المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الكائن



عبد الحميد الغرباوي
27/01/2007, 05:12 PM
الكائـــــــــــــن
إلى العزيزين: محمد أسليم
زكي العيلة و الرجل الأديب الطيب الزين نزار رغم ما بيننا من اختلاف في وجهات نظر..

العارفون قالوا:
" هو يعرف سر الأرض و سر الماء و النار"
و قالوا:
" في أعماقه يكمن الماء و النار.."
و الآخرون استغربوا فقالوا:
" و هل يلتقي الماء بالنار !؟.."
فرد العارفون:
" ذاك سر من الأسرار.."
و أردف واحد منهم:
" أ لم تسمعوا بالجبل الذي فيه غار، إذا دهنت فتيلة و أدخلتها فيه أوقدت ؟.."
و زاد آخر:
" ... و به عينان.. إحداهما باردة و الأخرى حارة، و المسافة التي بينهما مقدار شبر.."
أما الأطفال فقالوا:
ـ أين ولد؟
ـ هل ولد من بطن الأم كما ولدنا نحن؟..
ـ لا يمكن أن يولد كما يولد البشر... انظروا إنه يخرج من بين ثنايا الأرض..
و سمعهم شيخ فقال:
ـ هو يولد في كل مكان، و موجود بكل مكان، و تكوينه يكون في عمق الأرض. و حين تتم دورة تكوينه، يبرز على السطح معلنا ولادته، كالنبات...
كالإنسان، أصله من تراب...
ـ أجل معلمنا قال:
" الإنسان أصله من تراب.. يولد من تراب و يعود إلى التراب.."
ـ إذن أصله و أصل البشر سواء..
ـ لكنه لا يعقل
ـ و لا يحس
ـ و لا ينعم
ـ و لا يشقى
ـ و لا يفكر
ـ و لا يدرك أنه موجود
و عندما طلع فجر يوم من أيام الربيع، برز الكائن من أعماق الأرض كزهر الجلنار، ليجد الأطفال في انتظاره...
هللوا مرحبين به، و كانوا هيأوا لمقدمه مساحات خضراء، ليلعبوا معه فيها لعبة البناء: منازل ذات حدائق غناء، و نوافذ كثيرة يدخل منها النور و الهواء، و مدارس بساحات تزينها أشجار..
إلا أن الكائن لم تستهوه لعبتهم.
ألحوا عليه في اللعب معهم فامتنع.
و حين تملكهم اليأس في استدراجه لمشاركتهم لعبهم، ابتعدوا عنه قليلا و التفوا على بعضهم البعض يتشاورون في أمر، ثم عادوا إليه، صنعوا حوله دائرة و جلسوا:
ـ أيها الكائن الظريف، هل تعقل؟
ـ أيها الكائن الظريف، في أي مكان من أعماق الأرض تتكون؟
ـ أيها الكائن الظريف، هل في داخلك يكمن الماء و النار؟
ـ أيها الكائن الظريف هل تنعم؟
ـ أيها الكائن الظريف، ماذا تعرف عن الأرض من أسرار؟
ـ أيها الكائن الظريف، هل تشقى؟
ـ أيها الكائن الظريف، كيف تنتقل من مكان إلى مكان؟
ـ أيها الكائن الظريف، هل تفكر؟
ـ ... و تدرك أنك موجود؟
ـ أيها الكائن الظريف، هل تعيش عدد سنين الإنسان؟
ـ أيها الكائن الظريف، هل تعيش أكثر؟
ـ مئة ! ..
ـ ألف ! ..
ـ هل أكثر!؟..
ـ أيها الكائن الظريف، أكيد أنت تعيش أكثر
ـ و تعرف من التاريخ الغابر
ـ .. و ما لم به نخبر
ـ أنا أحب التاريخ
ـ و أنا كذلك
ـ و أنا أموت فيه
ـ معلمنا هو الذي حبب لنا التاريخ
ـ معلمنا قال: " هذه الأرض أرضكم فأحفظوا تاريخها"..
ـ معلمنا قال:" إذا كنتم تحبون أرضكم فادرسوا تاريخها"
ـ " أحموه"..
ـ " من التزييف"
ـ " و التشويه"
ـ و في اليوم التالي تغيب عنا
ـ و تغيب في اليوم الذي أعقبه
ـ و لم نعد نراه في الأيام الأخر
ـ غاب عنا إلى الأبد
ـ و قبله غاب أبو خالد
ـ كان يحب الأطفال
ـ و أبو عامر
ـ كان يقص علينا حكايات الأبطال
ـ و أخو سمية
ـ كان يخترع لنا الألعاب المسلية
ـ قل لنا أيها الكائن الظريف،أين يغيب مثل هؤلاء الرجال؟
و حين استنفذت لعبتهم كل الأسئلة، و الكائن الظريف في وسطهم سادر، كأنه لم يسمع، تمددوا داخل المساحة الخضراء.
و ما هي إلا ثوان، حتى غيبهم النوم داخل عوالمه الأرجوانية، و الكائن الظريف يراقبهم متأملا وجوههم المعفرة بالتراب، و الحالمة بالمنازل و الحدائق و النوافذ و المدارس و الساحات و الأشجار...
و فجأة، هاجت الأرض من تحتهم واضطربت، فانتصب الكائن مستنفرا...
صوت صوتا لم تسمعه إلا أذان الصغار، فهبوا من رقادهم مذعورين ليجدوا أمامهم عساكر، و عسسا مدججين بالسلاح و العصي الغليظة و التروس و الغاز المسيل للدموع...
صوت الكائن ثانية، فرأوا منه مشهدا عجبا، إذ انفلت من بين ثنايا الأرض، و حلق في الفضاء..
و صوت ثالثة، فانشطر على ذاته إلى عدة أشطر..
و صوتت الأشطر، فتحولت إلى طير حطت على أكتافهم ، غردت في أذانهم، فارتسمت على الشفاه ابتسامة رضى و اطمئنان.
ثم حطت على أكفهم، و غردت تغريدة تقطر ماء..
كل قطرة منه تصير حجرا،
يتقد لهبا و نارا،
طفقوا يرمون به العساكر و العسس المدججين بالعصي الغليظة و السلاح، و هم يصيحون:
ـ الكائن الظريف يعقل
ـ و يحس
ـ و ينعم
ـ و يشقى
ـ و يفكر
ـ و يحب التاريخ
ـ و يدرك أنه موجود.
و قال العارفون:
" هو يعرف سر الأرض و سر الماء و النار
و قالوا:
ـ في أعماقه يكمن الماء و النار
و قال الأطفال:
ـ اصمتوا
ـ و أنصتوا
ـ فها الحجر يتكلم.
ـــــــــــــــــــ
من المجموعة القصصية: عري الكائن ( 1994 الطبعة الأولى)

زاهية بنت البحر
27/01/2007, 05:33 PM
وكأنني به يقذفه الأطفال نارًا بوجه المغتصب ..هذا الكائن الذي يلقي الرعب في قلوب المدججين بالسلاح والعصي..جميلة هذه القصة ومافيها من دلالات ..دمت بخير أخي المكرم عبد الحميد..
أختك
بنت البحر

زكي العيلة
28/01/2007, 08:13 AM
العجائيبة والرموز الشفافة واللغة المنسابة الأقرب إلى الشعر تضفي على نص (الكائن) مدلولاتها وإيحاءاتها، فهذا الكائن الطالع من ثنايا الأرض محمّلاً بأسرار الأرض والماء والنار، يلوح يداً حانية مبشّرةً، ودليلاً يدق الأبواب الموصدة، ناسجاً خيوط نبوءات الحالمين بالخلاص.

(الكائن) هو الأرض والتاريخ المشع والأطفال الذين يحملون في أكفّهم أشطر جسده المنفلتة من ثنايا الأرض، يصبّونها حجارة لهب تكوي رؤوس المحتلين المدججين بالسلاح والطاعون وبراميل الحقد، حيث لا بقاء إلا لعشاق الأرض وحرّاسها.

نص ثري لقاص متمكن.
دمت بخير أيها الغرباوي الجميل، وشكراً على الإهداء.

اشرف الخريبي
28/01/2007, 12:47 PM
الكائن


نعم هو الكائن الذى يحمل لكينونة كلا

لى وقفة نقدية هنا مطولة تليق بحم هذا النص المبُدع


تحيتى لصديقى الغالى استاذ عبد الحميد الغرباوى
وكل الأصدقاء هنا



اشرف الخريبي

عبد الحميد الغرباوي
28/01/2007, 11:52 PM
الأديبة زاهية بنت البحر،شكرا لوقوفك هنا ، قريبة جدا من " الكائن"...
الأعز زكي العيلة،
دام لك الحرف مطواعا، و دمت أديبا متألقا..
أخي العزيز أشرف الخريبي،
أنتظر قراءتك بشوق..

عبدالرحمن الجميعان
29/01/2007, 12:09 AM
قصة من النوع السياسي الفانتازي، استطاع الكاتب توظيف الرموز واسقاطها على الواقع المعاصر المليء بالتناقضات والعجز العربي والاستسلام والقهر السياسي وتكميم الأفوا....الرموز موظفة توظيفا جيدا ، الأطفال، الكائن، المعلمون، العسكر....الحجر...فلكل دلالة سياسية نعرفها في واقعنا المعصر، اللغة سهلة سلسة تطاوع الكاتب،شخصية الكائن مشت متسلسلة منذ البداية و منطقية، الخيال عنصر أصيل في القصة امتزج مع اللامعقول فشكل رؤية سياسية واضحة، وهكذا تكون القصص ذات المغزى، بحيث يستطيع الكاتب قول كل شئ بلاشئ، مجرد سرد قصصي بعيد موغل في تكثيف الرمزية، مع سهولة اللغة..ننتظر عودة الناقد الفاضل لنقرأ معه القصة في وقفاته..!

عبد الحميد الغرباوي
29/01/2007, 10:23 PM
أخي عبد الرحمن الجميعان،
تكملة لما بدأناه في صفحة أخرى،..
كنت بدأت ردي على ما جاء في قراءتك للنصوص الثلاثة(عرف الديك: خليل حلاوجي )
قلتُ:
إن القراءات تتعدد كما الإسقاطات أيضا...
هنا النص " الكائن" واضحة معالمه، إنه يتحدث أو يؤرخ لزمن الحجارة، حيث برز ساعد الطفل الفلسطيني الغض كمعادل للبندقية و هراوة المحتل... و كان مقاوما عنيدا، جبارا.. أذهل العدو و أخرجه عن طوعه...
العالم كله وقف إنبهارا و إجلالا لهذا الطفل المقاوم..
لا أريد أن أستطرد في هذا المجال..
و عودة إلى موضوعنا الأساس، هناك بعض النصوص لا تحتمل أكثر من قراءة واحدة، أو إسقاط واحد لا ثاني له و إلا قرئت قراءة تعود عليها بنتائج عكسية، و هذا ما رمت إليه قراءتي للنصوص الثلاثة، أردت أن أنبه إلى أن بعض النصوص تحتاج إلى إضاءة ، إلى تنبيه إن شئت، و إلا قرئت قراءة أو قراءات لا تخدم النص، و أتيت أنت لتعيد للنصوص "هيبتها" أو الأصح قيمتها..
لا بأس في أن يقدم الكاتب لنص هو يعرف بالسليقة أو بالتجربة أنه يحتاج لإضاءة ، كأن يسمه ب: "قصص سياسية "على غرار " قصص أو رواية بوليسية و هلم جرا...
أقول يلجأ الكاتب إلى تحديد كهذا، حين يشعر أن نصا أو نصوصا تحتاج إليها..
سعدت بقراءتك التي لم تبتعد كثيرا عن المغزى الحقيقي..
الكائن هو تلك الحجارة التي كانت تعانقها كف الفلسطيني الصغير لترجم بها شيطان العصر...
دمت أخا عزيزا.

شوقي بن حاج
13/06/2009, 08:03 PM
الأديب العزيز/ عبد الحميد الغرباوي

كما كل النصوص تصبحا بذاتها كائنا

يتنفس كما الأرض

وتصبح الأرض كائنا بيد الأطفال

لضرب عدونا

تقبل الإبداع كله