مسلك ميمون
23/08/2009, 10:24 AM
قراءة في عشر قصص قصيرة جداً للقاص المغربي عبد الحميد الغرباوي
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
http://www.wata.cc/forums/customavatars/avatar1487_2.gif
القاص عبد الحميد الغرباوي
ازداد بالدار البيضاء بتاريخ 4 مارس 1952.التحق عبد الحميد الغرباوي باتحاد كتاب المغرب سنة1983.
بدأ النشر في منتصف السبعينات. له كتابات قصصية بمجموعة من الصحف والمجلات: الملحق الثقافي لجريدة العلم، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، البيان الثقافي، الحرية (سوريا)،
الفصول الأربعة (لبنان) خطوة، الناقد (لندن)، أوراق (لندن)..
أصدر المجاميع القصصية التالية:
- عن تلك الليلة أحكي, البيضاء, عيون المقالات، البيضاء، 1988.
- برج المرايا, المركز الثقافي العربي، بيروت - البيضاء، 1992.
- عـري الكائـن، الاتحاد الأخوي، 1994.
- أيمن والأفعـى، البيضاء، 1996.
- نـون النسـوة، منشورات الرهان الآخر، 1999.
كما أصدر العملين الروائيين التاليين:
- ميناء المطر الأخير (رواية مشتركة مع إدريس الصغير)، دار الثقافة، البيضاء، 1995.
- سعد الخبية: رواية، دار الثقتفة، البيضاء، 1998.
لم أنتق هذه النصوص . و أعلم أنها لا تمثل أحسن ما كتب الأستاذ عبد الحميد الغرباوي . إنما هدفي من ذلك أن القارئ المتخصص و العادي يقف معي عند نصوص لم تنتق أو تنتخب ، و لها ما لها ،و عليها ما عليها . على عكس ما قال لي صديق ( لماذا لا تختار الأجود و تبين ما فيه من محاسن الجودة .) و رأيي كان دائما أننا لا نتعلم من الجودة فقط . بل أحيانا كثيرة نستفيد مما نعتقده بعيدا عن الجودة . أو في أحسن الأحوال أقلّ جودة ، عند هذا القاص أو ذاك ...
و النّصوص التي بين أيدينا الآن لكاتب متمرس تعرفت على كتابته منذ السبعينات . فهو من الفطاحل في هذا المجال . خبر السّرد ، و تمرّس على أخاديده و منعرجاته ، و استشفّ مكنونه و مخبوءه ... و ما المجموعات التي ألّفها ، و القطع التي نثرها هنا و هناك إلا الدليل على إخلاصه لهذا الفن الصعب الجميل .
و هذه القراءة ، سواء ما اتفقنا معه فيها ، أو ما اختلفنا ، لن تنقص من توهج إبداع القاص الأستاذ عبد الحميد الغرباوي قيد أنملة . لأنّه اسم عصامي حُفر في ذاكرة الإبداع القصصي المغربي . و نقش في أديم تاريخ السّرد العربي .
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(1) فـــــراغ
هكذا يحدث دائما...
يدخل المقهى، يأخذ له مكانا إلى جانب أصدقاء، يطلب قهوة بلا سكر و جرائد..
يتصفح الجريدة الأولى من أولها إلى آخرها ثم يضعها جانبا، يتصفح الثانية من أولها إلى آخرها ثم يضعها جانبا، و الثالثة و الرابعة..ثم يضعها جانبا، يرشف رشفة من قهوته ثم يسأل الأصدقاء: "ما الأخبار يا سادة؟"
'' فراغ '' قصة الاعتيادي الممل ، الذي يسكن الدّماغ ، فينعكس على دورة الحياة اليومية ، فتتشابه السّاعات و الأيّام و الأسابيع ... في روتين قاتل يطفح بالتّكرار : و كأنّ كلّ ما في الجرائد من أخبار، لم يشغله ، و لم يلفت انتباهه ، فيسأل الأصدقاء ( ما الأخبار يا سادة؟ ) كأنّي بالسّارد يوحي بأنّ الأخبار الجديدة انتشال من الفراغ . لأنّ البطل يجد شيئاً ما يلوكه بلسانه . و يكسر دائرة الطّوق التي تحاصره .
بنية القصة : اعتمدت التكرار تعميقاً للشعور بوطأة الفراغ ، و ما ينجم عنه من ملل : (يتصفح الجريدة الأولى من أولها إلى آخرها ثم يضعها جانباً، يتصفح الثانية من أولها إلى آخرها ثم يضعها جانباً، و الثالثة و الرّابعة..ثمّ يضعها جانباً )
القفلة لم تكن منتظرة لأنّ البطل غارق في أخبار الجرائد . و لكنّ المدهش في الأمر أنّه يريد أن يستزيد أخباراً من الأصدقاء دليلا أنّ : كلّ ما هو متيسر لا يملأ هوة الفـراغ الذي يعيشه . إلا أنّ النّص لا يكشف عن نوع الفراغ : روحـي ، عاطفي ، توقف عن العمل ، تقاعد ...و هذه مزية أفضل من التّحديد . تسمح للخيال أن ينطلق بدون قيد. و فنيا أرى لو كان العنوان ( ما الأخبار يا سادة ؟ ) و يبقى مدلول النّص ( الفــراغ ) حصيلة القراءة ، و نتيجة الفهم و الاطلاع ... كان الأمر أحسن .
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(2) بلاغـــة
استدعي شخصان للحديث إلى جمع غفير عن نعمة الكلام التي وهبها الله للإنسان...
كان الحفل احتفاء بالصوت البشري حقا... تحدث الشخص الأول و أسهب كثيرا في الكلام، و حين أنهى حديثه، ظلت القاعة صامتة، و تخلل الصمت تصفيقات مجاملة ، مترددة، قليلة، متفرقة و باردة هنا و هناك...ذهل الشخص الأول حين انبرى الثاني و تحدث إلى الجمع بلغة الإشارات. كانت حركات يديه و أصابعه في غاية الإتقان، تتسم بخفة و رشاقة بالغتين... و ما إن توقفت يداه و أصابعه عن الحركة، حتى وقف الجمع مصفقا بحرارة منقطعة النظير.
البلاغة لغة الايجاز و الاقتضاب ، لغة المعنى الكثير في اللّفظ القليل ، لغـة مراعاة الزّمان و المكان ، و الحال و الاستقبال ، و ما قلّ و دلّ ... فإذا خالفت هذا انخرطت في الإسهاب الممل ، و الإطناب المخل ، فيضيع الفهم و يعمّ الارتخاء و السّهو و النّوم ...و هذا ما حدث مع الشّخص الأوّل الذي أسهب ( و حين أنهى حديثه، ظلّت القاعة صامتة ، و تخلّل الصّمت تصفيقات مجاملة ، مترددة، قليلــة، متفرقة و باردة هنا و هناك.. ) و هذا ما يحدث مع مطولات الخطب .
أمّا الشّخص الثّاني غيَّر أداةَ التّواصل من اللّغة إلى الحركة و في بضع حركات بطريقة ميمية mimique) أو ما يعرف في المسرح : بالتمثيل الصامت ( pantomime) أ استطاع أن يوصل أفكاره (... و ما أن توقفت يداه و أصابعه عن الحركة، حتى وقف الجمع مصفقا بحرارة منقطعة النظير.)
فنيــا : و إن كان العنوان ( بـلاغة ) و لكن لغة النص جاءت عادية. بل فيها بعض الحشو مثلا :(التي وهبها الله للإنسان... كان الحفل احتفاء بالصوت البشري حقا)
فنعمة الكلام من الله ، و لا داعي لذكر ذلك . كما أنّ الحفل لم يكن احتفاء بالصوت فقط بل و الحركة . و الأحسن حذف كلّ ذلك لأنّه مجرد استطراد لا يخدم النص، و يتــرك الأمر لفهم القارئ .و كذلك : ( كثيراً من الكلام ) لقد سبقت كلمة( أسهب ) و هي دالة على ذلك .
و في غير هذا فقد كانت القفلة منتظرة و غير مفاجئة لأنّ العنوان ( بـلاغة ) أفشى سرّها . فلو كان العنوان ( شخصان ) فإنّ القارئ ينطلق من المبهم بحثا عن المعلوم و حين ينتهي قراءة يشعر أنّه ـ فعلا ـ أمام شخصين : أحدهما أسهب فلن ينل تصفيقاً حاراً ، و الآخر اقتضب ، و بحركات رشيقة ، نال التّصفيق و التّشجيع . فيخرج بنتيجة أنّ الثّاني كان أبلغ من الأوّل في مجال التّعبير البـــلاغي . و الأجمل ؛ هو ما يخرج به القارئ لا ما يقـال له .
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(3) غـيــــــــــاب
البنت التي كانت على شاطئ البحر، جوار أهلها..
قرب والدها..تنتشي بزرقة السماء و هدوء البحر
لم تكن تعلم أن الزرقة و الهدوء خدعة...
عرفت ذلك بعد فوات الأوان..
حين نزل ، فجأة، على الشاطئ، كالصاعقة، نار و موت...
محولا من كانوا قبل قليل يسرحون و يمرحون جثتا و جرحى يتوجعون ..
وتصرخ مرعوبة: أَبي...
كان الأب جثة متناثرة الأطراف على رمل خالط صفرته الدم
الجريمة حرّكت وكالات الأخبار...
في الوقت الذي كان يتعاظم، في مناطق عدة، صوت شخير حاد..
'' غياب '' لا أعتبرها قصة قصيرة جداً . ربما لطريقة كتابتها ، و مباشرتها و اشتباهها بقصاصة و كالات الأخبار . و إن حاولت قفلتها أن تعطيها مسحة فنية ( في الوقت الذي كان يتعاظم، في مناطق عدة، صوت شخير حاد..) و لكن مع ذلك تبقى لصيقة بالخبر و الإخبار . و المباشرة و التقريرية . و لعلّ الكاتب بمجرد أن رأى في التلفزة منظر البنت تبكي أفراد أسرتها على الشاطئ ، بعد القصف الصهيوني الغاشم ، تأثر و اندفع ليعبـر . ودائماً في مثل هذه الحالات ينبغي التريث ، لأن المبادرة بالكتابة تجعل العملية الإبداعية خاضعة لقوة الانفعال ، التي تفقد الانتاج رونق التكامل و تقنية اٌٌلإخراج . و حسن الإعداد .
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(4) الجرابان
أقبلا...كل واحد من الاتجاه المقابل للآخر..
و كل واحد يحمل جرابا...قال أحدهما:
" أظن أن القادم يتضور جوعا..."
و أدخل يده في الجراب..
رآه الآخر، قال:" أظن أن القادم عدو يتهيأ لتصفيتي.."
وأدخل يده في الجراب...اقتربا ..
أخرج كل واحد يده...كانت الرصاصة أسرع من كسرة الخبز...
هذه قصة قصيرة جداً بمعنى الكلمة . إذ توفرت فيها شروط البناء القصصي.
الدّلالة : تكثيف لغوي ، لم يكتب إلا ما له علاقة بالنّص ؛ شخصيتان متناقضتان الشيء الذي قوى الصّراع الدرامي.حوار داخلي (monologue ) (" أظن أن القادم يتضور جوعا...") و ( أظن أن القادم عدو يتهيأ لتصفيتي..") سرد مقتضب ( أقبلا...كلّ واحد من الاتجاه المقابل للآخر..و كلّ واحد يحمل جرابا ..) قفلة ( كانت الرصاصة أسرع من كسرة الخبز ) قد يقال هنا أنّ القفلة كانت شبه منتظرة و يوحي بها كلام الرجل الثاني و إدخال يده في جرابه . هذا صحيح و لكن القارئ لا يعلم ما سيخرج من جرابه : هل سيخرج سكينا أم عصا أم مسدسا... و إن كان الشّعور أنّه يتهيأ للدفاع عن نفسه . و لكن الأحسن في القفلة هو إطلاق النار بسرعة دون أن ينتظر ما سيخرج الرجل الأول و في هذا متعة القفلة لأنّها تضعنا أمام صورتين متناقضتين:يد ممدودة بكسرة الخبز . و يد تطلق النار. و يبقى مجال القراءة مفتوحا على مصرعيه أمام المتلقي ... و هذا هو الأجمل . إنّ النّص الرائع هو الذي يشارك القارئ في انجازه ، بما يتيحه السارد من فرص التّأويل ،و التّخمين ، و التّخيل ، و التّنبؤ .....
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(5) صفعـــــــــة
وعدها بالزواج...و بعرس آخر طراز...ظل الوعد قائما...
اللقاءات أضحت مملة...وذات صيف ملتهب .جلس جوار كهل في طاكسي كبير...
تبادلا كلاما كثيرا... و بعد أن استأنسا إلى بعضهما البعض، سأل الكهل الشاب:
" متزوج؟.." رد الشاب محرجا: " أنتظر.."
ضحك الكهل و هو يناول الشاب مجلة مفتوحة على صفحة..
" لا داعي للانتظار...انظر ألسن جميلات فاتنات؟
ما عليك سوى الاختيار..."..صفعته صورتها بين صور طالبات الزواج..‘’
" صفعة " نص قصصي يلمّح إلى مسألة الزّواج ، و كيف أصبحت صعبة محرجة للمقبلين عليها : شاب يعد فتاة بالزواج ، و بعرس لم يكن مثله من قبل و تستمر اللقاءات و الأحلام الوردية تنثال بينهما . إلى أن طال الأمد ، و اخترق حياتهما الملل و الضّجر . و في ذات صيف يكتشف الشاب في مجلة صورة فتاته مع باقي صور الفتيات اللّواتي يرغبن في الزواج . فيشعر و كأنّ صفعة أفاقته من وهم الانتظار .
هل خانته و خالفت عهده ؟ كلا . و لكن يئست من شاب غير مستعد للزّواج . ينتظر . ما عساه يبنتظر ، وظيفا ، أو شغلا ، أو عملا خاصا ، تجارة ، سفرا إلى خارج الوطن ، اجتياز البحر إلى الضفة الشمالية و معانقة أوروبا الحلم ...... إنّه ينتظر .
أما هي فلا تستطيع أن تنتظر أكثر . السنوات تهاجمها و تقلص من حظها في الزّواج. و وجه العنوسة المرعب بدأ ينكشف أمامها . فلا سبيل إلا البحث عن زوج مستعــد و لا ينتظر . و هذه مشكلتنا المسكوت عنها في العالم العربي . و كأنّها إحدى الطابوهات المقدسة ،التي لا ينبغي إثارتها أو نقاشها . ففي كلّ أسرة أكثر من بنت تنتظر . و في كلّ بيت أكثر من شاب عاطل . فكيف يكون الزّواج و بناء الأسر ... و البطالـة متفشيـة ؟
ذاك ما تقوله القصة ، و ما تلمح إليه ، و ما سكتت عنه تماما .... لأنه واضح ، بيّن من خلال تتابع السياق .
فنيــا : يحافظ الكاتب على لغة بسيطة ،و جمل قصيرة ، و صور سريعة متوثبة نحو قفلة صادمة مفاجئة غير متوقعة ( ....صفعته صورتها بين صور طالبات الزّواج . )
و لكن القصّة، جاءت متضمنة لكلمات لا تخدم النّص مثلا : (...وذات صيف ملتهب ) الصيف الحار لا يفيد شيئا في بناء هذه القصّة . أفضل منه : ذات يوم .
و كذلك ( رد الشاب محرجا ) كلمة محرجا لا داعي لها . لأنّ السؤال لا يتطلب إحراجاً . كما أنّ التّعبير (...و بعرس آخر طراز ) فآخر طراز : تكون خاصة بالمنتوجات الصناعية كالسيارات و الآلات ....و الأفضل ( بعرس لم يشاهد من قبل ) أو ( عرس لا مثيل له ) ... و كذلك ألاحظ أن مكان القصة غير مناسب (جلس جوار كهل في طاكسي كبير...) فلا يعقل في طاكسي يثار موضوع زواج و تصفح مجلة . و الطاكسي كما نعلم مزدحم في الغالب بالركاب و الكلّ شغله الشّاغل الوصول ، و نفسي نفسي في أمور الدنيا . فلو اختير مكان آخر كان الأمر أجود و أحسن . و بخاصة أن ( الطاكسي ) لم تظف جديدا للنص و لم تؤثر في الحدث .
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(6) منطق الفقــر
قبل أن تبدأ الحملة، و حتى أثناءها، وفي سرية مكشوفة للعيان، طمأنهم بوعود ووزع عليهم مالا بسخاء، و منح أطفالهم حنانا مفتقدا و رغيفا و شوكولاطة و ملابس...
نسي الكبار لفترة عوزهم، و نسي الأطفال جوعهم و عريهم...
فاز بمقعد في البرلمان فنسيهم...
و سريعا عاد إليهم العوز و الجوع و العري ...
إلا أن سؤالا واحدا ووحيدا ظل يطن بدواخلهم، طنين الذباب:" متى تأتي الحملة المقبلة؟
'' منطق الفقــر '' استوقفني عنوان النّص . هل للفقر منطق ؟ و لماذا لا يكون ذلك . فكلّ ما نعرف و ما لا نعرف ممنطق ، و لكن لا نراعي و لا نلاحظ .
فمنطق الفقر يعني أنّ الفقر ، لا يزول بالحلول المناسباتية أو بالحلول الترقيعية ، أو بالوعود و المخططات العشوائية أو بالحملات الانتخاابية .... منطق الفقر يفرض الحلّ النّاجع في تقسيم ثروات البلاد ، و محاسبة الطبقات العليا و كيف أصبحت عليا ؟ و في استرجاع المال العام و صرفه في مجالاته الخاصّة . و في توفير الشّغل ، و فتح الآفاق أمام العاملين و ذوي الشّواهد العليا ، و الكفاءات المتميزة . و عدم إهمال ذوي الحاجات الخاصة ، و غير المحظوظين ، و غير المتفوقين لظروف قاهرة ... منطق الفقر يحتم النظرة الجماعية للوطن ككتلة متجانسة . و يرفض التفرقة ، و المحسوبية ، و استغلال خيرات البلاد لفائدة طبقة خاصة ، و إهمال الباقي .... ذاك مما نطقت ببعضه القصّة ، و ذاك ممّا سكتت عنه ، و بقي استنتاجاً ، من واجب القارئ أن يصل إليه .
فنيـــــا :ا النّص في هيكلته ، ينقسم إلى قسمين ، الطمأنينة و الوعود و توزيع العطايا بسخاء من طرف المرشح و كأنّه ( بابا نويل ) حتى ( نسي الكبار لفترة عوزهم، و نسي الأطفال جوعهم و عريهم...) و لكن بمجرد أن فاز و ضمن مقعده في البرلمان ، نسي منتخبيه . بل لو استطاع لسلبهم ما أعطاهم . و لهذا (سريعا عاد إليهم العوز و الجوع و العري ...) و تأتي جملة القفلة غير المنتظرة التي تطن طنين الذباب في داخل المنتخبين : ( متى:تأتي الحملة المقبلة ؟ ) و الأسئلة التي تثيرها القفلة :
ـ هل إذا كانت الانتخابات ، سينتقم الناخبون من مرشحهم الذي خانهم ؟
ـ هل سيؤيدونه من جديد لأنّه أجزل لهم في العطاء قبل الفوز ؟
ـ هل سيقاطعون الانتخابات التي تفتح الباب للمرتشين ؟
و تتناسل الأسئلة . و ليس ـ في القصة القصيرة جدا ـ أحسن ، و لا افضل من قفلة بنيت على أساس إثارة الأسئلة . فهي أفضل من قفلة تنقل معلومة و تنتهي .
يحافظ الكاتب على اللغة البسيطة ، و الجمل القصيرة ، و سرعة التنقل من صورة إلى أخرى ... مع إضافة السّخرية و التّهكم في التّعبير مثلا : ( وفي سرية مكشوفة للعيان ) و ( ووزع عليهم مالا بسخاء، و منح أطفالهم حنانا مفتقدا و رغيفا و شوكولاطة و ملابس... ) و ( متى تأتي الحملة الانتخابية ؟ )
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(7) ثـــــأر
الولد الذي يجلس اللحظة يرسم، كان قبل ذلك بقليل يجهش باكيا..
شده الحنين إلى والدته ، والده، أخته الذين أحرقتهم طائرة مغيرة فبكى...
يرسم الولد كوخا بمدخنة و حوله عشب،
فلا دخان يخرج من المدخنة ، و لا نداء يأتيه من عمق الكوخ ..
و اخضرارالعشب تحول إلى اصفرار...
يرسم الولد شمسا فلا تضحك..
عندليبا فلا يغرد..
يرسم الولد طائرة حربية فتنطلق مسرعة لتحرق الأعداء...
'' ثأر '' نص معبر . رغم بساطته يجد له محلا و مستقرا في القلب . لا لفكرته ( الثأر ) و لكن لطريقة التعبير العفوية انطلاقا من تفكير و نفسية و حركات طفل فقد الأم و الأب و الأخت في غارة غاشمة ظالمة . فبكى إلى أن أفرغ سواد الحزن الذي يملؤه . و لمّا حـنّ لأبويه و أخته، و قد صار يتيما ، رسم كوخا بمدخنة بلا دخان و لا أثر للحياة و حولـه عشب ، سرعان ما تحول لونه الأخضر إلى اصفرار و شحوب...ثم رسم شمسا لا تضحك على عكس ما في رسومات الأطفال و شمسهم الضاحكة .ثم رسم عندليبا صامتا لا يغرد . و في الأخير ( رسم الولد طائرة حربية تنطلق مسرعة لتحرق الأعداء...)
فنيــــا : و ظف النّص الرّمز كعمدة و أساس :
ـ (فلا دخان يخرج من المدخنة ) رمز لتوقف الحياة في كوخ الأسرة نتيجة الغارة .
ـ ( و لا نداء يأتيه من عمق الكوخ ..) رمز لغياب الأم الأبدي .
ـ (و اخضرارالعشب تحول إلى اصفرار..) رمز لتحول الحياة النضيرة إلى جفاف و قحط .
ـ (يرسم الولد شمسا فلا تضحك..) رمز لغياب السعادة التي كانت في حضن الأسرة .
ـ ( عندليبا فلا يغرد.. ) رمز لضياع النشوة و الحبور و التغني بالبهجة و السرور .
أمّا القفلة و إن جاءت فاترة . و لكنّها تستجيب لرغبة طفل يسعى للإ نتقام من أعداء أفقدوه أسرته و ذلك بأن رسم (طائرة حربية تنطلق مسرعة لتحرق الأعداء )
فالفنّ كان دائماً يحمل على التّعويض النّفسي . فالطفل برسمه هذا ، امتلك تعويضاً نفسيا ذاتيا فانتقم لأسرته و لو في ظلال الوهم و الخيال . عموما يبقى هذا النص من تحف الكاتب الرائعة ، التي تنبثق متكاملة ، مزاوجة بين هوايتيه : القصّ و الرّســـم .
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(8) الضحايــــا*
خرجوا يلعبون ببنادق من بلاستيك،...
تفرقوا، و كل واحد اختار له مكمنا..
رآهم أسامة و هو عائد إلى البيت يحملون بنادق، فقرر أن يطلب من أمه شراء بندقية له..
فجأة، أحس بفوهة بندقية تسلط على رأسه من الخلف وحاملها يهدده بإطلاق النار، ثم يأمره ألا يلتفت، يركع ويشبك يديه خلف رأسه كرهينة، استهوته اللعبة فاستجاب مبتسما لأوامر الطفل صاحب البندقية..
ذوت طلقة نار فخر صريعا...
*إلى هيفاء بيطار التي ألهمتني مقالتها هذا النص
و نـِعـم الإلهـــام !!
نص قصصي تجمعت فيه كل وجوه الاستحسان : أطفال يلعبون ببنادق بلاستيكية يراهم صديقهم أسامة ، فيقرر أن يطلب من أمّه شراء بندقية . فجأة شعـر بفوهة بندقيــة تصوب إلى رأسه من خلف ، ظنّه أحد أصدقائه يمازحه . و لكن الرصاصة التي فجرت رأسه الصغير ، لم تسمح له أن يعرف أن فواهة البندقية كانت حقيقية . و أنّ حاملها عدو حقيقيّ . و المسألة ليست لعبـــة .
فقط ألاحظ أنّ : ( فاستجاب مبتسما لأوامر الطفل صاحب البندقية.. )
( ذوت طلقة نار فخر صريعا...)
ففي العبارة الأولى ، لو اكتفي فقط بـ : فاستجاب مبتسماً للأ وامر .
بدون ( الطفل صاحب البندقية.) مزيدا في التّكثيف اللغوي ، لأنّ الطلقة استبعدت الطفل تلقائياً . أمّا العبارة الثانية ، ربّما خطأ في الرّقن ، ينبغي حذف ( الذال المعجمة و استبدالها بالدال في ( ذوت ) )
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
( 9 ) محاولة اغتيال
حين سقط جثة هامدة، كان إصبعُه لا يزال على الزناد و الفوهة كما لو أنها مسددة في اتجاه الساعة المدقوقة إلى الجدار و هي تعد الثواني في حياد تام.
'' محاولة اغتيال '' بل هي اغتيال حقيقي ( والجثة هامدة ) و الإصبع لايزال على الزناد إذا هي عملية انتحار . أو عملية اغتيال مدبّرة . المهم ـ بغض النظر عن التّأويل الممكن ـ فالجريمة تمّت في الخفاء ، و فاعلها ( مجهول ) .
فنيـا : هناك تكثيف مبالغ فيه لدرجة الإبهام . فإن كنّا نصرّ على التكثيف في القصّة القصيرة جداً ، فليس ذلك معناه إلى درجة الانغلاق و الاحتباس . لأنّ الغـرض من التّكثيف،هو خلق أجواء تسمح بالتّأويل،و تعدّد القراءات بدون معاضلة،أو إشكال ما . و لكن في هـذه الومضة : نحن أمام ضغط نفسيّ. لا نعلم عوامله النفسية المؤثرة psychodynamics أدى إلى انتحـار ، والعلّة في ذلك أنّ الإصبع لازال على الزّناد . و الفوهة التي كأنّها مسددة في اتجاه السّاعة الجدارية رمز لإيقــاف الزّمن ( الحياة ) و لكن الذي توقف ، هي حياة الضّحية، أمّا الزّمن [ السّاعة ] ( تعد الثّواني في حياد تام ) و في استمرار رغم وقوع الجريمة . رمزاً إلى أنّ الحياة في استمرار . و كأنّها غير عابئة بعملية الاغتيال ، و الأسباب النّفسية التي أدّت إلى ذلك .
و على الرغم من كلّ هذا ؛ يبقى هذا النّص في حاجة إلى كلمات إضافية تفكّ انغلاقه ، و تنير فجاجه ، و تسمح بقراءة متّئدة ، و تأويلات موضوعية . بمعنى أنّ النّص يعتريه عدم الوضوح التقني manque d’explication حقــاً قد تكون الفكرة واضحة في ذهن الكاتب ، و قد تكون كما رأينا : مسألة ضغط نفسيّ ، سببه عصاب القلق (Anxiety Neurosis) . و لكن الطريقة التي جاءت بها الومضة ، لا تسمح بتحديد بؤرة الحدث برفق و سهولة . أو تتيح فرصة التّمتع بالحبكة كما يجب ، لفرط التّكثيف و الايجاز. و حتّى إذا كانت الومضة تشير إلى أنّ الضّغط النّفسيّ يؤدّي إلى الانتحار. نقول أنّ هذا ليس دائماً ، و لا يشكّل نتيجة حتمية ، وإلاّ انقرض معظم البشر ، و بخاصّة في عصرنــا .
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
( 10) مــــزاج
هكذا، و دون سابق تفكير،حطم مزهرتين، و صحن " طاووس"، و مزق صورتها ركل بقدميه اللاشيء و هو يصرخ ملء حنجرته... فجأة، توقف عن الركل و الصراخ، مرر أصابعه في شعره، و سوى من ياقــــــــة معطفه،أغلق خلفه الباب، و خرج يسير على الرصيف، و هو يغني بصوت خفيض، يداه داخل جيبيه تقبضان على الفراغ .
'' مزاج '' قصة تحيلنا على الحياة النفسية psychobiography لشخص ما .قصة نفسية كالسّابقة . و لكنّها ليست في تكثيفها و غموضها ... بل جاءت واضحة ، تعكس مزاج شخص ما ، يمرّ باضطراب نفسيّ . سببه ـ لاشك ـ امرأة ، إذ مزّق صورتَها . وظهر انفعاله في : تحطيم المزهريتين ،و صحن '' طاووس'' و ركل بقدميه اللاشيء ، و هو يصرخ ملء حنجرته .
و يظهر مزاجه المختلف . في أنّه فجأة توقف عن العنف و مرّرأصابعه في شعره و سوى من ياقة معطفه ، و خرج يغني بصوت منخفض . و يداه في جيبيه الفارغين .
فنيــا : القصّة النّفسية من أصعب أنواع القصّة . فما بالك القصة القصيرة جداً . لقد حاول الكاتب أن يقرب المتلقي من مزاج البطل من خلال التّركيز على أفعال العنـف : ( التّحطيم ، التّمزيق ، الرّكل ، الصّراخ ) ، و أفعال الهدوء و الاطمئنان : ( توقف ، مرر ،سوى أغلق خرج يغني ، داخل ) و كذلك يكون المزاجيّ ، فهو بين الحالتيـــن ( عنف / هدوء ) أو العكس.و نفسيًا لا يتّضح عامل المزاج إلا مع استفزاز ما . الشيء الذي يجعل المزاجيّ يدخل دائرة التناقض . و في النّص : خلاف ما مع امرأة . و عدم امتلاك البطل المزاجيّ مالا ، يمكّنه من حلّ مشاكله الراهنة . الشيء الذي ضاعف من معاناته و قلقه ... و هذا ما يتّضح في القفلـة ( يداه داخل جيبه تقبضان على الفراغ )
و لكن هل استطاع النّص أن يذهب أبعد من الحالـة المزاجية و تصويرها باقتضاب ؟
ذاك هو السؤال.
فالنّص اكتفى بعملية الوصف ، و التّصوير . لهذا جاء محدود الرؤية . مبتسر الأفـق . مع أنّ الأسلوب النّفسيّ القصصي ، يمكّن من التّعبير الفنّيّ الذّهنـيّ ( Montalisme) ، فتتجلى من خلاله : خلجات النّفس و أسرارها ، و تجلياتها و خفياها ، و أبعادها و أغوارها ....
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
نخلص بعد هذه العشرية القصصية، إلى جملة من الملاحظات ، نجملها في التالي :
1ـ اجتناب العنوان الذي يشي بالمضمون أو يلخصه .
2 ـ تجنب الحشو أو الكلمات التي لا تخدم النص .
3 ـ تجنب القفلة المنتظرة .
4 ـ الجميل في القفلة أن تثير الأسئلة ..
5 ـ الأجمل ما يستنتجه القارئ من النص لا ما يخبر به النص .
6 ـ ينبغي التريث قبل الكتابة،حتى لا يعكس النص الواقع مباشرة ويسقط في التقريرية.
7 ـ النص الرائع ما يشترك القارئ في انجازه ، بما يتيحه السّارد من فرص التّأويل .
8 ـ المبالغة في التكثيف ، تبعد النص عن القراءة الجادة .
9 ـ الاحتفاء بالسرد الوصفي يفقد متعة الحبكة .
10 ـ القصة القصيرة جدا تحتفي باللّغة، و التّراكيب الجديدة، و الأنساق المبتكرة .
إنّ النصوص المطلع عليها ـ كما أسلفت ـ لا تعكس إبداع عبد الحميد الغرباوي بشكل تام . إنّما تعطي لمحة و ومضة عن فنّ القصّة القصيرة جداً عند هذا القاص الكبير .و لكنّ النّصوص على اختلاف مستوياتها السّردية و الفنية ... مكّنتنا من ملاحظات قد نستفيـد منها جميعاً ؛ مبدعين و نقادا . لأنّ كتابة الكبار دائماً ـ و من خلال جدلية التجريب و البحث عن الأحسن ـ تثيـر قضايا فنية بشكل ملحوظ . و قراءة نصوص الغرباوي ـ و بخاصة في مجموعته الأخيرة '' أكواريوم '' ـ تدفع القارئ إلى إعادة النظر في الكثير من المسلمات الفنية، التي ترسخت في السّرديات كقيم فنية . لأنّ القاصّ عبد الحميد الغرباوي يؤمن بأننا نملك فائضا في الكمية ، و لكن نعاني نقصاً في النّوعية ( we are long on quantity,but short on quality ) لهذا فهو مهموم بالبحث و التقصّي ، و استكناه المجهول من خلال التّجريــب . و استقصاء المتعة الفنية من خلال التّنوع . و استهام الواقع من خلال نبض الحيــاة .
د مسلك ميمون
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
http://www.wata.cc/forums/customavatars/avatar1487_2.gif
القاص عبد الحميد الغرباوي
ازداد بالدار البيضاء بتاريخ 4 مارس 1952.التحق عبد الحميد الغرباوي باتحاد كتاب المغرب سنة1983.
بدأ النشر في منتصف السبعينات. له كتابات قصصية بمجموعة من الصحف والمجلات: الملحق الثقافي لجريدة العلم، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، البيان الثقافي، الحرية (سوريا)،
الفصول الأربعة (لبنان) خطوة، الناقد (لندن)، أوراق (لندن)..
أصدر المجاميع القصصية التالية:
- عن تلك الليلة أحكي, البيضاء, عيون المقالات، البيضاء، 1988.
- برج المرايا, المركز الثقافي العربي، بيروت - البيضاء، 1992.
- عـري الكائـن، الاتحاد الأخوي، 1994.
- أيمن والأفعـى، البيضاء، 1996.
- نـون النسـوة، منشورات الرهان الآخر، 1999.
كما أصدر العملين الروائيين التاليين:
- ميناء المطر الأخير (رواية مشتركة مع إدريس الصغير)، دار الثقافة، البيضاء، 1995.
- سعد الخبية: رواية، دار الثقتفة، البيضاء، 1998.
لم أنتق هذه النصوص . و أعلم أنها لا تمثل أحسن ما كتب الأستاذ عبد الحميد الغرباوي . إنما هدفي من ذلك أن القارئ المتخصص و العادي يقف معي عند نصوص لم تنتق أو تنتخب ، و لها ما لها ،و عليها ما عليها . على عكس ما قال لي صديق ( لماذا لا تختار الأجود و تبين ما فيه من محاسن الجودة .) و رأيي كان دائما أننا لا نتعلم من الجودة فقط . بل أحيانا كثيرة نستفيد مما نعتقده بعيدا عن الجودة . أو في أحسن الأحوال أقلّ جودة ، عند هذا القاص أو ذاك ...
و النّصوص التي بين أيدينا الآن لكاتب متمرس تعرفت على كتابته منذ السبعينات . فهو من الفطاحل في هذا المجال . خبر السّرد ، و تمرّس على أخاديده و منعرجاته ، و استشفّ مكنونه و مخبوءه ... و ما المجموعات التي ألّفها ، و القطع التي نثرها هنا و هناك إلا الدليل على إخلاصه لهذا الفن الصعب الجميل .
و هذه القراءة ، سواء ما اتفقنا معه فيها ، أو ما اختلفنا ، لن تنقص من توهج إبداع القاص الأستاذ عبد الحميد الغرباوي قيد أنملة . لأنّه اسم عصامي حُفر في ذاكرة الإبداع القصصي المغربي . و نقش في أديم تاريخ السّرد العربي .
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(1) فـــــراغ
هكذا يحدث دائما...
يدخل المقهى، يأخذ له مكانا إلى جانب أصدقاء، يطلب قهوة بلا سكر و جرائد..
يتصفح الجريدة الأولى من أولها إلى آخرها ثم يضعها جانبا، يتصفح الثانية من أولها إلى آخرها ثم يضعها جانبا، و الثالثة و الرابعة..ثم يضعها جانبا، يرشف رشفة من قهوته ثم يسأل الأصدقاء: "ما الأخبار يا سادة؟"
'' فراغ '' قصة الاعتيادي الممل ، الذي يسكن الدّماغ ، فينعكس على دورة الحياة اليومية ، فتتشابه السّاعات و الأيّام و الأسابيع ... في روتين قاتل يطفح بالتّكرار : و كأنّ كلّ ما في الجرائد من أخبار، لم يشغله ، و لم يلفت انتباهه ، فيسأل الأصدقاء ( ما الأخبار يا سادة؟ ) كأنّي بالسّارد يوحي بأنّ الأخبار الجديدة انتشال من الفراغ . لأنّ البطل يجد شيئاً ما يلوكه بلسانه . و يكسر دائرة الطّوق التي تحاصره .
بنية القصة : اعتمدت التكرار تعميقاً للشعور بوطأة الفراغ ، و ما ينجم عنه من ملل : (يتصفح الجريدة الأولى من أولها إلى آخرها ثم يضعها جانباً، يتصفح الثانية من أولها إلى آخرها ثم يضعها جانباً، و الثالثة و الرّابعة..ثمّ يضعها جانباً )
القفلة لم تكن منتظرة لأنّ البطل غارق في أخبار الجرائد . و لكنّ المدهش في الأمر أنّه يريد أن يستزيد أخباراً من الأصدقاء دليلا أنّ : كلّ ما هو متيسر لا يملأ هوة الفـراغ الذي يعيشه . إلا أنّ النّص لا يكشف عن نوع الفراغ : روحـي ، عاطفي ، توقف عن العمل ، تقاعد ...و هذه مزية أفضل من التّحديد . تسمح للخيال أن ينطلق بدون قيد. و فنيا أرى لو كان العنوان ( ما الأخبار يا سادة ؟ ) و يبقى مدلول النّص ( الفــراغ ) حصيلة القراءة ، و نتيجة الفهم و الاطلاع ... كان الأمر أحسن .
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(2) بلاغـــة
استدعي شخصان للحديث إلى جمع غفير عن نعمة الكلام التي وهبها الله للإنسان...
كان الحفل احتفاء بالصوت البشري حقا... تحدث الشخص الأول و أسهب كثيرا في الكلام، و حين أنهى حديثه، ظلت القاعة صامتة، و تخلل الصمت تصفيقات مجاملة ، مترددة، قليلة، متفرقة و باردة هنا و هناك...ذهل الشخص الأول حين انبرى الثاني و تحدث إلى الجمع بلغة الإشارات. كانت حركات يديه و أصابعه في غاية الإتقان، تتسم بخفة و رشاقة بالغتين... و ما إن توقفت يداه و أصابعه عن الحركة، حتى وقف الجمع مصفقا بحرارة منقطعة النظير.
البلاغة لغة الايجاز و الاقتضاب ، لغة المعنى الكثير في اللّفظ القليل ، لغـة مراعاة الزّمان و المكان ، و الحال و الاستقبال ، و ما قلّ و دلّ ... فإذا خالفت هذا انخرطت في الإسهاب الممل ، و الإطناب المخل ، فيضيع الفهم و يعمّ الارتخاء و السّهو و النّوم ...و هذا ما حدث مع الشّخص الأوّل الذي أسهب ( و حين أنهى حديثه، ظلّت القاعة صامتة ، و تخلّل الصّمت تصفيقات مجاملة ، مترددة، قليلــة، متفرقة و باردة هنا و هناك.. ) و هذا ما يحدث مع مطولات الخطب .
أمّا الشّخص الثّاني غيَّر أداةَ التّواصل من اللّغة إلى الحركة و في بضع حركات بطريقة ميمية mimique) أو ما يعرف في المسرح : بالتمثيل الصامت ( pantomime) أ استطاع أن يوصل أفكاره (... و ما أن توقفت يداه و أصابعه عن الحركة، حتى وقف الجمع مصفقا بحرارة منقطعة النظير.)
فنيــا : و إن كان العنوان ( بـلاغة ) و لكن لغة النص جاءت عادية. بل فيها بعض الحشو مثلا :(التي وهبها الله للإنسان... كان الحفل احتفاء بالصوت البشري حقا)
فنعمة الكلام من الله ، و لا داعي لذكر ذلك . كما أنّ الحفل لم يكن احتفاء بالصوت فقط بل و الحركة . و الأحسن حذف كلّ ذلك لأنّه مجرد استطراد لا يخدم النص، و يتــرك الأمر لفهم القارئ .و كذلك : ( كثيراً من الكلام ) لقد سبقت كلمة( أسهب ) و هي دالة على ذلك .
و في غير هذا فقد كانت القفلة منتظرة و غير مفاجئة لأنّ العنوان ( بـلاغة ) أفشى سرّها . فلو كان العنوان ( شخصان ) فإنّ القارئ ينطلق من المبهم بحثا عن المعلوم و حين ينتهي قراءة يشعر أنّه ـ فعلا ـ أمام شخصين : أحدهما أسهب فلن ينل تصفيقاً حاراً ، و الآخر اقتضب ، و بحركات رشيقة ، نال التّصفيق و التّشجيع . فيخرج بنتيجة أنّ الثّاني كان أبلغ من الأوّل في مجال التّعبير البـــلاغي . و الأجمل ؛ هو ما يخرج به القارئ لا ما يقـال له .
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(3) غـيــــــــــاب
البنت التي كانت على شاطئ البحر، جوار أهلها..
قرب والدها..تنتشي بزرقة السماء و هدوء البحر
لم تكن تعلم أن الزرقة و الهدوء خدعة...
عرفت ذلك بعد فوات الأوان..
حين نزل ، فجأة، على الشاطئ، كالصاعقة، نار و موت...
محولا من كانوا قبل قليل يسرحون و يمرحون جثتا و جرحى يتوجعون ..
وتصرخ مرعوبة: أَبي...
كان الأب جثة متناثرة الأطراف على رمل خالط صفرته الدم
الجريمة حرّكت وكالات الأخبار...
في الوقت الذي كان يتعاظم، في مناطق عدة، صوت شخير حاد..
'' غياب '' لا أعتبرها قصة قصيرة جداً . ربما لطريقة كتابتها ، و مباشرتها و اشتباهها بقصاصة و كالات الأخبار . و إن حاولت قفلتها أن تعطيها مسحة فنية ( في الوقت الذي كان يتعاظم، في مناطق عدة، صوت شخير حاد..) و لكن مع ذلك تبقى لصيقة بالخبر و الإخبار . و المباشرة و التقريرية . و لعلّ الكاتب بمجرد أن رأى في التلفزة منظر البنت تبكي أفراد أسرتها على الشاطئ ، بعد القصف الصهيوني الغاشم ، تأثر و اندفع ليعبـر . ودائماً في مثل هذه الحالات ينبغي التريث ، لأن المبادرة بالكتابة تجعل العملية الإبداعية خاضعة لقوة الانفعال ، التي تفقد الانتاج رونق التكامل و تقنية اٌٌلإخراج . و حسن الإعداد .
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(4) الجرابان
أقبلا...كل واحد من الاتجاه المقابل للآخر..
و كل واحد يحمل جرابا...قال أحدهما:
" أظن أن القادم يتضور جوعا..."
و أدخل يده في الجراب..
رآه الآخر، قال:" أظن أن القادم عدو يتهيأ لتصفيتي.."
وأدخل يده في الجراب...اقتربا ..
أخرج كل واحد يده...كانت الرصاصة أسرع من كسرة الخبز...
هذه قصة قصيرة جداً بمعنى الكلمة . إذ توفرت فيها شروط البناء القصصي.
الدّلالة : تكثيف لغوي ، لم يكتب إلا ما له علاقة بالنّص ؛ شخصيتان متناقضتان الشيء الذي قوى الصّراع الدرامي.حوار داخلي (monologue ) (" أظن أن القادم يتضور جوعا...") و ( أظن أن القادم عدو يتهيأ لتصفيتي..") سرد مقتضب ( أقبلا...كلّ واحد من الاتجاه المقابل للآخر..و كلّ واحد يحمل جرابا ..) قفلة ( كانت الرصاصة أسرع من كسرة الخبز ) قد يقال هنا أنّ القفلة كانت شبه منتظرة و يوحي بها كلام الرجل الثاني و إدخال يده في جرابه . هذا صحيح و لكن القارئ لا يعلم ما سيخرج من جرابه : هل سيخرج سكينا أم عصا أم مسدسا... و إن كان الشّعور أنّه يتهيأ للدفاع عن نفسه . و لكن الأحسن في القفلة هو إطلاق النار بسرعة دون أن ينتظر ما سيخرج الرجل الأول و في هذا متعة القفلة لأنّها تضعنا أمام صورتين متناقضتين:يد ممدودة بكسرة الخبز . و يد تطلق النار. و يبقى مجال القراءة مفتوحا على مصرعيه أمام المتلقي ... و هذا هو الأجمل . إنّ النّص الرائع هو الذي يشارك القارئ في انجازه ، بما يتيحه السارد من فرص التّأويل ،و التّخمين ، و التّخيل ، و التّنبؤ .....
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(5) صفعـــــــــة
وعدها بالزواج...و بعرس آخر طراز...ظل الوعد قائما...
اللقاءات أضحت مملة...وذات صيف ملتهب .جلس جوار كهل في طاكسي كبير...
تبادلا كلاما كثيرا... و بعد أن استأنسا إلى بعضهما البعض، سأل الكهل الشاب:
" متزوج؟.." رد الشاب محرجا: " أنتظر.."
ضحك الكهل و هو يناول الشاب مجلة مفتوحة على صفحة..
" لا داعي للانتظار...انظر ألسن جميلات فاتنات؟
ما عليك سوى الاختيار..."..صفعته صورتها بين صور طالبات الزواج..‘’
" صفعة " نص قصصي يلمّح إلى مسألة الزّواج ، و كيف أصبحت صعبة محرجة للمقبلين عليها : شاب يعد فتاة بالزواج ، و بعرس لم يكن مثله من قبل و تستمر اللقاءات و الأحلام الوردية تنثال بينهما . إلى أن طال الأمد ، و اخترق حياتهما الملل و الضّجر . و في ذات صيف يكتشف الشاب في مجلة صورة فتاته مع باقي صور الفتيات اللّواتي يرغبن في الزواج . فيشعر و كأنّ صفعة أفاقته من وهم الانتظار .
هل خانته و خالفت عهده ؟ كلا . و لكن يئست من شاب غير مستعد للزّواج . ينتظر . ما عساه يبنتظر ، وظيفا ، أو شغلا ، أو عملا خاصا ، تجارة ، سفرا إلى خارج الوطن ، اجتياز البحر إلى الضفة الشمالية و معانقة أوروبا الحلم ...... إنّه ينتظر .
أما هي فلا تستطيع أن تنتظر أكثر . السنوات تهاجمها و تقلص من حظها في الزّواج. و وجه العنوسة المرعب بدأ ينكشف أمامها . فلا سبيل إلا البحث عن زوج مستعــد و لا ينتظر . و هذه مشكلتنا المسكوت عنها في العالم العربي . و كأنّها إحدى الطابوهات المقدسة ،التي لا ينبغي إثارتها أو نقاشها . ففي كلّ أسرة أكثر من بنت تنتظر . و في كلّ بيت أكثر من شاب عاطل . فكيف يكون الزّواج و بناء الأسر ... و البطالـة متفشيـة ؟
ذاك ما تقوله القصة ، و ما تلمح إليه ، و ما سكتت عنه تماما .... لأنه واضح ، بيّن من خلال تتابع السياق .
فنيــا : يحافظ الكاتب على لغة بسيطة ،و جمل قصيرة ، و صور سريعة متوثبة نحو قفلة صادمة مفاجئة غير متوقعة ( ....صفعته صورتها بين صور طالبات الزّواج . )
و لكن القصّة، جاءت متضمنة لكلمات لا تخدم النّص مثلا : (...وذات صيف ملتهب ) الصيف الحار لا يفيد شيئا في بناء هذه القصّة . أفضل منه : ذات يوم .
و كذلك ( رد الشاب محرجا ) كلمة محرجا لا داعي لها . لأنّ السؤال لا يتطلب إحراجاً . كما أنّ التّعبير (...و بعرس آخر طراز ) فآخر طراز : تكون خاصة بالمنتوجات الصناعية كالسيارات و الآلات ....و الأفضل ( بعرس لم يشاهد من قبل ) أو ( عرس لا مثيل له ) ... و كذلك ألاحظ أن مكان القصة غير مناسب (جلس جوار كهل في طاكسي كبير...) فلا يعقل في طاكسي يثار موضوع زواج و تصفح مجلة . و الطاكسي كما نعلم مزدحم في الغالب بالركاب و الكلّ شغله الشّاغل الوصول ، و نفسي نفسي في أمور الدنيا . فلو اختير مكان آخر كان الأمر أجود و أحسن . و بخاصة أن ( الطاكسي ) لم تظف جديدا للنص و لم تؤثر في الحدث .
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(6) منطق الفقــر
قبل أن تبدأ الحملة، و حتى أثناءها، وفي سرية مكشوفة للعيان، طمأنهم بوعود ووزع عليهم مالا بسخاء، و منح أطفالهم حنانا مفتقدا و رغيفا و شوكولاطة و ملابس...
نسي الكبار لفترة عوزهم، و نسي الأطفال جوعهم و عريهم...
فاز بمقعد في البرلمان فنسيهم...
و سريعا عاد إليهم العوز و الجوع و العري ...
إلا أن سؤالا واحدا ووحيدا ظل يطن بدواخلهم، طنين الذباب:" متى تأتي الحملة المقبلة؟
'' منطق الفقــر '' استوقفني عنوان النّص . هل للفقر منطق ؟ و لماذا لا يكون ذلك . فكلّ ما نعرف و ما لا نعرف ممنطق ، و لكن لا نراعي و لا نلاحظ .
فمنطق الفقر يعني أنّ الفقر ، لا يزول بالحلول المناسباتية أو بالحلول الترقيعية ، أو بالوعود و المخططات العشوائية أو بالحملات الانتخاابية .... منطق الفقر يفرض الحلّ النّاجع في تقسيم ثروات البلاد ، و محاسبة الطبقات العليا و كيف أصبحت عليا ؟ و في استرجاع المال العام و صرفه في مجالاته الخاصّة . و في توفير الشّغل ، و فتح الآفاق أمام العاملين و ذوي الشّواهد العليا ، و الكفاءات المتميزة . و عدم إهمال ذوي الحاجات الخاصة ، و غير المحظوظين ، و غير المتفوقين لظروف قاهرة ... منطق الفقر يحتم النظرة الجماعية للوطن ككتلة متجانسة . و يرفض التفرقة ، و المحسوبية ، و استغلال خيرات البلاد لفائدة طبقة خاصة ، و إهمال الباقي .... ذاك مما نطقت ببعضه القصّة ، و ذاك ممّا سكتت عنه ، و بقي استنتاجاً ، من واجب القارئ أن يصل إليه .
فنيـــــا :ا النّص في هيكلته ، ينقسم إلى قسمين ، الطمأنينة و الوعود و توزيع العطايا بسخاء من طرف المرشح و كأنّه ( بابا نويل ) حتى ( نسي الكبار لفترة عوزهم، و نسي الأطفال جوعهم و عريهم...) و لكن بمجرد أن فاز و ضمن مقعده في البرلمان ، نسي منتخبيه . بل لو استطاع لسلبهم ما أعطاهم . و لهذا (سريعا عاد إليهم العوز و الجوع و العري ...) و تأتي جملة القفلة غير المنتظرة التي تطن طنين الذباب في داخل المنتخبين : ( متى:تأتي الحملة المقبلة ؟ ) و الأسئلة التي تثيرها القفلة :
ـ هل إذا كانت الانتخابات ، سينتقم الناخبون من مرشحهم الذي خانهم ؟
ـ هل سيؤيدونه من جديد لأنّه أجزل لهم في العطاء قبل الفوز ؟
ـ هل سيقاطعون الانتخابات التي تفتح الباب للمرتشين ؟
و تتناسل الأسئلة . و ليس ـ في القصة القصيرة جدا ـ أحسن ، و لا افضل من قفلة بنيت على أساس إثارة الأسئلة . فهي أفضل من قفلة تنقل معلومة و تنتهي .
يحافظ الكاتب على اللغة البسيطة ، و الجمل القصيرة ، و سرعة التنقل من صورة إلى أخرى ... مع إضافة السّخرية و التّهكم في التّعبير مثلا : ( وفي سرية مكشوفة للعيان ) و ( ووزع عليهم مالا بسخاء، و منح أطفالهم حنانا مفتقدا و رغيفا و شوكولاطة و ملابس... ) و ( متى تأتي الحملة الانتخابية ؟ )
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(7) ثـــــأر
الولد الذي يجلس اللحظة يرسم، كان قبل ذلك بقليل يجهش باكيا..
شده الحنين إلى والدته ، والده، أخته الذين أحرقتهم طائرة مغيرة فبكى...
يرسم الولد كوخا بمدخنة و حوله عشب،
فلا دخان يخرج من المدخنة ، و لا نداء يأتيه من عمق الكوخ ..
و اخضرارالعشب تحول إلى اصفرار...
يرسم الولد شمسا فلا تضحك..
عندليبا فلا يغرد..
يرسم الولد طائرة حربية فتنطلق مسرعة لتحرق الأعداء...
'' ثأر '' نص معبر . رغم بساطته يجد له محلا و مستقرا في القلب . لا لفكرته ( الثأر ) و لكن لطريقة التعبير العفوية انطلاقا من تفكير و نفسية و حركات طفل فقد الأم و الأب و الأخت في غارة غاشمة ظالمة . فبكى إلى أن أفرغ سواد الحزن الذي يملؤه . و لمّا حـنّ لأبويه و أخته، و قد صار يتيما ، رسم كوخا بمدخنة بلا دخان و لا أثر للحياة و حولـه عشب ، سرعان ما تحول لونه الأخضر إلى اصفرار و شحوب...ثم رسم شمسا لا تضحك على عكس ما في رسومات الأطفال و شمسهم الضاحكة .ثم رسم عندليبا صامتا لا يغرد . و في الأخير ( رسم الولد طائرة حربية تنطلق مسرعة لتحرق الأعداء...)
فنيــــا : و ظف النّص الرّمز كعمدة و أساس :
ـ (فلا دخان يخرج من المدخنة ) رمز لتوقف الحياة في كوخ الأسرة نتيجة الغارة .
ـ ( و لا نداء يأتيه من عمق الكوخ ..) رمز لغياب الأم الأبدي .
ـ (و اخضرارالعشب تحول إلى اصفرار..) رمز لتحول الحياة النضيرة إلى جفاف و قحط .
ـ (يرسم الولد شمسا فلا تضحك..) رمز لغياب السعادة التي كانت في حضن الأسرة .
ـ ( عندليبا فلا يغرد.. ) رمز لضياع النشوة و الحبور و التغني بالبهجة و السرور .
أمّا القفلة و إن جاءت فاترة . و لكنّها تستجيب لرغبة طفل يسعى للإ نتقام من أعداء أفقدوه أسرته و ذلك بأن رسم (طائرة حربية تنطلق مسرعة لتحرق الأعداء )
فالفنّ كان دائماً يحمل على التّعويض النّفسي . فالطفل برسمه هذا ، امتلك تعويضاً نفسيا ذاتيا فانتقم لأسرته و لو في ظلال الوهم و الخيال . عموما يبقى هذا النص من تحف الكاتب الرائعة ، التي تنبثق متكاملة ، مزاوجة بين هوايتيه : القصّ و الرّســـم .
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
(8) الضحايــــا*
خرجوا يلعبون ببنادق من بلاستيك،...
تفرقوا، و كل واحد اختار له مكمنا..
رآهم أسامة و هو عائد إلى البيت يحملون بنادق، فقرر أن يطلب من أمه شراء بندقية له..
فجأة، أحس بفوهة بندقية تسلط على رأسه من الخلف وحاملها يهدده بإطلاق النار، ثم يأمره ألا يلتفت، يركع ويشبك يديه خلف رأسه كرهينة، استهوته اللعبة فاستجاب مبتسما لأوامر الطفل صاحب البندقية..
ذوت طلقة نار فخر صريعا...
*إلى هيفاء بيطار التي ألهمتني مقالتها هذا النص
و نـِعـم الإلهـــام !!
نص قصصي تجمعت فيه كل وجوه الاستحسان : أطفال يلعبون ببنادق بلاستيكية يراهم صديقهم أسامة ، فيقرر أن يطلب من أمّه شراء بندقية . فجأة شعـر بفوهة بندقيــة تصوب إلى رأسه من خلف ، ظنّه أحد أصدقائه يمازحه . و لكن الرصاصة التي فجرت رأسه الصغير ، لم تسمح له أن يعرف أن فواهة البندقية كانت حقيقية . و أنّ حاملها عدو حقيقيّ . و المسألة ليست لعبـــة .
فقط ألاحظ أنّ : ( فاستجاب مبتسما لأوامر الطفل صاحب البندقية.. )
( ذوت طلقة نار فخر صريعا...)
ففي العبارة الأولى ، لو اكتفي فقط بـ : فاستجاب مبتسماً للأ وامر .
بدون ( الطفل صاحب البندقية.) مزيدا في التّكثيف اللغوي ، لأنّ الطلقة استبعدت الطفل تلقائياً . أمّا العبارة الثانية ، ربّما خطأ في الرّقن ، ينبغي حذف ( الذال المعجمة و استبدالها بالدال في ( ذوت ) )
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
( 9 ) محاولة اغتيال
حين سقط جثة هامدة، كان إصبعُه لا يزال على الزناد و الفوهة كما لو أنها مسددة في اتجاه الساعة المدقوقة إلى الجدار و هي تعد الثواني في حياد تام.
'' محاولة اغتيال '' بل هي اغتيال حقيقي ( والجثة هامدة ) و الإصبع لايزال على الزناد إذا هي عملية انتحار . أو عملية اغتيال مدبّرة . المهم ـ بغض النظر عن التّأويل الممكن ـ فالجريمة تمّت في الخفاء ، و فاعلها ( مجهول ) .
فنيـا : هناك تكثيف مبالغ فيه لدرجة الإبهام . فإن كنّا نصرّ على التكثيف في القصّة القصيرة جداً ، فليس ذلك معناه إلى درجة الانغلاق و الاحتباس . لأنّ الغـرض من التّكثيف،هو خلق أجواء تسمح بالتّأويل،و تعدّد القراءات بدون معاضلة،أو إشكال ما . و لكن في هـذه الومضة : نحن أمام ضغط نفسيّ. لا نعلم عوامله النفسية المؤثرة psychodynamics أدى إلى انتحـار ، والعلّة في ذلك أنّ الإصبع لازال على الزّناد . و الفوهة التي كأنّها مسددة في اتجاه السّاعة الجدارية رمز لإيقــاف الزّمن ( الحياة ) و لكن الذي توقف ، هي حياة الضّحية، أمّا الزّمن [ السّاعة ] ( تعد الثّواني في حياد تام ) و في استمرار رغم وقوع الجريمة . رمزاً إلى أنّ الحياة في استمرار . و كأنّها غير عابئة بعملية الاغتيال ، و الأسباب النّفسية التي أدّت إلى ذلك .
و على الرغم من كلّ هذا ؛ يبقى هذا النّص في حاجة إلى كلمات إضافية تفكّ انغلاقه ، و تنير فجاجه ، و تسمح بقراءة متّئدة ، و تأويلات موضوعية . بمعنى أنّ النّص يعتريه عدم الوضوح التقني manque d’explication حقــاً قد تكون الفكرة واضحة في ذهن الكاتب ، و قد تكون كما رأينا : مسألة ضغط نفسيّ ، سببه عصاب القلق (Anxiety Neurosis) . و لكن الطريقة التي جاءت بها الومضة ، لا تسمح بتحديد بؤرة الحدث برفق و سهولة . أو تتيح فرصة التّمتع بالحبكة كما يجب ، لفرط التّكثيف و الايجاز. و حتّى إذا كانت الومضة تشير إلى أنّ الضّغط النّفسيّ يؤدّي إلى الانتحار. نقول أنّ هذا ليس دائماً ، و لا يشكّل نتيجة حتمية ، وإلاّ انقرض معظم البشر ، و بخاصّة في عصرنــا .
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
( 10) مــــزاج
هكذا، و دون سابق تفكير،حطم مزهرتين، و صحن " طاووس"، و مزق صورتها ركل بقدميه اللاشيء و هو يصرخ ملء حنجرته... فجأة، توقف عن الركل و الصراخ، مرر أصابعه في شعره، و سوى من ياقــــــــة معطفه،أغلق خلفه الباب، و خرج يسير على الرصيف، و هو يغني بصوت خفيض، يداه داخل جيبيه تقبضان على الفراغ .
'' مزاج '' قصة تحيلنا على الحياة النفسية psychobiography لشخص ما .قصة نفسية كالسّابقة . و لكنّها ليست في تكثيفها و غموضها ... بل جاءت واضحة ، تعكس مزاج شخص ما ، يمرّ باضطراب نفسيّ . سببه ـ لاشك ـ امرأة ، إذ مزّق صورتَها . وظهر انفعاله في : تحطيم المزهريتين ،و صحن '' طاووس'' و ركل بقدميه اللاشيء ، و هو يصرخ ملء حنجرته .
و يظهر مزاجه المختلف . في أنّه فجأة توقف عن العنف و مرّرأصابعه في شعره و سوى من ياقة معطفه ، و خرج يغني بصوت منخفض . و يداه في جيبيه الفارغين .
فنيــا : القصّة النّفسية من أصعب أنواع القصّة . فما بالك القصة القصيرة جداً . لقد حاول الكاتب أن يقرب المتلقي من مزاج البطل من خلال التّركيز على أفعال العنـف : ( التّحطيم ، التّمزيق ، الرّكل ، الصّراخ ) ، و أفعال الهدوء و الاطمئنان : ( توقف ، مرر ،سوى أغلق خرج يغني ، داخل ) و كذلك يكون المزاجيّ ، فهو بين الحالتيـــن ( عنف / هدوء ) أو العكس.و نفسيًا لا يتّضح عامل المزاج إلا مع استفزاز ما . الشيء الذي يجعل المزاجيّ يدخل دائرة التناقض . و في النّص : خلاف ما مع امرأة . و عدم امتلاك البطل المزاجيّ مالا ، يمكّنه من حلّ مشاكله الراهنة . الشيء الذي ضاعف من معاناته و قلقه ... و هذا ما يتّضح في القفلـة ( يداه داخل جيبه تقبضان على الفراغ )
و لكن هل استطاع النّص أن يذهب أبعد من الحالـة المزاجية و تصويرها باقتضاب ؟
ذاك هو السؤال.
فالنّص اكتفى بعملية الوصف ، و التّصوير . لهذا جاء محدود الرؤية . مبتسر الأفـق . مع أنّ الأسلوب النّفسيّ القصصي ، يمكّن من التّعبير الفنّيّ الذّهنـيّ ( Montalisme) ، فتتجلى من خلاله : خلجات النّفس و أسرارها ، و تجلياتها و خفياها ، و أبعادها و أغوارها ....
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10556.imgcache.gif
نخلص بعد هذه العشرية القصصية، إلى جملة من الملاحظات ، نجملها في التالي :
1ـ اجتناب العنوان الذي يشي بالمضمون أو يلخصه .
2 ـ تجنب الحشو أو الكلمات التي لا تخدم النص .
3 ـ تجنب القفلة المنتظرة .
4 ـ الجميل في القفلة أن تثير الأسئلة ..
5 ـ الأجمل ما يستنتجه القارئ من النص لا ما يخبر به النص .
6 ـ ينبغي التريث قبل الكتابة،حتى لا يعكس النص الواقع مباشرة ويسقط في التقريرية.
7 ـ النص الرائع ما يشترك القارئ في انجازه ، بما يتيحه السّارد من فرص التّأويل .
8 ـ المبالغة في التكثيف ، تبعد النص عن القراءة الجادة .
9 ـ الاحتفاء بالسرد الوصفي يفقد متعة الحبكة .
10 ـ القصة القصيرة جدا تحتفي باللّغة، و التّراكيب الجديدة، و الأنساق المبتكرة .
إنّ النصوص المطلع عليها ـ كما أسلفت ـ لا تعكس إبداع عبد الحميد الغرباوي بشكل تام . إنّما تعطي لمحة و ومضة عن فنّ القصّة القصيرة جداً عند هذا القاص الكبير .و لكنّ النّصوص على اختلاف مستوياتها السّردية و الفنية ... مكّنتنا من ملاحظات قد نستفيـد منها جميعاً ؛ مبدعين و نقادا . لأنّ كتابة الكبار دائماً ـ و من خلال جدلية التجريب و البحث عن الأحسن ـ تثيـر قضايا فنية بشكل ملحوظ . و قراءة نصوص الغرباوي ـ و بخاصة في مجموعته الأخيرة '' أكواريوم '' ـ تدفع القارئ إلى إعادة النظر في الكثير من المسلمات الفنية، التي ترسخت في السّرديات كقيم فنية . لأنّ القاصّ عبد الحميد الغرباوي يؤمن بأننا نملك فائضا في الكمية ، و لكن نعاني نقصاً في النّوعية ( we are long on quantity,but short on quality ) لهذا فهو مهموم بالبحث و التقصّي ، و استكناه المجهول من خلال التّجريــب . و استقصاء المتعة الفنية من خلال التّنوع . و استهام الواقع من خلال نبض الحيــاة .
د مسلك ميمون