نورالدين عزيزة
30/08/2009, 12:20 AM
المقاومة والإرهاب والمخطط الاستعماري (1/7)
1 ـ القِيَم وما بعدها
لا يحار المرء في هذه الظروف التي تعيشها أمتنا العربية اليوم، ماذا يكتب؟. ولكنّ الحيرة كلّ الحيرة هي لماذا يكتب؟ ولمن يكتب؟ وهل من جدوى، أيّ جدوى، لما يكتب؟ والحال أن المرء في بحر من الجلبة والصخب والضوضاء واللغط واللغو والفوضى والحق والباطل والمنطق واللامنطق، يصمّ الآذان ويغشى البصر؟
هل يجب علينا أن نصرخ كي يسمع صوتنا في خضم هذا الزخم غير المعهود من الإعلام ووسائله؟ هل يكفي الصراخ فعلا ليسمع الإنسان صوته وسط هذا الإعلام الخبيث الشرس والإعلام التافه والإعلام الساذج والإعلام الببغاء الغبي الذي مازال يطغى ويطغى حتى نال من الإعلام العربي الواعي المناضل؟
نعم، قد نكون ننفخ في قربة مثقوبة، أو ننادي من قاع بئر عميقة في صحراء، أو نصب ماء في البحر، غير أنّ ذلك لن يمنعنا من طرح الأسئلة التي تقض اليوم مضجع كل عربي، والتي تعمل وسائل الإعلام العدوة والمأجورة والعربية الساذجة على أن تروّج للإجابة عليها بكل ألوان التضليل والتهميش من أجل طمس الحقيقة وتحقيق المآرب من أقرب السبل وبأقل التكاليف. من هذه الأسئلة:
ـ ما المقاومة وما الإرهاب؟ من الذي يخلط بين المفاهيم وما مصلحته من ذلك؟
ـ ما الهدف من هذه الحملة الرهيبة على العراق وهذا الإصرار على العدوان عليه؟
ـ ما علاقة هذه الحملة العدوانية الشرسة بما يرتكب في فلسطين من جرائم يومية على مرآى من الجميع، الشقيق والصديق والمتعاطف والمتنكر في زيّ الصديق وقناع المتعاطف؟
ـ ما علاقة هذا كله بمخططات الاستعمار الغربي وبوجود إسرائيل وما يسمى أمنها؟
إنّ ما يرتكب من فظائع في فلسطين المحتلة وما يخطط للعراق وشعبه الشقيق المطعون من الداخل ومن أمام ومن خلف، وما يحاك من مؤامرات سرا وعلنا ضدّ الأمة العربية بأسرها، وهذا الوجه الباهت المروّع الذي بدت عليه أمتنا في هذه الأيام العصيبة، لا يمكن أن يترك المرء محايدا. فما من شخص يملك مثقال ذرّة من ضمير وإحساس، إلاّ وله موقف مما يحصل اليوم من ظلم وقهر واستخفاف بمشاعر الشعوب ومقدّساتها، وقلب للمثل العليا والقيم والمفاهيم، واستهتار بالمعاهدات والمواثيق الدولية. ولست أشك في أنّ كل فلسطيني وكل عراقي بل كل عربي مستعد للتعبير اليوم عن غضبه ورفضه وثورته بأيّ شكل من الأشكال، من أضعف الإيمان، إلى الشهادة؛ من التعاطف والتظاهر والاحتجاج والكتابة، إلى أعلى مظاهر التعبير التي تبدأ بالمقاومة والجهاد بالمال والعمل والسلاح وتحمّل جميع عواقب الكفاح من سجن وتعذيب وتشريد وتجويع إلى التضحية والشهادة، أسمى مراتب الوطنية.
هذا ما يحدث اليوم في فلسطين وفي العراق وأفغانستان، وسوف يحدث في كل قطر عربي، لو تعرّض للأذى "المباشر". ذلك أنّ هناك قيما يُفتَرى عليها، ومثل عليا لا تقبل المساومة ولكنها تداس وتُتَجاوز. ومن هذه القيم: الوطن. والوطن قيمة ثابتة، سامية يقدّسها الإنسان، ونكاد نقول لا يتخلّى عنها الحيوان إلا مكرها. ويرتبط بهذه القيمة الجوهرية في حياة البشر، العديد من القيم والمثل الأخرى.
فإذا كان الوطن والوطنية حقّ، فإنّ الحرّية والكرامة أساسان لا يكون الوطن والوطنية إلاّ بهما. وبدونهما ليس الوطن سوى شبح وليست الوطنية سوى كلام. بيد أنّ هناك من يعتقد مع الأسف أن جميع هذه القيم وما شاكلها حكر عليه، له أن يتمتع بالحق فيها وحده دون خلق الله جميعا، وأنه بموجب ذلك يمكنه التصرف في مفاهيمها حسب مصالحه كيفما أراد. ومن حقه أن يمنّ بها على من يشاء ويحرم منها من يشاء. وأمام الوضع اللاأخلاقي الذي يخلقه هؤلاء الطغاة المتغطرسون، لا يمكن أن يكتمل معنى الوطن إلاّ بما يوفّره له أبناؤه من أسباب المناعة وبمدى ما يبدونه من استعداد للتضحية في سبيله حتى الشهادة، أسمى معاني الوطنية.
فالمثل العليا على اختلافها؛ الوطنية والحرية والعدالة والخير والأمن والسلام، مقاصد عليا من أجلها نزلت الديانات ونشأت الفلسفات وشرّعت القوانين والنظم وتنافست الحضارات. وهي مطمح كل أمة. غير أنّ الأنانية والجشع والشرّ المتأصّل في البشر هو الذي يحول على مرّ الزمان دون تحقيق هذه الغايات النبيلة. ويكفي أن يمسك شرير واحد، لبعض الوقت، بقوة غاشمة، مثل الاسكندر الأكبر أو نيرون أو هولاكو أو هتلر، حتى يصبح العدوانُ على الغير واغتصابُ أرضه، دفاعا عن الإنسانية، وسفكُ دماء المستضعفين إقرارًا للسلام، وإرهابُ الشعوب الصغيرة وسحقُها حقا مشروعا وتحقيقا " لأمن " المجتمع الدولي.
إن أيّ اعتداء على أيّ واحدة من هذه القيم يستوجب ردَّ الفعل. والبادئ أظلم، والبدء بالظلم مرض في النفس. ولو لم يكن الإنسان مريضا بالإفراط في حب الذات، ولو لم يكن شرسا أنانيا، لما ظلم أخاه أصلا، ولفكّر في سعادة غيره كما فكّر في إسعاد نفسه. إلاّ أنّ هذا الإنسان المريض لا يتعلّم مع الأسف أبدا أو هو، حتى نظل متفائلين، لم يتعلّم إلى اليوم ولا استوعب الدروس الكثيرة التي لقنه إياها تاريخه الدامي. ولو تعلّم الإنسان درسا واحدا لا غير، مما ذاقه من ويلات التناحر والحروب وسفك الدماء، لنعمت البشرية بالأمن والسعادة منذ آلاف السنين. وها هم الولايات الأمريكية المتحدة وبريطانيا وسلالاتها لم يرتووا بعد من أنهار الدماء التي أهدروها في جميع أنحاء العالم. وبدلا من أن يقوموا بأخلاق " الإنسان المتحضر" ولباقته بواجب الاعتذار لأحفاد ملايين السود الأفارقة الذين استأصلوهم من أوطانهم واستعبدوهم وأذلوهم وأذاقوهم جميع مرارات العنصرية والبطش، وبدلا من أن يعتذروا للشعوب التي استعمروها وقتّلوها ونهبوا ثرواتها وتراثها وعرضوا ومازالوا يعرضون تاريخها دون حياء في متاحفهم وصالوناتهم، بدلا من أن يعوّضوا لجميع هؤلاء ما اقترفوه في حقهم من جرائم إنسانية لا تنسى، تجدهم الثاني قبل الأول والأخير قبل الثاني مثل أستراليا وإسبانيا وإيطاليا، يتسابقون لدقّ طبول الحرب في جميع أنحاء العالم ضد كل شعب مستضعف.
على أن ردّ الفعل يتطلب امتلاك الوسائل الكفيلة بتنفيذه. وهذه الوسائل ذات أشكال متعددة، تبدأ من الاحتجاج السلمي والعصيان المدني على النحو الذي نهجه المهاتما غاندي في مقاومة الاستعمار الإنقليزي، إلى المقاومة المسلحة في سبيل العزة والحرية، إلى الرد بالمثل وبأشدّ من المثل إذا توفرت أسباب القوة القادرة على تأديب المعتدي التأديب الذي يستحق.
ولعلّ ما حدث في سبتمبر2001 في عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية واشنطن باعتباره ردّ فعل بطريقة من طرق الذراع القصيرة التي لا تملك من أسباب القوة ما يؤهلها للدفاع المباشر عن وجودها، لعلّ هذا الحدث الرهيب خليق بأن يذكرنا بسجلّ طويل من الأحداث الدامية في تاريخ البشر التي تسببت فيها هذه الدولة العظمى " المتحضرة " نفسها. وحتّى لا نذهب بعيدا، لا يمكننا نسيان كل ما ارتكبته الولايات المتحدة الأمريكية ضدّ الإنسانية من جرائم منذ ولادتها عندما قامت على أنهار من دماء السكان الأصليين للقارة الجديدة وإبادة شعوب بأكملها، وترحيل من نجا منهم عن مواطنهم وحشدهم في معازل واستعبادهم واستغلالهم للإنتاج الفلاحي ورعي الماشية. كما لا يمكن أن ينسى التاريخ ما اقترفه نخّاسو العصر الحديث من جرائم في حقّ آلاف الزنوج الذين اجتثوهم من جذورهم وهجّروهم إلى القارة الجديدة حيث أذلوهم وباعوهم في سوق الرق، وعندما أعتقوا وأصبحت لهم حقوق مدنية وسياسية تصدت لهم تلك العصابات الأمريكية الإرهابية المشهورة باسم " كيو كلكس كلان" ونكلت بهم تنكيلا، في ذلك العالم الجديد الذي حلم آباؤه المؤسسون " أن يشيدوه ـ بعيدا عن أوروبا القارة العجوز ـ على أسس الأفكار النبيلة والحرية والأمن والبحث عن السعادة " كما جاء في موسوعة هاشيت الفرنسية.
وكلنا نعلم أن تلك الجرائم الفظيعة كانت من عمل أصناف وفئات مختلفة من الموجات البشرية المهاجرة. منهم بعض المغامرين ومنهم من تملّكه اليأس بسبب الفقر المدقع فترك أوروبا إلى غير عودة. ومنهم التجار الذين دفعهم جشعهم إلى الخروج إلى العالم الجديد كي يشبعوا شهوتهم للمزيد من جمع المال والثروة حتى ولو على حساب لحوم البشر. ومنهم نسبة كبيرة ممن لا ذمة لهم ولا ضمير لأنهم ليسوا في الحقيقة سوى حثالة المجتمع الأوروبي من محتالين ومجرمين وسجناء محكوم عليم بالسجن المؤبد أو الإعدام.
وحتى لا نذهب إلى أبعد من ذلك لا يمكن ألا نتذكر جرائم هؤلاء "المتحضرين" في حق شعبهم بالذات وفي حق البشر صغارا وكبارا، نساء ورجالا، شيوخا وأطفالا، في فيتنام وكوريا وأفغانستان وفي جميع أنحاء العالم. بل هل يمكن أن تنسى ذاكرة الشعوب تلك المأساة الرهيبة التي حلّت بهيروشيما وناكازاكي على أيدي هؤلاء الأحفاد أنفسهم، وكيف قضى هؤلاء القوم بكل دم بارد في لحظة من أشدّ اللحظات وحشية في التاريخ البشري، على كلّ شيء، حيّ وميت، بشرا وحيوانا ونباتا، من الشيخ إلى الرضيع، ومن العصفور إلى البيضة ومن النبتة النابتة إلى التي لا تزال في رحم الأرض وحتى تلك التي لا تزاال في رحم الزمن.
وبعد كلّ هذه الفظائع، هل يمكننا نحن العرب، أن ننسى ما قاسيناه من احتلال الغرب لوطننا العربي بالنار والحديد، واستعمارهم الذي انتهى بأبشع جريمة استيطان في التاريخ كانت فلسطين ضحيتها، وما لقيه ويلقاه الشعب الفلسطيني المناضل من جميع ألوان الإرهاب والتنكيل على أيدي الصهاينة إلى اليوم .
وهاهي جرائمهم تستمر جنبا إلى جنب مع إسرائيل، ذلك الورم العالمي الذي زرعته في الوطن العربي أيدي بريطانيا الآثمة ثم جندت له أمريكا لحراسته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
...يتبع
1 ـ القِيَم وما بعدها
لا يحار المرء في هذه الظروف التي تعيشها أمتنا العربية اليوم، ماذا يكتب؟. ولكنّ الحيرة كلّ الحيرة هي لماذا يكتب؟ ولمن يكتب؟ وهل من جدوى، أيّ جدوى، لما يكتب؟ والحال أن المرء في بحر من الجلبة والصخب والضوضاء واللغط واللغو والفوضى والحق والباطل والمنطق واللامنطق، يصمّ الآذان ويغشى البصر؟
هل يجب علينا أن نصرخ كي يسمع صوتنا في خضم هذا الزخم غير المعهود من الإعلام ووسائله؟ هل يكفي الصراخ فعلا ليسمع الإنسان صوته وسط هذا الإعلام الخبيث الشرس والإعلام التافه والإعلام الساذج والإعلام الببغاء الغبي الذي مازال يطغى ويطغى حتى نال من الإعلام العربي الواعي المناضل؟
نعم، قد نكون ننفخ في قربة مثقوبة، أو ننادي من قاع بئر عميقة في صحراء، أو نصب ماء في البحر، غير أنّ ذلك لن يمنعنا من طرح الأسئلة التي تقض اليوم مضجع كل عربي، والتي تعمل وسائل الإعلام العدوة والمأجورة والعربية الساذجة على أن تروّج للإجابة عليها بكل ألوان التضليل والتهميش من أجل طمس الحقيقة وتحقيق المآرب من أقرب السبل وبأقل التكاليف. من هذه الأسئلة:
ـ ما المقاومة وما الإرهاب؟ من الذي يخلط بين المفاهيم وما مصلحته من ذلك؟
ـ ما الهدف من هذه الحملة الرهيبة على العراق وهذا الإصرار على العدوان عليه؟
ـ ما علاقة هذه الحملة العدوانية الشرسة بما يرتكب في فلسطين من جرائم يومية على مرآى من الجميع، الشقيق والصديق والمتعاطف والمتنكر في زيّ الصديق وقناع المتعاطف؟
ـ ما علاقة هذا كله بمخططات الاستعمار الغربي وبوجود إسرائيل وما يسمى أمنها؟
إنّ ما يرتكب من فظائع في فلسطين المحتلة وما يخطط للعراق وشعبه الشقيق المطعون من الداخل ومن أمام ومن خلف، وما يحاك من مؤامرات سرا وعلنا ضدّ الأمة العربية بأسرها، وهذا الوجه الباهت المروّع الذي بدت عليه أمتنا في هذه الأيام العصيبة، لا يمكن أن يترك المرء محايدا. فما من شخص يملك مثقال ذرّة من ضمير وإحساس، إلاّ وله موقف مما يحصل اليوم من ظلم وقهر واستخفاف بمشاعر الشعوب ومقدّساتها، وقلب للمثل العليا والقيم والمفاهيم، واستهتار بالمعاهدات والمواثيق الدولية. ولست أشك في أنّ كل فلسطيني وكل عراقي بل كل عربي مستعد للتعبير اليوم عن غضبه ورفضه وثورته بأيّ شكل من الأشكال، من أضعف الإيمان، إلى الشهادة؛ من التعاطف والتظاهر والاحتجاج والكتابة، إلى أعلى مظاهر التعبير التي تبدأ بالمقاومة والجهاد بالمال والعمل والسلاح وتحمّل جميع عواقب الكفاح من سجن وتعذيب وتشريد وتجويع إلى التضحية والشهادة، أسمى مراتب الوطنية.
هذا ما يحدث اليوم في فلسطين وفي العراق وأفغانستان، وسوف يحدث في كل قطر عربي، لو تعرّض للأذى "المباشر". ذلك أنّ هناك قيما يُفتَرى عليها، ومثل عليا لا تقبل المساومة ولكنها تداس وتُتَجاوز. ومن هذه القيم: الوطن. والوطن قيمة ثابتة، سامية يقدّسها الإنسان، ونكاد نقول لا يتخلّى عنها الحيوان إلا مكرها. ويرتبط بهذه القيمة الجوهرية في حياة البشر، العديد من القيم والمثل الأخرى.
فإذا كان الوطن والوطنية حقّ، فإنّ الحرّية والكرامة أساسان لا يكون الوطن والوطنية إلاّ بهما. وبدونهما ليس الوطن سوى شبح وليست الوطنية سوى كلام. بيد أنّ هناك من يعتقد مع الأسف أن جميع هذه القيم وما شاكلها حكر عليه، له أن يتمتع بالحق فيها وحده دون خلق الله جميعا، وأنه بموجب ذلك يمكنه التصرف في مفاهيمها حسب مصالحه كيفما أراد. ومن حقه أن يمنّ بها على من يشاء ويحرم منها من يشاء. وأمام الوضع اللاأخلاقي الذي يخلقه هؤلاء الطغاة المتغطرسون، لا يمكن أن يكتمل معنى الوطن إلاّ بما يوفّره له أبناؤه من أسباب المناعة وبمدى ما يبدونه من استعداد للتضحية في سبيله حتى الشهادة، أسمى معاني الوطنية.
فالمثل العليا على اختلافها؛ الوطنية والحرية والعدالة والخير والأمن والسلام، مقاصد عليا من أجلها نزلت الديانات ونشأت الفلسفات وشرّعت القوانين والنظم وتنافست الحضارات. وهي مطمح كل أمة. غير أنّ الأنانية والجشع والشرّ المتأصّل في البشر هو الذي يحول على مرّ الزمان دون تحقيق هذه الغايات النبيلة. ويكفي أن يمسك شرير واحد، لبعض الوقت، بقوة غاشمة، مثل الاسكندر الأكبر أو نيرون أو هولاكو أو هتلر، حتى يصبح العدوانُ على الغير واغتصابُ أرضه، دفاعا عن الإنسانية، وسفكُ دماء المستضعفين إقرارًا للسلام، وإرهابُ الشعوب الصغيرة وسحقُها حقا مشروعا وتحقيقا " لأمن " المجتمع الدولي.
إن أيّ اعتداء على أيّ واحدة من هذه القيم يستوجب ردَّ الفعل. والبادئ أظلم، والبدء بالظلم مرض في النفس. ولو لم يكن الإنسان مريضا بالإفراط في حب الذات، ولو لم يكن شرسا أنانيا، لما ظلم أخاه أصلا، ولفكّر في سعادة غيره كما فكّر في إسعاد نفسه. إلاّ أنّ هذا الإنسان المريض لا يتعلّم مع الأسف أبدا أو هو، حتى نظل متفائلين، لم يتعلّم إلى اليوم ولا استوعب الدروس الكثيرة التي لقنه إياها تاريخه الدامي. ولو تعلّم الإنسان درسا واحدا لا غير، مما ذاقه من ويلات التناحر والحروب وسفك الدماء، لنعمت البشرية بالأمن والسعادة منذ آلاف السنين. وها هم الولايات الأمريكية المتحدة وبريطانيا وسلالاتها لم يرتووا بعد من أنهار الدماء التي أهدروها في جميع أنحاء العالم. وبدلا من أن يقوموا بأخلاق " الإنسان المتحضر" ولباقته بواجب الاعتذار لأحفاد ملايين السود الأفارقة الذين استأصلوهم من أوطانهم واستعبدوهم وأذلوهم وأذاقوهم جميع مرارات العنصرية والبطش، وبدلا من أن يعتذروا للشعوب التي استعمروها وقتّلوها ونهبوا ثرواتها وتراثها وعرضوا ومازالوا يعرضون تاريخها دون حياء في متاحفهم وصالوناتهم، بدلا من أن يعوّضوا لجميع هؤلاء ما اقترفوه في حقهم من جرائم إنسانية لا تنسى، تجدهم الثاني قبل الأول والأخير قبل الثاني مثل أستراليا وإسبانيا وإيطاليا، يتسابقون لدقّ طبول الحرب في جميع أنحاء العالم ضد كل شعب مستضعف.
على أن ردّ الفعل يتطلب امتلاك الوسائل الكفيلة بتنفيذه. وهذه الوسائل ذات أشكال متعددة، تبدأ من الاحتجاج السلمي والعصيان المدني على النحو الذي نهجه المهاتما غاندي في مقاومة الاستعمار الإنقليزي، إلى المقاومة المسلحة في سبيل العزة والحرية، إلى الرد بالمثل وبأشدّ من المثل إذا توفرت أسباب القوة القادرة على تأديب المعتدي التأديب الذي يستحق.
ولعلّ ما حدث في سبتمبر2001 في عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية واشنطن باعتباره ردّ فعل بطريقة من طرق الذراع القصيرة التي لا تملك من أسباب القوة ما يؤهلها للدفاع المباشر عن وجودها، لعلّ هذا الحدث الرهيب خليق بأن يذكرنا بسجلّ طويل من الأحداث الدامية في تاريخ البشر التي تسببت فيها هذه الدولة العظمى " المتحضرة " نفسها. وحتّى لا نذهب بعيدا، لا يمكننا نسيان كل ما ارتكبته الولايات المتحدة الأمريكية ضدّ الإنسانية من جرائم منذ ولادتها عندما قامت على أنهار من دماء السكان الأصليين للقارة الجديدة وإبادة شعوب بأكملها، وترحيل من نجا منهم عن مواطنهم وحشدهم في معازل واستعبادهم واستغلالهم للإنتاج الفلاحي ورعي الماشية. كما لا يمكن أن ينسى التاريخ ما اقترفه نخّاسو العصر الحديث من جرائم في حقّ آلاف الزنوج الذين اجتثوهم من جذورهم وهجّروهم إلى القارة الجديدة حيث أذلوهم وباعوهم في سوق الرق، وعندما أعتقوا وأصبحت لهم حقوق مدنية وسياسية تصدت لهم تلك العصابات الأمريكية الإرهابية المشهورة باسم " كيو كلكس كلان" ونكلت بهم تنكيلا، في ذلك العالم الجديد الذي حلم آباؤه المؤسسون " أن يشيدوه ـ بعيدا عن أوروبا القارة العجوز ـ على أسس الأفكار النبيلة والحرية والأمن والبحث عن السعادة " كما جاء في موسوعة هاشيت الفرنسية.
وكلنا نعلم أن تلك الجرائم الفظيعة كانت من عمل أصناف وفئات مختلفة من الموجات البشرية المهاجرة. منهم بعض المغامرين ومنهم من تملّكه اليأس بسبب الفقر المدقع فترك أوروبا إلى غير عودة. ومنهم التجار الذين دفعهم جشعهم إلى الخروج إلى العالم الجديد كي يشبعوا شهوتهم للمزيد من جمع المال والثروة حتى ولو على حساب لحوم البشر. ومنهم نسبة كبيرة ممن لا ذمة لهم ولا ضمير لأنهم ليسوا في الحقيقة سوى حثالة المجتمع الأوروبي من محتالين ومجرمين وسجناء محكوم عليم بالسجن المؤبد أو الإعدام.
وحتى لا نذهب إلى أبعد من ذلك لا يمكن ألا نتذكر جرائم هؤلاء "المتحضرين" في حق شعبهم بالذات وفي حق البشر صغارا وكبارا، نساء ورجالا، شيوخا وأطفالا، في فيتنام وكوريا وأفغانستان وفي جميع أنحاء العالم. بل هل يمكن أن تنسى ذاكرة الشعوب تلك المأساة الرهيبة التي حلّت بهيروشيما وناكازاكي على أيدي هؤلاء الأحفاد أنفسهم، وكيف قضى هؤلاء القوم بكل دم بارد في لحظة من أشدّ اللحظات وحشية في التاريخ البشري، على كلّ شيء، حيّ وميت، بشرا وحيوانا ونباتا، من الشيخ إلى الرضيع، ومن العصفور إلى البيضة ومن النبتة النابتة إلى التي لا تزال في رحم الأرض وحتى تلك التي لا تزاال في رحم الزمن.
وبعد كلّ هذه الفظائع، هل يمكننا نحن العرب، أن ننسى ما قاسيناه من احتلال الغرب لوطننا العربي بالنار والحديد، واستعمارهم الذي انتهى بأبشع جريمة استيطان في التاريخ كانت فلسطين ضحيتها، وما لقيه ويلقاه الشعب الفلسطيني المناضل من جميع ألوان الإرهاب والتنكيل على أيدي الصهاينة إلى اليوم .
وهاهي جرائمهم تستمر جنبا إلى جنب مع إسرائيل، ذلك الورم العالمي الذي زرعته في الوطن العربي أيدي بريطانيا الآثمة ثم جندت له أمريكا لحراسته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
...يتبع