
23/08/2009, 10:18 AM
قراءة في عشر قصص قصيرة جداً للقاص سعيد أبو نعسة ـ من لبنان
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10550.imgcache.imgcache
الأستاذ القاص سعيد أبو نعسة
القاص سعيد أبو نعسة من القصاصين الموهوبين الواعدين الذين طالما استوقفتني نصوصهم . أجده مكثراً . و متتبعاً للأحداث ، و منقباً على غرر الأفكار ، و محباً للسرد ، و متمكنا من اللغة و أدواتها . و شغوفاً بالتنظير و النقد و بخاصة في مجال القصّة ، و القصة القصيرة جداً التي نحن بصددها .
و ما سنأتي به في هذه القراءة لا ينقص من قيمته شيئاً . فقيمته موفورة و مكانته الأدبية محترمة . و هذه مجرد قراءة شخصية لبعض نصوصه القصصية التي نجده قد حالفـه التوفيق في بعضها فجاءت سردية فنية معبرة ... و أخرى في حاجة إلى تهذيب لأنها كتبت على عجل و نشرت على عجل . و صنف آخر ـ و إن كان قليلا ـ طغت عليه المباشرة . فأفقدته بعضا من ألقه و فنيته .
(1) لَــــــــــــــــــــوْ
اقتطَعَ البَنّاءُ مداميك قصره من صخرة راسخة في أعلى التلّ.
تضاءلت الصخرة حتى صارت حجراً .
ضحك البنّاء وقال للحجر: " لم تعد ذا جدوى، يا مسكين، حتّى وإن دَحرَجَتْك السّيول نحوي."
كظم الحجر غيظه ثم قال: لو رضيَت الثلوج بالإلتفاف حولي قبل أن تذيبها الشمس، لتضاعف حجمي وبأسي ولهدمْتُ قصرَك.
( لو) حرف شرط غير جازم و تسمى أيضا حرف امتناع لامتناع . أي : أي امتناع الجواب لامتناع الشرط . و هي لا بد أن يقع بعدها جملتان بينهما ترابط معنوي ، و تسمى الأولى جملة الشرط ، و الثانية جملة الجواب، و الأغلب أن تكون الجملتان فعليتين ماضويتين . كما هو الشأن هنا في هذا النص . لا علينا .
نحن أمام نص رمزي . اعتمد القاص عدم المباشرة كما هو الشّأن في أغلب نصوصه . و جاء بعدة رمـوز : ( البناء ، قصره ، صخرة ، حجر ، السيول ، الثلوج ، الشمس )
ـ البناء : هو العدو الصهيوني
ـ القصر : الكيان الصهيوني .
ـ الصخرة : فلسطين في كمالها .
ـ الحجر : ضآلة ما صارت عليه فلسطين بعد التقسيم و الاستطان و الاحتلال ....
ـ السيول : أحكام الاستعمار و أذنابه و مؤيديه التي حاصرت فلسطين و دحرجتها إلى
هاوية الذل و الهوان .
ـ الثلوج : الدول العربية .
ـ الشمس : القرارات المجحفة سواء الأممية أو العدوانية الصهيونية .
بعد هذا تبدو القصة عارية مكشوفة . و لكن إلى أي حد وفق القاص في اختيار رموزه ؟
أعتقد أنه وفق في الرموز التالية : ( القصر ، الصخرة ، الحجر ، السيول ، الثلوج ) و لم يوفق في اختيار الرمزين المتبقين ( البناء ، و الشمس )
فالعدو الصهيوني لم يكن في يوم ما بناء .و لا يستحق هذا الرمز الطاهر النقي . البناء للشرفاء ، للبشر العقلاء ، للنشامى النجباء .... لا لأعداء البشرية ، محطمي البيوت على رؤس ساكنيها . الطاغين المستبدين ، الذين لا يرعون كرامة و لا شرفا و لا نبلا و لا أخلاقا .... فكيف يرمز لهم بالبناء؟حقا بنوا سجونا و معتقلات في عراء صحراء النقب. فهل هذا يعد بناء ؟ حقا بنوا مستوطنات فوق أراض انتزعوها من أهلها فهل هذا يعد بناء ؟ إذاً ؛ لا يمكن أن يتمتع العدو الصهيوني بشرف البناء و لو رمزاً .
أما الشمس فقد ترسخت في الأذهان بأنها الحقيقة . إذا سطعت و بانت انقشع دونها كل شيء . فهي النّور و الضياء و الدّفء ... فلا يحق أن تكون ـ و لو رمزاً ـ مجحفة و ظالمة كالقرارات الظالمة الأممية . التي جعلت الكيان الصهيوني كياناً عنصرياً ، ثمّ عادت و برأته من كلّ عنصرية . و رأت من حقه الدفاع عن نفسه و هو محتل باغ ظالم . و أنّ المقاومة ، مقاومة المحتل إرهاب و إجرام .... !!! و بذلك لا يمكن اعتبار الشّمس رمز هذه الموبقات .
هل من رمز بديل ؟
أرى أن يستبدل البناء : بالمرابي . و فيه إشارة لخصلة اليهود المتأصلة ''الربا ''.
أو باسم عبري ذا دلالة مثل شؤول أو حاييم ، أو صفة مثل :السامري . ......
و أن تحذف الشمس كليا و يبنى الفعل ( تذيبها ) للمجهول ليبقى احتمال التأويل و التفاعل ...واردا . و أن تتغير العبارة التالية ( " لم تعد ذا جدوى، يا مسكين، حتّى وإن دَحرَجَتْك السّيول نحوي." )
إلى ( كم أنت ضعيف يا مسكين ، لقد دحرجتك إلي السيول . )
(2)الصحفي المنتظَـــر
جمعتهما المصالح البالية وفرق بين وجهيهما حذاء بالٍ قذفه صحفي مغمور ؛ فطارت أعين البشرية تلاحق الحذاء المقذوف تمجيدا و تفخيما بينما قبع الصحفي المنتظَر خلف القضبان منتظرا شعاع كلمة .
هذا النص من مساويء العجلة و الاستعجال في الكتابة الفنية . فقد كان رايي دائماً . أنّ الكتابة الصحافية تتطلب العجلة و السرعة لأنّ هناك خبر و متابعة ، و هناك ما يسمى بالسبق الصّحفي . بينما في الكتابة الفنية الابداعية عموماً ... لا بدّ من التّريت و السّماح للأفكار أن تتخمر لحظة . قد يقول قائل : و ما ذا تفيد القصة بعد أن تنقضي المناسبة ؟ أقول عليك أن تكتب مقالة .لأنّ العمل الإبداعي ليس كالمقالة الإخبارية . يستجيب كلّما أرداه الكاتب . لهذا يبقى هذا النص مباشراً صارخاً بما فيه ، معلناً عن نفسه و دلالته . على غير ما ألفنا من القاص .
(3) حين خطب الزعيم
وقف الحضور طويلا مصفقين للزعيم و قد اعتلى المنصة فقال:
أيها الشعب العظيم :
لقد نجحتم باقتدار في تطبيق الخطة الخمسية التي نهضت بالبلاد من كبوة طويلة أغرقها فيها النظام البائد؛ و سأتلو على حضراتكم بنود الخطة الخمسية القادمة و....
و راح يتابع كلامه وسط الاستحسان و الهتافات الداعية له بطول العمر و الفادية له بالروح و الدم ؛ و لفت الأنظار شخير يتصاعد من أحد المقاعد ؛ فهب رجل الأمن إلى المواطن النائم ووكزه بعصاه فأجفل صارخا :
لماذا ضربتني ؟
- كيف تنام و الزعيم يخطب ؟
- نائم ؟ هذا صحيح و لكن - عليّ الطلاق - أعرف ماذا قال الرئيس حرفيا و سيقول بعد ثانيتين : ( و عليكم أن تتنبهوا لما يحاك لنا و للمنطقة من مؤامرات رجعية و استعمارية بغيضة )
فأنصت رجل الأمن بخشوع فإذا بالزعيم يردد حرفيا ما قاله الرجل المضروب .
ثم ابتسم في وجهه معتذرا: قل لي يا ملعون أنك كتبت خطاب الزعيم .
فرد الرجل ساخرا : لست وحدي من كتب بل كل الحاضرين شاركوني أيضا .
هذا نص طويل نسبياً . و كان يستحسن تهذيبه و تكثيفه قبل نشره . فهو في حاجة إلى عملية اختزال فني . و لعلّ أهمّ ما فيه هو الحوار الذي دار بين رجل الأمن و المواطن النائم . إذاً كان يجب التركيز مبدئيا على ذلك . دون الاسترسال و التركيز على خطاب الرئيس .
و أستسمح الأخ القاص في إجراء هذه العملية الجراحية للنص كاقتراح :
وقف الزعيم يتابع خطابه وسط الهتافات الداعية له بطول العمر و الفادية له بالروح و الدم ؛ و لفت الأنظار شخير ؛ فهب رجل الأمن إلى المواطن النائم ووكزه فأجفل صارخا:
ـ ماذا ماذا ؟
- كيف تنام و الزعيم يخطب ؟ !
و الله أعرف ما قال الزعيم حرفيا وما سيقول بعد حين و سيختم بقوله : ( و عليكم أن تتنبهوا لما يحاك لنا و للمنطقة من مؤامرات رجعية و استعمارية بغيضة)
فتمعن رجل الأمن فإذا بالزعيم يردد حرفيا ما قاله الرجل .
فابتسم في وجهه معتذراً مرتاباً ، و قال متسائلا: لا تقل لي إنك كاتب الزعيم ؟!
هذا التّساؤل الأخير له دلالة تأويلية ، و غاية فنية .
(4) وحَـكَمت المحكمةُ
سأَل القُضاةُ الجنديّ: لماذا أجرمْتَ بِحقّ الطفولة، وأجهزت على طفلة بريئة بثلاثين رصاصة؟
- لأنّها ضربَتْ بأوامري عرض الحاجز، وأكملَتْ سَيْرها باستهتار.
- لكنّها طفلة. ألا تفهم؟ طفلة!
- حين صدر الأمرُ بِحظر التجوّل، لم يحدَّد نوع البشر الممنوعين ولا أعمارهم.
- لو سلّمنا جَدلاً بأنها أذنبَتْ، وخرقَتْ القانون العسكري، فهل يستدعي جُرمُها زرع ثلاثين رصاصة في ظهرها؟
- أيّها السّادة: صوت الرصاصة الأولى كان كافيا لصرعها، ولكنّها ظلّت تضحك حتى الرصاصة الثلاثين.
- هل لديك رصاصات أخرى؟
هذه القصة ينبغي معالجتها من حيث الحوار . لطالما قلت في تعليقات سابقة : إنّ أخطر شيء في القصّة : الحوار . فإمّا أن يجعلها هادفة معبرة فنية ... و إمّا أن يجعلها مباشرة واضحة لا تستحق القراءة ، لأنّها عبارة عن حوارية مكشوفة dialogisme decouverte و عن سيل لفظي لا يؤبه له . و لا يعد في الفن شيئاً . لهذا كان الحثّ على توظيف الحوار و لكن بحذر شديد . لأنه يتطلب الدّقة و عمق التّعبير و التّلميح ... فهو أداة و وسيلة فنية في القصّة . فما بالك إذا كانت القصّة قصيرة جداً . فإنّ التّعامل مع الحوار يكون أشد ّ و أصعب .
و ما دام التّعبير يأخذ باهتمام القاص ، فيأتي بجمل تفسيرية توضيحية . و كأنّه يضع افتراضاً أنّ القاريء لا يفهمه ... نستسمحه ونحذف من هذا النّص أيضاً بضع كلمات ، و سيتضح أنّ النص كان متخماً لفظاً و تعبيراً ، و أنّ المعالجة ـ قبل النشر ـ لم تتم دائماً بالصّورة الفنية المرجوة .
وحَـكَمت المحكمةُ
سأَل القُضاةُ الجنديّ: لماذا أجهزت على طفلة بثلاثين رصاصة؟
- لأنّها عصت أوامري، وأكملَتْ سَيْرها باستهتار.
- لكنّها طفلة ؟!
- حين صدر الأمرُ بِحظر التجوّل، لم يحدَّد نوع البشر .
- فهل يستدعي ذلك ثلاثين رصاصة ؟
- أيّها السّادة : رصاصة تكفي . ولكنّها ظلّت تضحك حتى الرصاصة الثلاثين.
ـ .....................................؟
(5)أفضليّة المـرور
تَوَاجَهَ الطفلُ والذئب. كان الدّرب ضيّقا لا يسمح إلاّ لأحدهما بالمرور.
فَغَرَ الذئب فاهُ... استعدّ الطّفل.
تقدّم الذئب خطوة... تقدّم الطفل خطوتين.
عوى الذئب إرهابًا.فالتقط الطفل حجراً.
أجفل الذئب وتراجع خطوة. فرجمه الطّفل رجما متواصلا حتى أجبره على الهرب.
وقال الناس مُشَكّكين: ذئبٌ من ورق.
لكنهم حين أنعموا النظر تأكّدوا أنّ الذئب يُطلق دخاناً.
حين يكتب القاص سعيد أبو نعسة رمزياً، و يوظف الحيوانات و الكائنات يكون قاصاً بارعاً. كما هو في هذا النّص الرّمزي . الذي ينفتح على جملة من التّأويلات و الاحتمالات . و الأجمل ما فيه خلوه من المباشرة . و اعتماده نسقية السرد الفني .
(6)مشـاكســة
تلميذا مُشاكسا كنتُ حين سألتُ المُعلّم: ما سبب بقاء زعيمنا على كرسي الحكم ما يقرب من نصف قرن؟
بلعَ المعلّمُ ريقَهُ، وببراعة تملّصَ من الجواب، مُوجّها السؤال إلى زملائي التلاميذ.
فأجاب أحدهم: لأنّه محبوب، ألا ترى أنّه يفوز بالتزكية كلّما تقرّر إجراء الإنتخابات!
وأجاب آخر: لأنه نشر الرّخاء والبحبوحة في ربوع الوطن.
وقال ثالث: لأنّه طلق اللسان، صلب الجَنَان، كثير الأعوان.
فأثنى المعلم على حصافة التلاميذ، ثم توجّه إليّ بالسؤال: وما رأيك أنت يا بُنيَّ؟
فقلتُ: ببساطة شديدة. لأنه أثبت للقاصي والدّاني أنّه إسم على مُسمّى : عبد السـلام.
يومها، صفّق لي التلاميذ طويلا طويلاً، تماماً كما صفّق المحقّقُ على وجهي .ا
التقديم و التأخير جائز في العربية ما لم يحدث ثقلا في النطق أو خللا في المعنى فحين قرأت : ( تلميذا مشاكسا كنت ) قلت : الأحسن و الأبسط و الأسهل ( كنت تلميذاً مشاكسا ) و نعود مرة أخرى إلى الحوار و دقته . لو أمعنا النظر هنا . سنجد جمل الحوار إخبارية ، تفصح عن كلّ شيء ، و المفروض أن تلمّح باختصار فقط . مثلا :
مشـاكســة
كنتُ تلميذا مُشاكسا حين سألتُ المُعلّم: ما سبب بقاء زعيمنا على كرسي الحكم ما يقرب من نصف قرن؟
بلعَ المعلّمُ ريقَهُ، وببراعة تملّصَ من الجواب، مُوجّها السؤال إلى زملائي التلاميذ.
فأجاب أحدهم: لأنّه منتخب و محبوب ...
وأجاب آخر: لأنه نشر الرّخاء .
وقال ثالث: لأنّه طلق اللسان، صلب الجَنَان .
فأثنى المعلم على حصافة التلاميذ، ثم توجّه إليّ بالسؤال: وما رأيك أنت يا بُنيَّ؟
فقلتُ مغتاضاً : يكفيه أنّه عبد السّـلام ، إسم على مُسمّى :.
(7)الـدّرس
حين تعذّرَ على الجيش العربي الانتصار في القادسية أرسل القائدُ إلى الخليفة رسولاً يطلب منه المَدد فأرسل إليه على الفور أربعة دُعاة، فانتصر.
وحين استنجد المسجد الأقصى بملوك المسلمين ورؤسائهم، اجتمعوا على الفور وأرسلوا إليه أربعة دعاة أيضا .
قصة رمزية symbolyque إشارية تلميحية . و كذلك ـ و كما أسلفت ـ ينجح القاص كلّما اشتغل على الرمز و التّلميح . و كأنّ دأب الكتابة القصصية الناجحة ، و نسقها الفني ـ عنده ـ لصيق بالكتابة الرمزية المتأنية .
و لك أن تبحث و تفكر كمتلق ؛ لماذا القائد في معركة القادسية ـ أيام زمان ـ بعث يطلب المدد فأرسل إليه بمدد قوامه أربعة دعاة و كان النصر و انقلبت الموازين راسا على عقب . و كيف أنه في زماننا استنجد الأقصى بملوك المسلمين و رؤسائهم فارسلوا أربعة دعاة . و لكن ...... بقيت الحالة على ما هي عليه .
لك أن تبحث في نوعية الدعاة الأربعة الأولين و لمن أرسلوا . و لك أن تبحث في نوعية الدعاة الآخرين و لمن أرسلوا . و لماذا بقيت دار لقمان على حالها ؟
فنحن أمام نص يمتح من بنية عميقة structure profonde أساسها عبق التاريخ و مرارة الحاضر . و شتان ما بين مشرق و مظلم . و بين فاعل و مفعول .....
(8)نقطــة
في مؤتمَرٍ صحفيّ حاشد، ضمّ مندوبي وسائل الإعلام العربية والعالمية.
وقف الحاكم ليجيب بصراحة وشجاعة عن سؤال وحيد:
لماذا رفضتَ إجراء الانتخابات التشريعية في البلاد؟
فأجاب: لأنّه لا وجود لكلمة ( انتخابات ) في الدستـور.
الوارد في الدستور هو كلمة ( انتحابات ) بالحاء المهملة.
وهذا يسبّب معضلة مستحيلة الحلّ، لأننا بحاجة إلى تصحيح هذه الكلمة والتصحيح يحتاج إلى تعديل الدستور، وتعديل الدستور يحتاج إلى مجلس تشريعيّ مُنتخَب؛ وإجراء الانتخابات التشريعية بحاجة إلى نصّ دستوري و ( حلّها كنّك بتحلّها ).
( النقطة )
نص يعبر عن الأسباب الواهية التي يتشبث بها بعض الحكام حين يجدون أنّ الأمور تسير في غير صالحهم . تماماً كما يحاول النظام في مصر أن يجعل إسرائيل تراقب معبر رفح بحجة أنّها الدولة المحتلة . مع أنّها خرجت من غزة و لا علاقة لها بغزة بل لو شئت لقلت لا علاقة لها بفلسطين كلّ فلسطين . و يريد النظام في مصر أن يعطيها الشرعية بحكم القانون . و أي قانون هذا الذي يضمن للمحتل الشّرعية ؟ و لكن هكذا الحكام .... و كذلك يفعلون . فالّنص بسخرية توعوية يحاول كشف الستار عن الحقيقة المزيفة . و يوشوش في الأذن : ( إن الديمقراطية لعبة السياسة و السياسيّن . و هي الحلم الذي لا يتحقق للمحكومين و المستضعفين )
كنت أفضل لو اعتنى القاص بتهذيب النص ، أعلم أنه يؤمن بهذا و لكن كثيراً ما لا يطبق ذلك في نصوصه فتستغرقه شهوة الكتابية livresque .
كما تمنيت لو حذف المثل الشعبي في الأخير لأنه يلخص كلّ القصّة ، و يجعل السّارد طرفاً مشاركـاً و مهيمنا و غير محايد . و هذا المثل السائد في الأوساط الشعبيــــة ـ على أهميته ـ لو استنتجه القاريء لكان ذلك أحسن و أجود . و هذا ما تقره اللسانيات النصية linguistique textuelle
(9) إعـاقــة
وقف الحاضرون جميعاً، واحمرّتْ أكُفّهم من التصفيق للمسؤول الكبير، عدا رجلٍ واحدٍ ظلّ يصفّقُ جالساً، وحين انفضّ اللقاء، انقضّ رجال المخابرات عليه لاعتقاله واكتشفوا أن جسده ينتهي عند الرّكبتين
.
القاص البارع ؛ يسعى دائماً لايجاد أفكار جديدة ، و بلورتها في نسق قصصي . و القاصّ سعيد أبو نعسة من هذا الصّنف الباحث ، الذي يجتهد في اقتناص الأفكار . إلا أنّ عملية القنص هذه قد لا تأتي دائماً في أحسن صورة : رجل مقعد ، فاقد لساقيه . يحضر خطبة مسؤول كبير و يصفق مع المصفقين ،فيقف المصفقون و لا يقف . يكون ذلك مدعاة أن تنقض عليه المخابرات في نهاية اللقاء ؟ !
فماذا لو لم يحضر ؟ أو حضر و لم يصفق ؟
عموماً التّعامل مع الأفكار في نطاق القصّة و القصّة القصيرة جداً . يتطلب وعياً تاماً بخلفياتها ، و مدى تقبلها أو رفضها من طرف الآخر . لأنّ الفكرة إذا لم تكن ذات دلالة و واقعية تجعل القصّة ضرباً من الخيال ألاّ فنّي .
فوجه عدم التقبل هنا : أنّ المخابرات ليست بهذه السذاجة و البساطة. فهي تعرف على من تنقض ، و كيف تنقض ، و متى تنقض . ثم أنّ العملية تمّت بعد أن انفض الجمع ، ألا يرى رجال المخابرات و من بعيد أنّ الرّجل يعاني من الاعاقة ، و عدم القدرة على الوقوف ؟ و ربما بجانبه كرسيه المتحرك ، أو من يساعـده .....؟!
(10) زمن الحَميـر
أيقَـنَ النّـاس بعد آلاف السّنين أنّهم ظلموا الحمار في تسميَـتِهم له وفي نظْرَتهم إليه، فسيّدوه ؛وعندما أدرك الحاكمُ وَلَع الشعب به أقام له التماثيل والمعابد. ثم أمر باستيراد البرسيم
.
( زمن الحمير ) قصة قصيرة جداً و لكنها معبرة جداً .
لاشك أنّ الحاكم إذا تبين له أنّ شعبه في شغف بشيء ما. و أنّ هذا الشيء لا يمسّ نظامه؛ و لا يسائله ؛ و لا يسبب له حرجاً أو مضايقة ... فإنّه سيسعى في دعم هذا الشّيء ، بكلّ ما يملك .. لأنّه لم يصدق كيف أنّ الحظّ ساق إليه ما يلهي الشّعب عنه ؛ و عن مساوئ حكمه . فالحمار رمز فقط . فإذا أصبح سيداً يحظى بالاحترام و التبجيل و السيادة . فهذا ما يرادُ للشعوب أن تقدر ما لا يقدر ، و تحترم ما لا يحترم . و لك الأمثلة في انتشار الأضرحة المقدسة و ما يقام حولها من مواسيم و طقوس و ما تتعهده الحكومات العربية من معونات و أموال لهذه المواسيم و المهرجانات التي تتخذ طابعاً دينياً . و دعك من هذا و انظر معي مسألة كرة القدم و كيف استحوذت على العقول حتى أصبحت مسألة وطنية . تصرف الحكومات على ملاعبها و مدربيها و لا عبيها الشيء الذي لو صرف في مرافق اجتماعية و صناعية لأغنى البلاد و العباد ، و أبعد الجميع من و يلات الفقر و البطالة . و كذلك السكوت على المخدرات إلا ما فاق منها الحد . و السكوت على موبقات الزنا و الدّعارة إلا ما فاحت رائحته ... كلّ ذلك من الأشياء التي أصبح مرضى الشّعوب و هم كثر يميلون إليها لسبب أو آخر . فأصبحت عندهم ـ لقلة وعي و إدراكـ ـ ممجدة بل لا يمكن العيش بدونها .
و باركها الحاكم بسكوته عنها تارة ؛ و دعمها بقوة تارة أخرى . فأصبحنا في زمن الحمير . فلماذا لا يقوم الحاكم باستيراد البرسيم ؟
القصة على قصرها لسعة ذكية لأولي الألباب . و ومضة فنية رمزية . تغني عن الكثير من الكلام والخطب و المقالات ( سيادة الحمار تستوجب من الحاكم إقامة التماثيل و المعابد و استيراد البرسيم له ) و هذا يذكرني بالأغاني الهابطة و الأفلام الماجنة التي أصبح لها أنصار و رواد على طول العالم العربي و عرضه حين سئل مخرج و فنان كنا نكن له احتراماً و نظنه متميزا ... و إذا به يقول : ( الجمهور عايز كدا ) و لكن ليته يدري أنّ وراء الجمهور ؛ هناك من هو ( عايز كدا )
من خلال هذه العشرية القصصية للقاص الأستاذ سعيد أبونعسة نستشف أشياء نجملها في التّالي:
ـ تهذيب النّص أمر ضروري في مجال القصة القصيرة و الإبداع عموماً فإنّ اللّمسات النهائية finishing touches تكسب النّص بعداً فنياً خاصاً. و لا داعي للإسراع بالنشر .
ـ قوة الرّمز تتجلى فيما يرمي إليه ، و الآفاق التي يفتحها أمام القارئ .
ـ الحوار مقوم قصصي هام فليس دوره تميع الفكرة أو طمسها باللّفظية و إنّما دوره التّلميح بأقل ما يمكن من الألفاظ مع المحافظة على النّسق العام للنّص .
ـ الأفكار و إن كثرت و اختلفت . فالفنان القاصّ البارع يختار الجديد منها . أو يعيد استنطاق القديم منها لغاية يتطلبها الحاضر و المستقبل . و القارئ لا يقبل الأفكار ذات البعد الفنطازي الخيالي . بل يحتفي في الغالب بالأفكار التي تلامس واقعه المعيش .
د مسلك ميمون
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10550.imgcache.imgcache
الأستاذ القاص سعيد أبو نعسة
القاص سعيد أبو نعسة من القصاصين الموهوبين الواعدين الذين طالما استوقفتني نصوصهم . أجده مكثراً . و متتبعاً للأحداث ، و منقباً على غرر الأفكار ، و محباً للسرد ، و متمكنا من اللغة و أدواتها . و شغوفاً بالتنظير و النقد و بخاصة في مجال القصّة ، و القصة القصيرة جداً التي نحن بصددها .
و ما سنأتي به في هذه القراءة لا ينقص من قيمته شيئاً . فقيمته موفورة و مكانته الأدبية محترمة . و هذه مجرد قراءة شخصية لبعض نصوصه القصصية التي نجده قد حالفـه التوفيق في بعضها فجاءت سردية فنية معبرة ... و أخرى في حاجة إلى تهذيب لأنها كتبت على عجل و نشرت على عجل . و صنف آخر ـ و إن كان قليلا ـ طغت عليه المباشرة . فأفقدته بعضا من ألقه و فنيته .
(1) لَــــــــــــــــــــوْ
اقتطَعَ البَنّاءُ مداميك قصره من صخرة راسخة في أعلى التلّ.
تضاءلت الصخرة حتى صارت حجراً .
ضحك البنّاء وقال للحجر: " لم تعد ذا جدوى، يا مسكين، حتّى وإن دَحرَجَتْك السّيول نحوي."
كظم الحجر غيظه ثم قال: لو رضيَت الثلوج بالإلتفاف حولي قبل أن تذيبها الشمس، لتضاعف حجمي وبأسي ولهدمْتُ قصرَك.
( لو) حرف شرط غير جازم و تسمى أيضا حرف امتناع لامتناع . أي : أي امتناع الجواب لامتناع الشرط . و هي لا بد أن يقع بعدها جملتان بينهما ترابط معنوي ، و تسمى الأولى جملة الشرط ، و الثانية جملة الجواب، و الأغلب أن تكون الجملتان فعليتين ماضويتين . كما هو الشأن هنا في هذا النص . لا علينا .
نحن أمام نص رمزي . اعتمد القاص عدم المباشرة كما هو الشّأن في أغلب نصوصه . و جاء بعدة رمـوز : ( البناء ، قصره ، صخرة ، حجر ، السيول ، الثلوج ، الشمس )
ـ البناء : هو العدو الصهيوني
ـ القصر : الكيان الصهيوني .
ـ الصخرة : فلسطين في كمالها .
ـ الحجر : ضآلة ما صارت عليه فلسطين بعد التقسيم و الاستطان و الاحتلال ....
ـ السيول : أحكام الاستعمار و أذنابه و مؤيديه التي حاصرت فلسطين و دحرجتها إلى
هاوية الذل و الهوان .
ـ الثلوج : الدول العربية .
ـ الشمس : القرارات المجحفة سواء الأممية أو العدوانية الصهيونية .
بعد هذا تبدو القصة عارية مكشوفة . و لكن إلى أي حد وفق القاص في اختيار رموزه ؟
أعتقد أنه وفق في الرموز التالية : ( القصر ، الصخرة ، الحجر ، السيول ، الثلوج ) و لم يوفق في اختيار الرمزين المتبقين ( البناء ، و الشمس )
فالعدو الصهيوني لم يكن في يوم ما بناء .و لا يستحق هذا الرمز الطاهر النقي . البناء للشرفاء ، للبشر العقلاء ، للنشامى النجباء .... لا لأعداء البشرية ، محطمي البيوت على رؤس ساكنيها . الطاغين المستبدين ، الذين لا يرعون كرامة و لا شرفا و لا نبلا و لا أخلاقا .... فكيف يرمز لهم بالبناء؟حقا بنوا سجونا و معتقلات في عراء صحراء النقب. فهل هذا يعد بناء ؟ حقا بنوا مستوطنات فوق أراض انتزعوها من أهلها فهل هذا يعد بناء ؟ إذاً ؛ لا يمكن أن يتمتع العدو الصهيوني بشرف البناء و لو رمزاً .
أما الشمس فقد ترسخت في الأذهان بأنها الحقيقة . إذا سطعت و بانت انقشع دونها كل شيء . فهي النّور و الضياء و الدّفء ... فلا يحق أن تكون ـ و لو رمزاً ـ مجحفة و ظالمة كالقرارات الظالمة الأممية . التي جعلت الكيان الصهيوني كياناً عنصرياً ، ثمّ عادت و برأته من كلّ عنصرية . و رأت من حقه الدفاع عن نفسه و هو محتل باغ ظالم . و أنّ المقاومة ، مقاومة المحتل إرهاب و إجرام .... !!! و بذلك لا يمكن اعتبار الشّمس رمز هذه الموبقات .
هل من رمز بديل ؟
أرى أن يستبدل البناء : بالمرابي . و فيه إشارة لخصلة اليهود المتأصلة ''الربا ''.
أو باسم عبري ذا دلالة مثل شؤول أو حاييم ، أو صفة مثل :السامري . ......
و أن تحذف الشمس كليا و يبنى الفعل ( تذيبها ) للمجهول ليبقى احتمال التأويل و التفاعل ...واردا . و أن تتغير العبارة التالية ( " لم تعد ذا جدوى، يا مسكين، حتّى وإن دَحرَجَتْك السّيول نحوي." )
إلى ( كم أنت ضعيف يا مسكين ، لقد دحرجتك إلي السيول . )
(2)الصحفي المنتظَـــر
جمعتهما المصالح البالية وفرق بين وجهيهما حذاء بالٍ قذفه صحفي مغمور ؛ فطارت أعين البشرية تلاحق الحذاء المقذوف تمجيدا و تفخيما بينما قبع الصحفي المنتظَر خلف القضبان منتظرا شعاع كلمة .
هذا النص من مساويء العجلة و الاستعجال في الكتابة الفنية . فقد كان رايي دائماً . أنّ الكتابة الصحافية تتطلب العجلة و السرعة لأنّ هناك خبر و متابعة ، و هناك ما يسمى بالسبق الصّحفي . بينما في الكتابة الفنية الابداعية عموماً ... لا بدّ من التّريت و السّماح للأفكار أن تتخمر لحظة . قد يقول قائل : و ما ذا تفيد القصة بعد أن تنقضي المناسبة ؟ أقول عليك أن تكتب مقالة .لأنّ العمل الإبداعي ليس كالمقالة الإخبارية . يستجيب كلّما أرداه الكاتب . لهذا يبقى هذا النص مباشراً صارخاً بما فيه ، معلناً عن نفسه و دلالته . على غير ما ألفنا من القاص .
(3) حين خطب الزعيم
وقف الحضور طويلا مصفقين للزعيم و قد اعتلى المنصة فقال:
أيها الشعب العظيم :
لقد نجحتم باقتدار في تطبيق الخطة الخمسية التي نهضت بالبلاد من كبوة طويلة أغرقها فيها النظام البائد؛ و سأتلو على حضراتكم بنود الخطة الخمسية القادمة و....
و راح يتابع كلامه وسط الاستحسان و الهتافات الداعية له بطول العمر و الفادية له بالروح و الدم ؛ و لفت الأنظار شخير يتصاعد من أحد المقاعد ؛ فهب رجل الأمن إلى المواطن النائم ووكزه بعصاه فأجفل صارخا :
لماذا ضربتني ؟
- كيف تنام و الزعيم يخطب ؟
- نائم ؟ هذا صحيح و لكن - عليّ الطلاق - أعرف ماذا قال الرئيس حرفيا و سيقول بعد ثانيتين : ( و عليكم أن تتنبهوا لما يحاك لنا و للمنطقة من مؤامرات رجعية و استعمارية بغيضة )
فأنصت رجل الأمن بخشوع فإذا بالزعيم يردد حرفيا ما قاله الرجل المضروب .
ثم ابتسم في وجهه معتذرا: قل لي يا ملعون أنك كتبت خطاب الزعيم .
فرد الرجل ساخرا : لست وحدي من كتب بل كل الحاضرين شاركوني أيضا .
هذا نص طويل نسبياً . و كان يستحسن تهذيبه و تكثيفه قبل نشره . فهو في حاجة إلى عملية اختزال فني . و لعلّ أهمّ ما فيه هو الحوار الذي دار بين رجل الأمن و المواطن النائم . إذاً كان يجب التركيز مبدئيا على ذلك . دون الاسترسال و التركيز على خطاب الرئيس .
و أستسمح الأخ القاص في إجراء هذه العملية الجراحية للنص كاقتراح :
وقف الزعيم يتابع خطابه وسط الهتافات الداعية له بطول العمر و الفادية له بالروح و الدم ؛ و لفت الأنظار شخير ؛ فهب رجل الأمن إلى المواطن النائم ووكزه فأجفل صارخا:
ـ ماذا ماذا ؟
- كيف تنام و الزعيم يخطب ؟ !
و الله أعرف ما قال الزعيم حرفيا وما سيقول بعد حين و سيختم بقوله : ( و عليكم أن تتنبهوا لما يحاك لنا و للمنطقة من مؤامرات رجعية و استعمارية بغيضة)
فتمعن رجل الأمن فإذا بالزعيم يردد حرفيا ما قاله الرجل .
فابتسم في وجهه معتذراً مرتاباً ، و قال متسائلا: لا تقل لي إنك كاتب الزعيم ؟!
هذا التّساؤل الأخير له دلالة تأويلية ، و غاية فنية .
(4) وحَـكَمت المحكمةُ
سأَل القُضاةُ الجنديّ: لماذا أجرمْتَ بِحقّ الطفولة، وأجهزت على طفلة بريئة بثلاثين رصاصة؟
- لأنّها ضربَتْ بأوامري عرض الحاجز، وأكملَتْ سَيْرها باستهتار.
- لكنّها طفلة. ألا تفهم؟ طفلة!
- حين صدر الأمرُ بِحظر التجوّل، لم يحدَّد نوع البشر الممنوعين ولا أعمارهم.
- لو سلّمنا جَدلاً بأنها أذنبَتْ، وخرقَتْ القانون العسكري، فهل يستدعي جُرمُها زرع ثلاثين رصاصة في ظهرها؟
- أيّها السّادة: صوت الرصاصة الأولى كان كافيا لصرعها، ولكنّها ظلّت تضحك حتى الرصاصة الثلاثين.
- هل لديك رصاصات أخرى؟
هذه القصة ينبغي معالجتها من حيث الحوار . لطالما قلت في تعليقات سابقة : إنّ أخطر شيء في القصّة : الحوار . فإمّا أن يجعلها هادفة معبرة فنية ... و إمّا أن يجعلها مباشرة واضحة لا تستحق القراءة ، لأنّها عبارة عن حوارية مكشوفة dialogisme decouverte و عن سيل لفظي لا يؤبه له . و لا يعد في الفن شيئاً . لهذا كان الحثّ على توظيف الحوار و لكن بحذر شديد . لأنه يتطلب الدّقة و عمق التّعبير و التّلميح ... فهو أداة و وسيلة فنية في القصّة . فما بالك إذا كانت القصّة قصيرة جداً . فإنّ التّعامل مع الحوار يكون أشد ّ و أصعب .
و ما دام التّعبير يأخذ باهتمام القاص ، فيأتي بجمل تفسيرية توضيحية . و كأنّه يضع افتراضاً أنّ القاريء لا يفهمه ... نستسمحه ونحذف من هذا النّص أيضاً بضع كلمات ، و سيتضح أنّ النص كان متخماً لفظاً و تعبيراً ، و أنّ المعالجة ـ قبل النشر ـ لم تتم دائماً بالصّورة الفنية المرجوة .
وحَـكَمت المحكمةُ
سأَل القُضاةُ الجنديّ: لماذا أجهزت على طفلة بثلاثين رصاصة؟
- لأنّها عصت أوامري، وأكملَتْ سَيْرها باستهتار.
- لكنّها طفلة ؟!
- حين صدر الأمرُ بِحظر التجوّل، لم يحدَّد نوع البشر .
- فهل يستدعي ذلك ثلاثين رصاصة ؟
- أيّها السّادة : رصاصة تكفي . ولكنّها ظلّت تضحك حتى الرصاصة الثلاثين.
ـ .....................................؟
(5)أفضليّة المـرور
تَوَاجَهَ الطفلُ والذئب. كان الدّرب ضيّقا لا يسمح إلاّ لأحدهما بالمرور.
فَغَرَ الذئب فاهُ... استعدّ الطّفل.
تقدّم الذئب خطوة... تقدّم الطفل خطوتين.
عوى الذئب إرهابًا.فالتقط الطفل حجراً.
أجفل الذئب وتراجع خطوة. فرجمه الطّفل رجما متواصلا حتى أجبره على الهرب.
وقال الناس مُشَكّكين: ذئبٌ من ورق.
لكنهم حين أنعموا النظر تأكّدوا أنّ الذئب يُطلق دخاناً.
حين يكتب القاص سعيد أبو نعسة رمزياً، و يوظف الحيوانات و الكائنات يكون قاصاً بارعاً. كما هو في هذا النّص الرّمزي . الذي ينفتح على جملة من التّأويلات و الاحتمالات . و الأجمل ما فيه خلوه من المباشرة . و اعتماده نسقية السرد الفني .
(6)مشـاكســة
تلميذا مُشاكسا كنتُ حين سألتُ المُعلّم: ما سبب بقاء زعيمنا على كرسي الحكم ما يقرب من نصف قرن؟
بلعَ المعلّمُ ريقَهُ، وببراعة تملّصَ من الجواب، مُوجّها السؤال إلى زملائي التلاميذ.
فأجاب أحدهم: لأنّه محبوب، ألا ترى أنّه يفوز بالتزكية كلّما تقرّر إجراء الإنتخابات!
وأجاب آخر: لأنه نشر الرّخاء والبحبوحة في ربوع الوطن.
وقال ثالث: لأنّه طلق اللسان، صلب الجَنَان، كثير الأعوان.
فأثنى المعلم على حصافة التلاميذ، ثم توجّه إليّ بالسؤال: وما رأيك أنت يا بُنيَّ؟
فقلتُ: ببساطة شديدة. لأنه أثبت للقاصي والدّاني أنّه إسم على مُسمّى : عبد السـلام.
يومها، صفّق لي التلاميذ طويلا طويلاً، تماماً كما صفّق المحقّقُ على وجهي .ا
التقديم و التأخير جائز في العربية ما لم يحدث ثقلا في النطق أو خللا في المعنى فحين قرأت : ( تلميذا مشاكسا كنت ) قلت : الأحسن و الأبسط و الأسهل ( كنت تلميذاً مشاكسا ) و نعود مرة أخرى إلى الحوار و دقته . لو أمعنا النظر هنا . سنجد جمل الحوار إخبارية ، تفصح عن كلّ شيء ، و المفروض أن تلمّح باختصار فقط . مثلا :
مشـاكســة
كنتُ تلميذا مُشاكسا حين سألتُ المُعلّم: ما سبب بقاء زعيمنا على كرسي الحكم ما يقرب من نصف قرن؟
بلعَ المعلّمُ ريقَهُ، وببراعة تملّصَ من الجواب، مُوجّها السؤال إلى زملائي التلاميذ.
فأجاب أحدهم: لأنّه منتخب و محبوب ...
وأجاب آخر: لأنه نشر الرّخاء .
وقال ثالث: لأنّه طلق اللسان، صلب الجَنَان .
فأثنى المعلم على حصافة التلاميذ، ثم توجّه إليّ بالسؤال: وما رأيك أنت يا بُنيَّ؟
فقلتُ مغتاضاً : يكفيه أنّه عبد السّـلام ، إسم على مُسمّى :.
(7)الـدّرس
حين تعذّرَ على الجيش العربي الانتصار في القادسية أرسل القائدُ إلى الخليفة رسولاً يطلب منه المَدد فأرسل إليه على الفور أربعة دُعاة، فانتصر.
وحين استنجد المسجد الأقصى بملوك المسلمين ورؤسائهم، اجتمعوا على الفور وأرسلوا إليه أربعة دعاة أيضا .
قصة رمزية symbolyque إشارية تلميحية . و كذلك ـ و كما أسلفت ـ ينجح القاص كلّما اشتغل على الرمز و التّلميح . و كأنّ دأب الكتابة القصصية الناجحة ، و نسقها الفني ـ عنده ـ لصيق بالكتابة الرمزية المتأنية .
و لك أن تبحث و تفكر كمتلق ؛ لماذا القائد في معركة القادسية ـ أيام زمان ـ بعث يطلب المدد فأرسل إليه بمدد قوامه أربعة دعاة و كان النصر و انقلبت الموازين راسا على عقب . و كيف أنه في زماننا استنجد الأقصى بملوك المسلمين و رؤسائهم فارسلوا أربعة دعاة . و لكن ...... بقيت الحالة على ما هي عليه .
لك أن تبحث في نوعية الدعاة الأربعة الأولين و لمن أرسلوا . و لك أن تبحث في نوعية الدعاة الآخرين و لمن أرسلوا . و لماذا بقيت دار لقمان على حالها ؟
فنحن أمام نص يمتح من بنية عميقة structure profonde أساسها عبق التاريخ و مرارة الحاضر . و شتان ما بين مشرق و مظلم . و بين فاعل و مفعول .....
(8)نقطــة
في مؤتمَرٍ صحفيّ حاشد، ضمّ مندوبي وسائل الإعلام العربية والعالمية.
وقف الحاكم ليجيب بصراحة وشجاعة عن سؤال وحيد:
لماذا رفضتَ إجراء الانتخابات التشريعية في البلاد؟
فأجاب: لأنّه لا وجود لكلمة ( انتخابات ) في الدستـور.
الوارد في الدستور هو كلمة ( انتحابات ) بالحاء المهملة.
وهذا يسبّب معضلة مستحيلة الحلّ، لأننا بحاجة إلى تصحيح هذه الكلمة والتصحيح يحتاج إلى تعديل الدستور، وتعديل الدستور يحتاج إلى مجلس تشريعيّ مُنتخَب؛ وإجراء الانتخابات التشريعية بحاجة إلى نصّ دستوري و ( حلّها كنّك بتحلّها ).
( النقطة )
نص يعبر عن الأسباب الواهية التي يتشبث بها بعض الحكام حين يجدون أنّ الأمور تسير في غير صالحهم . تماماً كما يحاول النظام في مصر أن يجعل إسرائيل تراقب معبر رفح بحجة أنّها الدولة المحتلة . مع أنّها خرجت من غزة و لا علاقة لها بغزة بل لو شئت لقلت لا علاقة لها بفلسطين كلّ فلسطين . و يريد النظام في مصر أن يعطيها الشرعية بحكم القانون . و أي قانون هذا الذي يضمن للمحتل الشّرعية ؟ و لكن هكذا الحكام .... و كذلك يفعلون . فالّنص بسخرية توعوية يحاول كشف الستار عن الحقيقة المزيفة . و يوشوش في الأذن : ( إن الديمقراطية لعبة السياسة و السياسيّن . و هي الحلم الذي لا يتحقق للمحكومين و المستضعفين )
كنت أفضل لو اعتنى القاص بتهذيب النص ، أعلم أنه يؤمن بهذا و لكن كثيراً ما لا يطبق ذلك في نصوصه فتستغرقه شهوة الكتابية livresque .
كما تمنيت لو حذف المثل الشعبي في الأخير لأنه يلخص كلّ القصّة ، و يجعل السّارد طرفاً مشاركـاً و مهيمنا و غير محايد . و هذا المثل السائد في الأوساط الشعبيــــة ـ على أهميته ـ لو استنتجه القاريء لكان ذلك أحسن و أجود . و هذا ما تقره اللسانيات النصية linguistique textuelle
(9) إعـاقــة
وقف الحاضرون جميعاً، واحمرّتْ أكُفّهم من التصفيق للمسؤول الكبير، عدا رجلٍ واحدٍ ظلّ يصفّقُ جالساً، وحين انفضّ اللقاء، انقضّ رجال المخابرات عليه لاعتقاله واكتشفوا أن جسده ينتهي عند الرّكبتين
.
القاص البارع ؛ يسعى دائماً لايجاد أفكار جديدة ، و بلورتها في نسق قصصي . و القاصّ سعيد أبو نعسة من هذا الصّنف الباحث ، الذي يجتهد في اقتناص الأفكار . إلا أنّ عملية القنص هذه قد لا تأتي دائماً في أحسن صورة : رجل مقعد ، فاقد لساقيه . يحضر خطبة مسؤول كبير و يصفق مع المصفقين ،فيقف المصفقون و لا يقف . يكون ذلك مدعاة أن تنقض عليه المخابرات في نهاية اللقاء ؟ !
فماذا لو لم يحضر ؟ أو حضر و لم يصفق ؟
عموماً التّعامل مع الأفكار في نطاق القصّة و القصّة القصيرة جداً . يتطلب وعياً تاماً بخلفياتها ، و مدى تقبلها أو رفضها من طرف الآخر . لأنّ الفكرة إذا لم تكن ذات دلالة و واقعية تجعل القصّة ضرباً من الخيال ألاّ فنّي .
فوجه عدم التقبل هنا : أنّ المخابرات ليست بهذه السذاجة و البساطة. فهي تعرف على من تنقض ، و كيف تنقض ، و متى تنقض . ثم أنّ العملية تمّت بعد أن انفض الجمع ، ألا يرى رجال المخابرات و من بعيد أنّ الرّجل يعاني من الاعاقة ، و عدم القدرة على الوقوف ؟ و ربما بجانبه كرسيه المتحرك ، أو من يساعـده .....؟!
(10) زمن الحَميـر
أيقَـنَ النّـاس بعد آلاف السّنين أنّهم ظلموا الحمار في تسميَـتِهم له وفي نظْرَتهم إليه، فسيّدوه ؛وعندما أدرك الحاكمُ وَلَع الشعب به أقام له التماثيل والمعابد. ثم أمر باستيراد البرسيم
.
( زمن الحمير ) قصة قصيرة جداً و لكنها معبرة جداً .
لاشك أنّ الحاكم إذا تبين له أنّ شعبه في شغف بشيء ما. و أنّ هذا الشيء لا يمسّ نظامه؛ و لا يسائله ؛ و لا يسبب له حرجاً أو مضايقة ... فإنّه سيسعى في دعم هذا الشّيء ، بكلّ ما يملك .. لأنّه لم يصدق كيف أنّ الحظّ ساق إليه ما يلهي الشّعب عنه ؛ و عن مساوئ حكمه . فالحمار رمز فقط . فإذا أصبح سيداً يحظى بالاحترام و التبجيل و السيادة . فهذا ما يرادُ للشعوب أن تقدر ما لا يقدر ، و تحترم ما لا يحترم . و لك الأمثلة في انتشار الأضرحة المقدسة و ما يقام حولها من مواسيم و طقوس و ما تتعهده الحكومات العربية من معونات و أموال لهذه المواسيم و المهرجانات التي تتخذ طابعاً دينياً . و دعك من هذا و انظر معي مسألة كرة القدم و كيف استحوذت على العقول حتى أصبحت مسألة وطنية . تصرف الحكومات على ملاعبها و مدربيها و لا عبيها الشيء الذي لو صرف في مرافق اجتماعية و صناعية لأغنى البلاد و العباد ، و أبعد الجميع من و يلات الفقر و البطالة . و كذلك السكوت على المخدرات إلا ما فاق منها الحد . و السكوت على موبقات الزنا و الدّعارة إلا ما فاحت رائحته ... كلّ ذلك من الأشياء التي أصبح مرضى الشّعوب و هم كثر يميلون إليها لسبب أو آخر . فأصبحت عندهم ـ لقلة وعي و إدراكـ ـ ممجدة بل لا يمكن العيش بدونها .
و باركها الحاكم بسكوته عنها تارة ؛ و دعمها بقوة تارة أخرى . فأصبحنا في زمن الحمير . فلماذا لا يقوم الحاكم باستيراد البرسيم ؟
القصة على قصرها لسعة ذكية لأولي الألباب . و ومضة فنية رمزية . تغني عن الكثير من الكلام والخطب و المقالات ( سيادة الحمار تستوجب من الحاكم إقامة التماثيل و المعابد و استيراد البرسيم له ) و هذا يذكرني بالأغاني الهابطة و الأفلام الماجنة التي أصبح لها أنصار و رواد على طول العالم العربي و عرضه حين سئل مخرج و فنان كنا نكن له احتراماً و نظنه متميزا ... و إذا به يقول : ( الجمهور عايز كدا ) و لكن ليته يدري أنّ وراء الجمهور ؛ هناك من هو ( عايز كدا )
من خلال هذه العشرية القصصية للقاص الأستاذ سعيد أبونعسة نستشف أشياء نجملها في التّالي:
ـ تهذيب النّص أمر ضروري في مجال القصة القصيرة و الإبداع عموماً فإنّ اللّمسات النهائية finishing touches تكسب النّص بعداً فنياً خاصاً. و لا داعي للإسراع بالنشر .
ـ قوة الرّمز تتجلى فيما يرمي إليه ، و الآفاق التي يفتحها أمام القارئ .
ـ الحوار مقوم قصصي هام فليس دوره تميع الفكرة أو طمسها باللّفظية و إنّما دوره التّلميح بأقل ما يمكن من الألفاظ مع المحافظة على النّسق العام للنّص .
ـ الأفكار و إن كثرت و اختلفت . فالفنان القاصّ البارع يختار الجديد منها . أو يعيد استنطاق القديم منها لغاية يتطلبها الحاضر و المستقبل . و القارئ لا يقبل الأفكار ذات البعد الفنطازي الخيالي . بل يحتفي في الغالب بالأفكار التي تلامس واقعه المعيش .
د مسلك ميمون