المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحشيش والصوفية 1



إبراهيم كامل
18/09/2009, 07:15 AM
الحشيش والصوفيةبقلم: إبراهيم كامل أحمد

الصوفية من أهل الله وخاصته ، الذين ترجى الرحمة بذكرهم ، ويستنزل الغيث بدعائهم . . قال أبو القاسم القشيري: "جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه ، وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه صلوات الله عليهم وسلامه".جعل الله قلوبهم معادن أسراره ، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره ، فهم الغياث للخلق والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق ، وقال أبو القاسم الجنيد في وصف طريق الصوفية "طريقنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة" "وقال أيضاً" : "الطريق مسدود على خلق الله إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال عن التصوف: "التصوف استعمال كل خلق سني ، وترك كل خلق دني" ، "وقال أبو بكر الشبلي: "التصوف ضبط حواسك ومراعاة أنفاسك" قال أبو على الروذ باري عن الصوفي : "الصوفي من لبس الصوف على الصفا، وأذاق الهوى طعم الجفا، ولزم طريق المصطفي ، وكانت الدنيا منه على القفا" ، وقال تقي الدين أبو الحسن على السبكي : "الصوفي من لزم الصدق مع الحق، والخلق مع الخلق" وأنشد:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا قدماً ، وظنوه مشتقاً من الصــوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتي صافي فصوفي ، حتى لقب الصوفي وهذا يجعل من الصوفية منارات يستهدي بها الناس في بحر الحياة المتلاطم، والحق الذي لامراء فيه أن القوم خرج من بينهم رجال يعدون أمثلة مضيئة على مر الأزمان والأجيال.

الصوفية والحشيش
ولقد تعرض الصوفية لآفات أفسدت صفاء طريقهم وشوهت نقاء صورتهم، ومن بين هذه الآفات كان الحشيش أخطرها بما له من سحر في استجلاب الأحلام والأوهام مما جعل من تعاطوه منهم يركبون الشطط، ويتوهون في صحراء الباطل جرياً وراء السراب في شردات الضلال بعد أن غيبوا العقل نعمة الله التي خص بها الإنسان وميزه عن الحيوان.

وقد أطلق الصوفية على أنفسهم اسم الفقراء "لأن الفقر شعار الصالحين" . وقد نسب الحشيش إلى الصوفية واشتهروا به، وذاع بينهم حتى صار يعرف بهم ويعرفون به، وليس هذا محض افتراء عليهم. فقد ذكر الكثير من المؤرخين الحشيش منسوباً إلى الفقراء "الصوفية".فالمقريزي عندما أراد ذكر الحشيشة أفرد لها فصلاً تحت عنوان "حشيشة الفقراء" ، وقال ابن عبد الظاهر في حديث عن خراب بستان كافور الإخشيدي وإزالة أشجاره "ولعمري أن خرابه كان بحق فإنه كان عرف بالحشيشة التي يتناولها الفقراء والتي تطلع به يضرب بها المثل في الحسن" ، وفي كتاب "النجوم الزاهرة في حلي حضرة القاهرة" تعداد لما يفعله الفقير مع قلة الإعتراض عليه فيما ذهب إليه "والفقير المجرد فيها (أي القاهرة) مستريح من جهة رخص الخبز وكثرته، ووجود السماعات والفرج في ظواهرها ودواخلها، وقلة الإعتراض عليه فيما ذهب إليه ، وله نفسه يحكم فيها كيف شاء من رقص في وسط السوق أو تجريد أو سكر من حشيشة أو صحبة المردان وما أشبه ذلك".
الشيخ حيدر واكتشاف الحشيش:
ويذكر الحسن بن محمد في كتاب "السوانح الأدبية في مدائح القنبية" كيف اكتشف المتصوف الشيخ حيدر الحشيش وأشاعه بين أصحابه وأشاعه أصحابه بين الناس ، قال الحسن بن محمد: "سألت الشيخ جعفر بن محمد الشيرازي الحيدرى ببلدة تسترفي سنة (658هـ) عن السبب في الوقوف على هذا العقار "الحشيش"، ووصوله إلى الفقراء خاصة وتعديه إلى العوام عامة، فذكر لي أن شيخه شيخ الشيوخ حيدر رحمه الله كان كثير الرياضة والمجاهدة قليل الاستعمال للغذاء ، وقد فاق في الزهادة وبرز في العبادة وكان مولده ببشاور من بلاد خراسان ومقامه بجبل بين بشاور ومارماه، وكان قد اتخذ بهذا الجبل زاوية وفي صحبته جماعة من الفقراء، وانقطع في موضع منها، ومكث بها أكثر من عشر سنين لا يخرج منها ولا يدخل عليه أحد غيري للقيام بخدمته، ثم أن الشيخ طلع ذات يوم، وقد اشتد الحر وقت القائلة منفرداً بنفسه إلى الصحراء، ثم عاد وقد علا وجهه نشاط وسرور بخلاف ما كنا نعهده من حاله قبل ، وأذن لأصحابه في الدخول عليه، وأخذ يحادثهم ، فلما رأينا الشيخ على هذه الحالة من المؤانسة بعد إقامته تلك المدة الطويلة في الخلوة والعزلة ، فسألناه عن ذلك، فقال: "بينما أنا في خلوتي إذ خطر ببالي الخروج إلى الصحراء منفرداً، فخرجت فوجدت كل شئ من النبات ساكناً لا يتحرك لعدم الريح وشدة القيظ، ومررت بنبات له ورق ، فرأيته في تلك الحال يميس بلطف ، ويتحرك من غير عنف كالثمل النشوان ، فجعلت أقطف منه أوراقاً واكلها ، فحدث عندي من الإرتياح ما شاهدتموه، وقوموا بنا حتى أوقفكم عليه لتعرفوا شكله ، فخرجنا إلى الصحراء فأوقفنا على النبات ، فلما رأيناه ، قلنا: هذا نبات يعرف بالقنب ، فأمرنا أن نأخذ من ورقه ونأكله، ففعلنا ثم عدنا إلى الزاوية ، فوجدنا قي قلوبنا من السرور والفرح ما عجزنا عن كتمانه ، فلما رآنا الشيخ على الحالة التي وصفنا ، أمرنا بصيانة هذا العقار ، وآخذ علينا الإيمان أن لا نعلم به أحداً من عوام الناس، وأوصانا أن لا نخفيه عن الفقراء ، وقال: "إن الله تعالى قد خصكم بسر هذا الورق ليذهب بأكله همومكم الكثيفة ويجلو بفعله أفكاركم الشريفة فراقبوه فيما أودعكم وراعوه فيما استرعاكم"، قال الشيخ جعفر: "فزرعتها بزاوية الشيخ حيدر بعد أن أوقفنا على هذا السر في حياته وأمرنا بزرعها حول ضريحه بعد وفاته" ، وعاش الشيخ حيدر بعد ذلك عشر سنين وأنا في خدمته لم أره يقطع أكلها في كل يوم ، وكان يأمرنا بتقليل الغذاء وأكل هذه الحشيشة، وتوفي الشيخ حيدر سنة ثمان عشرة بزاويته في الجبل، وعمل على ضريحه قبة عظيمة، واتته النذور الوافرة من أهل خراسان ، وعظموا قدره وزاروا قبره واحترموا أصحابه ، وكان قد أوصى أصحابه عند وفاته أن يوقفوا أهل خراسان وكبراءهم على هذا العقار وسره فاستعملوه، فلم تزل الحشيشة شائعة ذائعة في بلاد خراسان ومعاملات فارس".
وإن صحت هذه القصة فلاشك أن الشيخ حيدر قد استن سنة منكرة تبعه فيها كثير من الغاوين ودق مسماراً في نعش التصوف، وإن كانت موضوعة ففي رأينا أن واضعها هو أحد المفسدين من الصوفية أراد بوضعها أن يقر هذه العادة الذميمة وهي أكل الحشيش وأن يضفي عليها ثوباً من القداسة والشرعية ، ولنلاحظ قول الشيخ حيدر: "بينما أنا في خلوتي إذ خطر ببالي الخروج إلى الصحراء منفرداً" وكأنه "ألهم" أن يخرج إلى الصحراء ليكتشف نبات الحشيش، وكذلك قوله "إن الله تعالى قد خصكم بسر هذا الورق ليذهب بأكله همومكم الكثيفة ويجلو بفعله أفكاركم الشريفة" مما يجعل من تعاطي الصوفية للحشيش إرادة إلهية اقتضتها حكمة الله سبحانه وتعالى عما يؤفكون فهو طيب يحب كل طيب . . . وقد وردت نسبة الحشيش إلى الشيخ حيدر في الأشعار:-
دع الخمر وأشرب من مدامة حيدر معنبرة خضراء مثل الزبرجد

وإذا هممت بصيد ظبي نافـــر فأجهد بأن يرعى حشيش القنبس
وأشكر عصابة حيدر إذ أظهروا لذوي الخلاعة مذهب المتخمس وذكر "لين" في "كتاب عادات وتقاليد المصريين المحدثين" ما شاهده أثناء إقامته في القاهرة من أن "أعداداً غفيرة من الفقراء استسلموا لسحر الحشيش وحاجوا بأنه حلال للمسلمين".
بينما يتحدث "ابن البيطار" الطبيب عن استعمال الفقراء للحشيش في مصر كشاهد عيان ينقل لنا ما رآه بعينيه "ورأيت الفقراء يستعملونها (الحشيشة) على أنحاء شتى" وقد وصف الشيخ الأديب الفاضل شرف الدين أبو العباس أحمد بن يوسف الحشيشة بأنها "أنس كل فقير"، وقد جاء هذا الوصف ضمن ثمانية عشر بيتاً من الشعر أنشدها في ربيع الأول سنة (643هـ) يرثي فيها الحشيشة ، ويتحسر عليها بعد أن أمر السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بإحراقها:
لهفي وهل يجدي التلهف في ذرى * طرب الغني وأنس كل فقير