المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بعد هدوء عاصفة شنجيانغ (تركستان): ماذا بعد؟



دكتور عبد الجليل طاش
01/10/2009, 10:42 AM
بعد هدوء عاصفة شنجيانغ (تركستان): ماذا بعد؟

د. محمد سيد سليم
لم تفاجئ أحداث العنف التى اندلعت فى 5 يوليو الماضى فى إقليم شنجيانغ الصينى المعروف تاريخيا باسم تركستان الشرقية ــ معظم المراقبين للأوضاع فى الصين إذ إنها أتت فى أعقاب أحداث مماثلة تكررت فى الإقليم منذ سنة 1997 وحتى سنة 2008. ولكن ما فاجأ المراقبين هو اتساع أعمال العنف فى الإقليم بالشكل المروع الذى وقعت به بحيث أصبحت تمثل أكبر المواجهات دموية فى تاريخه. وقد أدى ذلك إلى اختلاف المراقبين حول فهم تلك الأحداث وحول الموقف الواجب اتخاذه تجاهها. فهناك من تجاهل الأمر برمته أو نظر إليه من منظور الانحياز إلى موقف الحكومة الصينية مؤكدا أن تلك الأحداث مدفوعة من الخارج، وبالذات من ربيعة قادر التى ترأس المجلس العالمى للأويغور، علما بأن الأويغور هم القومية المسلمة التى كانت محور أحداث الإقليم. وهناك من رأى أن الحكومة الصينية تمارس اضطهادا سافرا ضد مسلمى تركستان الشرقية وطالب بتدخل الدول «الإسلامية» لنصرة الأويغور المسلمين بل سعى إلى استعداء العالم الإسلامى ضد الصين. ومما ساعد على ذلك تضارب المعلومات الأولية التى أتت عن تلك الأحداث. ولكن بعد أن هدأت العاصفة اتضحت الصورة. فقد أسفرت المواجهات بين الشرطة الصينية وأبناء قومية الهان الصينية من ناحية وأبناء قومية الأويغور المسلمين عن مصرع 197 شخصا وإصابة 1721 آخرين حسب الإحصاءات الرسمية الصينية، وهو ما يشير إلى أن المسألة ليست مجرد مصادمات عادية ولكنها تطورت إلى عمليات قتل واسعة النطاق مما يتطلب منا دراسة الأمر بعمق لفهم جذوره والأسلوب الأمثل للتعامل معه حتى لا يتكرر وحتى لا يؤثر سلبا على الوحدة الوطنية الصينية وعلى العلاقات بين الصين والدول الأعضاء فى منظمة المؤتمر الإسلامى.

يسكن إقليم تركستان الشرقية 15 مليون نسمة، 60% منهم ذوو أصول قومية تركية، و6 مليون من القومية الأويغورية، ومليون من القومية الكازاكية، وحوالى 150 ألف قيرقيزى.(25 مليون لدى التركستانيين). ويشتركون مع أبناء عمومتهم فى تركستان الغربية (آسيا الوسطى) بصلات جغرافية ودينية. وحتى سنة 1949 كان الإقليم يسمى «جمهورية تركستان الشرقية» فى إطار جمهورية الصين حتى جاءت ثورة ماو تسى تونج فألغت هذا المسمى. وبالتعاون بين ستالين وماو، تم التخلص من قادة جمهورية تركستان الشرقية، كما حولت الصين اسم الإقليم إلى اسم شنجيانغ ، أى الأرض البعيدة. وحينما بدأ تفكك الاتحاد السوفييتى واستقلال دول آسيا الوسطى امتدت آثار ذلك على المسلمين الأويغور فى شنجيانغ. فمنذ سنة 1990، شهد إقليم شنجيانغ اضطرابات سياسية داعية إلى استقلال الإقليم عن الصين بمثل ما فعله أبناء عمومتهم فى تركستان الغربية (آسيا الوسطى)، مما دفع حاكم الإقليم إلى أن يحذر من الآثار السلبية التى تركها تغيير البنية الدولية على الإقليم. وفى يوليو سنة1992، اجتمع فى بشكيك، عاصمة قيرقيزيا، مندوبون من مختلف شعوب آسيا الوسطى لتكوين «حزب قيرقيزيا الحرة» الذى حدد ضمن أهدافه إنشاء دولة للأويغور فى شنجيانغ.
للتعامل مع تلك المعضلة اتبعت الصين مسلكا ذا شقين. الأول: خارجى، أساسه تطوير العلاقات الاقتصادية بين شنجيانغ وآسيا الوسطى. وقد بنت الصين إستراتيجيتها على افتراض أن التنمية الاقتصادية هى المدخل للتعامل مع مشكلات التطرف القومى ــ الدينى. وفى هذا الإطار تم تكثيف شبكة التعامل التجارى مع البدء بمشروعات تعاون اقتصادى، كما تم ربط آلماتا بمدينة أورومجى بخط حديدى تم افتتاحه فى يونيو سنة 1992. هذا بالإضافة إلى تخطيط الحدود بين الصين وآسيا الوسطى منعا للتسلل عبر تلك الحدود. وفى هذا السياق اتبعت الصين منهجا أمنيا أساسه التنسيق مع حكومات دول آسيا الوسطى حتى لا توفر للحركات الانفصالية فى شنجيانغ الملاذ، كما لعبت دورا رياديا فى إنشاء «منظمة شنغهاى للتعاون» التى كان هدفها الأساسى عند إنشائها هو مواجهة الحركات «الإرهابية» والمقصود بها الإسلامية. كما لعبت دورا مماثلا فى عملية إنشاء «مؤتمر إجراءات التفاعل وبناء الثقة فى آسيا» الذى قادته كازاخستان سعيا إلى تحقيق الهدف ذاته.

والثانى: وعلى المستوى الداخلى اتبعت الصين منهجا آخر. فقد كثفت من سياسة تغيير التوازن السكانى فى الإقليم بحيث يصبح لأبناء الهان من القومية الصينية وجود سكانى مكثف فى الإقليم أدى إلى أنهم أصبحوا يشكلون 40% من السكان، و75% من سكان أورومشى العاصمة. هذا بالإضافة إلى فرض قيود على ممارسة الشعائر الدينية الإسلامية، وعلى عملية صيانة وإحياء التراث الثقافى الأويغورى. واعتبار أن ممارسة الشعائر الدينية يوازى التعاطف مع الحركات الانفصالية. وقد أدى ذلك إلى سلسلة من المصادمات كان أولها ما سمى بمصادمات غولجا فى فبراير سنة1997 فى أعقاب إعدام 30 من نشطاء الحركة الانفصالية فى الإقليم. مما كان على أثره تصاعد التوجه الانفصالى بإنشاء «الحركة الإسلامية لتركستان الشرقية»، و«ومنظمة تحرير تركستان الشرقية» فى أواخر التسعينيات. وقد تكررت المصادمات فيما عرف بحوادث كاشغر فى سنة2008. وقبلها كانت الحكومة قد قامت سنة 2005 بنفى ربيعة قادر، إحدى قيادات حركة الأويغور، تحت ضغط أمريكى، إلى الولايات المتحدة، وترأس ربيعة قادر حاليا المجلس العالمى للأويغور، والذى اتهمته حكومة الصين بتدبير أحداث يوليو.

كانت مصادمات 5 يوليو قد بدأت حينما تظاهر الأويغور المسلمون فى أورومجى عاصمة شنجيانغ (تركستان الشرقية) احتجاجا على مقتل اثنين (20 لدى التركستانيين) من العمال الأويغور فى أحد المصانع فى مقاطعة جواندونج، وتطورت المصادمات إلى قتال شوارع بين الشرطة الصينية (الحكومة الصينية) والأويغور وبين الهان الصينيين والأويغور. وفور اندلاع المصادمات سارع الرئيس الصينى هيو جنتاو بقطع مشاركته فى قمة الدول الصناعية وعاد إلى الصين، ولكن أعمال العنف لم تتراجع. وقد وضعت حكومة الصين مسئولية تلك الأحداث على عاتق المجلس العالمى للأويغور، ولكنها لم توجه اتهاما مباشرا للغرب بدعم تلك الأويغور على الرغم من أن الرئيس الأمريكى السابق بوش قد سبق أن التقى بربيعة قادر وأعلن تضامنه معها.
وفى تقديرى فإن وضع المسئولية على عاتق عناصر خارجية من شأنه أن يؤدى إلى تكريس المشكلة وربما تفجرها بأشكال أخرى فى المستقبل. فلاشك أن هناك أصولا داخلية للمشكلة ومن مصلحة الصين ووحدتها الوطنية أن تواجه تلك الأصول صراحة. وأهم تلك الأصول هو منهج التعامل القومى والثقافى والدينى مع القومية الأويغورية، والذى ينبغى أن يقوم على أساس احترام أغلبيتها القومية وتراثها الثقافى وممارسة الشعائر الإسلامية بحرية. هذا بالإضافة إلى توثيق الصلات بينهم وبين العالم الإسلامى الأوسع. وأذكر أن مسلمى الصين الذين كانوا يعيشون فى مصر فى فترة ما قبل ثورة ماو سنة 1949، هم الذين أنشئوا حقل الدراسات الصينية فى مصر حين ألفوا الكتب باللغة العربية التى قدمت بلادهم إلى العرب. إن مثل هذا المنهج التصالحى والانفتاحى هو وحده ما يكفل تمسك الأويغور بوحدة الصين.
من ناحية أخرى، فقد تبنت الدول الأعضاء فى منظمة المؤتمر الإسلامى (باستثناء تركيا) منهجا أساسه تجاهل المشكلة حرصا على مصالحها مع الصين، ولأن بعضها ضالع فى عمليات مماثلة فى بلاده على نحو ما يحدث فى باكستان. وفى تقديرى أن هذا التجاهل يدمغ تلك الدول والمنظمة ذاتها (التى اكتفت ببيان ضعيف حول المشكلة) بازدواجية المعايير. ففى الوقت الذى تستأسد المنظمة ودولها على الفلبين فى موضع مسلمى تلك الدولة، بل وتتدخل للضغط على الحكومة الفلبينية لتوقيع اتفاقات مع جبهة تحرير مورو، فإنها صمتت إزاء ما حدث فى شنجيانغ. وفى الوقت الذى انتفض فيه الجميع لمقتل مروة الشربينى فى ألمانيا، فإنهم صمتوا عن مقتل 197 شخصا فى أحداث شنجيانغ الأخيرة.

ولاشك أن حماية شبكة المصالح العربية الصينية أمر مهم، ولكن الحديث الصريح مع الحكومة الصينية حول مشكلة مسلمى شنجيانغ من شأنه صيانة تلك المصالح، لأنه إذا أدى إلى تغيير منهج الحكومة الصينية فإنه سيؤدى أيضا إلى دعم الوحدة الوطنية والاستقرار السياسى الصينى بما يعود بشكل ايجابى على المصالح العربية الصينية. علما بأن العناصر الخارجية المتهمة قد أعلنت أنها تقف فى صف الوحدة الصينية، كما أن غالبية الأويغور لا يتطلعون إلى الانفصال عن الصين وإنما إلى حماية معتقداتهم وتراثهم الثقافى.
فى هذا الصدد فإنه من الصعب قبول الحجة التى تقول إن المسألة برمتها شأن داخلى للصين، كما قالت دول منظمة شنغهاى للتعاون مكررة بذلك ما قالته حين وقعت أحداث أنديجان فى أوزبكستان سنة 2005. ففى عصر العولمة توارى الخط الفاصل بين الداخل والخارج، وبالذات إذا كان الأمر يتعلق بمصائر القوميات، وهو ما تمثل فى أن الصين قامت بدور فى قضية دارفور بالسودان، بما فى ذلك دورها لإقناع حكومة السودان قبول القوات الدولية، ودورها فى مجلس الأمن بإحالة ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهو الأمر الذى كان يمكن تفاديه لو تم استعمال حق النقض فى المجلس.
لقد هدأت العاصفة فى شنجيانغ ، ولكن قراءة سجل العقدين الأخيرين يدلنا على أن عودتها أمر محتمل إلى حد كبير إذا استمرت السياسات الراهنة. وإذا كنا قد تعلمنا الكثير من الحكم الصينية القديمة، فإن على الصين أيضا أن تتعلم من الحكم العربية القديمة وأهمها أن صديقك من صدقَك (بفتح القاف)، لا من صدقَّك (بتشديد القاف).

جريدة الشروق
23/8/2009