المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صفحات من طفولة المفكرين :الشيخ يوسف القرضاوي



حازم ناظم فاضل
05/09/2009, 10:55 PM
أنني منذ وعيت ذهبت إلى "الكتاب" ومما أذكر الآن احتفال الناس بشهر رمضان ، وفرحتهم بقدومه خاصة الأطفال ، حتى قبل أن نعرف الصيام والإفطار ، كنا ننتظر المغرب ، فنهلل ونكبر وقبل الصيام كنا نمتنع عن الطعام من صلاة الظهر ، وصمت وأنا ابن سبع سنين ، ولعل مما ساعدني أن رمضان يومها كان في الشتاء حيث تكون الأيام قصيرة وباردة فأكملت صيام شهر رمضان.
وكان الأولاد يفطرون خارج البيت حيث يأتي كل واحد بطبق طعام من بيته ونفطر معاً ، ويبدو أن هذه العادة المتوارثة كانت لتوفير الطعام لأي غريب أو عابر سبيل ، دون أن يطرق الأبواب .
وشهر رمضان شهر القرآن ، وكانت بعض العائلات الميسورة تأتي ببعض حفظة القرآن فيتلونه طوال الشهر بعد صلاة التراويح ، وأحياناً كان يحضر بعض العلماء فيفسر ما تلا القارئ ويتجمع الناس للسماع ، بالإضافة إلى الدروس الرمضانية وأذكر أنني كنت حريصاً على حضور هذه الدروس ومتابعتها ، وقد رزقني الله سرعة الفهم والحفظ ، فكنت أستمع وأتلذذ بما أسمع .
نشأت في قرية من قرى الريف المصري تدعى "سفط تراب" من محافظة "الغربية" وهي قرية كبيرة نسبياً ، كان فيها أربعة "كتاتيب" لتحفيظ القرآن الكريم وكان فيها مدرسة حكومية ، وفيها قبر آخر من مات من الصحابة في مصر وهو "عبدالله بن الحارث الزبيدي" وأهل قريتي يعتزون بهذا جداً ، وقد اشتهرت القرية بحفظ القرآن وفيها عدد كبير من حفظته حتى من الفلاحين ، وكانوا يرددون "لا قرآن إلا سفطاوي ، ولا علم إلا أحمدي" وأحمدي هذه نسبة إلى أحمد البدوي المدفون في طنطا .
وفي ذلك الوقت كانت القرية المصرية تمثل البساطة ، وسهولة الحياة ، وتحابب الناس وتعاونهم في السراء والضراء ، فإذا نزل بأحدهم كرب هبّ الجميع إلى معاونته ، فمثلاً إذا مات أحد أبناء القرية كان الجميع يراعون مشاعر أهله ، فم كان ينوي الزواج قد يؤخر زواجه شهوراً أو سنة وربما أكثر مراعاة لجاره وابن قريته ، ويكاد الجميع أن يكونوا أبناء أسرة واحدة إذ تجمع بينهم القرابات والمصاهرات وما شابه ، وكان معظم أهل القرية من الفلاحين ، وفيما بعد نشأت في مدينة "المحلة" (ونحن بين المحلة وطنطا) شركة مصر للغزل والنسيج وهي أكبر مصانع من نوعها في مصر ، وربما في الشرق الأوسط كله في ذلك الحين ، فاتجه عدد من أبناء القرية وشبابها إلى العمل في مصانع المحلة .
أعتقد أن الإنسان يؤثر فيه أمران : الوراثة والبيئة ، أمور يرثها الإنسان من أبويه وأجداده وفصيلته لا دخل له فيها لأنها أمور قدرية ، وأمور يتأثر فيها ببيئته ، هذه البيئة أثرت فيّ بتوجهي الديني منذ صغري ، في توجهي إلى الأزهر ورغبتي في أن أكون من علمائه . هذه الرغبة كانت في نفسي منذ كان العلماء يأتون إلينا وأحضر دروسهم وأشغف بالاستماع إليهم ، فكنت أود أن أكون واحداً مثلهم وقد كان للعلماء مكانة واحترام وتقدير يكاد يشبه القدسية . هذه النشأة تركت في نفسي حب البساطة وعدم التكلف في الحياة وكراهة انصياع الإنسان للبهرجة والزخرفة حتى وأن تغيرت حياتي من الناحية الشكلية ، فها نحن نسكن بيوتاً فخمة في المدن ونركب السيارات الفخمة ، ولكن في أعماق الإنسان يسكن "الريفي" البسيط ، وإن لم يظهر ذلك على السطح كثيراً.
لقد نشأت يتيماً ، توفي والدي وعمري سنتان ، وأنا وحيد لا أخوة ولا أخوات لي ، ولذلك كنت مدللاً عند والدتي لأنني وحيدها ، وكان أقاربي يحبونني ويدللونني كثيراً ، ولعل هذا كان تعويضاً من الله سبحانه وتعالى عن يتمي المبكر ، عمي الذي كفلني بعد أبي كنت أسميه أبي وأناديه "يابا" وكنت أنادي أولاده بأخوتي وهكذا كان الجميع يعتبروننا . ما تعودنا أن نقول : عمك وابن عمك ، وكذلك أخوالي وخالاتي ، كان هناك حب صادق نحوي ، وكنت أبادلهم حباً بحب وإلى الآن هذا مستمر ، ومما أحمد الله سبحانه وتعالى عليه ، أنني رزقت حب الأقارب والجيران وأهل القرية من عهد مبكر ، حتى أن الناس كانوا يقدمونني للصلاة بهم إماماً وأنا ابن عشر سنين ، لأنني ختمت القرآن وأنا ابن تسع سنين وبضعة أشهر ، وكنت أحفظه حفظاً جيداً ، وأرتله بصوت خاشع ومؤثر ، فكان الناس يحبون قراءتي ويقدمونني للصلاة في شهر رمضان بالذات ، خاصة صلاة الفجر ، وما زال بعض الناس يذكرونني بهذا ، خاصة صلاة الفجر ليلة الجمعة فأقرأ سورة "السجدة" وسورة "الإنسان" فأطيل القراءة والصلاة والناس تتأثر وتبكي ، وكنت بفضل الله محبباً عند أهل قريتي ، وكانوا يرددون كثيراً : الشيخ يوسف ، الشيخ يوسف ، وهذا "التشييخ" المبكر حرمني من شقاوة الأطفال فلا يعقل أن أكون شيخاً وألعب وألهو كالأولاد الآخرين ، "شيخوني" مبكراً فصرت أشعر بأن عليّ أن أكون وقوراً .
مما لاشك فيه أن الإنسان السوي يحن إلى ماضيه وطفولته ، ومن الوفاء ألاّ ينسى الإنسان ماضيه ، والحقيقة أنني أعتز بقريتي وأهلي ، وصلتي بهم ما زالت قوية والحمد لله ، وإن كنت لا أجد وقتاً لزيارتهم باستمرار ولكن بين الحين والحين إلاّ أن الود ما زال قائماً والحمد لله .
لم آسف على ما ضاع من طفولتي اللاهية ، ولكنني أسفت على شيء آخر ضاع مني ، كما قلت حفظت القرآن دون العاشرة ولم أدخل معهد طنطا الديني الأزهري إلا في الرابعة عشرة ، فبقيت ما يقرب من خمس سنين لا أكاد أصنع شيئاً فأقول الآن : لو أن الوقت كانت له قيمة يومها ، ولو أنه كان هناك من يوجهني لما ضاع من عمري خمس سنوات ، لو أنني وجهت مثلاً لتعلم اللغات لكنت عرفت لغة أو أكثر وأتقنتها ، فقد كانت عندي قدرة لغوية هائلة وحافظة لاقطة مستوعبة ، وذاكرة خازنة إلى درجة كبيرة ، ولكن في بلد ريفي وفي ذلك الزمان لم يكن هناك من يقدر قيمة الوقت ، ولذلك فإنني بعد أن كبرت صرت أفكر : يا سبحان الله ، لو أن أحداً وجهني ، لو أن أحداً أعطاني كتب الحديث أحفظها ، أو دواوين شعر أقرؤها لتغير الحال ، هذا الذي آسف له ، والحمد لله على كل حال .