المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رواية الباحث عن الحنان



د- صلاح الدين محمد ابوالرب
05/09/2009, 12:43 PM
رواية الباحث عن الحنان ج1






إهـداء
إلى كل من يعتقد بأنه منصف غير ظالم .
أنظر حولك فلعلك دون قصد تدوس على إنسان ما .
تعلم قبل كل شيء الأسلوب السليم للتعامل مع الحياة .
فإننا لا نعرف كيف نتعامل بطريقة مثلى .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
05/09/2009, 12:46 PM
الباحث عن الحنان ج 2



الزاوية الأولى

حكــايــة ســــــالم …


عـالم الأطفال عالم غريب … فرغم صغر تجربة الطفل ، إلا أن عالمه مليء بأفكار كثيرة تنبع أساساً من بيئته وأسرته …ثم من رفاقه ومدرسته .
أمور كثيرة تدخل في عقل الطفل الصغير ومن الصعب محوها ،وكثيراً ما يحدث أن نذكر ما حدث لنا في طفولتنا مفصلاً أكثر من الحدث القريب .حقا غريب علام الأطفال بمرحه ،بلهوه ،بأفكاره .

وحين أعود بذاكرتي للوراء … الوراء البعيد … ،أرى تلك الأحداث كأنها شريط بعرض أمامي ،أراني أسير في الطابور المكون من أكثر من عشرين طفلاً ،كنا في حـدود السادسة من العمر ،يسيطر علينا خوف شديد من مدرسنا ،الذي أتخيله دائما بكرش كبير يجره أمامه وهو بدوره يجرنا خلفه ،ورغم ما يبدو علينا من الأدب إلا أن الفوضى كانت في داخلنا ،نسرق غفلة من المدرس لكي يضرب أحدنا زميله ،أو يسحب منه حقيبته ويدعها تسقط على الأرض ،فإذا التفت أستاذنا ذو الكرش لا يجد سوى مجموعة من الأطفال تمشي وراءه بوداعة ،وبراءة .

هاهما صديقاي علي ومحمود يسيران بجواري ،نحن دائما نسير بجوار بعضنا البعض حتى في طريقنا من المنزل إلى المدرسة ، نأتي سوياً ،ونعود سوياً ،نلهو سوياً ،ندرس في فصل واحد ،تجمعنا صداقة طفولية ،كل منا يحب الأخر وفي نفس الوقت يغار كل منا من الآخر ،يريد أن يتفوق عليه حتى في صعودنا السلم للدور الثاني حيث يقودنا أستاذنا العزيز السيد محسن .

وأخيراً دخلنا إلى المرسم … كنت أعتبر حصة الرسم في ذلك الوقت أثقل حصة إلى قلبي ،ولا أدري هل عدم حبي لها نابع من عدم حبي للمدرس ومن خوفي منه ؟ أم هو العكس ،ومما يثقل على النفس أنها كانت دائما من حصتين متتاليتين ،حصتان ونحن محشورون في المرسم … إنه ممر طويل ينتهي ببهو لا ينال شرف الجلوس فيه إلا الماهرون في هذا الفن ،أما البقية - وأنا منهم بالطبع- فليس لهم سوى الممـر ،وكان مكاني في آخره حيث كنت أجلس مع زملائي القرفصاء ،ومعي لوحة الرسم والأفلام محاولا أن أفعل بها شيئاً ،أي شيء يحميني من عقاب المدرس ،لم أكن أغار من أصحاب الصفوة زمرة البهو ،ولِمَ أغارُ منهم ..؟ ،وصحبي من حولي ،نجلس بجوار بعضنا ،لقد كنت أعترف-بيني وبين نفسي- بثقل يدي في الرسم ، وكانت مواضيع الأستاذ محسن التي يطلب منا أن نرسمها تعيق يدي أكثر وأكثر .إن كل ما كان يفعله في كل حصة هو أن يطلب منا أن نرسم موضوعاً ما ،وإلى هنا ينتهي عمله …ويالها من مواضيع …‍‍!!
اليوم موضوعنا عن التلفزيون ،نعم ! أن نرسم جهاز التلفزيون ،كم كرهت يومها هذا الجهاز ،الذي لم يدخل حياتنا سوى منذ فترة قليلة جداً ،لقد كان دوماً سبب نومي باكراً ،فإن جفوني تتثاقل سريعاً وأنا أشاهده ،وكأنه يرسل مع مناظره أثقالاً تمسك الجفون فتقفلها ،لقد أدمنت عليه منذ شاهدته لأول مرة ،كنت أراقب برامجه حتى لـو لم أفهم ما يدور فيها من أحداث ،المهم أنني أرى أناساً تتحرك ،وبطولات أحلم بها ،ورعباً مخيفاً أحلم به أيضاً ،كان الرعب الأكبر هو حرماني من مشاهدة التلفزيون ،فلقد كان أقصى عقاب على أي ذنب أرتكبه هو حرماني من برامج التلفزيون ،ومع أنني كنت أسترق النظر من خلف الباب ،إلا أن الحرمان بحد ذاته هو عقاب ،لقد كانت المتعة أن ألتحف بلحافي وأجلس بجوار الجهاز فاغراً فمي ، مبحلقا ،ساكناً بلا حراك ،أفتح عينيي المحمرتين رغماً عنهما ،وإنسان عيني يتحرك متابعاً الشخصيات ،وطبعاً لم أكن أعرف النهاية أبداً ،فقد كان النعاس يفوز دوماً

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
05/09/2009, 12:47 PM
الباحث عن الحنان ج3



لم أنتبه يوماً أن أتفحص التلفزيون كجهاز ،واليوم يطلب مني الأستاذ محسن رسمه ؟ ،أنا لا أذكر منه إلا صندوقاً بنياً كبيراً ، تحرص والدتي أن تضع عليه إناءً فيه ورد اصطناعي فوق قطعة من القماش الأبيض المزخرف .

امتدت يد المدرس ليأخذ لوحتي ،وليرى ما رسمت ،لا أدري لماذا هو يرغي ويزبد هكذا ؟،ما الذي لا يعجبه في رسمي …؟!،أنها أفضل ما رسمت في حياتي ،إنها كل ما علق في مخيلتي عن هذا الجهاز ،الصندوق البني الكبير ،لقد اكتفيت بالصفحة مع علمي أن حجم الجهاز أكبر من الصفحة ،فرسمت جزءاً من هذا الجهاز ،ولونت الصفحة بكاملها باللون البني ،ورسمت في وسطه وردة جميلة رائعة ، حقيقة أني نسيت رسم المفرش المطرز ،لكن هل هذا سبب كاف لأن تنهال يد الأستاذ محسن علي بهذه الضربة العنيفة ؟ وخصوصا أمام زملائي ،ألا يكفيني أنني في الممر دائما ،أجلس القرفصاء ،حتى يضيف علي هذه الصفعة ؟!

جلست العق دموعي بصمت ،وأعيد رسم الجهاز الملعون ، وأنظر لزميلي الجالس بجواري علني أسرق منه خطوط لوحاته .

لم أنتبه للآذن الذي مر بي في طريقه للمدرس ومعه قصاصة ورق ،لم أنتبه للطالب الجديد الذي دخل علينا لينضم لقافلة الفصل ،لم أنتبه إلا لتلك الوخزة من زميلي في القرفصاء ومجاوري في الطرقة ، ورفعت عيني ونظـرت حيث كان ينظر مشدوهاً :يميل لونه للسمرة ، نحيل الجسم ،يمشي بخجل ويجر يديه ،إنهما طويلتان جداً ،وصدره الذي يحاول إخفاءه بحقيبته ،به بروز يمتد إلى الأمام .مر من أمامي وأصبح ظهـره لي ،ورأيت البروز بوضوح ،ثم إنه قصير ،قصير جداً ،واستدرت لزميلي الذي كانت عيناه معلقتان مثلي حول الضيف الجديد ،الغريب المنظر ،وقبل أن أخاطبه قال مسرعاً :
- هيا بسرعة ،قل أستغفر الله ،ثم قبل بطن قدمك .
ففتحت عينيي مستغرباً من هذا الطلب وقبل أن أنطق أكمل صاحبي قائلاً :
- حتى لا يصيبك ما أصابه ،فتصبح مثله .
أمعنت النظر وأنا أراقب صاحبي يقوم بحركته التي طلب مني ،دون شعور أمسكت قدمي بشدة ولهفة ،وقبلتها بعنف متمتماً :
- أستغفر الله … ربنا احمنا .
فعلت ذلك وعيني مازالت معلقة تراقب هذا الضيف وهو يمشي خلف الآذن ،الذي سلم الورقة إلى الأستاذ ثم خرج …

أشار المدرس لهذا الغريب ،وكانت إشارته ناحيتي ،فتركت قدمي بسرعة وازدادت تمتمتي سرعة ،وخف صوتي وأنا أرى هذا الغريب يتقدم نحوي ويجلس بجواري .لم أستطع أن أنظر إليه ،ولكن حين نظرت إليه وجدته يرمقني بنظراته فأوقفت تمتمتي واستغفاري وفتحت فمي بابتسامة إجبارية .

نسيت الغريب عند عودتي للمنزل ،نسيته رغم أنه لا زمنا في الفصل طوال ذلك اليوم ،كان يوزع نظراته على الجميع محملقاً بهم ، ونحن أيضا كنا نحملق به .ورغم ذلك فقد نسيته ولم أتذكره حتى في نوم القيلولة ،مع أنني في منامي أتذكر دائماً كل ما يخيفني. نسيت كل ما دار في المدرسة وأنا أساعد والدتي في فرش بساط كبير في ساحة الدار لكي نضع عليها فراش المساء وأمامنا جهاز التلفزيون .وجلست مسرعاً في مكاني حتى لا تفوتني لحظة واحدة من لحظات البث ، نسيت حتى تلك الضربة العنيفة من الأستاذ محسن ،لم أفطن لشيء حولي ،بل التحفت بالغطاء الخفيف المبلول الذي وضعته الوالدة علي ، ثم حدقت في التلفزيون لأرى ما يجري فيه ،ولكن لم يكن هناك شيء فقد انتهت برامجه منذ فترة …وعدت لغفوتي بعمق .
لم أذكر سالم - الضيف الغريب - إلا في اليوم التالي ،حيـن جلست في الفصل وعادت نظارته تتابعنا ،وبدأت أكتشف أنه كبير في السـن ،بل هـو أكبر الموجودين سناً ،لكنه كـان صامتاً ، فلم نبال به وتناسيناه ونحن نتسابق لحل مسائل الحساب ،أو نتفنن في إلقاء الأناشيد ،لم أنتبه له أنا وصحبي إلا في حصة التربية البدنية .

لا أدري لماذا هو بالذات أخذ كل هذه العناية من المدرس فهو لم يرغمه على لبس الملابس الخاصة بحصة الرياضة ،هذه الملابس التي كان تعاقب كل من ينساها بأن ينام على التراب بملابسه .لكن سالم لم يعاقب ،بل جلس بعيداً ،ونظره ناحيتنا … ولكن لم يكن يرانا ، فقد كان شارد الذهن ،ويداه الطويلتان ترسمان على الرمال خطوطاً بعضها طويل وبعضها قصير ،كنت أسترق النظرات إليه لكن لم أستطع أن أفهم شيئا من تصرفاته .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
05/09/2009, 12:49 PM
الباحث عن الحنان ج4



لم تمض فترة طويلة حتى شعرنا بالخطر المحدق بنا من “سالم” لا أدري من أين أتته هذه القدرة العجيبة على كسر كل حواجز الغربة التي شعرنا أنه بها ،أصبح ينافسنا في الدراسة ،ويسابقنا في الإجابات والحلول التي كنا نتسابق فيما بيننا عليها ثم جاء من يسابقنا مجتمعين .كان ينهي المطلوب منه بسرعة كبيرة ،وكأن هناك من يطارده ،بل الأدهى أنه كان يقدم أكثر مما يطلب منه . فمثلا كان يحفظ القصائد غير المطلوبة ،والتي كنا نتفنن في تشطيبها ونطرب لسماع كلمات “غير مطلوب” أو “مشطوب” ،لكن هذا الغريب لا يريد أن يترك لنا فرصة نثبت بها أنفسنا .اعتقدنا في تلك اللحظات أن هذه قوة عابرة تنتابنا جميعا في بداية الدراسة في كل عام دراسي ،لكن لم ننتبه إلا وسالم قد أحتل المقدمة بلا منازع ، والفارق بيننا يتسع .لقد أصبح سالم وبسرعة أسطورة الفصل وأسطورة المدرسة ،التف الجميع من حوله لكسب صداقته ،ونسي عقلنا الطفولي عاهته ،ونسينا خوفنا من أن يصيبنا ما أصابه .أما أنا فقد كنت من ضمن هذا الركب المحيط بسالم من ناحية ،ومن ناحية أخرى حاولت جاهداً أن أزيد من نشاطي لألحق به ،كنت أشغل وقتي كله تقريباً بالدراسة ،لكن لا أدري من أين يستطيع أن يأتي سالم بالوقت ليتم كل هذا الدرس والتحصيل ، هل يعيش في قصر فخم يحيط به الخدم من كل جانب رهن إشارته ؟، هل له في غرفته حمام خاص به لا ينافسه فيه أحد ؟،فلا يضطر أن ينتظر مثلنا أن يأتي دوره فتضيع بذلك فترة طويلة من الزمن ، والمنزل … لابد أن يكون منزله كما تصوره لنا أفلام التلفزيون ، واسع ،كبير ،فخم ،قـد يكون قصراً أو فيلا ،بها حديقة مليئة بالأشجار والزهور ،في وسطها أرجوحة ،يتأرجح بها وهو يقرأ مواضيع اللغة العربية ، ويحفظ القصائد الشعرية ،فيدخل في ذهنه سريعاً .أما فراشه فلابد أن يكون ناعماً ،يسرق من عليه إلى النوم ،متسع يسرح فيه ويمرح كما يحلو له ،لا يضايقه فيه شريك يرفس بطنه كلما تحرك أو يصدر أصواتا مزعجة .والأجهزة الغريبة تملئ الغرفة ،تبعث في النفس برودة لذيذة صيفاً ،ودفأً مريحاً شتاءً .هل هناك من يساعده في ارتداء ملابسه ؟،هل هناك من يقف له بكوب الشاي الساخن يهديه إياه على طبق من فضه ؟ ،هل هناك عربة تنتظره في الباب ليفتح السائق له الباب منحنياً ،ليوصله إلى المدرسة ،وينتظره عند الخروج ؟ لابد أن يكـون وضعه هكذا في منزله ،وإلا كيف يستطيع أن يفعل ما يفعله ؟،إلا لو كان يومه أطول من يومنا ‍.
سالم … هذه المعجزة الجديدة علينا ،أصبح محور حديثنا ، حتى في المنازل ،تكلمت مع أمي وأبي عنه ،شرحت لأخوتي عن هذا الصغير الجسم ،ذي البروزين من الأمام والخلف ،والذي استطاع بأقل وقت أن يحوز على إعجاب ومديح المدرسين ،وفي كل الدروس ،لكي ينتهي نشاطنا أنا وزملاء المقدمة ،ولنتأخر ونقف خلف سالم في طابور المتفوقين .وكان لابد من البحث عن وسيلة للتفوق على هذا الشخص ‍‍‍‍.

لقد استغرقنا هذا الهم السنوات التي تلت ،وكبرنا ،وكبر معنا تفوق سالم في كل المواد ،حتى مادة الاجتماعيات ،التي كنت أكرهها ، كان سالم متفوق فيها ،لقد كان كرهي لهذه المادة بسبب خوفي من مدرسها -لأن الدوائر دارت وعاد إلينا مدرس التربية الفنية ليعطينا مادة الاجتماعيات ! .لكني قررت أن أحفظ هذه المادة ،لذا فعلت المستحيل ،وفي موعد الامتحان ،كنت على ثقة بأنني سأتفوق على سالم ،فإذا به كان يخطط مثلما كنت أخطط ،فقد خرج علينا ببدعة جديدة ،لقد حفظ أحد نصوص الاتفاقيات عن ظهر قلب ،وكانت مفاجأة لنا ،وتثبيت لإعجاب المدرسين به ،وبالتالي تثبيت لكرسي المقدمة له .

استسلمنا لهذا الوضع ،واعترفنا لسالم بالأسبقية دائماً ،وفي كل شيء ،لم نعد نبحث عن حل ،اللهم إلا الدعاء ألا يرافقنا سالم في نفس الفصل في العام القادم ،ولكم استطاع صحبي الهرب من فصله ،أما أنا فيبدو أنه كان قدري ،واستمرت حالة المنافسة بيننا والخوف منه .

ظهـرت بيني وبين سـالم صداقة امتدت لكل شيء ،دخل بيتي ،تعرف على أهلي ،وعلى أقاربي وعلى ظروفي ،وكم كنت أزهو بذلك ،فقط لكي يعلم بأنني بإمكاناتي المعيشية المحدودة مقارنة مع إمكاناته ،كما كنت أتخيلها ،أنافسه وهو المتوفر لديه كل شيء ومن كل مكان ،حتى أنه ذات مرة أهدانا هدايا أحضرها له شقيقه الأكبر من أوروبا ،التي كنت أقرأ عنها في كتب المدرسة ،وأرى بعضاً من صورها في التلفزيون .

واتسعت علاقتي بسالم ،وأصبحنا صديقين حميمين ،أحكي له وهو يسمع ،اشكي له وهو ساكت ،نتحدث في أمور وأمور ،وزالت بيننا كل العقبات ،وأصبحنا لا نُرى إلا سوياً .جمعتنا بعض الهوايات ، كنا نقرأ الكثير من القصص ،ونحكيها لبعضنا البعض .أسرح معه في خيالاته وهو يروي لي ،وأتحمس وأنفعل وأنا أروي له .وازداد التصاقناً بالكتب والقصص والمكتبة ،وزاد التصاقنا مع أيامنا التي يزداد عددها فيزداد معها نضج التفكير ،ووضوح الصورة .كنا نجلس في المكتبة كثيراً ،ونساعد المدرس المشغول عنها ،نرتب الكتب معه ونرقم تسلسلها ،ويزداد عشقنا للكتاب وما يحتويه من كلمات ،ويتفتق الذهن عن أمور وأمور . بادرني ذات يوم بفكرة أن نجمع بكتاب واحد مجموعة من القصائد والأشعار عن البطولات والشجاعة في التاريخ العربي القديم والحديث ،وانشغلنا بهذه الفكرة ،وصرنا نبحث ونبحث ، وعرفت أمرؤ القيس والمتنبي وعنترة ونزار قباني ومحمود درويش . لقد كان سالم أديباً قارئاً عبقرياً ،ترى هل استمد هذه القوة من مدى الضعف الذي عنده ؟ ،سبحان الذي يمنع ويمنح ..!

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
05/09/2009, 12:57 PM
الباحث عن الحنان ج5

وتستمر حياتنا المدرسية ،تبدأ بالمسافة التي نقطعها يومياً فعل أفعهللانلنتالاتلنلاتلفعل أبحر الصيف وبرد الشتاء ،نمشيها يومياً لنجتمع في الفصل ،ولم يكن سالم يرافقنا في مشوار الذهاب أو العودة .كنا نكره يوم السبت لأنه بداية الدراسة ونحب يوم الخميس لأنه نهايتها ،لكن رفقة الصحب تنسي مشاق اليوم الدراسي الطويل .لقد كان يومنا الدراسي ذا فترتين صباحية ومسائية ،نرتاح سويعات بينهما في المنزل ثم نعود لفترة المساء التي لم نكن نستفيد منها غالباً ،بل كنا نكرهها ونكره الضوء الأصفر المنبعث من أجهزة الإنارة ،نحتج على هذه الطريقة دون أن يسمع احتجاجنا أحد ،نعترض ونحتد ،ولكن فيما بيننا ،نلوم المدرسين والمدرسة وكأن المدرسين أو المدرسة هم الذين إخترعوا هذه الطريقة وبيدهم تغييرها ،لقد كانت الحياة صعبة قاسية ،لكن النجاح ينسي قسوة الحياة .

لا يشعر المرء إلا والسنوات تمر مسرعة ،وهو كأنه واقف لا يتحرك ،ومرت سنوات ست على تلك الأيام وأصبحنا من الكبار في المدرسة ،يعرفنا الجميع ،مدرسين وطلبة ،ونعرف جميع المدرسين ، كـان الناجح منا والمتفوق ناجحاً في كل شيء حتى في محبة المدرسين .لقد كنا ننظر إلى كبار الطلبة نظرة إعجاب وترقب لكي نصبح مثلهم ،وينظر الصغار إلينا الآن ،بعد أن وصلنا لهذا السن ، نفس النظرة التي كنا ننظرها .وكنا نحن المجموعة النشطة محط الأنظار ،مجموعة متفوقة مازال التنافس حافزها ،وسالم في المقدمة ، في كل شيء ،في الترتيب العلمي وفي محبة المدرسين ،وفي معرفة الجميع له ،حتى في الوضع الاجتماعي .وهاهي الدراجة التي اشتراها ليتميز عنا بملكية شيء جديد ،نراه كثيراً وهو يركب الدراجة التي لم نحلم يوماً بامتلاك مثلها ،فقد نسينا أن هناك مثل هذا الترف المعيشي في الحياة ،لقد كـنا نعتقد أن الدراسة هي محور هذه الحياة حتى النهاية .وهاهو يخرج علينا بهذه اللعبة المسلية التي تثبت نظرية الترف الاجتماعي عليه .

لـم نكن نرى سالماً من قبل قادماً إلى المدرسة أو مغادرا منها ،كأنه لا يترك المدرسة أبداً .والآن نراه في كل وقت ،كأنه يتعمد الحضور متأخراً حتى يراه الجميع ،ننظر إليه بحسد طفولي ونتابع رسم حياته الأسطورية ببلاهة عفوية ،حتى بعدما بدأت مسائل الحضارة تغزو حياتنا شيئاً فشيئاً ،كنا نتصور حياته تسرع في نموها ، ونزداد إصراراً على إثبات وجودنا في الحياة المحيطة بنا بوسائلنا نحن ،بعقولنا ،بالدراسة ،بالإصرار على التقدم والتفوق عليه ،وعلى ترفه اللامحدود .فكم من مرة لاحظنا تغيير كتبه وأوراقه ،كأنه قد مل

من الأوراق القديمة فابتاع لنفسه أوراقاً جديدةً تزيد من شهيته على الدراسة ،وتثبت لنا أن قوته نابعة من الوسائل المتاحة له .وكانت الأيام تزيدنا إصراراً ،ومجهوداً عقليا كبيراً .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
05/09/2009, 12:59 PM
الباحث عن الحنان ج6



خرجت عن طوري ،قفزت في الهواء أصرخ فرحاً ،أهلل وأنادي على صحبي ،تجمع الكل من حولي ،وأمسكوا بي ،يهدؤون من ثورتي ،ويستفسرون عن السبب :
- ما الداعي لكل هذا ،هل غداً إجازة ؟!.
كنت في نشوة من فتح بلاد الأندلس ،إنني أول من سجل حدثاً جديداً ،لقد ألحقت أول هزيمة بسالم ،لقد كانت نتيجتي في هذا الشهر أنني الأول وسالم هو الثاني ،حقاً أنها لم تكن نتيجة آخر العام ،لكنه انتصار على سالم ويكفي ،ويومها شهدت للمدرسين بكل قوة بأنهم ذوو عدل وغير ظالمين ،ورأيت علامات انتصار على عيون زملائي ،لقد عاد العرش أخيراً لنا ،عاد بيننا ،ولم نسأل أو نبحث يومها… هل انتصرت على سالم ؟ أم أنه هو الذي هزم ؟ ،لم أسأل ساعتها عن سالم ،ونسيت حق الصداقة ،لقد كنت في نشوة الانتصار ،وزهو الفاتحين ،أتباهي بها أمامه وأمام الجميع ،ولم أراقب ردة الفعل عند سالم ،أو أعرف السبب ،وانهمكت بعدها في إثبات جدارتي وتفوقي عليه ،ليس المهم أن أكون الأول أو الثالث ،المهم أن يكون هو بعدي ، ولم أهتم لتغيبه الذي بدأ يزداد ،بل أحيانا كنت أزداد سروراً حين يتغيب ،حتى أثبت للمدرسين أنني أستحق التفوق .لقد لاحظت زيادة تعاطف المدرسين معه ،وسؤالهم المستمر عنه ،حتى أنهم كانوا يعقدون امتحانات خاصة له إذا تغيب ،هذه الرعاية الخاصة زادت من هجومي وهجوم صبحي على الكتب ،فهم أيضاً بدأوا يضجون من هذه الرعاية الخاصة لسالم ،ويبذلون المجهود تلو المجهود ،فإن كرسي التفوق أصبح سهل المنال ،والأهم أن هزيمة سالم أصبحت ممكنة . ويجب أن نرغم المدرسين على الاعتراف بذلك ،هؤلاء المدرسين الذين أصبحت أشك في عدالتهم أحياناً .

وتوالت هزائم سالم ،وخفت حدة انحياز المدرسين له واهتمامهم به ورعايتهم الخاصة له .أصبحت الصدارة لنا من جديد ، تارة لهذا وتارة لذلك ،وسالم أحياناً بيننا وأحياناً خلفنا ،لا نراه يتقدم أو يمتاز إلا بالدراجة النارية التي كان يلهب الأرض بها بعصبية بدأت تظهر واضحة عليه ،وكأنه يقول لنا :
- هذه الأرض ملكي أنا ،أدوس عليها كما أريد ،أسقيها مر العذاب بدراجتي التي لا تملكون حتى الجلوس خلفي عليها إلا بإذني أنا ، تمتعوا أنتم بتفوقكم وسألتهم أنا الحضارة من أوسع أبوابها .

واستمر سالم بتراجعه العلمي بدون سبب ظاهر ،واستمر يتقدم بخطى سريعة نحو الحضارة المادية بجميع صورها التي نراها بين يديه :آلات حديثة ومعدات غريبة ،ورأينا السيجارة بين يديه ،كانت تحدياً صارخاً لنا ،وابتدأ الزمن يظهر الفارق في السن ،نحن في أول مراحل الشباب ،يخط الزمن علينا خطوط الشارب الباهت اللون ،وهو بدأت عليه إمارات الرجولة التي زادت من ابتعادنا عنه ،وابتعاده عنا.

لطالما كان سالم محور حديثنا أنا وصحبي الثلاثة ،وينتهي حديثنا إلى أن صاحبنا هزمته الحضارة والدراجة النارية ،وحمدنا الله أن لم تتوفر لدينا هذه النعمة الحضارية الغريبة عنا ،والتي كانت سبباً لخسارتنا هذا الصديق ،وقبلنا ظهر أيدينا هذه المرة وحمدنا الله .
واتسعت الفرقة بيننا وبين سالم ،حتى كدنا ننساه ،وصرنا نادراً ما نجتمع وإياه في فصل واحد ،حتى وإن حدث ذلك ،فإنه لن يشكل علينا أي خطـر .وسجل سالم في صفحته العلمية أول رسوب له ،ليكون الانفصال بيننا انفصالاً قسرياً .وأصبحنا لا نراه إلا خلف دراجته ،يلهب بها أرض الشارع الترابي وينثر من حولها وحولنا التراب .وأصبحت له رفقة جديدة غريبة على تجمعنا ؛رفقة من أصحاب السوء ،يفعل ما يفعلون ،ويتصرف مثلهم .ودون أن نشعر نبذناه تدريجياً من حياتنا ،هو ودراجته .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
17/09/2009, 11:34 AM
الباحث عن الحنان ج7



وسارت الدنيا بأسرع من مليون دراجة ،ما أسرع ما تطوى الأيام صفحاتها ليعلو الصدأ الصفحات السابقة ،وتطوى في ملف النسيان .إلا إذا فتحت هذه الصفحات فتزيل من عليها الغبار وتتذكرها من جديد .وفي يوم ما جلست مع صديقي على عتبات منزلنا ،وفتحنا صفحة سالم وتساءلنا :
- أيعقل … بعد هذه المثالية في الحياة أن يحصل هذا التردي … !!.

نحن الآن في مرحلتنا الجامعية ،افترقنا ،كل في بلد ،نبحث عن العلم ثم نعود في الإجازة لنلتقي من جديد ،إلا سالم ،فمنذ عهد الدراجة انقطعت أخباره ،ولم نسمع عنه ،هل كان السبب هو هذه الدراجة ومثيلاتها من آلات استخدمها ؟، أم أن تقدمه السريع في البداية استهلك منه طاقته كاملة ،فوقف في منتصف الطريق ؟!،ولكن إن كان هذا السبب تأخره العملي ،فما سبب التغير في سلوكه ؟! حتى أصبح ذكر سالم غير مستحب في أي اجتماع .حاولنا أن نتوصل لسبب منطقي لهذا التحول ،حاولنا معرفة كنه هذه النقطة السوداء التي عكرت حياة سالم ،لكن النقطة السوداء ،انتشرت في الماء ،وتهنا وسط الشوائب .

حاولنا استقصاء أخبار سالم فعرفنا بعض القشور :انهار سالم علمياً ،واجتماعياً ،ونفسياً ومازال في مراحل دراسته يتعثر ،وخرج إلى العمل فلم يفلح .وأصيب بانهيار عصبي أكثر من مرة .ترى هل كان السبب أقرانه الذين انتشروا يلتهمون رحيق الحضارة التي حرمنا منها في الصغر وكانت مفتوحة أمامهم ؟! علمنا أنه دخل مستشفى الأمراض النفسية أكثر من مرة ولفترات طويلة ،وأنه عمل بوظيفة أقل من متواضعة بشهادته المتواضعة التي حصل عليها بجهد كبير.هل هذه هو سالم القوي الذي أصبح ضعيفاً متهاوياً ،هالكاً ؟! وعادت بي الذاكرة لضعفه في جسده وقوته في عقله وشفافيته في روحه وعنفه في التحدي العلمي .كل هذا أتنهي بعد أن صار نزيلاً في مستشفى الأمراض العقلية ورقماً في ملفات المستشفى .وتذكرت دعوته القديمة لي ونحن صغار أن نجمع القصائد الحماسية ،هذه الفكرة التي وئدت في مهدها ،هاجس غريب يحركها كأنه يقول :
- تلك الدعوة كانت لهذه اليوم ،فابحث يا صديقي عن الحقيقة واجمع خيوطها المتناثرة وسجلها ليعرف عنها كل الصحاب .

لقد كان سالم أسطورة تهاوت ،وعبقرية اندثرت ،كان يسبقنا دائما ونعجز عن اللحاق به ،وأصبح يمشي وظهره إلى الأمام كلما تابع المسير كلما زادت الهوة بيننا .

عاهدت ذكرى صديقي أن أبحث عن الحقيقة ولو بعد حين … ولكن الحياة أخذتني بعيداً … فانشغلت بالتحصيل العلمي ،ولم أكن أذكر سالماً إلا نادراً ،وبدأت الزاوية التي يشغلها في حياتي تزداد ظلمة شيئاً فشيئاً … حتى عندما كنت أحاول … لم أكن أجد أي خبر عنه ،لقد طواه الزمن … أو هكذا يبدو .


******

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
17/09/2009, 11:36 AM
الباحث عن الحنان ج8



الزاوية الثانية

وجهة نظره …
كما ظهر سالم في حياتي لأول مرة فجأة ودون مقدمات ،ثم اختفى من حياتي دون توضيحات ،رأيته أمامي ثانية فجأة ودون مقدمات . هاهو أمامي يتهاوى بقامته القصيرة… يسير مترنحاً… تائهاً في الشارع … لم أتوقع أن أراه هنا ،بعيداً عن مكان أول لقاء لنا ،هنا في مكان دراستي، ولا أعتقد حتى أنه فكر بذلك أصلاً .لقد كان لقاءً مختلفاً عن أول لقاء بيننا ،كان اللقاء حاراً والعناق شديداً وطويلاً … وأحسست بشيء يبلغني به هذا العناق .

علمت أنه وحيد ،في إجازة سياحية ،لقي فيها الأمرين … الكل يلهث خلف نقوده … وكان لقاؤه بي حبل إنقاذه تمسك به … ومن أجل الصداقة القديمة والعهد القديم قدمت له غرفة في مسكني يقيم فيها ما تبقى له من الإجازة على أن يمنحني بعض للدراسة … وأتفرغ له في الباقي .

كانت الجلسات بيننا كثيرة … طرقنا بها كل المواضيع … وتكلمنا عن كل شيء … ودخلنا إلى عالمه القديم … المجهول … وفتح لي سالم قلبه وتكلم … وعرفت منه الكثير … الكثير … أخيراً تكلم سالم …
- أنت تعرفني وأعرفك منذ زمن … كنا -قبل أن تتقطع بنا السبل- كنا صديقين متلازمين ،ومع ذلك فأنت يا صاحبي لا تعرفني ،أنت لا تعرف سوى سالم الذي كنت تراه كل يوم ،أما سالم الذي يدور في جسدي ،أنا الذي كنت أعرفه ،عايشته لحظة بلحظة وحاولت جاهداً أن أخفي حقيقتي عنكم سنوات طويلة ،وأنت تحاول الآن الدخول في ذلك العالم الذي حاولت بكل ما لي من قوة أن أخفيه عن الجميع ،حسناً ، لكن قبل دخولك عالمي عد بذاكرتك إلى الوراء قليلاً …

أتذكر أول لقاء لي معكم في حصة الرسم ،أتذكر ماذا فعلتم ؟! أتذكر حين تمتمتم بجمل الحمد والاستغفار ؟ ،تأتون بحركات نعرفها جميعاً جيداً ونعرف ما معناها ! ماذا ستكون نفسية هذا الطفل بالله عليك ؟! ما هي نفسيته وهو بهذه العاهات المنفرة ؟ ألا تنظر لنفسك بالمرآة لترى كم هو جميل أن تدور في رأسك عينان سليمتان ،وأن يكون صدرك مستوياً ويكون ظهرك مستقيماً ؟! ألا تشعر بزهو وفخار وأنت ترى قامتك تشب يوماً بعد يوم ؟!

أنظر لنفسك في المرآة وأشكر الله على أنك سوي الخلق . وحاول أن تغوص في أعماق هذا الطفل الذي شب ليرى نفسه أقل من الجميع ،نعم !؛أسفل الجميع .لقد هانت علي نفسي كثيراً ،وأنا أنظر لغلافها الخارجي في المرآة وسط الدموع ،كم جلست أدعو الله ،وأسأله لم كل هذه العاهات ؟! ،ولماذا أنا بالذات يكون نصيبي كل هذا ؟.. وكم استغفرت الله على ذلك ،ودعوته أن يسامحني ويمنحني ما منح غيري .كنت طفلاً ،إنساناً ضعيفاً ،كانت قواي تخور ؛ونفسيتي تنهار في داخلي وأنا أرى كل أقراني يخالط بعضهم بعضاً ،وأنا منبوذ منهم، ولا أدري هل هم نبذوني ،أم أنا الذي نبذت نفسي عنهم ؟! ،وكنت أخشى من معرفة الحقيقة ،وفضلت ألا أخالطهم ،فأنا لا أستطيع مجاراتهم في نشاطهم الكبير ،في لهوهم ومرحهم .كنت منذ ذلك الوقت - وأنا طفل- أجلس في مكاني في الغرفة كثيراً ،أراقبكم في الخارج ، وكنت لا أرى شيئاً سوى أنني لا أستطيع أن أكون شيئاً .

وازدادت وحدتي حين رأيت من هم في مثل سني يذهبون كل يوم إلى المدرسة صباحاً بنشاط غريب ،وأحياناً بكسل أراهم يتلذذون به .أرى ذلك في عيونهم وفي حركاتهم ،وأنا أراقبهم .واشتعلت في رأسي فكرة الذهاب إلى المدرسة … وشجعني أهلي على ذلك .ولا أدري الآن هل شجعوني على هذه الفكرة من أجلي ،أم أنهم دفعوني إليها تخلصاً مني ؟. وأصبح موضوع المدرسة هاجسي… إنها الطريقة الوحيدة لإثبات ذاتي … العقل … إنه الشيء الوحيد الذي أتساوى به مع الجميع .كان علي إثبات جدارتي وتفوقي على الجميع عن طريق العقل ،لكن هل أستطيع ذلك ؟! إنه قرار صعب خصوصاً أن سني كان أكبر ممن سأدخل معهم المدرسة . واتخذت القرار الصعب .بدأت الجأ إلى الكتب أحاول أن أتعلم ،وتعلمت من أخي بداية الطريق ،فوجدت نفسي في الكتاب ،فرغت طاقتي فيه .وكنت أسابق عقلي في التحصيل حتى لا أبدأ مع من هم أصغر مني بالسن كثيراً .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
17/09/2009, 11:40 AM
الباحث عن الحنان ج 9


ثم جاء وقت المواجهة ،وقررت دخول الامتحان ،قررت خوض التجربة ،قررت دخول المدرسة هرباً من ذاتي لإثبات ذات أخرى .وكان -وبعد اختبار قدراتي ومستواي العلمي- أن وافقت المـدرسة أن أدخـل في فصلكم .ودخلت عالمكم … لقد كانت أولى خطواتي ثقيلة قاسية ،فأنا مازلت أكبر منكم سناً ،ومازلت أنا كما كنت في شكلي أمام مرآتي … رأيتكم سليمين … أصحاء … مقبلين على الحياة بعفوية وطفولية حسدتكم عليها .خفت منكم في البداية … خفت من قوة الطبيعة فيكم .وقامت خوفي حتى وجدتني أغوص في أعمـاق عالمكم ،أستمد من مرآكم قوة تنسيني ضعفي .لقد كان مجهوداً كبيراً ذلك الذي بذلته .لقد قررت أن أخوض التحدي ؛أستمد القوة فيها منكم وقررت أن أكون أقوي منكم جميعاً ،وكنتم أنتم أقوياء ،وكنتم متكاتفين فكان مجهودي أضعاف أضعاف ما تبذلون في المدرسة والبيت .وكلما ازدادت قوتكم تضاعف حماسي فكانت نتائجي كما تعرف وتغلبت عليكم ؛فحمدت الله كثيراً أنه أوقعني بين أقوياء لا يكلون من التحدي ولا يعترفون بالهزيمة ،وكنت في كل سنه دراسية أتمنى من الله أن تجتمعوا جميعاً معي في فصل واحد ولا ينقص منكم واحد لتزيد بذلك قواكم .لقد كنتم أنتم قوتي وكانت تلك الأيام التي عايشتها … وأنت تعرفها جيداً … إنما الذي لا تعرفه وتريد الآن أن تعرفه فإليك به :

خرجت إلى الدنيا يتيماً ،لم أذق طعم رعاية الأب كما تمتعتم بها أنتم ،وكانت والدتي امرأة عجوز لا حول لها ولا قوة ،عائلة فقيرة بلا عائل ،أسرة داسها قدم الزمن ،وأنا أصغرهم سناً .كنت ضعيف البنية منذ طفولتي ،مهملاً من الجميع .تلازمت ولادتي مع وفاة أبي فالتصق بي نحس العائلة كله ؛وكأن ولادتي هي التي قتلت أبي .وعيت على الـدنيا وعاهاتي معي ؛لا أدري هل ولدت بها ،أم حدثت لي في صغري .لقد كنت - ومازالت- أخشى الاستفسار ولو من بعيد عن الموضوع ،لكنني أعلم جيداً أنني كنت عليل الجسد دائماً .كانت والدتي بكل حنان تحاول رعايتي ،لكن همها كان موزعاً بين فقدان الزوج المعيل ،وهذا المنحوس الذي مات أبوه مع ولادته وشكله ليس طبيعياً ويبدو أن منظري كان مخجلاً حتى أن أمي أخفتني عن أعين الناس ، وبدأت أنمو ولا يراني أحد إلا أقل القليل ،ولا حتى الأطفال … ولم يداعـبني أحد كطفل ،لقد شعرت منذ طفولتي أنني مسخ .وفي هذا الجو :خوف أمي علي من الناس ،وخوف الناس وابتعادهم عني ،في هذا الجو بدأت أنمو ببطء شديد .

كان المعيل الوحيد لنا شقيقي الذي فتحت عيني وأنا أراه كبيراً يتولى مسؤولية العائلة ،كان عطوفاً حنوناً حاول أن يكون أباً لي بدل الأب الذي لم أعرفه وعرفه هو وعاش معه وتمتع بحنانه .لقد كان أخي هو كل أهلي ،لكنه تزوج ؛وياليته لم يتزوج فقد هنئ بالحياة الجديدة مع هذه المرأة التي دخلت علينا بيتنا .بدأ كرهي لنفسي ينمو وأنا أراها تخفي وجهها عني ،حتى لا يخرج الجنين الذي في أحشائها مسخاً مثل عمه .كانت هذه الكلمات تتردد على مسامعي كثيراً .وجاء وليدها جميلاً لم يكن مسخاً مثل عمه لكنها بقت على عادتها ؛تشيح بوجهها عني كلما أمكنها ذلك ؛وتنطق بكلمات أصعب من أن يتحملها طفل في مثل عمري .
دخـلت المدرسة هرباً من هذا الجو ،وبدأت تفوقي في الدراسة ،ولكن زوجة أخي ضنت علي بأن يكون لي ميزة ،فازداد شكلي مسخاً في نظرها مع تقدمي في الدراسة ،وحاربتني في جمالي الوحيد .. في عقلي ،حاولت جاهدة منعي من التقدم ومنعي من الدراسة ،فمزقت دفاتري ،لكنها دون أن تقصد زادتني معرفة ؛فلطالما جلست لساعات أعيد كتابة ما مزقت ،وما كنت أعيد كتابته كان يزداد رسوخاً في عقلي ،وأصبحت كأنني أراجع كل المواد باستمرار ،أخفت عني كتبي ،وكم أمضيت من الوقت وأنا أبحث عنها ؛فإما أجدها أو أشتري غيرها في اليوم التالي .آه … يا ويلي ،كم أرهقت هذه العين الوحيدة في البكاء والنحيب .لكن أمامكم كنت أخفي ضعفي ،وأداريه خلف قوة كانت تظهر لكم .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
17/09/2009, 11:41 AM
الباحث عن الحنان ج10



أتعلم الآن ما كنت أنا فيه ؟!! وكم كنت أحسدكم على نعيمكم الذي تعيشون فيه … منزل هادئ ووالدين ينسيان كل عيب في ابنهم ليروه أجمل الناس ويشكلوه ليكون الأمل ،وملابس نظيفة تجدها معدة لك ،وتفان منقطع في سبيل هذا الأمل .كم كنت أسرح وأنا أتخيلكم في منازلكم ،وكم كنت أعجب لم هذه الراحة والهدوء لا تجعلكم تلحقون بي ؟! وكلما فكرت في ذلك كنت التهم كتبي خشية أن تلحقوا بي .

صمدت أمام الامتحان القاسي سنوات … وسنوات .كنت وحدي … وحيداً وسط صحراء قاتلة ،تحاربني كثبانها ورمالها وأعاصيرها .وعندما بدأت المسافة تقصر بيني وبينكم ،هذه المسافة التي حافظت عليها بكل القوة المتبقية وسط هذا العالم الرملي المحيط بي … عندما بدأت هذه المسافة تضيق كدت أجن وأفقد عقلي .ألم يكن يكفيني الحرب التي أواجهها في منزلي ؟،حتى تشددوا على الخناق لتسلبوا مني الميزة الوحيدة التي لدي … ستكون نهايتي لو استطعتم ذلك عندها سأبقى في نظركم وفي نظر الجميع مجرد المسخ المشوه ، وحاولت أن أقاوم ،وزادت قوة الهجوم على في المدرسة وخارجها ، ازدادت كثبان الصحراء ارتفاعا أمامي ،كثرت العراقيل من حولي ، وبدأت أشعر أن قواي بدأت تضعف … وتضعف .
بحثت عن ضعف آخر فيكم أمتاز عليكم به ،لأنني تأكدت بأنكم ستلحقون بي في الدراسة ،وهداني تفكيري المشتت الضائع إلى أبواب المدنية المزيفة .إن المال هو الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أمتاز عليكم به ،ولا تستطيعون اللحاق بي من خلاله . وبدأت بالدراجة لكي أمتاز بها عليكم . وبعد كفاح مرير أقنعت أخي ،وحصلت على الدراجة .وازدادت المسافة بيني وبينكم من جديد ،وعدت أرى نفسي قوياً لكن ذلك الوهن المفاجئ الذي أصابني ،جعلكم تهجمون علي هجوماً شرساً ،ولم تشعروا وقتها أنكم لم تلحقوا بي فقط بل وتدرسون علي .

وابتعدت عنكم … ولا أدري هل ابتعدتم أنتم عني ؟‍ وازداد الضعف ،وازدادت هجماتكم ،وازداد التصاقي بالدراجة ،وكنتم أنتم من أهم أسباب ضعفي وتحطمي .لا تستغرب ذلك يا صديقي ،نعم … كنتم أنتم أحد هذه الأسبا‍ب ،‍‍وعدت ،كما بدأت، وحيداً ،لا أرى حولي محباً سـوى هذه الـوالدة العجـوز ،التي تلتزم بـرد فعل واحد لكل الأمور … البكاء ،والبكاء فقط .وازدادت نفسيتي سوءاً وأنا أراكم تبتعدون عني ،وكلما ابتعدتم أكثر كلما غصت في نفسي أكثر وأكثر . وحاولت أن أبحث عن صحبة جديدة ،وكانت صحبة اللهو التي سرعان ما تنفصل أواصرها ،فأعود أبحث عن غيرها تعويضاً … وهكذا .لكنني لم أجد عوضاً عنكم .وثارت نفسي من جديد ،وأصبح همي أن أحاربكم بكل قوتي لأثبت لكم أنني مازلت أقوى منكم .وكان أخي يمدني بالمال للتخلص من آهاتي ومن الشد النفسي والعصبي الذي أصبحت أثيره في البيت وكانت الدراجة النارية محاولة جديدة .
في البداية شعرت بقوتي تزداد بها .لكنني اكتشفت أنني كنت أقود الدراجة النارية بالاتجاه الخاطئ .وابتعدتم عني أكثر ،تقدمتم … وكثر تراجعي ،وعدت إلى الصحبة الأخرى وسلاحي الوحيد فلوس أخي ،وبقية من إرث آل إلى من والدي ؛وفشلت … لم أستطع أن أعيد مكانتي من جديد ،ولم أستطع أن ألحق بكم .ولم يعد العمر يتيح لي الفرصة من جديد .وعدت أبحث عنكم .التفت حولي ؛ولكنكم بالنسبة لي كنتم قد ضعتم .

لقد كنتم أستمد منكم قـوتي .وعندما نفرتم مني ،ولا أدري لماذا ،ضاعت مني القوة .وشعرت بالضعف أكثر .وتوقف عقلي ، ووقفت مكاني ألهث حتى خارت قواي وانهرت .وازدادت عصبيتي في المنزل ،وازدادت المشاكل التي أثيرها أو تثار من حولي ،وأنا أحاول أن أوقد شمعة أخرى في حياتي بما تبقى لدي من قوة ، واستولت على عقلي المشتت فكرة سرعان ما وافق عليها الأهل ؛فهي بالنسبة لهم تخلصاً من هم هذا المخلوق ،وبالنسبة لي كانت خيطاً أتمسك به لأثبت أن داخل هذا المخلوق شخص جديد ،لقد قررت أن أتزوج .

كـانت تجربة قاسية وصدمة ،هي الواقع الذي كنت أهرب منه ،صديقي :من برأيك تقبل بي زوجاً ؟زوجة أخي كانت تشمئز من شكلي وتخشى أن يخرج وليدها في مثل حالتي ،فما بالك بي زوجا ؟ وكان رفض طلبي ،بل الاستهزاء من طلبي ،من القريب الذي أطرق بابه ،كلمات جارحة وأساليب لم أعهدها منهم من قبل ،كانت بداية الرفض من الأعمام ،فبحثت بين الغرباء …فكان الرفض والاستهزاء أشد … وفشلت ،وكانت أول تجربة لي في مستشفى الأمراض العقلية.

كرهت حياتي التي تبدأ بوابتها بهذا المنظر ،وهذا الشكل المنفر ،كرهت نفسي … حاولت قتلها بيدي .لكنني كنت أضعف من أن أقدر على ذلك .وحاولت أن أقتل عقلي ،حاولت تدمير هذا العقل الذي يرفض الواقع ،ورفضت العقل والمنطق ،وفقدت الحياة ترابطها الموضوعي في عيني .دخلت المستشفى أكثر من مرة هرباً من الواقع إلى الجنون .وعندما يعيدني من المستشفى إلى الواقع ،أجن مرة أخرى من قسوته علي .حتى توصل أهلي إليها … إنها أرملة ،وأعتقد أنه لكونها أرملة ولضيق ذات يد أهلها وافق أبوها ،وعشت في أمل ساعات ،وفي النهاية ،أو قبل النهاية ،إنفجرت بي ،وبوالدها متحدية كل عرف وتقليد نعيشه ونتعارف عليه ،انفجرت معلنة الموت قتلاً باليد ولا الموت خنقاً مع هذا الإنسان .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
17/09/2009, 11:42 AM
الباحث عن الحنان ج11


انفسخ العقد قبل أن يبدأ ،وعدت إلى نفسي مرة أخرى ،بعد هذه الفضيحة ،استنشق دموعي من كثرتها ،أخنق عباراتي وأنا أرى العجـوز تبكي أمامي لساعات طويلة ،تندب حظي ؛لا شهادة ولا وظيفة ،ثم سمعة لازمتني بأن جميع المستويات قد رفضتني صهراً ، وكنت في كل هذا وحيداً أجالس الليالي ،ولا أدري فيها إلا قبح أيامي وسوء طالعي ،أبحث عن الحنان ولا أجده إلا في عيون وكلمات هذه العجوز المتهالكة ،فأستمد منها قوة جبارة تجعلني أقف ثابتاً على حافة الهاوية ؛تسحبني بيدها الضعيفة كلما تهاويت .وتدخل القدر ،ورحمها ملاك الموت من عذابي ،وبقيت بعدها وحدي … وبكيت بدون خجل ، بكيت أمام الناس ،كانوا يواسونني بأمي ،لكني كنت أبكي حالي مع بكائي على أمي .ولجأت إلى عالم النسيان ،عالم الشرود ،لجأت إلى كل ما يذهب عن الإنسان عقله ،لأهرب من واقعي ،وكنت أهرب إلى داخلي .

لم أشعر بهذه الدنيا تسرق مني الأيام ،حتى لسعتني قوة الحرمان ،فانتبهت لنفسي ،وكان العالم من حولي قد اختلف والدنيا تبدلت ،لم أعد أهتم للوجوه الغريبة التي أراها لأول مرة ،كل ما انتبهت له هو لسعة الحرمان ،لكن الوجوه الغريبة كانت قاسية جبارة تـريدني أن أصحو لعـالمي السيئ ،وجوه قبيحة … طويلة … قصيرة … عريضة … نحيفة … تقل … تزداد ،بدون قانون ،وألم شديد في يدي ،وبدأت أفيق على نفسي شيئاً فشيئاً ،ابتدأت الوجوه تتضح أكثر وتصبح جميلة أكثـر .وبدأت أعيش مع نفسي من جديد ، انتبهت لنفسي ،فإذا بي لست في أماكني المعتادة ،ولا أرى الوجوه المعتادة ، وعلمت ساعتها أنني في مستشفى الأمراض العقلية … القسم الخاص ، التهمة إدمان وانهيار ومحاولة انتحار …!! ،قلت الوجوه من حولي ، إلا منها … بجمالها ،والعطف في نظراتها ،برقة العنف الذي تبديه في محاولتها إعادتي إلى مسار الحياة الصحيح من جديد ،كنت أغفو على كلماتها وهي تعطيني الدواء ،وأفيق لأراها أمامي بثوبها الأبيض الذي لا تغيره .لم تكن جميلة بالمعنى المفهوم الواضح ،وماذا أريد من جمالها إلا العطف والرقة ؟!،ومن أنا حتى أحكم على الجمال بمنظر العيون والقوام ؟!،كانت بارعة في سرقتها لي من عالمي الخاص ، إلى عالم تختاره هي ،تجرني قسراً ولساعات طويلة مع أحاديث منوعة ،تقرأ لي وتسمعني القصائد بصوتها المرتجف ،وانطلق لساني من عزلته وبدأت أبادلها الحديث ،جلست تستمع لي ،وجلست أستمع لها ،وشعرت كأنني عدت لزمن قديم … قديم … ،أهدي كل منا همومه للآخر ،ساعتها عرفت أن العالم ملئ بالهموم وأن لكل فرد همه الكبير عليه .

أصررت أن أفيق ،وعدت أسلتهم القوة ،وكانت في هذه المرة هي ملهمتي وهي قوتي ،زرعت …( أمل ) … في نفسي الأمل ،ولم أستطع أن أهديها إلا الصدر المفتوح المتسع ،كانت مثلي هاربة لكنها قوية حتى بهروبها .

تنكر لها الأهل بعد أن فقدت الوالدين ،لم تجد مكاناً في منازل أشقائها ،فهي إما ضيف ثقيل ،أو خادمة مهانة .حتى بعض الإرث الذي آل إليها أصبح سبباً لأن تنهش العمومة والخؤولة لحمها . رفضوا أن تعمل ،ورفضوا أن تجلس في البيت ،خشوا على إرثها من أن ينهبه غيرهم .خططوا لها حياتها قسراً ،كانوا يقفون في وجه كل أمل لديها .فهربت من بلدها طلباً للحرية ،وجرها قدرها أمامي ، وجرني قدري أمامها .لا أدري هل كان ما ينموا في صدري هو الحب لهذه الفتاة أم هو انجذاب لمن فتحت لي باب الحنان والصدق ؟! هي لم تنفر من شكلي ،لكنني لم أكن أجرؤ أبداً أن أفكر بأنها تبادلني شعوراً ما .وكنت أستلهم من نظرات عينيها همس الحب ومن لمس يدها آهات جميلة .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
17/09/2009, 11:43 AM
الباحث عن الحنان ج12
أعطتني أمـل الشيء الكثير ؛أقنعتني أن أكمل دراستي الثانوية ،فدخلتها وأنا في المستشفى .كانت تذاكر معي دروسي وأستعيدها أمامها .ساعتها يا صديقي لم أكن بحاجة لذكراكم فلقد أصبحت أمامها سراب ،فمعها لا أحتاج أن أخفي ضعفي بقوة ظاهرة مزيفة ،ودست على مرآتي ،وبحثت ،بل بحثنا سوياً عن قوة حقيقية ، ونجحت في ذلك العام ،نجحت في المدرسة ،ونجحت في أنني لم أعد أكترث لنظرات الناس لي .عرضت عليها أن تكمل معي مشوار الحياة خارج المستشفى ووافقت ،فتحت أمامي باب جنة الدنيا بمصراعيها ، ودخلت فيه مهرولاً … وسرحنا في الأحلام … نخطط لحياتنا ،ناسين من هم حولنا ،ولكن لا أدري لم تذكرونا هم في تلك اللحظات ،أهو حب لنا واشتياق لكي يشاركوننا هذه السعادة وهذا الصفاء ،أم هو قدري ،أن يتحطم هذا الحلم أمام صخور الانتماء لهذا العالم المليء بالقسوة ،العالم الذي يعلم كل شيء إلا أبسط أساليب التعامل مع البشر كل حسب حالته ؟؟!

قامت الدنيا حولي بعد أن عرف أهلي بما ننوي ،ولم تقعد إلا وأنا مسحوب من المستشفى ،وتهمة "مجنون" تلاحقني ،وأصبحت محبوساً في المنزل ،في عالم المرايا ؛العالم الذي لا يهمه إلا المظهر الخارجي ،حاولت الهرب من المنزل وفشلت ،كررت محاولاتي ، وعندما نجحت في الهرب ،كنت كمن يبحث عن سراب … كانت أمل قد اختفت … اختطفها أهلها مني ،ارتكبوا جريمة … كما ارتكب أهلي الجريمة التي يعجز أي قانون ابتدعه البشر أن يعاقبهم عليها ،يومها بكيت وبكيت ،بحثت من حولي فلم أجد سوى مرآة تنظر لي باستهزاء واحتقار واستخفاف .كنت أعشق أمل ،وهل لمثلي إلا أن يعشق البلسم الذي يداويه ؟!… وهؤلاء الحمقى منعوني من الدواء ،ومنعوا عني الدواء ،وأسبابهم الواهية عندي … القوية عندهم … أنها غريبة عنا ، ليست من بنات العمومة أو القرابة ،أو حتى من البلد .وقتها كم لعنت تلك العمومة والقرابة ،ألم ألجأ في السابق لهذه العمومة والقرابة للنجاة مـن همومي ؟! ،ألم يلفظوني كحبة حنظل ؟! ،ألم يدفعونني إلى الهاوية ؟! ،ألم أستنجد بهم ؟! … ولكنهم لم يرفضوا استنجادي فحسب بل إنهم بإستهزاءاتهم قذفوني إلى الهاوية … أتردى فيها وحدي ،وما كان عليهم سوى مصمصة الشفاه والترحم على ما فات … والآن أصبح لهم الحق في تقرير مصيري .ومرة أخرى ،وبعد أن نجحت أمل في زرع الأمل في نفسي وفي اقتلاعي من الهاوية ،هاهم يمسكون يدي ليقذفونني في الهاوية مرة أخرى ،يساعدهم في ذلك هذه المرة أهلها الذين سلبوها مني … ساعتها فقط تذكروا ابنتهم ليقتلوها بحجة إنقاذها من المجنون غريب الشكل ،أهلي وأهلها … جنوا … لكنهم لم يدخلوا مستشفى الأمراض العقلية ! انقلبوا إلى شياطين ،لكن مرآتهم تقول عكس ذلك … فالملام أمام الجميع هو أنا ،الذي يحمل شهادة مجنون هو أنا ،والمخطئ هو أنا … ودائماً أنا …

وطارت " أمل " من أمامي واختفت ،كما طرتم أنتم يا صديقي من قبل .اختفى البلسم وعاد الجرح ينزف من جديد ،وعدت إلى غيبوبتي … إلى صراعي مع ذاتي … عدت أنظر إلى مرآتي ،بدأت حالتي تسوء من جديد . وعاد الجميع يشكون من تصرفاتي ،وأمامي كل هذا … نسي أخي أنه شارك في همي ومأساتي ،وصار يبحث عن حل .دافع عني أمام الجميع بأنني لست مجنوناً .بحث في عقله عن تبريرات لتصرفاتي .نسي أخي أنه شارك في قتلي .ونصب نفسه طبيباً معالجاً .وكان الاقتراح … وقرر أهلي … إن أفضل حل هو ترتيب زيجة ما يلهونني بها . أرادوا أن يقذفوني في متعة الجسد ،بعد أن سلبوني متعة الروح .

أجبروها على الزواج مني رغم رفضها السابق ،وتزوجت منها ،وبدأت حياة جديدة بحفلة زفاف حضرها كل من لفظني سابقاً ، حتى بناتهم حضرن ،لقد كانت مناسبة للترويح عن النفس ،وجلست أراقب الناس تنظر إلى … تتفرج على الجالس على المنصة أمامهم ، العيون تدور في أحداقها ما بين ضاحكة ومستهجنة ،ضحكاتهم أحسها تقطع أوتار قلبي ،لأنني كنت أحسبها ضحكات استهزاء ،حتى نظرات العطف كانت قاسية … موجعة … مؤلمة ،لم يرحموني ،استهجنوا على أن أجد من توافق على زوجاً ،استكثروا علي هذه الأرملة التي كلما نظرت إليها ،تستر عيني غمامة سوداء بلون بشرتها .

كانت الأيام ثقيلة ،وزادها ثقلاً هذه التي أدخلوها في حياتي ، كانت تمن علي أنها تزوجتني ،هذه التي فاتها قطار الزواج … الأرملة … شـاحبة الوجه … السمينة … المترهلة … غليظة الشفتين … مكورة الأنف … ضحلة العقل … تافهة التفكير … هذه المرأة تحتقرني !! … تكيل لي أنواع الأذى بلسانها الخشن … تذكرني دائماً بعاهة خلقت بها ولم يكن لي بها يد أو سبب … أنستني مرآتي ،فقد تولت مهمة نقل صورتي كل يوم ،بل كل ساعة ودقيقة . كانت حجراً ثقيلاً أضاف على صدري ثقلاً زاد من تحدبه .

وعدت أغوص في داخلي ،لكي أنسى من تذكرني بنفسي ، ولكي أنسى صيحات الاستهجان وضحكات الاحتقار ؛أهلي لا يقبلون مني أن أغضب أو أن أطالبها بأدنى حدود الأدب ،وأهلها لا يتذكرون إلا أنهم رموا هذه الأميرة الحالمة … الجميلة … بين يدي غول متوحش ،كتمت غضبي ونسيت الاحتقار ،وطلقتها … بل للحقيقة أقول إنها هجرتني قبل أن أطلقها ،وهكذا عدت وحيداً ،وسط هذا الجمع المحيط بي ،وبحثت عن مهرب … بحثت عـن طريق الخـلاص … بحثت عن " أمل " … كنت كمن يستنشق رحيق ذكـراها ،ودخلت المستشفى ،لا أدري هل قادني عقلي متعمداً إلى هناك ،علني أعثر على الأمل … على " أمل " بحثت عن ذكراها في كـل نبته زرع وقفت إلى جوارها ،على كل كرسي جلست تحدثني عليه ،كنت أغزو تلك الغرفة التي نمت بها سابقاً أجتر الذكريات … ولكنها كفقاعة الصابون …. اختفت … فلم يبقى لها أثر …

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
17/09/2009, 11:44 AM
الباحث عن الحنان ج13



وعدت إلى دنيا المرايا … أحدث نفسي … وأعاتبها ،كرهت النـاس كما كـرهت نفسي ،لم أعد أحتمل أي كلمة تنطق بها أي شفقة … ومهما كانت الكلمات فإنني أفسرها كما يحلو لي … وأعجبتني تلك الطريقة ،واعتقدت أن هذا هو الأسلوب الصحيح للتعامل مع الناس ،ليسمحوا لي بالهرب منهم ويتركوني أفعل ما أريد ، وبدأت أتصرف بجنون ،ومن منهم كان بإمكانه أن يلومني فقد كانت معي شهادة رسمية تثبت أنني مجنون .

وقررت أن أتزوج بطريقتي … قررت أن أشتري زوجة … أجل أشتري زوجة ! ،ولم أجد اعتراضاً من أي أحد ،كانت آسيوية فقيرة جاءت لتعمل ،وعندما عرضت عليها فكرة الزواج وافقت ولم تـرفض ،فإن ما سأوفره لها سينسيها شكلي ،ورغم علمي بذلك فقد تزوجتها … هذه المسكينة التي لم تجد لها مكان في حياتي ،كانت أداة أنفث فيها سم غضبي حين أغيب عن وعيي .لم يكن هناك أي رابط يربطنا سوياً سوى القواعد الصارمة التي وضعتها لها لكي تنفذها وهي تطيع ولا تخالف ؛أو كانت تخالف دون أن أدري فنحن لم نشترك حتى في لغة نتفاهم بها ،لقد تعلمت بعض الكلمات الأساسية وصارت ترددها … ولكنها كلها كانت كلمات خضوع وطاعة .

أعترف بأن ما كانت تلقاه هذه المرأة ضرب من الإذلال ، وكان قبولها بهذا الموضوع يثيرني أكثر فأكثر ،فأزداد غياباً عن الوعي ووحشية في المعاملة ،وتعودت هي ،وتعودت أنا على هذه الحالة .والغريب أنني بدأت ألين شيئاً فشيئاً ،كنت ألهي نفسي بعملي الذي ألحقوني به بشهادتي المتواضعة في نهاري ،وفي الليل كنت أنسى نفسي بغيبوبة أصنعها مع صحبة يلجأ لها من يبحث عن المتعة المزيفة .

وحملت مني الآسيوية … وتغيرت أحوالي ،وبدأت أراها بصورة مختلفة ،كان بودي أن أسأل : هل حقيقة يزداد جمال المرأة عندما تحمل ،أم يا ترى هو جمال مزيف يراه الزوج ؟ ،لقد بدأ قلبي يخفق ،ترى هل هو لها ؟! أم للذي في بطنها ؟! وأفقت على نفسي من أجل هذا القادم … بدأت أرسم له عالم خاص في خيالي أعطيه فيه ما منعتني منه الأيام من حب وحنان ،أعطيه لها لكي توصله لمن في بطنها ،وانتبهت ساعتها أن هناك من أستطيع أن أعطيه من ضعفي قوة … وأستمد من ضعفه قوة أثبت فيها نفسي ،أجعله كما كنت أريد لنفسي … حرصت على الأم كي تحرص بدورها عليه فلا يخرج معاقاً كأبيه … رفضت أن أغيب عن وعيي لحظة ،وكيف أغيب وأنسى هذه القوة التي بدأت تدب في أيامي ،ونسيت مرآتي … وشعرت بأن من حولي قد نسوا شكلي ،بحثت عنكم معشر صحبي القدامى ،لأريكم قوتي في هذا الجنين ،ولكنني لم أهتم لعدم وجودكم ، لقد كنت أسخر منكم في خيالي ؛المال عندي ،العائلة كونتها … والوليد في طريقه للقدوم ،وهذا ما تكدحون للحصول عليه ،لقد وصلت إليه كعادتي قبلكم .

وحان موعد الولادة ،حان موعد تتويجي ملكاً على هذه المملكة الصغيرة ،المملكة التي صنعتها أنا ،لم أثر حين طلبت مني زوجتي أن تسافر لبلدها لتلد في كنف أمها ،نعم لم أثر فلقد أصبح لها الدلال المطلق .حملتها الهدايا الكثيرة جداً والمال الكثير لأمها وأهلها الذين لم أعرف لهم صورة أو عنوان فلقد كانت هي دوماً ترسل لهم ما تشـاء من الهدايا والأموال ،ولم تثر ش**** … لكنها سافرت … ولم تعد !! ،هل تستطيع يا صديقي أن تتخيل الحالة التي وصلت إليها ؟ إنني لا أستطيع أن أقول إلا أن عقلي الذي لم يكد يرتاح ،طار مني ، لقد بحثت في كل مكان عن دليل يدلني عليها فلم أجد .أصحابها الذين كانت تعرفهم أنكروا أنهم كانوا يعرفونها قبل الآن أو أنهم يعرفون أي شيء عـن ماضيها ،أوراقها اختفت من خزانتي ،حتى صورها اختفت ،اختفى كل أثر لها ،كأنها مسحت من خريطة الوجود ،كأنها كانت سراب ،أين الحقيقة ؟! ،كل الإجابات على أسئلتي سراب ،حتى صرت أشك بوجودها أصلاً ،وبدأت أبحث عن دليل يثبت أنها كانت موجودة ليثبت أنها حقيقة وليست سراب .

ليس هناك من داع يا صديقي أن أصف لك مرة أخرى كيف دخلت المستشفى .. لكن في هذه المرة لم أكن أبحث عن أمل بل كنت أريد قتل الأمل .

وهاأنذا يا صديقي أمامك ،لا أدري هل أنجبت تلك الهاربة ؟ وماذا أنجبت ؟ وأين هو أو هي الآن ؟ وكيف شكله ؟ لا أدري هل عمره الآن عامان أو ثلاثة ؟ ،حتى هذا أحاول نسيانه وما مجيئي لهذا البلد إلا كنوع من النسيان ،نوع من الهروب ،وهناك سبب آخر .لقد جئت هنا -ولا تستغرب- لأشتري زوجة أخرى ؛زوجة أعرف عنوانها ،حتى لا تهرب مني .أشتريها بمالي من أهلها فلا تستطيع الاختفاء لأني سأعرف أين أجدها ،ويا لغرابة الصدف جئت هنا هرباً من الماضي لأجدك أمامي تعيدني لأيام الصبا ،وتذكرني بما فات .

صديقي … هذه هي فصول حياتي التي حرصت ألا يعرف أحد -ومنكم أنتم بالذات- أي شيء عنها ،فتحتها أمامك لكي تعرف منها كانت تجهله ،وتعذر لي كل تصرف نبذني من أمامكم في السـابق .ترى هل يحق لي يا صديقي بحق الأفكار الظالمة التي حملتموها عني ،وبحق تخليكم عني في وقت حاجتي لكم ،بحق الأيام الماضية … هل يحق لي أن أطالب برد اعتبار … وأن تساعدني بشراء زوجة ؟! لا تثر أو تغضب … لأنك لن تثنيني عن عزمي ، أنت فقط ستتخلى عني للمرة الثانية … لكي أقع في هاوية أخرى كان بإمكانك أن تساعدني ألا أقع بها !! …

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
17/09/2009, 11:45 AM
الباحث عن الحنان ج14



في تلك المدينة الكبيرة … وفي تلك العمارة الطويلة … وعلى شرفة تلك الشقة … وقف الصديقان ينظران إلى اللاشيء ،كل يفكر في طريقه الذي قاد الآخر إليه صدفة ،ليفتحا صفحة قديمة جداً طواها الزمـن ،ووسط هواء تلك الأمسية لف مجدي وسالم ظلام الليل … وكانت وكانت حكاية اخرى جديدة .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
17/09/2009, 11:46 AM
الباحث عن الحنان ج 15


الزاوية الثالثة


وتــروي لنا الأيــامـ …
لم يستطع مجدي أن يفكر بطريقة يحاول فيها أن يحمي صاحبه من الوقوع في الخطأ مرة أخرى ،وكلما بحث عن طريقة سدها سالم في وجهه ،فلم يكن أمامه إلا أن يتناسى الموضوع ويختلق ظروفاً وحكايات تعيق هذه الفكرة ،حتى جاء يوم دخل فيه سالم على صاحبه صائحاً :
- لقد وجدتها … !!
وعندما استفسر مجدي عن الذي وجده ؟ وما هو ؟ وكيف ؟ ! أخبره سالم بأنه وجد العروس المنتظرة ،إنها ابنة حارس العمارة .ثار مجدي وأجلس سالم بعنف وهدوء في آن واحد ،يحاول إقناع هذا الضائع أنه بذلك يزيد من ضياع نفسه ،حدثه عن خطئه وأنه من المستحيل أن يتزوج الطفلة ابنة الحارس ؛فلا توجد بينهما أي علاقة تجعله ينسى أو يتناسى الفارق الكبير في مستوى التفكير والعقل والمادة والأهم الفارق الكبير في العمر .عندها أخذ سالم نفساً عميقاً من سيجارته ثم قال لصاحبه :
- ومن تريد أن أتزوج ؟! خريجة كلية ؟! أنا موافق … ابحث بين زميلاك ،أو تجرأ أن تبحث … ؟! ألا ترى الامتعاض في عينيك من مجرد التفكير بهذه الطريقة ؟ من تقبل بي ؟! أنظر إلى جيداً إن كنت قد نسيت ،ثم لا تحاول أن تقنعني بالعودة إلى العقل … فلقد انتهى هذا العقل ،ولا يوجد عندي وسيلة للاستمرار في الحياة إلا عن طريق الزواج … والزواج من أي إمرأة كانت ،أريد أن أعيد تكوين حياتي وأن أجد لنفسي إبناً غير ابن الهاربة تلك .أريد أن أنسى الماضي بما قد يأتي ،أنظر إلى أي ميزة في تجعل أي فتاة تقبل بي ،ناهيك عن أهلها ،فتلك التي قبلت بي ،قتل أهلها القبول وقتلوني ،أترك العقل والمنطق فهؤلاء قد فارقتهم منذ سنوات ،وتذكر أنني قبل أيام اعترفت لك أنني كنت أتحداك ،والآن أنا ألجأ إليك ! فارحم ضعفي ،وفقط ساعدني بما لديك من مشورة ،لتتم هذا الموضوع لا لتمنعه ،إن كانت ابنة الحارس موضوع فاشل لأنها فقط ابنة حارس عمارتك ،وهذا ما أعتقده سبب رفضك … فأنا موافق ،لكن هنالك أخرى دلني عليها سائق تاكسي ،وسيأتي بعد ساعة ليأخذنا إليها .
صاح مجدي مبهوتاً :
- سائق تاكسي … هل تعرف هذا الرجل أو تضمنه ؟ هل تعرف عن الفتاة شيئاً ؟…
ورد سالم سريعاً :
- من أجل هذا ألجأ إليك ،لأن تعرف معي عنها كل شيء .لا أريد من الفتاة سوى أنها شريفة ،أرجوك لا تعارض ،قم وارتد ثيابك وعندها نتناقش .
فقال مجدي بسرعة :
- وإن رفضت ؟‍‍‍‍‍‍!
فأجابه سالم بتحد :
- سأذهب وحدي ،وإن حدث شيء فأنت الملام ،يا مجدي أرجوك كف عن هذا النقاش .
أسقط في يد مجدي … لا يدري ماذا يفعل ! ‍‍‍إن وافقه على رأيه فهذا خطأ كبير ،وإن رفض سيذهب سالم بمفرده ،وعندها لن يستطيع أن يمنع كارثة قد تحل به ،ويبقى هو الملام ،ولم ينتبه مجدي من تساؤلاته إلا وسيارة الأجرة تشق طريقها به وبسالم إلى القرية العروس .جلس مجدي بجوار سائق السيارة مستنفراً كل قواه الجسدية تحسباً لأي محاولة من المحاولات التي طالما سمع عنها ،يندب حظه الذي وضعه في هذا الموقف الحرج .

وقفت السيارة أمام طريق ترابي ممتد أمام منزل قديم متهالك . سبقهم السائق إلى منزل ،ووقف سالم ومجدي ينظران من سيخرج لهم من المنزل ،خرج من الباب طفل في العاشرة ،قال له السائق كلمات في أذنه هرول بعدها الطفل إلى الداخل يجر جلبابه صارخاً بأعلى صوته :
- وصل العريس … العريس وصل .

وبدأت أصوات تخرج من داخل المنزل تصل إلى مسامعهم ، حركات كثيرة ،أرجل تدب هنا وهناك ،امرأة تحث زوجها على الإسراع لملاقاة العريس على الباب ،كأن الموضوع قد تم ،وأصبح سالم عريساً ،لمن ؟ لا أحد يدري .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
17/09/2009, 11:47 AM
الباحث عن الحنان ج16



دخل الثلاثة من الباب أمام العجوز الذي خرج مرحباً ،وساروا بين قطع الأثاث القديمة ،إلى صالة ضيقة بها بعض الكراسي الخشبية رصت أمام تلفزيون قديم ؛وجلس الأربعة بين أحاديث الترحاب ، وأطفال يدخلون عليهم ؛يتفرجون عليهم ،ثم يخرجون بسرعة ،فيسمع همسهم لمن هم خلف الباب يصفون لهم القادمين مع عمهم سائق سيارة الأجرة ،وسمع مجدي همهمة غريبة تصف العريس ،وسمع صوت امرأة تهمس بكلمات لمن معها :
-احمدي ربك يا ابنتي … إنه عريس نزل عليك من السماء ،احمدي الله أنه لم يكن ذاك الذي جاء معه يخطب له ،وترحمي على حظ تلك التي ابتليت به .
نظر مجدي حوله لا يدري ماذا يقول …‍!‍‍‍ ،التفت إلى سالم المشغول بالحديث ،هل من المعقول أن يكون قد سمع شيئاً ؟‍!

دخلت العروس بفنجان القهوة … متوسط القوام ،ملفوفة الشعر بشكل طفولي ،تمضغ لبانة ،وتلبس شيئاً ما يشبه بيجامة شتوية مغسولة حديثاً ،لا يبدو على وجهها أي أثر لأي انفعال ،تحمل صينية القهوة وتبدو عليها الحيرة لمن تقدمها أولاً ،ثم قررت … وقدمتها لوالدها ،ثم سائق سيارة الأجرة ،ثم قدمت القهوة إلى سالم … ثم باستحياء مفتعل … وبعد أن اختلست نظرة إلى الباب الذي تقف وراءه أمها قدمت القهوة إلى مجدي ،ثم وضعت الصينية على الطاولة ، وجلست على الأرض تراقب التلفزيون وظهرها ليس ببعيد عن قدمي مجدي ،وفجأة صاحت بأخيها الصغير الذي يلعب في الغرفة :
- أسكت يا عبد السلام ،لا تلعب بالأغراض ،لا تفضحنا أمام الغرباء.
وخرج الطفل مسرعاً وهرولت العروس خلفه .

نظر مجدي إلى سالم ،ووجد سالم ينظر إليه ،كانت نظراتهما تقول أين الباب ؟ … أين المفر ؟ … وشربا القهوة على عجل ثم استأذنا بالخـروج بعد أن ودعا العجوز ،وخـرج معهم السائق فرحاً مستبشراً واستفسر منهم ماذا سيقول للعجوز ،لم ينطق سالم بل كانت نظراته لمجدي تستغيث به فقال مجدي منقذاً للموقف :
- أيها الرجل المبارك ،الموضوع بحاجة إلى فترة من التفكير .

كان السائق يراقب نظرات سالم الرائعة المستنجدة ويبدو أنه فهم الموقف جيداً فتراجع إلى الخلف ودخل المنزل مرة ثانية ،كان يبدو من الخارج أن العجوز قد بدأ وجهه يتجهم والسائق يهمس له في إذنه .وتحرك ركب الثلاثة وارتفعت أصوات العتاب من الداخل ؛ عتاب العجوز للأم والبنت التي لا تريد أن تكبر ،لقد فهما من كلامه أن عمرها فوق العشرين .

لم يتكلم سالم في الطريق ،بل اكتفى بسحب دخان سيجارته بصمت ،واحترم مجدي رغبته ،واكتفى الاثنان بسماع السائق وهو يختلق الأعذار قائلاً :
- آسف أيها السادة ،فأنا أعرف العجوز فقط ،أما العائلة وخاصة البنت فهذه أول مرة أشاهدها فيها ،لكن أعدكم بأن أجد عروساً أفضل في المرة القادمة … هذا وعد .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 11:00 AM
الباحث عن الحنان ج17

دخل سالم ومجدي إلى منزلهما ،وبصوت بدت فيه آثار الهزيمة قال سالم :
- لا تقل أي كلمة ،فهذه سأرفضها أنا ،من غير المعقول أن أقترن بطفلة ،تبقى طوال عمرها طفلة ،إنها حقاً أكثر مني وزناً …
وابتسم سالم محفزاً مجدي على نسيان الموضوع ،وبادله مجدي الابتسام وهو يفكر بشيء واحد فقط ،فقد بدا واضحاً أن سالم لم ينتبه أن العائلة اعتقدت أنه هو العريس وليس سالم .

ومرت الأيام ،وبدت واضحة تلك الغمامة السوداء التي تلف عقل سالم … فهو فوضوي التصرف : أعقاب سجائره تلقى في كل مكان ،هندامه يختاره كيفما اتفق ،أعصابه تثور على الصبي الصغير الذي يحضر لهما الخبز بل وعلى كل طارق للباب ،ونظراته تلاحق كـل فتاة يراها في الحي وبالذات إلى بيضاء البشرة ذات الهندام البسيط ؛إنها ابنة حارس العمارة ،فإذا انتبه أن مجدي قد تنبه لنظراته كان يعيد كلماته القديمة بأنها أنسب الفتيات له .وأنه سينسى من هو أبوها وكان يردد :
- سأقتلعها من هذه البيئة … سأشتريها بمالي

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 11:17 AM
الباحث عن الحنان ج 18


مرة أخرى يجلس مجدي بجوار سائق سيارة الأجرة ،بينما يجلس سالم في المقعد الخلفي ،والوجهة … عروس أخرى اختارها السائق ،لكن لا يبدو أن هناك خوف من الفشل ،خصوصاً في نظرات وتصرفات سالم ،فقد زار العائلة بمفرده أولاً ودون أن يخبر مجدي بذلك ،ثم هاهو ذا يأخذه معه في زيارته الثانية ،إنه واثق من تحركاته هذه المرة ،يتضح ذلك من نظراته وابتسامته الغريبة التي تلوح علي شفتيه ،لقد وعدهم بزيارة مع زميله ،أنه مجدي الذي أضاع جل وقته مع هذه القصة التي يراها سخيفة ؛قصة البحث عن عروس .أما سالم فإنه يريدها بشدة هذه المرة وكلماته مازالت ترن في أذن مجدي :
- مجدي … اذهب معي لقد أعجبتني الفتاة وأنا موافق عليها …اذهب معي فـلا أحد لي هنا سواك … اذهب معي وراقبها … هل سلوكها قويم ؟… أم ستحملني عاراً وفضيحة ،أرجوك فأنا لا أريد شماتة أخرى من أهلي .

وصلت السيارة إلى شارع مليء بالحفر ،وسائق السيارة طرب مع أغنية للسيدة أم كلثوم يرددها معها بصوت أجش ؛ولو كانت أم كلثوم سمعتها منه ،لخنقت نفسها ،خصوصاً مع هذه الموسيقى التصويرية من السيارة التي تهتز فوق الحفر والمطبات .وقفت السيارة أمام حفرة عميقة حولها تلال من الرمال ،تبعث منها روائح كريهة . ومشى الجميع على أقـدامهم على حافة هذه الحفرة حتى قطعوا الطريق ،ثم ساروا بجوار حفريات ممتدة على طول الشارع الضيق ، وعلى الجانبين بيوت أغلب بنائها من الخشب القديم .والسائق يتقدمهم ويلعن الذين حفروا هذا الطريق المسمى خطأ "شارع الخلود" ،ومنذ فترة طويلة وهم يتلقون وعوداً متكررة لردم هذه الحفرة وشق الطريق من جديد بصورة أفضل لكنهم لا ردموا الحفر ،ولا شقوا الطريق ، ويبدوا أن العمال قد فروا من هذه الروائح المنبعثة من الشارع ،كان يبدو واضحاً من كلام السائق أنه يسكن قرب المنزل .وسار سالم يتبع السائق ،ومجدي يسير خلفهم ،تارة يدوس على رمال نصفها ماء وتارة تتعثر قدماه مصادفة على أرض حجرية يقفز منها إلى أخرى تفادياً للماء المتجمع بينها …

وقف الركب أمام أحد المنازل ،صفق السائق ونادى على أهل المنزل :
- أبو عـادل … وصل الضيوف … يا ساتر … تفضلوا أيها السادة … تفضل أيها العريس … عقبالك يا أستاذ مجدي .
ابتسم مجدي لهذه الطريقة اللطيفة التي يعلم بها السائق أهل الدار بعدد الضيوف وأسمائهم .

وخرج أبو عادل … رجل في الخمسين ،حفرت أيام الدهر على وجهه بأصابع من شقاء وتعب ،حفر ومطبات ،كالتي في الشارع الخارجي .يلبس بنطالاً قديماً وقميصاً …يبدو أنه قميص بيجامة ، استقبلهم مرحباً وسار أمامهم في ممر الدار ،وقبل أن يتجه إلى اليمين صاح بأعلى صوته وهو ينظر إلى يساره :
- أبو عيسى … تفضل لدينا زوار .
عائلتان في منزل واحد … عائلة أبو عيسى وعائلة أو عادل .أدخلهم أبو عادل في غرفة ضيقة فيها سرير خشبي يرقد عليه طفل في الثانية من عمره ،تغطي وجهه طبقة كبيرة من الذباب الذي يعبث في منخاريه وجوانب فمه باحثاً عن فتات طعام ،والطفل ساكن في هدوء كمن تعود على هذا الشيء .جلس سالم ومجدي على ما قدم لهم من أشباه كراسي ،أمامهم خزانة كبيرة يتضح من معالمها أنها صناعة منزلية تغطيها قطعة قماش لا يعرف لها لون محدد .

رحب بهم صاحب الدار بترحاب أهل البلد الذين لم تدنس أفكارهـم مـدنية مزيفة ،ودخـلت عليهم أم عـادل مرحبة ،وتبعها أبو عيسى وزوجته ،ومن خلفهم عادل ابن الخامسة عشر ربيعاً ،وبقى الأطفال يلعبون ويمرحون بالساحة ،ويطلبون علبة الحلوى التي أحضرها سالم ومجدي معهم .جلست أم عادل بجوار زوجها ،يثقل على قلبها جسد منفوخ مترهل ،بلباسها الأسود الطويل الذي ظهرت عليه آثار المياه وكأنها انتهت من توها من الغسيل والتنظيف ،وجسدها الضخم يكاد يبتلع زوجها الجالس بجوارها ،ترحب بالضيوف تارة وتصرخ على الأطفال تارة أخرى لتبعدهم عن صندوق الحلوى الذي يلهون به .وازدادت كلمات الترحيب بدخول عبد الله شقيق أبو عادل ، إنه رجل في مقتبل العمر كثيف الشعر ذو شوارب ضخمة ،وتبدو عليه آثار نعمة أكثر من أخيه بجسده المفتول وضحكاته التي تهز المكان . سلم عبد الله على الموجودين ثم أمسك سالم معانقاً بالأحضان حتى اختفى سالم بين أحضانه ،ثم جلس بجوار مجدي يربت بشدة على فخذه مرحباً :
- أهلاً بالشباب شرفتمونا ،أين الشاي يا أم عادل ،لم أعهد بكم البخل هكذا .
اعتذرت أم عادل عن تأخر الشاي وجعلته عذراً لتخرج بسرعة ، وخطفت علبة الحلوى من يد الأطفال ،ثم اختفت فترة لتعود بنفس الحلويات بأطباق للضيوف .دخلت ماجدة باستحياء … حول العشرين من العمر ،متوسط الطول ،متوسط الحجم ،يشع من عينيها خجل وخوف بدون افتعال ،هندامها متوسط بدون مبالغة وألوانه غير متناسقة لكن بدون نفور ،سلمت على الجماعة ثم وجلست بعيداً عن الجميع بدون أن تتكلم ؛عيناها شاردتان ،تفكر في كلام أمها في الأمس بعد أن رأت هذا الرجل الذي جاءها من بلد غير بلدها ،جاءها طالباً يدها ،اعتبرته أمها الفارس المنقذ من وحش الفقر المفترس ،تذكرت كلام أمها :
-انتبهي يا قرة عيني ،أمل كل أم أن ترى ابنتها في بيت زوجها سعيدة مرتاحة ،هانئة البال ،ولكن يا ابنتي انظري لحال والدك … إن قروشه القليلة لم تعد تكفي لإطعام اخوتك ،عدا عن الكساء والتعليم ،إن هذا العـريس يا ابنتي ذو مـركز في بلده !! .إنه يعمل مدرس كما قال لنا !! ،معه المال الذي يثبت مركزه الاجتماعي وهو مستعد لتقديم كل شيء لنا ،ولا يريد إلا ابنة الحلال .سيأخذك إلى بلده ،وقد يأخذ والدك معه ،وأيضاً أخاك ،وقد نذهب كلنا ،تخيلي ارتفاع مستوانا ،قد نشتري أرضاً ،ومن يدري فقد نبني منزلاً في تلك الأماكن التي نسمع عنها ، ونحن الذين لا نأمل الآن سوى بتخفيض إيجار هذا المنزل المتهالك في هذه المنطقة المتهالكة ،تزوجيه يا ابنتي ،فإن لم ترتاحي معه انفصلي عنه ،وتكوني ،بل ونكون جميعاً ،الرابحين من هذا الموضوع

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 11:18 AM
الباحث عن الحنان ج 19


انتبهت ماجدة من خيالها على منظر العريس يخاطبهاً سائلاً عن رأيها صراحة بالزواج منه ؟! ،نظرت إليه ولم تجب ،بل عادت إلى خيالها ،هذه المرة تخاطب نفسها وهي تنظر إلى أمها :
- لكن يا أمي … أحلام الطفولة ؟! الصحاب الذين عايشتهم وعاشرتهم … عرفتهم وعرفوني … الدراسة … الأمل … ما يدريك أنه حتى الفرحة بالأمل قد لا أجدها مع هذا …!! ،أأترك كل حياتي من أجل … المال … أتبيعونني ؟! .
أفاقت ماجدة من خيالها هذه المرة على صوت أبو عيسى :
- ابنتي … الأستاذ سالم ينتظر الرد منك ،وعلى لسانك … إما الرفض أو القبول .
نظرت ماجدة إلى أمها … بعيونها التي تتوسل … وإلى والدها الذي أنزل بصره إلى الأرض … وإلى أخيها النائم على السرير الوحيد في المنزل … وإلى سالم … وهزت رأسها بالإيجاب .

انفض الجميع من حول ماجدة وسالم ومجدي متعللين ببعض الأشغال … نظر سالم إلى صديقه ووخزه حاثاً إياه أن يتكلم ،ومشيراً إلى ماجدة التي كانت زائغة البصر … تنظر تارة إلى الأرض … وتارة إلى الشباك … إلى الشارع المجاور … تنظر إلى بعض الشباب الذين يلهون بالكرة ،وفي زاوية الشارع البعيدة يقف شاب صامت لا يشارك أقرانه اللعب ولا يتكلم معهم … شارداً نحو منزل أبو عادل بنظرات حزن غريبة .
تكلم مجدي لأول مرة في هذا المجلس موجهاً حديثه إلى العروس :
- يا آنسة ماجدة أنت تعلمين لماذا نحن هنا ،ولقد سمعت رأيك منذ قليل لكن اسمعي كـلامي جيداً ،أنا أعرف الوضع العام الذي تعيشون
فيه ،إن كان هناك أي ضغط عليك من أي جانب قولي وأنا أتكفل بفض هذا الموضوع بأكمله .
وتقدم منها سالم وجلس بجوارها وقال متمماً كلام مجدي :
-اسمعي يا آنسة ماجدة ،لأول مرة سأنزع نظارتي لتريني على حقيقتي … إن لي عيناً لا ترى ،هذا هو شكلي الذي أخفيه خلف النظارة فإن رغبت بالرفض ،ارفضي .
ولكن الفتاة كانت صامتة لا تجاوب ،ولم تشعر بما يدور حولها ،لم تشعر إلا ويد سالم تمتد إليها تداعب جسدها ،انتفضت بسرعة وبقوة وقالت بعصبية ظاهرة وهي واقفة ترتجف :
- ماذا تريدون أن تسمعوا ،لقد قلت رأيي ،أنا موافقة ولم أتلق ضغطاً من أحد ،أنا موافقة ،اسمحوا لي .
وخرجت ماجدة من الغرفة مسرعة ،وفي عينيها دمعة لم يلحظها أحد وتلقتها أمها في الخارج تقبلها وتبارك لها وتدعوا الله أن يحفظها لأنها سترتهم جميعاً .
وانتشرت الزغاريد في المنزل وانهالت التبريكات من الجارات اللواتي وقفن على شبابيك بيوتهن ينتظرن سماع الأخبار ،وتوقف لعب الشباب في الشارع وبدأوا يتجمعون ويتناقلون الأخبار ،والشاب الصامت لا يشاركهم في هذا كله ،وإنما بدت عليه العصبية في رفضه مخالطة رفاقه في ما يتناقلونه من أخبار وضرب حجراً برجله في عصبية وأدار ظهره .

خرج الركب من البيت وعلى زاوية وقف مجدي ممسكاً بيد سالم وقال معاتباً :
- ماذا فعلت بالفتاة ؟ ،لماذا تلك الحركة التي فعلتها ؟ هل كان لابد أن تمد يدك إلى جسدها ؟ .
قال سالم بنوع من الافتخار :
- أردت اختبارها ،ما عليك … المهم ما رأيك بها ؟ .
أجاب مجدي وهما يهمان بالخروج :
- لا أدري يا سالم ،إن الفتاة يبدو أن لا غبار على أخلاقها وذلك واضح من ردة فعلها لتصرفك المفاجئ ،ومن حقيقة أهلها ،إنما على ذكر التصرفات … هل صحيح أنك أخبرتهم بأنك مدرس ؟
وبسـرعة ضغط سـالم على يد مجدي لكي يصمت واستدار ليودع أبو عادل ،وخرج سالم ومجدي والسائق .

انتهى سالم إلى الموافقة على هذه الفتاة وأصر عليها ،وقام السائق بحمل خبر الموافقة إلى والد العروس ،وتم تحديد موعد غداء في منزل أبو عادل لتحديد موعد للخطبة والإجراءات النهائية للزواج . كانت أمارات الفرح تبدو واضحة على تصرفات سالم ،كان يشعر بلحظات الزهو والانتصار كأنه قهر جباراً ،ونال فوزاً عظيماً .
وفي الناحية الأخرى كان منزل أبو عادل مليئاً بالحركة استعداداً للأيام القادمة ،الكل في انشغال ،حتى ماجدة كانت هي الأخرى مشغولة ،لقد أصبحت كثيرة الشرود … تفكر بالمستقبل المجهـول ،والماضي الضائع … كانت دموعها على طرف خدها دائماً ،وكانت تحملق كثيراً في منزلها المتواضع واخوتها الصغار … وفي أمها وأبيها … وفي الشارع .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 11:19 AM
الباحث عن الحنان ج 20
في الموعد المحدد للغداء ،تعالت الزغاريد في منزل أبو عادل استقبالاً للضيوف الذين قطعوا الطريق الممل المليء بالحفر إلى منزلهم .جلس الجميع في الغرفة ،أما ماجدة فقد انزوت في ركن من الغرفة لا تدرى ماذا تفعل .وحضر العم عبد الله مهللاً مرحباً كعادته ، كثير الصياح ،وجلس يدير دفة الحديث ،ولم يكن غيره يتكلم تقريباً . وكـان مجدي يراقب الوضع من مكانه الذي يشرف على ساحة المنزل .أما أم عادل فقد كانت تلهث بين الغرف لتحضير الطعام ،تارة تصيح على عادل ليعجل بإحضار الصحون وتارة تستنجد بجارتها لتساعدها .وسالم يجلس في صدر الغرفة في زهو هارون الرشيد كما تصوره بعض الحكايات ،يشعر أن الكل يحوم حوله ،وفجأة صـاح عبد الله بصوت أيقظ الجميع من غفوتهم :
- تفضلوا أيها الضيوف عندي في المنزل لتشربوا بعض المرطبات حتى نتيح الفرصة لأم عادل لتحضير الغداء على راحتها .
ثم سحب سالماً ومجدي قسراً .فخرجوا ومعهم السـائق إلى منـزل عبد الله الذي شعر بالجوع ،فقد تأخر الغداء .وأكل الجميع في منزل عبد الله ،أكلوا حتى شبعوا ونسوا عزومة أبو عادل ،ولم ينتبهوا إلا وعادل يدعوهم للغداء .
أسقط في يد سالم ومجدي فقد امتلأت بطونهم بالفول والخضار والفاكهة ولم يـعد هناك متسع ،وهموا بأن يفضحوا فعلة عبد الله لكنه بادرهم بالقول :
- هيا أيها الشباب لا يرد الكريم إلا البخيل .
التف الجميع حول الطعام ينظرون إليه ،لكن سالم ومجدي لم تكن لديهما المقدرة أن يأكلوا شيئاً ،فاكتفى الصديقان باللهو بالطعام بالمـلاعق متظاهرين أنهما يأكلان .أما عبد الله فلم يكن لديه حد للشبع ،إنه يلتهم الطعام كمن حرم منه أياما .لم يكن هناك حل أمام سالم ومجدي إلا أن يدسا بعض الطعام واللحم لعبد الله الذي لم ينتبه أن طعامه لا ينقص أبداً .وحمد الصديقان الله أن الجميع مشغول بالطعام ولم ينتبهوا لما يفعلانه ؛حتى ماجدة التي بدا أن الطريق بين يدها وفمها طويل ،وكأن يدها تمر بشوارع البلدة كلها قبل أن تصل لفمها .

انفض المجلس من حول الطعام الذي لم يبق منه في الأطباق سوى أقل القليل ،لقد كانت إحدى المناسبات القليلة التي يطبخ بها طعام بهذه الكمية ،وهذه النوعية ؛كيف لا وقد شاركت في إعداده الكثير من الجارات ؛إما بالإعداد أو بالمشاركة العينية من مواد أولية ؛حتى اللحم كان من مشاركات الجيران ،فلماذا لا يلتهم الجميع الطعام ،فمن يدري متى تكون المناسبة القادمة ؟‍

حول صينية الشاي بدأت مناقشات الزواج وخطواته .وكان لابد من مدير لدفة الحديث ،وطبعاً لا يوجد سوى العم عبد الله ،لقد طلب لابنة أخيه مهراُ كبيراً كنوع من الضمان ،كان متأكداً بأن هذا المهـر سيختصر ولكن حتى لو تم اختصاره فهو بالنسبة لهم مبلغ كبير .ولكن ولشدة دهشة الجميع وافق سالم دون مناقشة ،مما أذهل عبد الله وتمني لو أنه قال رقماً أعلى من ذلك ولكن عندما تذكر مبلغ الألف التي اشترطها ،وجدها مبلغاً كبيراً جداً لو اجتمعت العائلة وأقرباؤها ليعدوه لتاهوا بين الأرقام .خرج عبد الله من وعيه صائحاً فرحاً :
- الله أكبر ،بارك الله فيك ،مبروك يا أخي … مبروك يا ماجدة … زغردي يا أم عادل .
ووسط الزغاريد بدأ سالم يتكلم :
- الخطبة يوم الاثنين ،والخميس الذي يليه يكون الزواج بإذن الله ، فأنا مستعجل … ما رأيكم ؟ ما رأيك يا ماجدة ؟! .
أجفلت ماجدة ، فهذه أول مرة يناديها باسمها ،لقد بدأ سالم يستخدم حقوقه كزوج .لم تعترض ماجدة فهي لا يهمها شيء ؛لا الاستعداد للزواج ولا ترتيباته .وتدخلت أم ماجدة في الكلام نيابة عن ابنتها ومعترضة ،كالعادة ،على الموعد فهو قريب جداً ،وهي بحاجة إلى ترتيبات … وأمور … وأمور … والمبلغ الكبير الذي سيصل ليديها بحاجة لسنوات لتعرف كيف تنفقه ،لكن سالم كان يخشى من التأخير ، فهو يريد أن ينهي الموضوع بأكمله في أسرع وقت قبل أن يحدث أي شيء يقف في طريق هذا الزواج .وبدأ سالم يختلق الأعذار للإسراع في إنهاء الزواج ،وكان عذره الأقوى أنه ملتزم بمواعيد العمل ولا يستطيع التأخير .وعندما احتجت أم عادل بالوقت الذي يحتاجه تفصيل ثوب العروس سارع سالم وقال :
- سأشتري الثوب لماجدة جاهزاً ولا أريده تفصيلاً ،ومن الغد إن شاء الله نبدأ في شراء الحاجيات واللوازم .

كان مجدي يستمع للحديث وقد اتسعت حدقتاه ذهولاً ،فعند ذكر المال تترنح كل الاعتراضات ،لقد وافق الجميع على كل شيء دون إي اعتراض ،حتى اعتراضات أم العروس التي اتسمت بالبداية بطابع الصرامة والجدية ،تهاوت أمام الحلول التي ساقها سالم … وأمام كلماته المعسولة .لقد عاد عقله يعمل كجهاز الحاسب الآلي ،فما أن تذكر أمامه أي مشكلة حتى يجد الحل الأمثل لها ؛حتى عندما تطرق عبد الله لموضوع الشقة وأين سيسكن العروسان حتى موعد السفر النهائي قال سالم :
- هذه من مهام الأخ مجدي ، فهو الذي سيحجز لنا شقة خاصة خلال الفترة القادمة .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 11:21 AM
الباحث عن الحنان ج 21
لم يسأل أحد مجدي عن رأيه ،حتى سالم لم يستشر مجدي من قبل .وضاع كل شيء وسط التبريكات والتهاني لسالم .ونسى الجميع أمر مجدي ،بل لم يتذكروه أصلا ؛أما هو فقد بقى جالساً مكانه ،يكتم غضبه الذي بدا واضحا على تصرفاته وفي عينيه .لم يلحظه أحد ، سوى سالم الذي استرق نظرة خاطفة لصديقه ،كأنه يريد أن يرى ردة فعله ؛وظهرت على شفتيه ابتسامة باهتة .

في منزل مجدي دار نقاش حاد بين الصديقين بدأه مجدي :
- ما هذه الطريقة في التعامل ؟ لماذا كل هذه الطرق المتلوية ؛أولاً تكذب عليهم وتخبرهم أنك مدرس ،ثم هذا المبلغ الذي وافقت عليه ،ثم حكاية الشقة ،من قال لك أنني سمسار شقق ؟ .
قال سالم :
- ردي علي أسئلتك لن يكون بمثل عصبيتك ،فأوله وثانيها أمر لا يهمك ،فكوني مدرس من عدمه لن يغير من الموضوع شيئاً ،إنه فقط لرفع قدري أمامهم ،وأنا أعتبر هذا من الأشياء المهمة في بداية الحياة أما عن المبلغ الذي تقول ،أنسيت أنني في بلادي لا أستطيع بهذا المبلغ أن أشتري ذهباً للعروس ،إن الآسيوية التي هربت كلفني سفرها أكثر من هذه الألف .أكمل جميلك معي وأبحث لي عن شقة ،ومن الأفضل أن تكون هنا في هذه العمارة ،لقد علمت أن الشقة المجاورة فارغة .
لقد كانت ردوده ببرود وسرعة لم تتح الفرصة لمجدي أن يعترض ، وأكمل سالم كلامه وهو يهم بمغادرة الغرفة :
- ثم أرجو أن تنتبه لأمر هام ، هذه البنت ستصبح زوجتي ،أي زوجة صاحبك ،فخفف من نظراتك إليها في المستقبل .
وخـرج سالم من الغرفة تاركاً مجدي في ذهول من هذه القنبلة الأخيرة ،ماذا يقصد بها ؟ هل هو يعنيها حقاً ؟ أم خرجت منه هكذا ؟.

دخل سالم غرفته وجلس في ظلمتها يفكر مع نفسه … ترى ماذا يدور في رأس مجدي ؟لماذا هو ينظر هكذا إلى ماجدة ؟ … هل ينوي خطف هذه البنت منه ؟ … هل هي الغيرة من نجاح سالم في هذا الموضوع كما كان يتفوق عليهم في السابق ؟ … لقد رأى إمارات الهزيمة والانفعال واضحة عليه في آخر زيارة لهم لمنزل العروس ، فهل ينوي ممارسة هوايته في تحطيم سالم ؟ إن مجدي كشخصية مفضل عليه لو تقدم لماجدة ،فهو أفضل منه مستقبلاً ،والأهم أفضل منه شكلاً .وأدار سالم في عقله كلمات بأنه من المستحيل أن يسمح لمجدي هذه الفرصة …
- يجب أن أفوت عليه هذه الفرصة … يجب أن أفوز .
وغرق في ظلام ونام وسيجارته في يده مشتعلة .

**

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 11:22 AM
الباحث عن الحنان ج 22


رفضت أم عادل أن تقيس ماجدة السـوار الذي اشتراه لها سالم .لقد اعتبرته من الفأل السيئ أن تلبس العـروس السوار ثم تخلعه ،وتكفلت هي بتقدير حجم السوار والخاتم ،ودفع سالم النقود . لقد كانت جولة شاقة لسالم في السوق بين الفساتين والأحذية ومختلف الأغراض التي تم شراؤها للعروس والأم والأب والأخوة .وكان لابد من الراحة بعد هذا المجهود … صحبهم سالم إلى مطعم ليرتاحوا ويتناولوا طعام الغداء .ودخلت ماجدة وأمها مع سالم إلى ذلك المكان الذي لم يدخلوه في حياتهم ،بل ولم يحلموا أن يدخلوه .

كان مجدي في المساء في استقبال سالم والقلق بادياً عليه ، فلقد خرج سالم صباحاً دون أن يخبر مجدي الذي أستيقظ من نومه فلم يجد صديقه في المنزل ،بل ولم يجد أي علامة تدله إلى أين ذهب ، ومتى سيعود ،لقد خشي عليه من المدينة … خشي أن يكون قد ضل طريقه بها ،فالمدينة الكبيرة غريبة على سالم ،وسالم غريب عنها ، ولم يهدأ بال مجدي حتى عرف حقيقة هذا الغياب ،عرف أن سالم أشترى لعروسه الذهب المطلوب ،لكنه لم يعرف لماذا أصر سالم على
الذهاب منفرداً دون أن يصطحبه معه كالعادة .

قال سالم مطمئنا صديقه :
- لا عليك يا صديقي ،لا تقلق ،لقد أصبحت أعرف هذه المدينة بحث أستطيع أن أتدبر أمري ،أجلس لأحدثك عما جرى ،إنه فيلم سينمائي ، لقد ابتاعوا ما يريدون من أقمشة وأحذية ،لقد كانت الأم تعترض على كل شيء ؛فكل شيء تراه غالي الثمن ،حتى عندما دخلنا لنأكل كانت كمن يدخل أفخم القصور لأول مرة .
قال مجدي :
- هذا شيء طبيعي ومتوقع فمستواهم المادي لا يخفي عليك .
رد سالم ضاحكاً :
- لكن يا عزيزي أن تضع ما تبقى من أرز ولحم في حقيبة يدها فهذا هو الشيء الغريب .
وبين ضحكاته قال مجدي :
- ماذا … ؟! الأكل … قي حقيبتها .
- أجل … وضعت ما تبقى من أرز ولحم في حقيبة يدها ولو كان باستطاعتها لو ضعت المرق أيضاً .

وغرق الصديقان في الضحك وهما يتخيلان أم العروس تدس ما تبقى من طعام خلسة في حقيبة يدها الجديدة التي اشتراها لها سالم مع ما اشتراه من حاجيات للعروس ،تخيلاها وهي تتمتم بعبارات اللعنة على أصحاب هذا المطعم الذين يسرقون الأموال بتقديم هذه الأطعمة . وكأنها حين تأخذ ما تبقى من طعام تنتقم منهم على هذه فعلتهم .وقطع مجدي سلسلة الضحكات وهو يقول لصديقه :
- هل أنفقت كثيراً من النقود في هذا اليوم ؟! لا تنسى أن ميزانيتك محدودة ،وما زال أمامك الكثير .

فرد سالم :
- لا عليك ،المهم ماذا فعلت أنت في موضوع الشقة ؟.
قال مجدي :
- استأجرت لك الشقة المجاورة لي .
صمت سالم فجأة وبدأت تظهر عليه أمارات غريبة ،وهم بالكلام ، لكنه تراجع حين تذكر أن هذه الشقة هي من اختياره أصلاً .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 11:23 AM
الباحث عن الحنان ج 23


في يوم الاثنين ،اليوم المحدد لقراءة الفاتحة وإتمام الخطوبة رسمياً ،اشترى مجدي بعض الزهور والحلوى وذهب مع سالم ،لقد أصبح سالم خبيراً بمكان البيت ،فقد حضر كثيراً إلى هذا المنزل .

دخل سالم متقدماً وسط الزغاريد ،ثم تبعه مجدي ،مروا بين عدد من السيدات اللاتي جلسن هنا وهناك في بهو المنزل ،بينما توزع حشد من الأطفال في البهو ليتفرجوا .ودخلوا الغرفة … سالم في المقدمة ثم مجدي محملاً بالزهور والحلوى التي سرعان ما طارت من يديه ،لا يدري من اختطفها !ولا إلى أين ذهبت … ؟! ،لم يجد مجدي له في المكان متسع إلا في طرف الغرفة … وفي صدر الغرفة كان سالم ، وبجواره أبو عادل وشقيقه اللذان كانا في لباس جديد يبدو أنه قد تم شراؤه حديثاً ،أما الغرفة فقد بدا عليها بعض من بركات سالم ؛فهنا قطعة قماش وضعت كستار يحجب الخزانة ،وهناك مفرش جديد وضع على السرير ،وآخر على الكرسي الطويل .
ووسط التبريكات صاح عبد الله :
- الفاتحة يا شباب .
ورفع الجميع أيديهم وقرأوا الفاتحة ،وهدأ الجميع في الخارج ،وما أن رأوا الرجال قد بدؤوا بمسح وجوههم بأيديهم إيذاناً بانتهاء قراءة الفاتحة حتى انطلقت الزغاريد من كل ناحية ،وبدأت معزوفة من الأغاني الشعبية والرقصات في تجمع النساء اللواتي كن ينتظرن هذه اللحظة في الخارج ،ولم يكن الوضع في الداخل بأقل من الوضع في الخارج … التبريكات والقبلات انهالت على سالم من كل الموجودين في الغرفة … من رجال رآهم من قبل أو لم يرهم … يعرفهم أو لا يعرفهم .

وحان موعد تلبيس الذهب للعروس ،دخلت أم عادل وبيدها ابنتها العروس بلباسها الزاهي الجديد لتجلسها بجوار سالم ،وما أن دخلت العروس حتى بدأ سالم يسترق النظر إلى الزاوية البعيدة التي يجلس فيها مجدي ،ووقعت نظرات مجدي على سالم ، وخطر في بال مجدي فوراً جملة سالم أن يكف عن التحديق بماجدة ،فأبعد نظره بعيداً.

مر الخاتم بإصبع ماجدة بسهولة ،لكن السوار امتنع عن الدخول ،اصفر وجه الأم ورفضت أن تسحب السوار بل أصرت على حشره بيد ماجدة ،ثم هبت واقفة وهرولت للخارج لتعود والصابون يعلو يدها ،مسحت يد ابنتها بالصابون وأجبرت السوار على الدخول بيد العروس رُغماً ،وهكذا كسر الشر الذي اعتقدت أم عادل أنه يحوم حول العروسان ،وعادت الزغاريد تعلو من جديد ،والرقصات والأغاني في الخارج ،ومرة أخرى أيضاً هب الرجال معانقين العريس ووالد العروس ،وبعضهم البعض ،حتى أصبح الناظر إليهم لا يدري من يبارك لمن !! .

ودخلت صينية الشراب ،افتتحها سالم الذي شرب الكأس بجرعة واحدة ،ثم ماجدة التي لم تستطع أن تكمل الجرعة الأولى ؛ثم استأذنت وخرجت .لم يهتم أحد من الجالسين لخروج العروس ،أو كيف خرجت ،ولم ينتبه أحد للعلامات التي ظهرت على وجهها . واشغل الرجال بشرب العصير ،بينما انشغلت النساء بإكمال الأغاني والرقصات ،واستمر الحفل فترة ليست بقصيرة ،وقبل أن ينفض الجمع جاءت اللحظة الحاسمة ،تحديد الموعد الذي سيتلاقى فيه الطرفان في المحكمة لعقد القران .

وكان الاتفاق …وكان الموعد الذي سيتم فيه إنهاء الموضوع بشكل رسمي … إنها اللحظة الحاسمة التي يجب أن يتصرف فيها سالم بلباقة وذكاء ،فهو سيدفع المهر … وأمواله قد قاربت على النهاية ولن يستطيع دفع المبلغ … وانزوى سالم بوالد العروس وهمس بأذنه بأن المال الذي كان ينتظر وصوله من بلده قد تأخر بالوصول وإنه في يوم عقد القران سيدفع نصف المبلغ فقط ،على وعد أن يقدم المتبقي حال وصوله … كان يتحتم عليه خلق مثل هذا العذر مع أنه يعلم بأنه لا مال سيصل إليه ،ولأنه كان واثقاً بأن الأب لن يتراجع عن موقفه بعد أن وصل الأمر إلى ما وصل إليه ،وفعلاً لم يعترض أبو عادل ، ولماذا سيعترض …؟! إن هذا النصف بالنسبة له مبلغ كبير ،بل كبير جداً ،ثم يكفيه ما أنفقه سالم من مال حتى هذه اللحظة ، لقد اشترى للجميع ملابس وهدايا غمرتهم جميعاً حتى نسوا ابنتهم في وسط الذهول والفرح .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 11:24 AM
الباحث عن الحنان ج 24

تلاقى الجميع في اليوم المحدد لعقد القران ،وتمت الأمور برتابة ،وأصبحت ماجدة رسمياً زوجة لسالم ؛ساعتها خرجت دموع ماجدة رغماً عنها .لاحظ القاضي ذلك وخاطبها صراحة ،أخبرها أن هذا الموضوع على درجة من الأهمية والخطورة فإن كانت مرغمة على هذا الزواج بإمكانها أن ترفض وتعترض ،ولكنها بعد أن نظرت لوالدتها التي كانت تتلمس ثوبها الجديد ،ومنظر والدها بلباس العمل وهـو يضم بيده المـال الذي استلمه من سالم ؛ودون أن تنظر للعريس … وافقت ،وتم كل شيء كما رسمه سالم وأم عادل وأبو عادل … والفلوس .

في ذلك الوقت كان مجدي منهمكاً في إعداد منزل العريس ، لقد أحضر بعض الورود وبطاقات التهنئة ووزعها في المنزل .كان البيت يلاصق بيته ،حتى أن الحمام والمطبخ متجاورين بشكل كبير ولا يفصلهما إلا ممر تهوية ضيق ،رتب مجدي البيت ثم جلس ينتظر موكب العرس ،لقد كان ذلك حسب رغبة سالم ؛أو بالأحرى حسب تعليمات سالم ،حيث أصر على مجدي أن يبقى ينتظر في البيت ولا يحضر إلى حفلة العرس .لقد بات واضحاً أن سالم لم يعد يستسيغ وجود صديقه في ما تبقى من أمور ،لقد استغنى عنه وعن خدماته . فهو من ناحية لا يريد أن يقارَنَ بمجدي بأية صورة من الصور ،ومن ناحية أخرى لا يريد أن يُقرَن - خاصة في هذا الزواج- بأحد ، وخاصة مجدي زميل الصبا ، مع أنه بقرارة نفسه يعرف تماماً ماذا فعل مجدي معه لإتمام هذا الزواج ،فحتى نقود المهر أتمها منه ومن أصحابه .ولكن الأمر الأهم هو أن الشكوك بدأت تغزو قلبه من ناحية صديقه … !! .

جـلس مجدي ينتظر موكب العروس ،لا يعلم ما يخبئه له القدر .وهناك في الطرف الآخر من المدينة جلس العريس في البيت القديم فرحاً بنفسه وسط أهل العروس ،ولم لا .. ؟! ،فهذا يومه … يوم زفافه على الفتاة التي اختارها ،يعرف أهلها جيداً ،فلن تستطيع الهرب منه ،وجواز سفرها الذي استخرجته في جيبه ،وهو لن يسلمه لها أبداً .

لم يختلف الأمر كثيراً في يوم الزفاف عن يوم الخطبة ،نفس التشكيلة من الوجوه داخل الغرفة وخارجها .وفي الغرفة الثانية من المنزل كانت صديقة ماجدة تمشطها وتساعدها في ارتداء ثوب الزفاف وتحاول أن تهدئ من روعها ؛تمسح عن خدودها الدموع التي بدأت تغزوها ،وتطلب منها أن تتقبل الواقع كما هو ،فقد انتهى وقت الاعتراض ،وترجوها أن تنسى الماضي ، بكل ما فيه .وبين دموعها قالت ماجدة :
- لكن يا صديقي هل تستطيعين أنت نسيان الماضي ؟ كيف تريدينني أن أنسى سنوات عمري ،كيف تريديني أن أنسى …
قطع عليهم الحديث دخول أم العروس تستعجل ماجدة ،فقد وصل العريس وأكتمل تقريباً وصول المدعوين ،ولمحت الأم دموع ابنتها فأقبلت عليها تضمها إلى صدرها ،وقالت بصوت فيه بحة واضحة :
- لا يا ابنتي ،لا تفضحينا ،دعي الأمور تمر بسلام هذا اليوم ، ارحمي أباك … وارحميني .

وخرجت الأم وهي تغالب دموعها وبقيت ماجدة مع صديقتها في الغرفة ،ثم جرت ثوب زفافها الأبيض الطويل ووقفت تنظر من خلال فتحات شباك غرفتها المقفل … كأنها كانت تريد أن ترى شيئاً ، ورغم الصخب الكبير الذي يلف الحي فقد كان كل شيء بنظرها ميت.
ابتدأ موكب الزفاف الذي سينقلهم إلى شقة العريس ،كانت السيارات تشارك الطبول والزغاريد بعزفها المميز وهي تغادر الحي القديم ،صوب الحي الراقي بعماراته الشاهقة ومنازله الجميلة وشـوارعه النظيفة .ودعت ماجدة بنظراتها حيها الذي ولدت وشبت فيه ،ودعته وودعت الماضي ..

وصل الركب إلى منزل العريس ،وكان مجدي باستقباله بكل ترحاب وتباريك .وقادهم عبر المصعد إلى باب الشقة وفتحه لهم ،ثم دخل خلفهم ليبارك للعروسين … لكن سالم وقف أمامه بطريقة عدوانية لم يعهدها منه من قبل ،صده عند الباب وودعه بجفاء :
- أشكرك كثيراً تصبح على خير ،أعطني المفتاح .

خرج مجدي لا يدري ما الذي حدث لصاحبه .لم يدر بخلده أن صاحبه يعاني من سكرات غيرة جعلته يصد صاحبه ويقفل الباب خلفه بطريقة غير مقبولة ؛خصوصاً في مثل هذه المناسبات .وعاد مجدي إلى بيته الذي لا يبعد عن باب شقة العريس سوى أقل من مترين ، وأقفل على نفسه باب منزله وغير هندامه واستعد لكي ينام ،بعد أن يقرأ قليلاً .

أما سـالم فقد نسى ما فعله بصاحبه .وعاد يشعر بزهو المنتصر ،فقد حقق ما أراد ،وهاهو يتلقى التهاني من أهل عروسه ، ويشرب معهم شراب الأفراح البارد الذي جهزه مجدي .وبدأ الجمع يتناقص ،يغادر الواحد منهم تلو الآخر ،وكانت آخر المغادرين أم العروس التي ودعت ابنتها ببكاء ونحيب ،ثم غادرت .






هجم سالم على الباب وأقفله بالمفتاح والمتاريس كأنه لا يريد حتى للهواء أن يدخل دون علمه ،ثم عاد لعروسه التي جلست على كرسيها لا تتحرك … وبدأ يداعبها بكلامه وهي كلوح الثلج … بلا حراك ، أمسك بيدها … وأنهضها من كرسيها … وقادها إلى غرفة النوم … وهي تسير معه كأنها تحمل عل كاهلها أطناناً وأطناناً … أجلسها على الفراش … تقدم منها ،فقامت بحركة فجائية وقد امتلأت عيناها بنظـرات الخوف والفزع :من هذا الشخص ..؟‍‍‍! ،إنه سالم … عريسها … الذي بدا لها واضحاً وكأنها تراه لأول مرة ،وشاهد سالم الخوف في عيني عروسه ،هدأها بكلمات قليلة ،وأخرج من جيبه مصحفاً صغيراً قدمه لها هدية ؛أخذته بحركة لا إرادية ووضعته على الفـراش ثم تكورت في جزء من الفراش بلباس عرسها .تقدم منها سالم .كانت تراه كجزار قادم لذبيحة ،رأته وحشاً كاسراً متقدماً لافتراس الضحية .تكورت حول نفسها أكثر ،ثم هبت واقفة على السرير وقالت بفزع وعصبية :
- أريد الحمام .. أين الحمام .. ؟ .
وقبل أن تسمع الجواب كانت في الخارج تتعثر في مشيتها تبحث عن الحمام .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 11:25 AM
الباحث عن الحنان ج25

لم يستوعب سالم الموقف جيداً ،لعله خجل العذارى ،أو هكذا دار بذهنه .جلس على السرير العريض ،وسرح بفكره ،وشريط حياته يمر أمامه وهو يشعر بزهو وفخر … لقد استطاع أن يهزم أيامه … أن يهزم آلامه … استطاع أن يهزم محنته .أنهي سيجارته وأشعل الأخرى وهو ما يزال على طرف الفراش يضحك على مصاعب الزمن التي استطاع أن يسرق منها سعادته ،وهاهو الآن على فراش العرس ينتظر عروسه .وهنا انتبه إلى ساعته ،لقد مضت أكثر من ساعة وهو في شرود وعروسه في الحمام … خرج يستحثها أن تعجل فلقد قارب الفجر أن يبزغ ،ناداها فلم تجب ،طرق باب الحمام على من بالداخل ،هذه التي ترى نفسها ذبيحة قتلتها الحاجة والعوز ،بل هي التي قتلت نفسها بالموافقة على سالم … وهاهي تدفع الثمن ،لم تكن تحسب أن هذه الساعة ستأتي ،وبهذه السرعة .اختلت بنفسها في زاوية من الحمام ،تبكي … تلطم خدها … تذكر أهلها … تنادي أمها بسرها لتأتي وتنقذها … تناجي الذكريات أن توقظها مما هي فيه من حلم مزعج … من كابوس شاركت هي بحياكة خيوطه من حولها ،تخنقها عبراتها ،والدموع تترقرق من عينيها … بصمت .

سمعت ماجدة طرقات سالم على باب الحمام يستحثها للخروج. وضعت يدها عل فمها خشية أن يسمع زفراتها .ولكن سالم ألح بالطرق … انزوت أكثر في ركن الحمام البعيد ،والخوف والرعب يملآن عينيها اللتين اتسعت حدقتاهما .وكلما سمعت سـالم يطرق الباب … يناديها … يريد منها الخروج ،كلما انزوت على نفسها أكثر وأكثر .الطرق يزداد … ويزداد اختناقها وانزوائها وتكورها .ثم خرج منها صوت لم تستطع أن تكتمه ،خرج كانفجار ،صرخت وهي تبكي مستغيثة :
- إلحقوني …‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!
فزع سالم من صراخها ،وبدوره علا صوته :
- ماجدة ، ماذا بك …؟ ، ماذا حدث …؟ افتحي الباب .
ردت عليه وهي تبكي :
- لا … لا … أرجوك ابتعد عني … أرجوك أقبل قدميك .
- ماذا حدث … ؟ هل أخطأت معك في شيء ؟.
فأجابت وهي تبكي :
- لا … لم تخطيء ،أنا الخاطئة … أنا الخاطئة …
بهت سالم من هذه الكلمات … "الخطيئة" … ليس من السهل أن تنطق بها أي فتاة … ماذا تقصد ماجدة …؟ ،ودارت في نفسه الشكوك ،لكنه تغالب على نفسه ،فهو لا يريد فضيحة لنفسه ،لا يريد أن يهزم من جديد :
- ماذا تقولي يا ماجدة …؟‍ ،افتحي الباب ولا تخافي ،إن كنت قد أخطأت في السابق سأسترك ،فقط افتحي الباب أرجوك.
انهارت ماجدة على الأرض من كلمات سالم ،وعلا صوت نحيبها وهي ترد على سالم :
- أرجوك … افهمني … أنا لست كما تظن … أنا أخطأت بزاوجي منك … أرجوك ارحمني … ارحم ضعفي .
وبدأت أعصاب سالم تفلت ،وازدادت الشكوك ،وزاد الطرق :
- لا تخدعيني … كلمة ألحق قد سبقت وخرجت … قولي من هو … وأنا سأحطم رأسه … من هو … أهو مجدي …؟‍

وتكورت العروس بثوب زفافها على الأرض ،تتناثر أطرافه على أرضية الحمام ،فينتشر لونه الأبيض على الأرض بنية اللون :
- أيها المجنون … ألا تريد أن تفهمني … إن أردت التأكد من شرفي حطم ستار الشرف … ولكن بيدك فقط … ثم دعني أحمل منديل شرفي وأرحل … أرجوك … طلقني .

وثار البركان الغاضب في نفس سالم وهو يسمع كلماتها ، ويتذكر صورة مجدي وهو يبتسم ،وازداد انفعال سالم وبدأ يحاول تحطيم الباب :
- افتحي الباب … افتحي الباب وإلا سأحطمه .

كانت الطرقات هذه المرة قوية مجنونة ،أفزعت ماجدة أكثر فهبت من الأرض تبحث حولها ،فوجدت أمامها الغسالة ،حركتها بقوتها المتبقية وأوصدت بها الباب … ثم هجمت على شباك الحمام … وفتحته وهي تصرخ :
- إلحقوني … أمي … أبي … إلحقوني يا ناس .
ويزداد الطرق قوة …
- إلحقوني … مجدي … أرجوك … مجدي … مجدي .
تعالى صراخها بأول اسم خطر على بالها .كانت تعلم أنه بالجوار لكنها لم تكن تعلم أنها تزيد النار اشتعالاً .لقد بدأت الشكوك في رأس سالم تتأكد ،لماذا تصرخ باسمه … لماذا تناديه … ؟ ،وبدأ بريق غريب يغزو عيني سالم وهو يصرخ أمام باب الحمام وماجدة تصرخ خلف الباب .

كسر سكون الظلام المحيط بشقة مجدي صراخ مكبوت وسمع اسمه خافتاً ،وبدأ يتشكك فيما سمع … أهو حقيقة …؟ أم أنه مجرد وهم …؟ ،تحرك من سريره وخرج من الغرفة ،وسار في ممر المنزل والصـراخ يعلو كلما تقدم … إنه حقيقة … إن عروس سالم تستغيث به .لم يكن مجدي يستطيع أن يتخيل الذي يحدث في الشقة المجاورة . وعندما ازداد الصراخ والاستغاثة هجم على باب منزله وفتحه وهم بالخروج لكنه تذكر كلمات سالم ونظراته ،خشي التقدم أكثر ،فقد يخسر صديقه ،وأقفل الباب مرة أخرى وهو يقول في نفسه :
- إنها زوجته الآن فليتصرف كما يحلو له ،وهي قد وافقت على الـزواج ،فلتتصرف كما يحلو لها ،أما أنا ففعلت ما يمليه علي ضميري ؛نصحته ألا يفعل وعندما أصر وقفت إلى جواره ،لقد انتهى دوري الآن ،انتهى دوري الآن .
وكرر مجدي كلماته الأخيرة ،كأنه كان يريد أن يقنع نفسه بها ،أو أن يبعد عن أذنيه أصوات الطرق والاستغاثة .وأقفل الأبواب حتى يكتم الأصوات القادمة إليه من الناحية الأخرى ،وأطفأ النور ،وحاول أن يغمض عينيه

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 11:26 AM
الباحث عن الحنان ج26

لم يكن مجدي وحده يجاهد النوم ،ففي الطرف الآخر من المدينة كانت أم العروس جالسة على فراش نومها وقد جفاها النوم ، دموعها تنهمر من عينيها ،تبحث عن ابنتها .وما أن هلت تباشير الصباح ،حتى قامت تعد العدة لإفطار الصباح الدسم لابنتها العروس وعريسها ،أعدته بسرعة وأيقظت زوجها وجاراتها للذهاب للعرسين للمباركة والاطمئنان على ابنتها .وقاومت تهدئة الجماعة لها ،فالوقت مازال باكراً جداً ،وأخيراً تحرك ركب المباركين لشقة العروسين ..

أمضى العرسان ليلتهما على طرفي باب الحمام ،سالم في الخارج وماجدة في داخل الحمام .لم تجد لها مكانا سوى حوض الاستحمام ،تكورت على نفسها داخله ،تحتل جزءاً بسيطاً من ثوب الزفاف الذي انسدلت أطرافه من حواف الحوض ،يغطي الجسد المتهـالك ،الذي يتنفس بحشرجة يتضح من قوتها أن صـاحبته قـد

أغمضت جفنيها مجبرة بسبب الإنهاك الشديد ،بعد ليلة طويلة أمضتها بالبكاء والصراخ ،وانتفخت عيناها وسال كحلها يخط بخطوطه السوداء على وجنتيها ليختلط باللون الوردي الذي وضع على وجنتيها. أما سالم فهو الآخر قد تكور خلف باب الحمام وأغمض عينيه مجبراً بعد إجهاد الليل الطويل ،ويده مازالت ممسكة بشدة على مقبض الباب، والطرق الشديد على الباب ترك علامات واضحة على الباب وعلى قبضة يد سالم .يتضح من شكله ومن رأسه المائل على باب الحمام أنه أمضى ليلته يرتجف … يبكي … حتى خارت قواه وانهار … وغاب عن وعي هذا العالم .

شد سالم من غيبوبته الضغط المتواصل على جرس الباب . قام مفزوعاً ينظر حوله لا يصدق ماذا حدث ،نظر إلى الساعة … إنها الثامنة صباحاً ،جر رجليه مترنحاً ناحية الباب -كأنه شيخ فوق الثمانين أو شاب ثمل إلى أقصي درجات الثمالة- فتح الباب وفوراً انطلقت زغرودة كبيرة من القادمين وهجمت عليه أم العروس مباركة بصوت عال :
- صباح مبار … آه…!!
ولم تتم جملتها حين نظرت إلي سالم بهذا الشكل … الثياب رثة … الوجه متورم … الجسد يرتجف ،صرخت مرة أخرى :
- ماجدة … ماجدة … أين ماجدة ؟ ماذا فعلت بابنتي … ؟!
ودخلت مسرعة دون أن تنتظر الجواب تنادي ابنتها المتهالكة في الحمام ،التي نزل عليها صوت والدتها كطوق نجاة لغريق يجهل فن السباحة .
هجمت ماجدة على الباب ،وخرجت من الحمام وارتمت في أحضان أمها تبكي بصوت عال تستغيث :
- أمي … أنقذيني … ارحميني من هذا الوحش … مـن هذا المجنون … كدت أموت ،لقد ناديت عليك كثيرا يا أمي .

كان منظر الفتاة مخيفا خاصة لأمها ،التي راحت تهيل السباب على سالم دون أن تعرف سبب ما حدث .ولم يرد عليها سالم فقد شلت الأحداث لسانه .لم يكن يستطيع أن يفعل شيئاً إلا أن يفتح فاه ويحرك يديه كأنه يريد أن يقول شيئاً ولا يدري ماذا يريد أن يقول ؛خصوصاً وهو يسمع كلمات السباب تنهال عليه من أم العروس :
- أيها الجبان ماذا فعلت بابنتي …؟ لعن الله اليوم الذي دخلت علينا به. لعن الله الزواج ومن يريده ،لعن الله الحاجة .
وضمت إليها ابنتها تكفكف دموعها ،وهي بحاجة لمن يكفكف لها دموعها ،وأدخلتها الغرفة .

وقف سالم مكانه ،يتلقى الشتائم والسباب من أهل العروس ؛ وهجم العم عبد الله عليه ممسكاً بجسده الرث المتهالك ،وبقيت شفتا سالم عاجزة عن النطق إلا ببعض الكلمات :
- أنا … هي … هناك … لكن … هي …
كان يحرك يديه مشيراً إلى الغرفة تارة وإلى الحمام تارة أخرى ،ولم يستطع أحد أن يفهم منه شيئاً أما والد العروس فقد ارتمى على أول كرسي ممسكاً رأسه بيديه ،أما أبو عيسى فلم يجد شيئاً يفعله إلا أن يستنجد بشقة مجدي ،أليس هو من حضر مع سالم منذ البداية ؟! إنه يمثل أهله في هذا البلد .
طرق أبو عيسى باب شقة مجدي ،وخرج مجدي يغالب النوم فهو الآخر أمضى ليلته يغالب نفسه حتى يستطيع أن يبعد عن عقله ما يدور في الشقة المجاورة ،فتح الباب ليجد أبو عيسى يسأله عن الذي حدث من صاحبه ،وقبل أن يجيب مجدي كان عبد الله قد اقتحم المنزل ممسكاً بسالم الذي انقاد بسهولة شديدة ،وصرخ عبد الله :
- أنظر يا سيد مجدي ماذا جلبت لنا ،أنظر لهذا الوحش ماذا فعل بالأمانة التي أودعناه إياها …
خلص مجدي صاحبه من يد عبد الله ،وأجلسه على كرسي ،ثم حاول الاستفسار عما حدث ،لكن سالم كان ما يزال في شرود يردد كلماته :
- أنا … هي … لكن … هناك … أنا … أنا … هي …
ومع أن مجدي أو أي أحد من الحضور لم يفهم من سالم أي كلمة ،إلا أن عبد الله تدخل مهدداً متوعداً طالباً من مجدي أن يذهب ليرى العروس فيعرف من منظرها ما يخفيه صاحبه .وهدد بأنه لن يترك الموضوع يمر سلام ؛بل سيجعل الموضوع قضية تتدخل بها الشرطة لتعاقب هذا الوحش ،الذي لا يعلم أحد منهم ماذا فعل…!!

حاول مجدي أن يهدئ عبد الله الثائر الغاضب ،لكنه أصر على أن يأخذ مجدي للبيت المجاور ليريه آثار جريمة سالم ،لكن أم عادل لم تمهلهم ليتموا حديثاً لم يبدأ ،فقد خرجت عليهم وهي تخبئ ابنتها بأحضانها ،وزوجها وبقية الجمع من ورائها وهي تواصل كيل الشتائم والسباب ،تقود الجميع وتدعوهم إلى مغادرة هذا المكان إلى مكانهم الآمن الخالي من الوحوش .وتدخل أبو عيسى محاولاً تهدئة الوضع :
- مهلاً يا أم عادل ،لا تتعجلي الأمور ،لا تخربي البيوت قبل أن تبدأ.
وتولى أبو العروس الرد عليه بعبارات يملؤها الغضب‎:
- أبو عيسى … الأمور أخطر بكثير مما تتصور ،ولا يمكن أن تحل بسهولة ،الأفضل أن نأخذ البنت إلى دارها ثم بعد ذلك نتفاهم ،كُلٌ في مكانه .وتحرك نعش العروس ،لقد كانوا في حالة لا تسمح لهم بالجلوس للتفاهم .
أسقط في يد مجدي الذي وجد صاحبه وعلامات الانهيار باتت واضحة المعالم عليه .وخرج عبد الله ،ومن ثم لحقه أبو عيسى ليلحقوا بالركب العائد بالعروس في أول صباح لها في بيت زوجها ،بثياب زفافها كما أحضروها بالأمس .لكن شتان ما بين الأمس واليوم ،كل هذا وسالم زائغ النظرات لا يقوى على النطق بكلمة مفهومة .

حمل مجدي صديقه المتهالك وقاده إلى غرفة النوم وأرقده على السرير ،ثم أشربه حبوباً مهدئة عله ينام ،وجلس بجواره يفكر بما حدث وأسبابه ،وبما سيحدث .لقد كانت صرخات الليل بالفعل صرخات استغاثة واستنجاد .لقد كانت ماجدة تستنجد به ،لكنه لم يلب الاستغاثة . ترى ماذا فعل هذا الإنسان المليء بالمشاعر المتناقضة ؟،هذا الجسد المطعون بالكثير من الطعنات .لقد كان مجدي يخاطب نفسه وهو يقول لسالم :
- ماذا جرى لك يا صديقي ؟!،لماذا لم تسمع كلمات نصحي في مشروعك المجنون هذا ،ماذا فعلت بنفسك … وبالبنت … وبي ؟!، ماذا سيحل بنا بعد الآن ؟!‍ سامحك الله ،وشفاك من هموم نفسك .
مد مجدي جسده بجوار جسد صاحبه وغلبه النعاس … ونام .

***

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 11:53 AM
الباحث عن الحنان ج 27

وصلت شمس الظهيرة الحارقة إلى وجه مجدي فانتشلته من أحلامه المزعجة .فتح عينيه ،تذكر ماذا حدث في الصباح ،مد بصره ليطمئن على صاحبه ولكنه لم يجده في مكانه حيث تركه قبل أن ينام . فتح فاه لينادي عليه لكنه توقف حين لمح دخان سيجارة سالم ينطلق من الشرفة .قام إليه وحياه ولكن سالم لم يجب على تحية صديقه . ونظر إليه نظرات زائغة ،كأنه لا ينظر إلى شيء وقال بصوت يملؤه حزن وألم شديدين :
- مجدي ... أنت تعرفني منذ زمن ليس بالقصير ،ومنذ أيام أخبرتك كيف كنت أنت وصحبك عاملاً مهماً في حياتي سلباً وإيجاباً .من هذا المنطلق أريد منك إجابة صريحة ومحددة ... هل هناك أي علاقة بأي صورة بينك وبين ماجدة ...؟!.
نزل السؤال المفاجئ على مجدي نزول الصاعقة ،والتفت لصاحبه بحدة وقال :
- ماذا ...؟! هل أنا أسمعك جيداً ... ؟! أعد السؤال ...
رد سالم :
- مجدي ... كلامي كان واضحاً ،هل هناك علاقة بينك وبينها ...؟.
صرخ مجدي بعصيبة في وجه سالم وأمسك بكتفه وهزه بشدة وهو يقول :
- سالم ... هل تعقل ما تقول ... ؟ أنسيت أنك أنت من أخذني إليهم أول مـرة ؟!* ،أنسيت أنك منذ ذلك الوقت وأنت إما معي أو معها ...

خاطبني بالعقل ... بالمنطق ... كيف سيكون بيني وبينها علاقة من أي نوع ؟.
هز سالم رأسه بنوع من الاستخفاف ،فهو لا يستطيع أن يصدق كلمات صديقه ولا يستطيع في نفس الوقت أن يصدق ظنونه .وأجابه من بين تنهدات تخرج من أعماقه :
- بأي منطق تريدني أن أخاطبك ؟!،بمنطق أهلي الذين قتلوني بهذا المنطق ،أم منطق الغرباء الذين كانوا ومازالوا يطعنوني كلما سنحت لهم الفرصة ؟!* بأي عقل تريدني أن أناقشك ؛بعقلي هذا الذي قادني لمستشفى الأمراض العقلية ؟! أنا يا صديقي لا عقل ولا منطق لدي . لدي سـؤال واحد فقط يحتاج لجواب :هل هناك علاقة بينك وبين ماجدة ؟.
زاد الحديث من عصبية مجدي خصوصا إصرار سالم على سؤاله فقال :
- أتشك أن هناك علاقة بيني وبين عروسك بعد كل هذا ...؟ بعد كل الذي فعلته من أجلك ...؟ ثم كيف توصلت لهذه الظنون ...؟ ما هي الدلائل التي دلتك على ذلك ؟!.
- الموضوع ليس بحاجة إلى دلائل ،فأنا من أنا وأنت من أنت ،أظن أنك تفهم قصدي فأنا لست فارس أحلام أي فتاة .ثم هناك ما حدث في الأمس ...
هنا صرخ مجدي :
-الأمس ... أريد أن أعرف ماذا حدث في الأمس..

لم يكن سالم يريد أن يخوض من جديد في حادثة البارحة ، لأنه لا يوجد أي تفسير لما حدث ،فلم يجب على استفسار صديقه وتصنع الهدوء وطلب من صديقه أن يعد لهم كوبا من الشاي .ولم يتردد مجدي فخرج بحركات رتيبة وبدأ يعد الشاي ،وفي يده ارتجافة تزيد من عصبيته كلما أسقط من يده كوباً من الأكواب .

قـدم مجدي الشاي لسالم وجلسا يحتسيان ما لا طعم ولا لون له ،كل منهم ينظر إلى الأمام ،فلا يرى سوى كلمات غريبة وأحداث أغرب .وعاد مجدي من جديد يحاول أن يستفسر عن حادثة الأمس فقد بدأ كل شيء طبيعياً حتى آخر اللحظات ،كان كل شيء يسير كما تم التخطيط له ؛ولا بد أن يكون قد جد جديد قلب كل الأمور رأسا على عقب حتى انتهى بمثل ما انتهى عليه .وحاول سالم الإفلات من هذه الذكرى وقال لصديقة :
- لقد كان الأمس كابوساً ،ليتني أصحو منه ،كان طعنة كبيرة تركتني قتيلاً ،مع أنني مازلت أمامك أتكلم فقد قتلت في الأمس ... كانت طعنة أكبر وأشد من كل الطعنات .
ثم سكت سالم عن مواصلة الحديث لكن كلمات الموت والطعنات تركت مجدي في حيرة :
- هل تعني أن ماجدة ...؟!
قاطعه سالم :
- غير عذراء ... أهذا ما تقصد ...؟ ،ليتني عرفت ذلك لكنت سمعت منها وغفرت لها ،صديقي ... لقد نام العرسان ليلة عرسهما وبينهما حائط كبير لقد فرت العروس واختبأت في الحمام ،رأيت عليها أمارات لم أفهمها في البداية ،وعندما دخلت الحمام اعتقدته خجلاً ولم أكن أعلم بأنها لن تخرج منه ثانية ... في البداية كنت قلقاً عليها ،ثم جننت عندما بدأت تصرخ وتنادي ،وعلى من يا صديقي ...؟ ،ما رأيك بعروس في ثوب زفافها في الحمام تنادي صديق عريسها .
وقبل أن يتم سالم حديثه قاطعه مجدي مستفسراً لعله فعل بالفتاة شيئاً جعلها تقوم بما قامت به ،فلا تفسير لما فعلته ماجدة ،إلا أن يكون رداً على فعل قام به سالم .ومع إصرار سالم ببراءة موقفة لم يكن هناك تفسير لدى مجدي ،ولم يكن لدى سالم سوى تفسير واحد هو الذي شغل فكره .
وقرر مجدي وسالم أن لا يقوما بزيارة أهل ماجدة إلا بعد انقضاء فترة من الوقت ترتاح فيها الأنفس قليلاً .ولم يناقش سالم هذا الأمر ،لقد كان مسلوب الإرادة ،مشتت الأفكار ،فترك الأمر بيد صديقه مرة ثانية ،ولكن في هذه المرة للخلاص من هذه الزيجة .

وكانت الأيام التالية تمر على سالم بتثاقل كبير .بدأ يتصرف بطرق غير مقبولة ؛أعصابه منهارة باستمرار ،يطفئ سيجارته في أي مكان في البيت .وانتقلت العدوى لصديقه مجدي الذي بدأت أعصابه هو الآخر بالتوتر وأهمل كل شيء ليراقب صاحبه ،فقد تسول له نفسه القيام بفعل طـائش لا تحمد عقباه .لقد أصبح البيت في وضـع يرثى له ... الفوضى تعم المكان ... الأواني ملقاة بإهمال ،ولم يكن الصديقان يفعلان أي شيء إلا الجلوس والحديث .
لم يحتمل مجدي هذا الوضع وكان لابد من حل .والحل الوحيد أن يذهبا لزيارة عائلة ماجدة ،الذين بدورهم أهملوا هذا الموضوع ، كأنهم يريدون أن ينسوا ما حدث أصلاً .

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 11:54 AM
\الباحث عن الحنان ج 28


جلس الجميع في منزل عبد الله ،والصمت الشديد يخيم على الجلسة التي كانت أشبه بجلسات المآتم ،لا يكسر صمتها إلا صوت أكواب الشاي ترشف ثم ترتطم بعصبية على الطاولة ،الجميع بانتظار ماجدة .وصلت العروس الهاربة ،جلست بجوار والدها وعيناها تنظران إلى الأرض دون أن تكلم ،وبدأت أم عادل بالحديث :
- أستاذ سالم ؛كما بدأنا بالمعروف ،ننتهي بالمعروف .

كانت البداية هي كلمات النهاية .لم يحتمل سالم هذه الكلمات التي كان يريد أن يقولها هو ،لا أن تقال له .واحتد النقاش بين الطرفين ،وتعالى الصراخ بين سالم وأم العروس ،فهو لا يريد أن يقر بالهزيمة بعد أن خسر هذه الأموال .وأتهم ماجدة وأهلها بتأليف هذه القصة .وكان رد أم ماجدة ،بأن الخدعة كانت من سالم ،وأن أخلاقه لم تكن كما يجب ،هنا صرخ سالم :
- بأي حق تتكلمين عن أخلاقي ... ؟ ماذا رأيت مني ...؟
- نحن لم نرى ابنتنا هي التي رأت .
وتدخل عبد الله مقاطعاً :
- اهدئي يا أم عادل ... نحن هنا ليس لفتح جبهات قتال ،نحن نريد أن ننتهي من هذه المسألة ،أستاذ مجدي أتريد أن تبقى ساكتاً ... ؟ تكلم .
قال مجدي :
- المهم أولاً أن نسمع جميعنا ماذا حدث !!،ونريد أن يكون ذلك من فمها هي ،هيا يا ست ماجدة أخبري الجميع ماذا حدث في تلك الليلة .
وأنتظر الجميع ماجدة وهي ترفع بصرها إلى مجدي تنظر إليه ... ولا تتحدث ،حاولت فتح شفتيها لكنها فشلت في النطق بحرف واحد . كانت تحاول أن تقول شيئاً ،ولكنها اكتفت بالنظر إلى مجدي .ولم يفهم منها مجدي أي شيء ،قطعت أمها صمتها وقالت :
- هيا يا ابنتي أخبريه ماذا فعل ؛بل أخبريه ماذا كان يحاول أن يفعل لك .أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم ،أستغفر الله من كل ذنب عظيم ، أستغفر الله ...
وقاطعها مجدي محاولاً إيقاف السيل المنهار من الاستغفار ،ومحاولاً أن يفهم أي شيء مما حدث ،أو مما تريد أن تقوله ماجدة .ونظر إليها محاولاً أن يجعلها تتكلم ،وعندما فشل تدخلت مرة أخرى أم عادل :
- ماذا تريد أن تعرف ... حسناً سأخبرك أنا ،لقد حاول صديقك هذا في ليلة عرسه ... حاول أن يأتي ابنتي من حيث لا الدين ولا الأخلاق يقبلان ،إن صديقك شاذ ..!!.
وتدخل عبد الله ليكمل الحديث :
- ما رأيك بهذا الكلام يا سيد مجدي ...؟!
لقد أهمل الجميع مراقبة سالم ،لقد كان متوتراً يهتز بشدة ،ويزداد جسده اهتزازاً كلما أستمر الحديث أكثر .كان ينظر إلى ماجدة ،وبدأت عينيه تلمع من جديد ،وأخذ يعض على شفتيه كأنه يريد أن يقتص منهما ... وعندما وصل الحديث إلى ما وصل إليه ،فقد سيطرته حتى على أسنانه .فلم يعد قادراً أن يعض على شفتيه ،وحاول إخراج لسانه من فمه ليتكلم لكن لسانه كان يعود لفمه مرة أخرى ... لاحظ مجدي ذلك وعرف أن صديقه على حافة الانهيار ،إن لم يكن قد أنهار أصلاً. ضغط على فخذ صديقه محاولاً تهدئته ،ووجه الحديث لماجدة بينما كان جو الغرفة يزداد اشتعالاً ... وأبو العروس يكاد أن يأكل سيجارته من شدة عصبيته ، قال مجدي :
- أريد أسألك سؤالاً واحداً لقد علمت أن سالم قد أهداك شيئاً وأنت على الفراش ،ما هو هذا الشيء ؟.

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 12:09 PM
الباحث عن الحنان 29

ولم تنكر ماجدة ،أقرت بأن سالماً قد أهداها مصحفاً ،ولم تنظر إلى أي أحد بل اكتفت باللعب بخاتم الزواج .وأعتبر مجدي كلمتها اعتراف ودليل على كذبها ،فهل يعقل أن من يهدي زوجته مصحفاً يراودها في نفس الوقت بشيء يخالف تعاليم هذا الدين .واجه ماجدة بهذا الكلام وكان ردها بالبكاء والنحيب ثم صرخت وهي تبكي :
- ارحموني ... حرام عليكم ... خلصوني ولكم ما شئتم .
وخلعت خاتمها من إصبعها ورمته أمام الجميع وهربت من الغرفة وبكاءها يعلو ... ويعلو ...

كان أبو ماجدة صامتاً ... يلعن ذلك اليوم الذي مد فيه يده لشخص غريب ... لا يعرفه هو أو أي من أهل بلدته ... ويرمي أبنته هكذا ... ليصل الحال إلى ما هو عليه ... لعن العوز والحاجة التي جعلته يبيع ابنته لأول طارق يحمل الثمن ... وكان لابد أن يتكلم :
- أيها السادة ، إن الحل الوحيد أن يطلقها ،اعتبرنا يا أستاذ سالم مخطئين واغفر لنا ، ارحمني وارحمنا جميعاً ،طلقها عسى الله أن يرزقك بخير منها .

وعاد سالم يشعر بنوع من القوة تدب فيه بعد مساندة صديقه ومحاولاته التي تبدو أنها نجحت في إثبات كذب ماجدة ،بدليل رد فعلها المفاجئ وكلمات والدها ... عادت تدور في قلبه رغبة الانتقام .رفض طلبات أبو ماجدة ،خصوصاً بعدما بان أن أمها تعتقد بأن خاتم الزواج هو كل شيء ،لكن سالم اشترط أن يسترد حقوقه كاملة .والغريب أن أم ماجدة طالبت بالخاتم الذي بيده ويحمل اسم ابنتها ،كانت هذه هي كـل الحقوق بنظر الأم .أما الذهب الذي اشتراه بماله ثمناً لهذه العـروس ،والمال الذي دفعه لوالد العروس والأموال التي أنفقها عليهم ،فهذه ليست حقوقه ؛إن أم ماجدة تعتبر كل ذلك من أموال العروس ولا يستطيع سالم أن يستلم منها شيئاً .وهكذا كانت بقية الجلسة حول الطلاق والحقوق ،والمتكلم الـوحيد دائماً هي أم ماجدة ،أما سالم فطلباته محدودة ،يريد أن يسترد أمواله كاملة ،حتى الملابس التي اشتراها ، وإلا اعتبرها سرقة .
وانفض المجلس على لاشيء ... صراخ متبادل ،وتهديد ووعيد من سالم باستخدام القوة ،مما أثار عبد الله وجميع الرجال :
- إن البنت وراءها رجال يحمونها .
***

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 12:11 PM
الباحث عن الحنان ج30


أتفق مجدي وسالم على أن يكون الرد على أهل ماجدة بعنف ، إنما كيف يكون ذلك العنف ؟فهذا الذي دار حوله حديث طويل .إن القانون المدني يستطيع أن يعتبر ماجدة زوجاً ناشزاً ،حتى مع روايتها التي ترويها ،والتي أصرت عليها وصدقها أهلها .وكانت فكرة مجدي أن الحل الأمثل هو اللجوء للسفارة لتحل هذه المشكلة .فإما أن تذهب ماجدة مع زوجها ،أو تعتبر هذه العائلة مجموعة من اللصوص لجأت لهذه الطريقة من النصب والاحتيال حتى تحصل على أموال سالم .
أنهك هذه الموضوع قوى الصديقين ،خصوصاً سالم الذي هزه الأمر من الأعماق ،لكن عقله كان ما يزال يبحث عن إجابة لسؤاله : هل حقيقة كان السبب هو المال ..؟،إنه لا يعتقد ذلك ،فلو كان السبب هو المال فقط ،لكان بإمكانها أن تأخذ منه الكثير ،والكثير جداً ،لو استمـرت معه .واقتنع سالم بأن هناك سبباً آخر يسيطر على عقل ماجدة ،وبدأ يتمتم بكلمات وهو يتذكر اللحظات التي مرت كاملة :
- مجدي ... هل رأيت نظرات ماجدة إليك ؟!.
ولم ينتظر رد مجدي عليه وأتم سؤاله بصوت تائه :
- مجدي هل هناك علاقة بينك وبين ماجدة ...؟!.
ولم يجب مجدي ،فهو لا يجد جواباً على هذا السؤال .وترك سالم بدون رد على الموضوع الذي سيطر على فكره وكلما غاب عنه عاد ليظهر من جديد .
***

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 12:12 PM
الباحث عن الحنان ج 31

ما أقسى الأيام التي يكون فيها المرء في وسط مشكلة كبيرة ؛ تخيم على تفكيره ،ويفكر بـها ليل نهار .هذا إن كان المرء سليم التفكير ،فكيف بسالم ...؟! إنه يرى الدنيا سوداء كالحة ؛الكل يبتعد عنه ،الكل يخاف منه ،إن ماضيه الذي لم يشارك بضعفه ،يتحكم بتصرفات الناس من حوله .كان ينظر لنفسه كثيراً في المرآة ،يبحث عن لمحة جمال ؛لكن لا يجد إلا صورة ذلك الشخص الذي تشاءمت منه زوجة أخيه ،وخشيت أن يأتي ابنها بمثل صورته ،لا يرى إلا ذلك المطعون بكرامته ،حين استغلته من تحمل ابنه في أحشائها وهربت منه .لا يرى إلا فاشلاً ... محطماً ... لا يصلح للحياة .لم تكن هذه الأفكار تسيطر على عقل سـالم فقط ؛بل سيطرت على أفعاله أيضاً ؛ فـأصبح يثار لأتفه الأسباب وأحياناً بدون أسباب .يلجأ دائماً إلى صديقه ،ولا يشك إلا في صديقه .كانت تصرفاته تدل على أنه بدأ يفقد السيطرة على نفسه ،خصوصاً بعد الزيارة الثانية التي قام بها لوحده إلى أهل ماجدة ،والتي كاد أن يتعرض بها للضرب إن لم يكن للقتل . وزادته هذه الزيارة توتراً ،فقد أصر أهل ماجدة على عدم التهاون مع هذا الذي يرونه شاذاً ،مهما حاول أن يدافع عن نفسه بكلمات لم يصدقوها .وأصر سالم من ناحيته على أن زوجته يجب أن تعـود معه ،مع أنه كان يعلم في قرارة نفسه أن استمرار الحياة مع فتاة بدأت حياتها معه بهذه الفضيحة سيكون مستحيلاً .لكنه أضمر في نفسه أن يرغمها على السفر معه ،ثم يعيدها على أول طائرة بمجرد وصوله لبلده ،وأعتبر أن ذلك هو الحل الوحيد لرد اعتباره .لقد سيطر الانتقام على فكره ؛الانتقام من الجميع ،حتى من صديقه الذي بات مقتنعاً أن هناك علاقة ما بينه وبين زوجته .
لكن سالم فشل ؛فشل في إرغام ماجدة على الرضوخ لطلباته ، وفشل في إقناع أهلها بأنه بريء من تهمة ابنتهم ،وفشل في إثبات العلاقة بين صديقه وعروسه .إن هذا الفشل المركب جعل ساعات أيامه جحيماً مستمراً له ولصديقه ،فحبس نفسه في غرفته ،ينزوي بها ساعات النهار ولا يفعل شيئا إلا السرحان والمزيد من السجائر ،ولا يستطيع حتى أن يفكر بشيء .

حاول مجدي أن يخرج صديقه من عزلته ؛أن يحميه من الانهيار النفسي التام ،حتى بدأت تباشير رآها مجدي تدل على الخير. فقد بدأ سالم يخرج من عزلته ،ثم يخرج من المنزل .لم يحاول مجدي منعه ،أو حتى معرفة أين يذهب ،حتى عندما بدأ يتأخر في غيابه في الخارج .كان مجدي يكتفي بأن صديقه قد ترك النقاش والجدل ،فقد اعتقد من ناحية أن صاحبه قد عاد من جديد إلى دنيا الحقيقة ،وشعر من ناحية أخرى بالراحة والهدوء من انصراف سالم عنه .

كان جل اهتمام سالم أن يجد ما ينسيه الحالة التي وقع بها . ارتاد بعض المناطق التي انقلب ليلها نهاراً ،تنتقل من جماعة لا يعرفها إلى جماعة أخرى لا يعرفها ؛جماعات لا يجمعها إلا محاولة النسيان ،لكن عقله كان في واد آخر ؛كان يفكر بطريقة يثبت بها شكوكه حول مجدي ؛كان يمضي الساعات يراقب مجدي ،ويتابعه في خطواته ،فقد يصادفه يوماً مع ماجدة ،أو يجد دليلاً على صدق ظنونه. كان يستغل الوقت الذي يكون فيه وحده في البيت ،فيبدأ بالتفتيش والبحث عله يجد ضالته ؛لكن فشله في مراقبة صاحبة في النهار جعله يضع همه في صحبة الليل .

أما مجدي فقد ارتاح من متابعة مشاكل سالم وانشغل بأموره الخاصة ،ورغم إنه كان نادراً ما يلتقي بصديقه الذي يسكن معه ،إلا أنه كان يتوقع حدوث أمر غريب من سالم ،لكن ما هو هذا الأمر ؟!، ومتى سيحدث ..؟! من الأفضل أن لا يفكر بذلك .

كانت المفاجأة أن سالم قد وجد طريقة للانتقام...سيتزوج ..! ، وستكون زيجة مضمونة ،ودون مساعدة من أحد ،سيتزوج من فتاة صادفها في جلساته الليلية ؛اختار فتاة بحاجة إليه ... بحاجة لماله ... بحاجة لاسمه ... فقيرة ... معدمة ... تمتهن أي شيء في سبيل أن تعيش ،لقد قابلها مرات عديدة في الشارع ... وفي منزلها ...!!

ومما أذهل مجدي أكثر ؛أن سالم قد اتفق مع فتاته على زيارته في بيت مجدي ..!!.لم يتمالك مجدي نفسه حين سمع هذه الأمر ،إنه لم يكن يتوقع هـذا الانحراف في سلوك سالم ،ولم تقنعه تبريرات سالم بأن عدم العفة ليس فيما يفعله الإنسان مجبراً ،إنما فيما يفعله مختاراً ) .ولم يحاول سماع المزيد من هذه الكلمات .وكانت ردة فعله أن هذه الفتاة لن تدخل البيت ،ولن يسمح لسالم بفعل المزيد ،لن يسمح باستمرار هذه المهازل .ولم تجد تهديدات مجـدي لسالم أي آذان صاغية ،لقد أصر سالم على موقفه ؛سينتظر فتاته ويأخذها بعيداً ، وليفعل مجدي ما يحلو له .
وقف مجدي في المنزل وحيداً بعد خروج سالم ،يدور حول نفسه على غير هدى ... ماذا سيفعل ...؟ ،وكيف ستنتهي هذه المشاكل التي يجرها سالم على نفسه وعليه ،وهل يطرده من المنزل وينهي هذه العلاقة ؟،ثم ليفعل سالم ما يريد .دارت الأفكار المتلاحقة في رأسه دون أن يستدل على الطريق السليم ؛فهو لا يقدر أن يطرد صديقه وزميله ،ولا يستطيع أن يجد طريقة ليحد من تصرفاته .
***

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 12:14 PM
الباحث عن الحنان ج 32

لم يكن مجدي يقصد أن يعبث بأوراق سالم حينما وقع نظره على ورقة كتبها سالم ؛لكن ما لفت نظره أن اسمه مكتوب عليها ، حمل الورقة فوجدها قد كتبت في أحد الأيام السابقة ،موجهة من سالم لسفير بلاده .كان ينوي إرسالها لكنه يبدو أن قد نسي تغليفها أو تعمد نسيانها ،أو قد تكون هذه مجرد مسودة لرسالة احتوت على كل مدار في ذهن سالم .فقد شرح فيها للسفير موضوع ماجدة بكل تفاصيله ولم ينس سالم أن يذكر صديقه ،وكيف كان معه منذ بداية هذا الموضوع ، ثم كانت كلمات كتبها سالم في نهاية رسالته :
- الطامة الكبرى ،سيدي السفير ،في صديقي هذا الذي استضافني ، واستغل صداقتي في إقامة علاقة مع عروسي ،لقد عرف أنه لا حول لي ولا قوة في هذا البلد ،واعتقد أن القانون لن يصله .ومع أنني لا أملك حتى الآن دليلاً مادياً يدين هذا الشخص الانتهازي ،إلا أن استنجاد عروسي به في ليلة زفافها ومناداتها عليه طوال الليل ،أكد لي أنهما اتفقا على شيء ما ،أو أنها تخفي عني شيئاً له علاقة بهذا الصديق الذي أمنته على نفسي وعلى زوجتي ،بل لقد وصل الأمر بي أن أخذته معي إليها ليساعدني في خطبتها ؛فإذا به يستغل الفرصة ويقربها منه .لا أدري يا سيدي السفير إن كانت هذه العلاقة قديمة ،أم أنها حدثت بعدما رآها معي ؛ولكن كل ما أعرفه ومتأكد منه هو أنني قد وقعت ضحية مؤامرة لاستغلالي مادياً ،وعندما شعرت العروس بأنها بقيت وحيدة ؛بدأت تستنجد به لينقذها .ومع أنه كان بالبيت المجاور بحيث أنه يستحيل عليه عدم سماعها ،إلا أنه لم يأت لنجدتها وكأنه خشي أن يفتضح أمره .إن ما يؤكد ظنوني أنه في الفترة الأخيرة أهملني بشكل واضح ،وبدا عليه أنه يريد التخلص مني بأي طريقة ،ولعدم وجود مساند لي في هذه الغربة ،ولخشيتي على نفسي لم أجد حلاً سوى الالتجاء إليكم ؛لاتخاذ ما ترونه مناسباً لإنقاذي من هذه المشكلة بـأي طريقة ،لأخذ حقي من زوجتي ... ولمعاقبة هذا الصديق ...!!

قـرأ مجدي هذه الكلمات ،التي كانت كطعنات وجهها سالم إليه ،ووقف مشدوها ،ماذا يفعل ...؟ ،إن لسالم في كل فترة مفاجأة ؛ لقد أصبح عبثاً ثقيلاً لا يستطيع تحمله .وبدأ يحاول استرجاع كلمات سالم عن نفسه في أول لقاء لهما ،عله يهتدي لطريقة ينهي بها هذا الموضوع .وتذكر كلام سالم عن شقيقه ؛إن الحل بيد شقيق سالم ،فقد تذكر مجدي أن سالم كان يذكر شقيقه في نهاية كل حديث له ،إن له تأثيراً خاصاً على سالم .

وقرر مجدي أن يرسل في طلب هذا الشقيق ليتحمل هو مسئولية سالم ،ولكن كانت العقبة في عنوانه .جلس مجدي يعصر فكره محاولاً تذكر طبيعة عمل شقيق سالم ،ليستدل منه على عنوانه ، ويرسل له شارحاً الموضوع بأكمله .
وبدأ مجدي يكتب الرسالة ....
***

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 12:15 PM
البا حث عن الحنان ج 33

هجم سالم على شقيقه يعانقه ... بين دموعه ... وحنينه . صحيح أنه فوجئ به حين رآه عند الباب حاملاً حقائبه ،ولكنه لم يسأله أو يستفسر منه ؛فقط اكتفى بالعناق .كان واضحاً أن هذا العناق هو أكثر من عناق أشقاء ؛أنه عناق غريق وجد أمامه طوق نجاة .تحرر سالم أمام شقيقه من كل ذرة تكبر ،وارتاح لشعوره بالضعف .

جلس محمد مع شقيقه سالم يسمع القصة تفصيلاً .ثم سمعها من مجدي ثانية مفصلة .كان يود أن يعاتب مجدي ،لكنه تراجع عن العتاب ،فقد فهم الوضع الذي حدث ؛عرف أن ما حدث كان يجب أن يحدث ،وأن وجود هذا الصديق في طريق سالم لم يكن إلا من قبيل الصدفة .ولعل هذه الصدفة هي التي خففت قليلاً من تطور الأمور . كان محمد يتعمد الانفراد بمجدي ويتحدث إليه ،كان يبدو على الشقيق أنه يحاول أن يفهم نفسية شقيقه ،لكن الشقيقان كانا لا يتعاملان إلا بظاهر الأمور ،ولم يحاول محمد طيلة السنوات السابقة أن يدخل في أعماق سالم .لم يحاول أن يعرف ماذا يريد ،أو طريقة تفكيره ... لقد بدا ذلك واضحاً من تساؤلاته الكثيرة أمام مجدي :
- لم كل هذا ...؟ ،ما الذي حدث ...؟! ، لقد كنت أعرفه جيداً ، وفجأة اختلف ،بدأ بتصرف بطريقة غير مفهومة ،لا أدري ما هو السبب ،حتى أن تعامله معي في البيت أصبح فظيعاً ... تزوج ... طلق ... لماذا ...؟،لا أدري .ثم تلك الآسيوية ... طالما حاولت قناعه بفشل هذا الزواج ،وأن المرأة التي تترك أهلها لا أمان لها ، لكنه كان عنيداً ورث العناد .لا أدري هل حدثك عن تلك الممرضة التي لا ندري عنها شيئاً ،وحاول إدخالها حياتنا رغماً عن كل المحاولات لمنعه ،ثم ماذا حدث ‍‍..‍‍‍‍‍‍‍!! ،اختفت من حياته فجأة .لقد أمضى معها فترة طويلة ،أياماً عديدة قبل أن نعلم ؛وبعد أن علمنا ... اختفت فجأة ، ولا ندري كم ابتزت منه من أموال .

لقد كان واضحاً جداً أن الشقيقان لا يعرفان بعضهما البعض جيداً .كانا يعيشان سوياً ؛متعايشان يومياً ،لكن لا يوجد بينهما سوى كلمات التحية ،وصلة القربى .ومع ذلك كان محمد بالنسبة لسالم طوق النجاة الذي يتمناه أي غريق ،بدا ذلك واضحاً من نظرات الارتياح الشديد في نظرات سالم وهو يسمع شقيقه يتهدد ويتوعد العروس وأهلها ،ويهدد بأنه سينتقم لأخيه ،وسيطلب ماجدة بقوة القانون .وحتى لو استدعى الأمر أن يتدخل معارفه وأصدقائه ،ويجعل خارجية بلاده تتدخل في هذا الموضوع .لكنه حتى بين تهديداته وانفعالاته ،كان يسأل عـن العروس أسئلة لا معنى لها ... شكلها ... لون بشرتها ... عملها ... دراستها ‍‍‍!!.لم يكن قد استوعب بعد أن الجمع بين سالم وهذه الفتاة بعد هذه الفضائح أصبح مستحيلاً .

انتقل محمد وشقيقه إلى مسكن منفصل ،وتركا مجدي يتابع هموم أيامه ليقوم محمد بحل هموم شقيقه سالم مع أهل عروسه .مرت أيام قبل أن يتوصل الطرفان إلى الحل الأمثل ... الحل الطبيعي ... الطلاق ...

كانت نظرات العريس يوم الطلاق زائغة ... تائهة ،كما كانت زائغة يوم عقد القران ؛وشتان بين الحالتين ... انتصار.. و .. انهزام، لقد كتب بيده وثيقة جديدة في كتاب فشله ؛ورقة جديدة من أوراق الإحباط .لقد بكت ماجدة كثيراً بدموع صامته في هذه اللحظات .ولم يستطع أحد أن يعرف السبب .وارتجف سالم كثيراً وهو ينهي هذا الزواج .لم يكن في الجمع من يشعر بالانتصار إلا شقيق سالم ؛كانت ابتسامته بعرض وجهه وهو يربت على كتف شقيقه شاعراً بالزهو ، فلقد استطاع أن يعيد أغلب حقوقه .لقد كانت مقايضة عادلة ؛عاد كل واحد كما كان قبل أن يلتقيا .ولم يشعر محمد بالصراع داخل سالم وهو يجره من يده خارج المحكمة ؛لم يشعر أنه متسمر في مكانه يحملق في الحائط على شيء معلق عليه ... لقد كانت مرآة بانت فيها صورته .
***

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
03/10/2009, 12:16 PM
البا حث عن الحنان ج 34

ذهب مجدي مع سالم للمطار لوداعه ؛لقد كانت تلك الفترة كالحلم المزعج على الجميع .ولم يكن مجدي يفكر يوماً بأن يحدث معه ما حدث في تلك الأيام ،أو أن يعيش مثل تلك التجربة .شد على يدي محمد مودعاً ... وعانق سالم الذي كان متخشباً يحمل بيده سلة فواكه كأنه يحمل نعشه .وسار سالم خلف شقيقه نحو الطائرة ... وتركا مجدي خلفهما ينظر إليهما ... إلى شريط طويل من الذكريات يمر أمامه ؛منذ أن رأي سالم لأول مرة يسير في ممر الفصل ... طفلاُ غير طبيعي الشكل ... وهاهو الآن يرى سالم يدفع باب الخروج ... يتقدم بخطوات ثقيلة ... يبحث من جديد عن حياة جديدة ... عن عالم جديد ... عله يجد فيه الحنان الذي طالما بحث عنه ...
وابتلعته أمواج المسافرين .




النهــاية