المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الهجرة : رحلة اليقين وركوب الأسباب !



محمد بن أحمد باسيدي
28/01/2007, 03:14 PM
الهجرة : رحلة اليقين وركوب الأسباب
عبد الخالق برزيزوي
دروس وعبر ودلالات كثيرة يقف عندها القارئ في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تروي أحداث الهجرات التي أذن بها الله للرسول صلى الله عليه وسلم ولصحابته.
أقف على بعض المشاهد التي تعكس صورة جلية ليقين رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته في الله ، يقين رافق الرعيل الأول من المسلمين منذ الهجرة الأولى إلى الحبشة ، وسيج هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
قال ابن إسحاق : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء ، وما هو فيه من عافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه" (1)
فلما اشتد ظلم قريش واضطهادهم على المسلمين بمكة ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن يهاجروا إلى الحبشة، وهي بلاد بعيدة ودونها مسافة طويلة ، ومشقة وعبور صحراء وركوب بحر ومجازفة..
كيف إذن أمن المسلمون بأن الخير قد يكتب لهم في تلك الرحلة ؟ وفي المُقام والمكوث بين قوم ليسوا قومهم ، وفي جوار ملك لا يدين بدينهم ، دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد اضطهدهم قومهم وبنو جلدتهم وأنزلوا بهم أشد أصناف التعذيب والتنكيل والأذية المادية الجسمية والمعنوية النفسية؟
كيف يطمئنون على أرواحهم وأبنائهم إذا تركوا ديارهم ومتاعهم وأموالهم وخرجوا إلى ما يمكن اعتباره مجهولا وعدما؟ كان اليقين والثقة والتسليم لأمر الله ورسوله هو عدتهم وعتادهم ، كان الصحابة رضوان الله عليهم يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى ، وأن ما أمرهم به وحي وإذن من الله تعالى ، إذ قال لهم : " إن بها ملكا لا يظلم عنده أحد " كانت هذه الكلمات كافية لتبعث في قلوبهم الأمن والاطمئنان واليقين بأن الله مانعهم وبأن أمره بالغ لا محالة.
لم يترددوا رضوان الله عليهم ، ولم يلتفتوا ، بل سمعوا وأطاعوا ولبوا!
هذا مبدأ التصديق وعربون اليقين في موعود الله ورسوله بأن ينصر دعوته ، فهل اطمأن الصحابة المهاجرون إلى ذلك ثم تجاهلوا كل الأسباب والسنن التي جعلها الله تكليفا شرعيا وجب على المسلمين الأخذ بها والعمل بمقتضياتها؟
كلا ! فقد اتخذ الصحابة كل أسباب الحيطة والحذر وخرجوا مستخفين متسللين في هجرتهم ، بل حتى لما جاء عمرو بن العاص يكلم النجاشي في أمر المسلمين ويغري بهم عنده ويسأله أن يسلمه إياهم ليرجع بهم إلى قومهم " فهم أدرى بهم " بادر المسلمون إلى إعمال الجهد ومدافعة الباطل بالحجة ، وانتصب جعفر بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبسط للملك النجاشي أمر الإسلام ، هذا الدين الجديد وتلا عليه من القرآن كتاب الله ، وحاج عمرو بن العاص ولم يأل جهدا في موافقة ما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم بأن النجاشي لا يظلم عنده أحد!
فيقينه وتصديقه رضي الله عنه ، دفعاه إلى الإصرار على توضيح ما أشكل على الملك النجاشي وعلى بيان حقيقة ما يدعو إليه الإسلام وبطلان دعاوى عمرو بن العاص وقومه.
الصورة الثانية أستقيها من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حيث كان يخرج إلى القبائل ليعرض عليها نفسه ويبلغهم دعوة الإسلام ويطلب منهم نصره وإيواء دعوته.
هنا كذلك نلتقي مع درس آخر في يقين رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربه ، ذلك اليقين الذي نفذ إلى قلبه عليه الصلاة والسلام وقذف فيه الاطمئنان والتفاؤل وحسن الظن في الله تعالى .
قال ابن إسحاق : " ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم." (2)
عرض نفسه عليه الصلاة والسلام على أشراف ثقيف فكان ردهم منكرا من القول والفعل ، حيث تركوه وأغروا به سفهائهم يرمونه بالحجارة وبأسوأ الكلام ، وهو عليه الصلاة والسلام لا يبالي ولا يهتم " إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي " (3)
فقد تيقن بأن الله كفاه أذاهم وبأنه تعالى سيظهر دينه ولو كره المشركون..
أما الصورة الثالثة والأخيرة في رحلة هذه الهجرات، فألتقطها من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة رفقة أبي بكر رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق :" وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلا ذا مال ، فكان حين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تعجل لعل الله يجد لك صاحبا ، قد طمع أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما يعني نفسه، حين قال ذلك ، فابتاع راحلتين ، فاحتبسهما في داره ، يعلفهما إعدادا لذلك."(4)
وحينما أذن الله للرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة " ..ورغم يقينه الكامل – عليه الصلاة والسلام - بأن الله معه يرعاه ويسدد خطاه ، لم يتعجل الحركة ، ولم يرتجل الخطوات كان عليه أن يخطط للهجرة ، مستخدما كل ما وهب من إمكانات الفكر والبصيرة والإرادة.لأنه بهذا وحده يستحق نصر الله ووعده...وإلا فلأي شيء منحنا الله بصائر وعقولا وحرية وقدرة على التحرك والتخطيط ؟ " (5)
فراح أبو بكر في يقينه وتصديقه المعهودين يعد العدة لتلك الرحلة ، ويرتب المراحل ويوزع الأدوار على أبنائه وبناته ، ويجهز أسباب وشروط الهجرة من عناصر بشرية ومن رواحل وأموال تعينهم في خروجهم.
يقين وإعداد للأسباب ، لم يمنعه رضي الله عنه تصديقه وثقته في أمر استبقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له ، وتأخير هجرته حتى يجد الله له صاحبا ، لم يمنعه ذلك من اتخاذ الأسباب وركوب سنن الله في التهييء والتخطيط لذلك الحدث الذي سيقلب ميزان القوة لصالح الفئة المؤمنة ويغير مجرى التاريخ البشري .
راحلتان ودليل مشرك وبعض الزاد أتت به أسماء بنت أبي بكر ، هذا كل ما أعده أبو بكر وأله لهذه الرحلة الطويلة في الزمان والمكان ، رحلة سيكتب لها النجاح والظفر وستكون بداية عهد ومرحلة جديدة بكل المقاييس ، أرض ووطن جديدان ، بنية وتركيبة اجتماعية تحكمها قوانين ومواثيق وأعراف جديدة ، سياسة وحكم جعل لهما الله شرعة ومنهاجا جديدين.
" ومعا استكملا الخطة ووضعا الأسباب ، وتركا – من ثم – مصيرهما ومصير الدعوة لله ، صانع المصائر ومقدر الأقدار... التسلل من شباك خلفي على غفلة من قريش..التوجه جنوبا على طريق اليمن واللجوء إلى إحدى مغارات جبل ثور هناك التوقف عن السير ثلاثة أيام ريثما تخف محاولات القريشيين المستميتة في البحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم " (6)
ومن غار ثور رأى أبو بكر بأم عينيه نعال المشركين المطاردين عند أسفل الغار.فارتعد فرقا على رسول الله عليه الصلاة والسلام وعلى مصير الدعوة ن فهمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا : " لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا "
ويجيء رد الرسول صلى الله عليه وسلم كله يقين واطمئنان : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟" ثم يأتي كلام الله تعالى يؤكد حمايته لنبيه وصاحبه ": " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم " (7)
ومن دروس اليقين أيضا ، ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما خرج مهاجرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد " ...احتمل ماله كله ، ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف " (8)
فلما دخل أبو قحافة والد أبي بكر رضي الله عنه على أحفاده بعد خروج أبيهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ..والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه . قالت – أسماء بنت أبي بكر – قلت كلا يا أبت ( و كان قد ذهب بصره ) إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا . قالت : فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها ...ثم وضعت عليها ثوبا ، ثم أخذت بيده ، فقلت : يا أبت ضع يدك على هذا المال ، قالت : فوضع يده عليه ، فقال : لا بأس ، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن ، وفي هذا بلاغ لكم . ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك" ( 9)
ثقة ويقين كاملين في أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا وبأنه تعالى يرزق عباده المتقين من حيث لا يحتسبون، أخذ رضي الله عنه المال كله لينفقه في سبيل الله وترك الله لعياله.
وهذا سراقة بن مالك بن جُعثُم لما خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عمت عينه وملأتها المائة ناقة هبة من يرده عليه الصلاة والسلام إلى قومه، فلما رأى تعثر فرسه مرة تلو الأخرى ، والرسول عليه الصلاة والسلام ماض في طريقه مهاجرا في سبيل الله ، موقنا بأن العاقبة للمتقين ، لا يلتفت ، وأبو بكر رغم ذلك ، وأخذا بالأسباب،لا ينفك يأتيه مرة عن اليمين ومرة عن شماله الكريمة ومرة أمامه وأخرى وراءه يحميه بنفسه وجسده خوفا عليه من طالبيه ، أيقن سراقة بأنه لن يدرك الرسول صلى الله عليه ولن يصله بأذى ، فتولى عنه بعد أن أخذ منه عليه الصلاة والسلام عهدا ، ولم يخبر قريشا بشيء من أمره ( 10) سيرة ابن هشام ج 2 ص490
مازال واقعنا في مجمله بين طرفي نقيض. فمن جهة نجد من يؤمن بأنه سيكون للإسلام وللمسلمين شأن كبير لكنه قاعد ينتظر أن يفعل به وله دون أن يحدث نفسه بفعل أو بذل أو جهد من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل والنهوض بهذه الأمة نحو استقبال موعود الله ورسوله في التمكين والاستخلاف في الأرض ، هذا يميت علبنا ديننا ويعطل سنة الله في الكون وفي الأنفس ، إذ لابد من اقتران تدبير العباد بإرادة وتدبير رب العباد.
ومن جهة أخرى هناك من يعيش واقعا ميؤوسا قانطا لا يرى من أمر الإسلام وأهله إلا السواد يغشيه ليل حالك لا يكاد يتبين منه خيط بياض ولا ومضة نور ..أقعدته هو الآخر غلبة الاستكبار العالمي وصولته وما يظهره من قوة وعنف وبأس ، مقابل تراجع وانبطاح أنظمتنا العربية والإسلامية أمامه واقتفائها سننه.
إن التاريخ يعيد نفسه ، فأسباب النصر والتمكين وشروطه ومقتضياته لا تتغير ولا تتبدل ، فتلك سنة الله ، ولن تجد لسنة الله تبديلا .
المتغير هوز الزمان والأحوال والظروف والوسائل وتقدير الأولويات وترتيبها .فلنأخذ بالثوابت كاملة غير منقوصة ولا مجزأة، فالثقة في الله واليقين فيه تعالى والاعتماد عليه واستمطار النصر والمدد منه سبحانه، لايمكن أن نأخذ منه ونترك ، بل لابد من إتمام كل ذلك وإجماله .
ثم نتدرج في إتيان الأسباب ونقدم ونؤخر في ترتيب الأولويات حسب الظروف والمتاح ، ونعد من الجهد والطاقة والإمكانيات ما يبلغه الوسع وبعد ذلك لا نلام.
هكذا ينبغي أن نتعلم اليقين وهكذا أيضا ينبغي أن نتعلم الإتيان بالأسباب والأخذ بها في كل أمر الدعوة، وقبل ذلك و أثناءه وبعده لا نبرح نسأل الله التأييد والعون والمعية.
لن يبرح المسلمون مقعدهم من الذل والهوان والتأخر ما تجاهلوا ضرورة الجمع بين اليقين والثقة الكاملة في موعود الله ورسوله في ظهور الإسلام على الدين كله وفي سيادة أمته على الأمم كلها ، وبين النزول إلى الأرض ومعالجة الواقع والتخطيط والتدبير بما يقتضيه ذلك الظهور وتلك السيادة من أسباب وضرورات ميدانية حسية رقمية.
فعلى هذا فليشتغل كل أهل الدعوة استجابة وتلبية لنداء الله وأمره لعباده بأن ينفروا ويسارعوا في الخيرات طلبا لرضاه وحسن العاقبة وإعدادا للدولة التي جعلها الله حصنا حاميا للدعوة.

------------
الهوامش :
(1) أبو محمد عبد الملك بن هشام ، السيرة النبوية لابن هشام ، الطبعة الثانية ،المكتبة العلمية بيروت ، ج 1 ص 321-322
(2) نفسه ج2 ص419 .
(3) نفسه ص 420
(4) نفسه ص 484
(5) خليل ، عماد الدين، دراسة في السيرة ، الطبعة السابعة 1985 ، دار النفائس، ص 135
(6) نفسه ص 136
(7) نفسه ص 137 –0138
(8) السيرة النبوية لابن هشام، ج 2 ص488
(9) نفسه ج 2 ص 488
( 10) نفسه ج 2 ص490
نقلا عن:
http://www.aljamaa.info/ar/detail_khabar2.asp?id=3250&IdRub=126
ــــ
تحية مهاجرة
محمد بن أحمد باسيدي