المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صفحات من طفولة المفكرين - بديع الزمان سعيد النورسي



حازم ناظم فاضل
04/09/2009, 05:48 AM
إن كثيراً من الكلمات أو الحكايات أو الخيالات أو المعاني التي كان السلف يتذوقونها، لم توافق الرغبات الشابة للخلف، لأنها غدت عجوزاً لا زينة لها. لذا أصبحت سبباً لدفعهم إلى ميل التجدد والرغبة في الإيجاد، والجرأة على التغيير. هذه القاعدة جارية في اللغات مثلما هي جارية في الخيالات والمعاني والحكايات. ولهذا لا ينبغي الحكم على أي شئ بظاهره؛ اذ من شأن المحقق: سبر غور الموضوع.. والتجرد من المؤثرات الزمانية.. والغوص في أعماق الماضي.. ووزن الأمور بموازين المنطق.. ووجدان منبع كل شئ ومصدره.
ومما أطلعني على هذه الحقيقة ودلّني عليها هو حدوث خسوف القمر زمن صباي ، فسألت والدتي: ما هذا الذي حدث للقمر؟. قالت: ابتلعته الحية!. قلت: ولكنه يتبين! قالت: إن الحيات في السماء شفافة كالزجاج تشف عما في بطنها. كنت أتذكر هذه الحادثة كثيراً وأسائل نفسي: كيف تدور خرافة بعيدة عن الحقيقة إلى هذه الدرجة على لسان والدتي الحصيفة الجادة في كلامها؟.
فانظر كيف تحول التشبيه إلى حقيقة! فحجبت حقيقة الحال، إذ شبّه أهل الفلك تقاطع مائل القمر بمنطقة البروج في الرأس والذنب، بثعبانين أو تنينين .
ولقد حدّثتُ خيالي في عهد صباي : "أي الأمرين تفضّل ؟ قضاء عمر سعيد يدوم ألف ألف ســنة مع سلطنة الدنيا وأبهتها على أن ينتهي ذلك إلى العدم ، أم وجوداً باقياً مع حياة اعتيادية شاقة ؟" فرأيته يرغب في الثانية
ويضجر من الأولى، قائلاً: "إنني لا أريد العدم بل البقاء ولـو كان في جهـنم !". فمادام جميع لذائذ الدنيا لا تشبع الخيال، الذي هو أحـد خدام الماهية الإنســانية، فلابد إن حقيقة الماهية الإنسـانية الجامعة الشاملة جدا مرتبطة فطرة بالخلود والبقاء.
فكم يكون "الإيمان بالآخرة" إذاً كنزاً عظيما كافياً ووافياً لهذا الإنسان الوثيق الصلة بهذه الرغبات والآمال التي لا تنتهي، وهو لا يملك سوى جزءٍ من الاختيار الجزئي، ويتقلب في الفقر المطلق! وكم يكون هذا الإيمان محوراً للسعادة المطلوبة واللذة المبتغاة ! وكم يكون مرجعاً ومدار استمدادٍ وسلوة له تجاه هموم الدنيا غير المحصورة ؟ فلو ضحى هذا الإنسان بكل حياته الدنيا في سبيل الفوز بهذه الثمرات والفوائد لكانت إذن زهيدة !
وكنت احمل حالة روحية تتســم بالفخر والاعتـزاز، يوم كنت في العاشـرة من عمري، بل حتى أحياناً بصورة حب للمدح والثناء. فكنت أتقلد طور بطل عظيم ورائد كبير وصاحب عمل عظيم خلاف رغبتي. فكنت أقول لنفسي:
ما هذا الظهور والاختيال ولاسيما في الشجاعة، وأنت لا تساوي شروى نقير؟ فكنت حائراً وجاهلاً بالجواب.
ولكن منذ شهرين ، أجيبت تلك الحيرة ، بأن رسائل النور كانت تُشعر بنفسها بحس مسبَق. أما أنت فلست إلاّ بذرة صغيرة لا تساوي شيئاً ولكن لإحساسك قبل الوقوع تعدّ تلك العناقيد الفردوسية رسائل النور كأنها ملكك، فتزهو وتتباهى.
أما قريتنا نورس فان أهلها و طلابي القدامى يعرفون: أن أهالينا كانوا يحبون المدح والثناء عليهم كثيراً لإظهارهم أنهم السابقون في الشجاعة والإقدام. فيرغبون تقلّد طور البطولة وكأنهم قد فتحوا مملكة كبيرة.
فكنت اعجب من نفسي ومن طورها هذا. والآن عرفت السر بإخطار حقيقي:
إن أولئك النورسيين، يتباهون لأن قريتهم نورس ستكسب فخراً عظيماً بنور رسائل النور. حتى ان الذين لم يسـمعوا باسم الولاية والناحية سيعرفون تلك القرية باهتمام بالغ. فهؤلاء النورسيون يظهرون شكرانهم - بحس مسبق - لتلك النعمة الإلهية على صورة زهو وتباهٍ.
فكنت استمع - وأنا لم أتجاوز العاشرة من عمري - مناقب العلماء القدامى المشـــهورين والأولياء العظام و السـادة الأقطاب، ويرد إلى قلبي: ان هؤلاء الطلاب العلماء سيفتحون آفاقاً عظيمة في العلم والدين. إذ لو تفوق أحدهم بشيء من الذكاء فالاهتمام يوجّـه إليه، وان ظهر أحدهم في مسألة لدى مناظرة علمية يفتخر ويزهو كثيراً. فكنت أتحير من هذا، إذ كانت عندي تلك المشاعر أيضاً. حتى كان بين شيوخ الطرق الصوفية وضمن دائرتهم في ناحيتنا وقضائنا وولايتنا مسابقة تثير الحيرة لم اقف عليها في مدن أخرى إلى هذا الحد.
وإن مناظرة سعيد في ذلك الزمن البعيد علماء أجلاء وهو بعدُ في فترة الصبا، وإجابته عن أسئلتهم الغامضة - من دون ان يسأل أحداً - إجابة صائبة رغم كونـها في أعقد المسائل، هذه الحالة التي ظهرت، اعترف اعترافا قاطعا، واعتقد جازماً أنها ليست ناشئة من حدة ذكائي، ولا من خارق استعدادي قط. فأنا الذي كنت صبياً صغيـراً، مبتلىً بأمور كثيرة ، مبتدءاً بعد في العلوم، سارح الفكر،ومثيراً للمناقشات، فما كان في طوقي قطعا الإجابة على أسئلة علماء أفذاذ. بل كنت اُغلب في مناقشات صغار العلماء وصغار طلاب العلم، لذا فأنا على اقتناع تام بأن إجاباتي الصائبة تلك، ليست ناشئة من استعدادي ولا من ذكائي.
فلقد كنت طوال السنوات السبعيـن الماضية في حيرة من هذا الأمر، ولكن الآن بفضل الله وإحسانه فهمت حكمة منها وهي:
ستُمنح علوم المدارس الدينية التي هي بمثابة بذرة تلك العلوم شجرةٌ طيبةٌ وسيكون لخادم تلك الشجرة حسّاد ومعارضون كثيرون.
وهكذا فإن قيام أصحاب المشارب والمسالك المختلفة بين المسلمين في هذا الزمان بانتقاد عمل خدام تلك الشجرة ، شجرة النور، ولاسيما من علماء الدين سواء بسبب المنافسة أو بسبب اختلاف المشارب. فضلا عما تثير رسائل النور كثيراً من عرق علماء الدين. كما كان دأب أهل السنة والمعتزلة سابقًا في دحض بعضهم بعضًا ونشر مؤلفات في تفنيد آراء الآخرين والظهور عليهم.. أقول بينما كان الأمر لابد أن يؤول إلى هذا إلاّ أن الله سبحانه أراد أن يجري الأمر على خلاف تلك العادة المتبعة منذ القدم. فألف شكر وشكر لله سبحانه. وأنا على اعتقاد جازم أن سبب عدم تأليفهم أي كتاب لنقد رسائل النور أو الاعتراض عليها إنما هو:
إجابة سعيد الصغير إجابة صائبة على علماء عظام، في ذلك الوقت. إذ تلك الإجابات السديدة قد فتّت من عضد شجاعتهم وجرأتهم، حتى انهم لم يتصدوا لرسائل النور ولم يعارضوها رغم مخالفتهم لها مشرباً، ورغم ما يحملون من روح المنافسة والغيرة العلميتين.
لذا اقتنعت اقتناعا تاماً ان هذه هي حكمة واحدة لعدم قيام العلماء بالاعتراض على الرسائل. إذ لو بدأ الاعتراض لكان أعداؤنا المتسترون والملحدون ومن يوالونـهم يتخذون ذلك الاعتراض ذريعة مهمة جداً لتهوين شأن رسائل النور وعلماء الدين معا. فالحمد لله حمداً لا حد له .

عبدالقادربوميدونة
04/09/2009, 06:06 AM
مرحبا بك أيها الأستاذ الكبيرحازم ناظم فاضل المحترم ..
ومرحبا بهذ الصورالسلوكية الشفافة الجميلة اللطيفة ..
ومرحبا بهذه المقدرة على تسجيل انطباعات الطفولة الرجولة.. والطفولة الفحولة ..
إن اسمك كاف - ما شاء الله - حازم ناظم فاضل ..بارك الله فيك وفي من سماك ...

حازم ناظم فاضل
05/09/2009, 11:31 PM
استاذي الفاضل عبدالقادر المحترم
اشكر مروركم الكريم وان دل ما كتبتموه على شيء انما يدل على حسن ظنكم وتقديركم لي
فلك مني كل التقدير والاحترام.