المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سنكيانغ (تركستان) فلسطين الصين المعاصرة



دكتور عبد الجليل طاش
31/08/2009, 06:23 PM
سنكيانغ (تركستان) فلسطين الصين المعاصرة


إياد أبو شقرا

«الأحداث التي تشهدها الصين لا تعدو كونها أعمال إبادة جماعية.. لا يوجد فائدة من وصفها بوصف آخر».
(رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا)

قبل نحو عشر سنوات نصحتنا صديقة بأن نستعين بصنايعي تركي لإنجاز بعض الأعمال في بيتنا. فقصدناه، زوجتي وأنا، في محترفه بشمال لندن.
أذكر أن اسمه «متين». وأذكر أن أول ما استوقفني داخل ذلك المكان المتواضع لوحة كبيرة معلقة على الجدار خلفه تضم عشرات الأعلام التي لم أتبين منها على الفور غير العلم التركي، بحقله الأحمر مع الهلال والنجم وباللون الأبيض. لكنني عندما اقتربت منها لاحظت أنها تحمل أعلام كل الشعوب التركية ـ أو الألطائية الطورانية ـ بكياناتها الموجودة راهنا أو «الممنوعة» والمطالب بها.
يومذاك، لم تكن مستغربة النزعة الاستقلالية التي أطلت على العالم من ركام الاتحاد السوفياتي ولا سيما في آسيا الوسطى قبل بضع سنوات، ولا كان سرا وجود التيار القومي الذي مثله ألب أرسلان توركيش.. وتنظيم «الذئاب الرمادية» في تركيا ذاتها.. لكنها كانت لحظة مثيرة بالنسبة إلي على أي حال.
لحظة مثيرة لعرَبي، عرف «العروبة» بأشكال ومستويات متعددة.. متراوحة بين العلمانية «المتمركسة» والليبرالية النخبوية أحيانا.. إلى «الشوفينية» المغالية التي تكاد تفرض على أي مقيم على أرض العرب أن يبادر إلى إيجاد صلة نسب مزعوم بقضاعة أو تميم كي تكتمل «وطنيته» وتتحصن قوميته، فيستحق شرف الانتماء للأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة.
لحظة مثيرة حقا لمن كان ماضيه أقل سوءا من حاضره، كحالنا، أن يجد مواطنا تركيا بريطانيا يحلم بعالم تتلاقى فيه أقدار الياكوت في شمال شرق سيبيريا بالتركمان في وسط آسيا، والتتار في شبه جزيرة القرم بجنوب روسيا وأوكرانيا.
في مطلق الأحوال.. هذه حقيقة.
وكذلك هي حقيقة أن الدول الكبرى كيانات عابرة للجماعات العرقية، أحيانا تجمعها، وأحيانا أخرى تتقاسمها.. فتقسمها.
الصين، كبرى دول العالم ومهد إحدى أعظم حضاراته وأعرقها، حيث شهد إقليم شينجيانغ (أو سنكيانغ)، الأويغو الذاتي الحكم في الأسبوع الماضي اشتباكات عرقية دامية بين الصينيين العرقيين (الهان) والأويغور الترك، عاشت لقرون عديدة علاقات مضطربة مع الجماعات العرقية المجاورة لها.
وكل من اطلع على حضارة الصين أو زارها يذكر «سور الصين العظيم» الذي بني أصلا لرد هجمات هؤلاء. وعبر تلك القرون كسب الصينيون جولات على جيرانهم، وخسروا جولات أخرى.. فسقطت الصين تحت حكم «الأغراب» غير مرة. وكان من أهم القوى الطارئة التي فرضت نفسها على حكم الصين.. المغول (سلالة يوان) والمنشوريون (ألمانشو – سلالة تشينغ).
وقد وصل الإسلام إلى الغرب.. حيث بلاد الترك ـ أو تركستان ـ التي أسماها الجغرافيون والمؤرخون العرب «بلاد ما وراء النهر» (نهر جيحون / أموداريا الفاصل الطبيعي بين الشعوب الفارسية الآرية والشعوب التركية الألطائية). وشكلت سينكيانغ منذ بداية توتر العلاقة العرقية والدينية بين الصين وجيرانها إلى الغرب «جسرا» ثقافيا مرت فيه «طريق الحرير» ـ بفرعيها الشمالي والجنوبي ـ عبر واحاتها المهمة، وأشهرها كاشغر ويرقند وختَن وآق سو وطرفان (تربان).
ولقد وصف المؤرخون والجغرافيون العرب والمسلمون العديد من القبائل والأقوام التي عاشت على طريق الصين في هذه المنطقة الشاسعة التي تزيد مساحتها على المليون و600 ألف كلم مربع، ويقطنها نحو 20 مليون نسمة. وربما عرف العرب اسم «الأويغور» معربا أو مصحفا كـ«بَغَر».. إذ أورد ياقوت الحموي في «معجم البلدان» قوله «سميت الصين بصين، وصين وبَغَر ابنا بَغبَر بن كماد بن يافث، ومنه المثل ما يدري شَغَر من بَغَر، وهما بالمشرق وأهلهما بين بلاد الترك والهند».
ولكن النصف الثاني من القرن العشرين الذي شهد تثبيت انتصار الحكم الشيوعي في الصين، وبروز الصين الشعبية كقوة عالمية كبرى، شهد بداية فصل مهم من التحول في العلاقة بين السلطة الصينية وأقلياتها غير الصينية. ولئن كان العالم بأسره قد تنبه لما حصل من قمع في إقليم التيبت منذ عقد الخمسينات، ويستمر التعاطف مع قضيتهم حتى اليوم، فإن قضية الأويغور ظلت في الظل. إذ حاولت سلطات بكين منذ عقد الخمسينات أيضا «تصيين» سنكيانغ ـ أو تركستان الشرقية ـ حيث يشكل شعب الأويغور غالبية السكان، ونجحت حقا في رفع نسبة المستوطنين الصينيين العرقيين (الهان) في الإقليم من 6 في المائة فقط من مجموع السكان عام 1949 إلى 40 في المائة من السكان اليوم. بل إن الصينيين الهان يشكلون اليوم أغلبيات كبيرة في مدينة أرومتشي عاصمة الإقليم (أكثر من 75 في المائة)، ومدن ومناطق عدة في شرق الإقليم وشماله.
الزرع الاستيطاني هذا له، بلا شك، أهداف اقتصادية واستراتيجية. فأرض الإقليم غنية بالثروات الطبيعية والمعدنية، ولا سيما النفط. وبلد بضخامة الصين وطموحاتها يستحيل أن يترك أرضا كسنكيانغ، التي تعادل مساحتها مساحة إيران، خارج نطاق السيطرة الكاملة.
وإذا ما أضفنا اعتبارات الثروات الطبيعية والنفطية الهائلة في آسيا الوسطى، وصراع الولاءات الدينية، وتنامي «الأصولية» الإسلامية، ونهوض تركيا القومي الذي عززه استقلال أذربيجان والجمهوريات «التركية» الأربع في آسيا الوسطى، يمكن فهم سبب الحرص الاستراتيجي لبكين على احتواء أي نوازع قومية ودينية في الإقليم.
السؤال الذي يفرض نفسه الآن، بعدما سال الدم في أورومتشي وقد تمتد الفتنة إلى غيرها، هو: ما هو الأسلوب «الأسلم» لمنع حدوث ما لا تحمد عقباه، والخروج بـ«سيناريو» أقل مأساوية مما حدث لمسلمي البلقان؟
فلا شك أن استغلال ظلامة الأويغور لإحداث قلاقل وإزعاجات للصين يشكل عنصر إغراء كبير عند عدة جهات.
والمؤكد أيضا أن مواصلة سلطات بكين نهج «تصيين» سنكيانغ وطمس هويتها، كما طمست وتطمس هوية التيبت،.. يشكل مصدر ضيق عند جماعات حقوق الإنسان على امتداد العالم.
ثم إنه من الطبيعي جدا أن تتدخل قوى مثل تركيا (لأسباب قومية وإسلامية) وإيران (لأسباب استراتيجية وإسلامية أيضا) في ما يحصل، ويمكن أن يحصل، هناك خلال الفترة المقبلة.
غير أن العنصر الأخطر هو عواقب انزلاق الجميع إلى وضع يحرج السلطات الصينية فيخرجها، ويستدرج الأويغور إلى مواجهة مبتسرة.. أكبر منهم، وأكبر من إمكانيات من يأملون منهم أن يدعموهم.

*جريدة الشرق الأوسط اللندنية

الاثنين 20 رجب 1430 الموافق 13 يوليو 2009