المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بناء الجملة الشعرية



رمضان عمر
26/09/2009, 12:58 PM
بناء الجملة الشعرية
21 ايلول, 2009 وهل الشعر إلا أن تأتي بالمعاني، فترتبها في ذهنك، ثم تجلب لها الألفاظ المناسبة، فتنسجها وفق مقتضيات اللغة، وتعمل فيها ما جادت به قريحتك، من روعة تصوير ، وبعد خيال، وملائمة حرف لحرف، وكلمة لكلمة ، ومعنى لمعنى،محكما قوافيك احكاما تترقرق معه الايقاعات ، فتشنف الأذن وتطرب النفس ، ولا تقل لي: نحن في زمن تطورت فيه اساليب البيان ، ولم تعد القوافي محكمات لضبط البناء ، كما فصل الخليل ومن تبعه باحسان ؛ فالشعر لم يعد ضربا من التصوير ، بل هو دفقات شعورية تعبر عن صاحبها، وفق رؤية فلسفية ، لا يلزمها قيد الايقاع ، ولا ضبط اللغة.
فهذا الذي تراه ،وتضن به وتزعم انه تطور ،من كثير غث منتشر في اسواق الشعر الحديثة، وإن كان فيه ما نحب ونرتضي، غير أنه يحتمل خطأ لا بد من رده ، وهو هيكلية البناء التي يجب أن تستند إلى شكل له أسس تقام عليها أعمدة الكلم ، وما بعد ذلك أعمل فيه أدوات تزيينك.، وهذه الهيكلية مهما طرأ عليها من تطوير، فهي عائدة في مجملها إلى طبيعة اللغة الشعرية المتشكلة من كلام العرب أولا وآخرا، ومعتمدة على ذوقهم .خذ مثلا بيت امرئ القيس:قفا نبك من ذكءى حبيب ومنزلبسقط اللوى بين الدخول فحوملثم انظر هل ترى فيها من جمال؟ فان كان ذاك كما طلبتُ فقل لي: من أين تاتى لك ذلك الذوق،الذي قادك الى هذا الاستناس اللطيف ، المتفق عليه لدى اذوقة العرب من كبار نقادهم ، ما لم تنظر الى روعة السبك في تخير المعنى الافتتاحي ، وبنائه بناءا نحويا، وجلب افنان التصوير؛ ليخرج لنا عقدا لؤلؤيا، ودرا منثورا؟ ألم تر أنه أتاك بجملة انشائية؛ تمثلت في فعل الامر"قفا" فاثار فيك شحون الاخوة كي تشاركه فعلا اقتضته حالة الفراق ، ثم اوجب له ما يوجبه النحاة من جزم في جواب الطلب؛ فكانت كلمة "نبك" محذوفة الياء على شرط الجزاء ، وفق اصول النحو ثم علقت هذه الجملة بمقتضيات البكاء؛ فكان الظرف علة البكاء" من ذكرى" والاضافة اضافت معنى جديدا اكتمل معه البناء، ثم جاءت تفصيلات بينت قيمة المكان ، مكان الفراق ، و ومناطات القلوب باسباب الرحيل .ثم ارحل معي إلى بيت بشار، وانظر كيف اجتمع له من الحسن ما لم يجتمع لغيره ممن سبقه ، حيث يقول :كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبههذا الافتتاح الإدعائي العجيب، من خلال استخدام أداة التشبيه " كان" دون غيرها ، ذلك أن "كأن" تعطي قيمة استثنائية في ادعاء المشابهة التامة ، لا تعطيها الكاف في قولك : مثار النقع كالليل، لأن استخدام الكاف في تشبيه ساذج يسنحضر صفة وجه الشبه ، وهي صفة واحدة ن تتمثل وتلك الصفة قد لا توافق المشبه ، اعني تشبيه الليل بالنقع ، ولا يصلخ لتشكيل حالة تصويرية كما اراد بشار ، لكن جمال العبارة الشعرية ما كان ليكون لو لم تجتمع مع "كان" قرائن نحوية وصرفية وبلاغية، ساعدت في اكتمال الصورة .
وذلك من مثل : تنكير "مثار" واضافته الى النقع، واستخدام النقع دون غيره ، ثم الفصل بين الرؤوس والاسياف بالظرف، ثم الاتيان بالخبر مركبا "ليل تهاوى كواكبه" اتصف بصفة غريبة " تهاوى كواكبه" .وان اردت استزادة في هذا فتامل قول الله سبحانه:"و قيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء اقلعي ]أي توقفي ، ثم انظر الى بناء الجملة للمجهول ، وما يعطي من هالة للخطاب ، ثم اسناد الفعل للارض على سبيل الاستعارة، من خلال جملة النداء"يا ارض" ثم اضافة الماء الى الارض ، موطن الماء الاصلي[ و غيض الماء ]و هبط الماء أو رسب في الأرض .[ و قضي الأمر و استوت على الجودي ]لقد نفذ أمر الله بهلاك الظالمين ، و نجاة المؤمنين ، و تحقيق الجزاء لكلا الفريقين في عاجل الدنيا .[ و قيل بعدا للقوم الظالمين ]. هل تر في هذا التصوير البياني البديع غير تناسب اللفظ مع دقيق المعنى، وتصوير الحالة من خلال جلب اللفظ البديع ليعانق معناه في غير نفور او غرابة .فإن استقام لك الذوق عند هذا الحد ، فعد معي الى ما نراه من نسج غريب لما يسمونه "الشعر الحديث" -وبعض الشعر الحديث لا باس به - غير ان الانفلات من نظام العربية هجن الشعر ، وترك حبله على غاربه ، فاباح ساحته ، واصبحنا ندور في حلقات مفرغة ،لا طائل وراءه؛ا فلا مراعاة لأصول نحوية، ولا قيم جمالية ، وليس كذلك الابداع ، انما الابداع : ان تعيد تشكيل اللغة العربية تشكيلا بديعا، مراعيا لما تتطلبه العربية من نظام تعورف عليه .ثم بعد ذلك تخير قالبك دون ان تخدش رقة التصوير ،وسماحة الطبع، ورونق التعبير ،وشرف المعنى ووضوح العبارة . وان اردت الخفاء ؛ فخفاء المتامل لا خفاء الحوشي الغريب الذي لا معنى وراءه .
لسنا ضد التجديد،وملاءمة اللغة الشعرية للعصر ، ولن نلقي رحالنا حيث القت رحالها أم قشعم ، ولن نرحل في الشعر على ناقة أو بعير،بيد اننا لن ننحرف عن اصول التشكيل الهندسي للغتنا الجميلة التي انعم الله بها علينا، ونتمسك ابفهم ابن قتيبة حين رفض التجديد الاعمى "فيقف على منزل عامر، أو يبكي عند مشيد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم العافي، وليس له أن يرحل على حمار أو بغل ويصفهما، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذبة الجواري لأن المتقدمين وردوا على الأواجن والطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرار، كما لا يجوز له أن يقيس على اشتقاقهم فيطلق ما لم يطلقوا.. فالمعاني مطروحة في الطريق، وفق فهم ابن رشيق نقلا عن صاحب العبارة "عثمان بن بحر الجاحظ " ، الذي أعطى الشعر حقا في تخير معانيه اي افكاره ، رافضا الشعر الوعظي ، ومبينا أن الغلو من حيث هو تصوير خير من الصدق الذي يزل عن صهوة الإبداع ، ويهوي بالمباشرة الى قيعان السطحية .