المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المقاومة والإرهاب والمخطط الاستعماري(2/7) / انقلاب القيم



نورالدين عزيزة
30/08/2009, 12:46 AM
المقاومة والإرهاب والمخطط الاستعماري (2/7)

2 ـ انقلاب القِيَم



عانت أمتنا الأمرّين وتعاني من وجود الدولة اليهودية الصهيونية في أرضها باعتراف متزايد ودعم لا محدود من الدول الغربية دون استثناء حتى من أولئك الذين يتمظهرون بمظهر الصديق المتعاطف مع العرب، أولئك الذين يتقنعون بأقنعة الصداقة المكشوفة والمخفية.

غير أن الإعلام الصهيوني والأمريكي والغربي عموما يريد أن يقنع الجميع بما في ذلك ضحيته العرب، بأنّ الشعب الإسرائيلي شعب بريء مسالم يعيش في دولة ديمقراطية مستقلة أقامها على "أرض أجداده" هي فلسطين وسماها إسرائيل، وأنّ الشعب الفلسطيني الذي يعاني منذ أكثر من نصف قرن صنوف الظلم والقهر والتشريد والسجن والقتل، لا أرض له ولا موطن، وكأنه حسب منطقهم، خرج فجأة من تحت الأرض أو قدم من كوكب آخر واغتصب دولة الصهاينة الفتية التي تأسست بقرار من الأمم المتحدة، فاقتلع الأشجار وهدّم المنازل وذبّح وقتّل المدنيين الأبرياء وهجّر وشرّد اليهود الصهاينة وعاث فسادا في الأرض والعباد.
هذا ما يريد اليهود المغتصبون أن يمرروه اليوم ومن ورائهم دول الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.

وتحقيقا لذلك يريدون إقناعنا بأنّ دفاع الفلسطينيين عن أرضهم وعرضهم إرهاب، ودفاع لبنان عن أرضه إرهاب، واحتفاظ سوريا بحقها في استرجاع أراضيها المغتصبة إرهاب، وإيوائها للفلسطينيين المهجَّرين من ديارهم إرهاب، ومقاومة الشعب العراقي لعدوان الغرب والشرق الغاشم إرهاب.

هذا ما يريد المنطق الغربي أن يقنعنا به. وهذا ما يريد أحفاد فلاسفة الثورة والحرية وواضعي الأحرف الأولى لحقوق الإنسان أن يفهمونا إياه. هكذا تنقلب القيم؛ فالاحتلال هو الشرعية ، وقصف شعب أعزل بأحدث الطائرات والقنابل هو الوقاية والحماية والأمن. وامتلاك القنابل الذرية هو البراءة والمسالمة. وتجييش الجيوش العظمى آلاف الكلمترات بعيدا عن حدود بلادها، دفاع عن الوطن. واستخدام أحدث الأسلحة المحظورة تجارب علمية في سبيل التطوّر الحضاري. واجتماع دول مصنعة كبرى وصغرى للنيل من شعب من العالم الثالث "عدالة مطلقة" وحرية. واغتيال آلاف الأطفال في العراق بشتى الأمراض الخبيثة شهامة وانتصار.

أما الدفاع عن النفس بالحجارة فهو إرهاب، والتضحية في سبيل تحرير الوطن بالمال إرهاب، وإنشاء جمعية خيرية إرهاب والمساهمة فيها بالقليل أو الكثير، إرهاب، والاستشهاد في سبيل الحرية إرهاب، وكتابة مقالة احتجاج في صحيفة إرهاب، والإصداع بالرأي في إذاعة أو تلفزة إرهاب، والاحتجاج بالخروج في مظاهرة إرهاب.

كيف يمكن للمفاهيم أن تنقلب بين عشية وضحاها رأسا على عقب، على هذه الصورة، وبهذه السهولة؟. كيف يصبح الذين عانوا من أسوأ ويلات النزعات العنصرية وأكثر الحروب شراسة ولا إنسانية، كيف يصبحون غير قادرين على التمييز بين الدفاع عن الذات والوطن والحرية وإرهاب الاستعماريين والعنصريين والمجرمين! كيف ينسون ما قدّموه من تضحيات في سبيل حرياتهم، وما استعملوه ضد النازية من وسائل كفاح سرية وعلنية، تبدأ من أعوان المخابرات والجواسيس وأجهزتهم المتطوّرة إلى عصابات المقاومة السرية، إلى قصف المدن والقرى بأشدّ الأسلحة الحديثة ضراوة.

بل كيف يتنكرون قبل كل ذلك للشعوب التي وقفت إلى جانبهم ودفعت بأبنائها في الحربين العالميتين الأولى والثانية في أتون المعارك طوعا وقصرا، دفاعا عن أوروبا وعن "الحرية"!؟

إن اللغة وسيلة تفاهم بين الناس والشعوب. وإذا كانت كذلك، كيف تصبح سيفا مسلطا على رقابهم، كيف يصبح إرهاب إسرائيل واستيلاء اليهود الصهاينة على أرض الغير دفاعا عن النفس، بينما نسمي دفاع الفلسطينيين عن أرضهم ووجودهم أعمال عنف بل إرهابا!

لقد كثرت علامات الاستفهام والاستغراب ولكن سنرى أنها علامات لا داعي لها في الواقع. لأن الغريب كلّ الغربة هو أن نستغرب مما لا يخفى سرّه عن العين المجرّدة.

هذا هو منطق الغرب اليوم في مواجهة العرب. إنه منطق أصحاب الحضارة التي نتكالب جميعنا على اتخاذها قدوة لنظرتنا إلى الحياة ونموذجا لمستقبلنا وغاية لأحلامنا.

هذا المنطق يفرض علينا سؤالين اثنين؛ الأول قد لا نكون في حاجة إلى طرحه، لأننا متأكدون جميعا من معرفتنا الإجابة عليه. والثاني رغم بساطته نرى أنه من الواجب التوقف عنده.

السؤال الأول هو: هل إن هذا المنطق الذي يريد أن يقنعنا به الغرب منطق سليم؟
والسؤال الثاني: هل هو بالعكس، منطق غريب حقا ويدعو إلى الضحك أم أن وصفه بالغرابة عائد إلى قصر في النظر؟

قلت إن الإجابة على السؤال الأول معروفة. فذلك المنطق لا يمكن أن يكون له أي قدر من الصحة. وهو أمر بديهي، من المفروض ألاّ يختلف فيه اثنان. ولكن، رغم أنّنا نعرف الإجابة إلا أننا نفضل مع ذلك وضع بعض النقاط على الحروف رفعا لكل التباس.

سبق أن أكدنا على أن كلّ عدوان يستوجب ردّ فعل وأن هذا الرد له أِشكال وصور متعددة حسب الظروف والإمكانيات. والمقاومة الفلسطينية ليست إلاّ ردّ فعل ضد اغتصاب اليهود الصهاينة لأرض فلسطين. ولو لم يغتصب الصهاينة أرضهم ولم يستوطنوها لما قاومهم الفلسطينيون وقاتلوهم. بل هل كانوا في هذه الحالة يتركون أرضهم ويذهبون للبحث عن اليهود في روسيا وبريطانيا وفرنسا وأمريكا وفي البلاد العربية وغيرها للاعتداء عليهم وترهيبهم؟.

ثم إنّ المقاومة يجب ألاّ تستهدف المعتدي وحده. فكلّ من يدعم هؤلاء المغتصبين من بعيد أو قريب، بأي شكل من أشكال الدعم، مادّي أو معنوي، عسكري أو اقتصادي أو سياسي أو إعلامي، مشارك في الجريمة وهو معنيّ بهذا الرد، ويجب أن يكون كذلك، لأنّه أصبح سلاحا في يد المعتدي وأحيانا يكون أخطر من العدو المباشر نفسه.

وحتى ندرك تماما معنى المقاومة وإن كان من البديهيات التاريخية، لا بدّ أن نشير إلى المعنى الحقيقي للإرهاب. وأن نفرّق بين الإرهاب كوسيلة للدفاع عن النفس والإرهاب الإجرامي الذي يحاولون خلط الأوراق به ومغالطة العالم.

إن إرهاب الضحية المعتدى عليه للعدوّ بهدف الضغط عليه ومحاولة إبعاد أذاه، هو دفاع مشروع عن النفس. فالدفاع عن النفس بأيّ أسلوب كان، ضدّ مغتصب آثم، يبرر الوسيلة مهما تكن، لا سيما عندما تنغلق السبل ويبدأ اليأس بالإقامة في القلوب. ولو لم يكن الإرهاب في حالة الدفاع عن النفس فضيلة لما أمر الله به عباده المؤمنين في كتابه العزيز بقوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم … (الأنفال 60)، وغنيّ عن التذكير أن هذه الآية الكريمة التي تحذّر المؤمنين من أعدائهم تليها مباشرة آية كريمة أخرى يدعو فيها الله رسوله الكريم والمسلمين إلى قبول المصالحة مع العدو وإحلال السلم محل الحرب إذا قبل العدو به؛ قال تعالى: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله " (الأنفال61). وغنيّ عن التنويه أيضا، ما في هذه الآية الأخيرة من حرص على حقن الدماء ونبذ التناحر واستنكار الحروب وحث على التسامح والتعايش السلمي بين الشعوب.

وعندما تضيق السبل ويكبر اليأس وتقنط النفوس، فإن الغيرة على الوطن والعرض والوجود، تدفع بالمظلوم إلى الدفاع عن نفسه والمقاومة بأيّ وسيلة كما ذكرنا. وماذا لدى الفلسطينيين اليوم ومن يقفون معهم وقفة الفعل لا الكلام، سوى الصمود وتحمّل الأذى بأنواعه والتضحية بالنفس لردع العدو وإثنائه عن غيّه وإجباره على الكف عن ظلمه وجبروته.

والنفس هي أعزّ ما لدى الإنسان بعد العزّة والكرامة. ولذلك كانت التضحية بها استشهادا. والشهادة أسمى معاني الكفاح في سبيل تحرير الوطن. إنها التبرّع لله وللوطن بأغلى ما وهبه الله للإنسان: الحياة، فكيف نسميها إرهابا بالمعنى الإجرامي الذي يحاولون عبثا إلصاقه بقضايا التحرر العربي المشروعة في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان.

أما الإرهاب الإجرامي فهو ذلك الإرهاب الذي لا يطالب بأي حق وإنما بالعكس، يقوم على الابتزاز والظلم والتخويف والترهيب طمعا وجشعا وأنانية في غفلة من الضمير والتربية السوية والرادع الأخلاقي أو تكريسا لنعرة عنصرية غاشمة. وهو ما يقوم به مجرم محتال ليبتز به عائلة موسرة باختطاف أحد أفرادها مثلا، أو ما تقوم به عصابات المافيا أو أجهزة المخابرات لتجنيد بعض الموظفين في خدمتها أو عصابات كيو كلكس كلان العنصرية الأمريكية ضدّ الزنوج الأمريكان وحقوقهم المدنية والسياسية، وهو هذا العدوان اليومي الذي يشنه اليهود الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني الأعزل بأحدث الأسلحة الأمريكية والغربية، وهو في النهاية هذا الذي تفعله الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق بدعوى أنه يهدد أمنها والحال أنه بلد من العالم الثالث يبعد عن حدودها آلاف الأميال. وبدعوى أنّ العراق يهدّد أمن المجتمع الدولي، والحال أنّ المجتمع الدولي بأسره بريء من هذه الحملة الأمريكية المسعورة ضدّ العراق عدا أولئك الذين لم ينقطع عداؤهم للعرب وللبشرية جمعاء منذ قرون مثل بريطانيا وسلالاتها في أستراليا وغيرها. ولا بدّ من التأكيد على أنّ أمريكا وأتباعها تفعل ذلك كله لا عدوانا على العراق فحسب وإنما إرهابا للدول العربية وجميع دول العالم وقبل ذلك وبعده، كما سيأتي، دعما للكيان الصهيوني الآثم وتثبيتا لوجوده.

تلك كانت إجابة على سؤال ما كان ليطرح أصلا، هو السؤال الأول.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

...يتبع