المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأحزاب وتنوعاتها الفكرية واختلاف مضامينها



نور عابد
06/10/2009, 02:08 PM
الأحزاب وتنوعاتها الفكرية واختلاف مضامينها



بقلم : نور عابد


فكرة الجوهرية لتشكيل الأحزاب السياسية ، هو اعتبارها تنظيمات مجتمعية حديثة تؤطر قوى اجتماعية وتعبر عن مصالحها، وتهدف إلى حل التعارضات الاجتماعية الملازمة لأي بنية اجتماعية بالوسائل السلمية وعلى نحو تدريجي تحدد وتائره نسبة القوى الاجتماعية في الظروف المعطاة. وهي من أهم مؤسسات المجتمع المدني وأكثرها مصاقبة للمشاركة السياسية النشطة في الدولة الوطنية والإسهام الإيجابي في صنع القرارات التي تعين درجة تطور المجتمع وتحدد اتجاه سيره، سواء من خلال المؤسسة التشريعية أو من خلال الرقابة على أداء السلطة التنفيذية، أو من خلال تداول السلطة سلمياً فيما بينها.
مع ظهور الماركسية والتنظيمات العمالية الأولى في اواسط القرن التاسع عشر ، طرحت مواقف ايديولوجية قوية تقول ان الأحزاب هي تنظيمات تعبر عن مصالح طبقات متنازعة. وقد ساد هذا الطرح بشكل مطلق تقريبا حتى انهيار الفكر الشيوعي ودوله وعلى رأسها الاتحاد السوقييتي ، ولكن فكرة طبقية الأحزاب ما زالت سائدة في الفكر الماركسي الشيوعي.
اليوم تسود فكرة المجتمعات المدنية وتنظيمات المجتماعات المدنية وتعني أولا ان التنظيم ، حتى لو سمي حزبا ، يعبر عن مجما الفئات الاجتماعية ، وليس عن التناحر بينها وقضاء طبقة على طبقة أخرى.

وصفة الأيديولوجية التي نصف بها جل الأحزاب القائمة في العالم العربي، إن لم نقل كلها، ولا سيما في بلدان "المشروعية الثورية" القومية أو الاشتراكية القومية أو الإسلامية، تعني جملة الأهداف والمطالب والأفكار والرؤى الذاتية التي تحجب عن صاحبها رؤية الواقع كما هو، وتزين له وهم أن الإرادة الذاتية يمكن أن تحل محل الحقائق الواقعية والقوانين الموضوعية، وأن الجزء يمكن أن يحدد الكل ويحل محله، وأن الاقتناع الذاتي بسمو الأهداف والمقاصد يمكن أن يكون مرجعاً للحقوق، وأن التحديدات الذاتية للفرد أو للجماعة حقائق كلية مطلقة وهي ذاتها التحديدات الموضوعية. ويمكن أن نطلق اسم الأيديولوجية على كل منظومة فكرية مغلقة على ذاتها ومكتفية بما لديها ومنقطعة عن الواقع، ولكنها تظل مع ذلك ذات قوة تعبوية، في المجتمعات التي لا يزال فيها الميت يمسك بتلابيب الحي والماضي يحجر على الحاضر ويصادر على المستقبل، مجتمعات تستهلك القيم ولا تنتج منها ما يكفي لتتبوأ مكاناً لائقاً في عالم اليوم. ولدفع أي التباس أو سوء فهم نضع الأيديولوجية في معارضة الفكر الحر.
والإصلاح السياسي الذي بدأت تباشيره في العالم العربي يقتضي من جملة ما يقتضيه نقد الأحزاب الأيديولوجية التي طبعت الحياة السياسية العربية بطابعها منذ أكثر من نصف قرن، ونقد السلطات الشمولية التي أنتجتها هذه الأحزاب، ناهيك عن ظواهر التطرف والعنف والإرهاب التي تتغذى من هذه البنى وتغذيها. والنقد معرفة تبدأ بالكلمة وتنتهي بالواقع، وتقوم على مبادئ الواقعية والفاعلية والجدوى والإنجاز. والعلم كله في العالم كله.
كل تنظيم يلبي حاجة ويؤدي وظيفة ويتجه إلى هدف. وإذا كانت المنظومات المحايدة تتحدد ببنيتها ووظيفتها، فإن المنظومات غير المحايدة، ولا سيما السياسية منها، تتعدى ذلك إلى الأهداف التي تنشدها والغايات التي ترمي إليها، مما يؤكد حقيقة أن في كل منها عنصراً أيديولوجياً، يؤثر بالضرورة في جميع عناصرها الأخرى، وكل بحث في قضية التنظيم السياسي يحيل بالضرورة على فضاء مرجعي هو الحرية، الذاتية والموضوعية، أو الإرادة الذاتية والموضوعية، بل يحيل على جدل الحرية الذاتية والحرية الموضوعية.

اذن الحرية هي الأساس الذي تقوم عليه التنظيمات السياسية والمبدأ الذي يوجه عملها، بيد أن التنظيمات السياسية تتنكر لأساس نشوئها ومبدأ توجيهها، بعد أن تصير مصدراً من مصادر السلطة، ولا سيما بعد أن تستولي على السلطة السياسية. وهو ما يضع الحرية والسلطة على طرفي نقيض.
ثمة علاقة وثيقة بين حرية التفكير والتعبير وبين التسامح؛ والتسامح قيمة أخلاقية عليا تؤثر في جميع القيم الأخرى؛ وهي من أهم قيم العلمانية التي تأسست عليها فكرة فصل الدين عن السياسة بوجه عام وعن الدولة بوجه خاص؛ فالأفراد، في ضوئها وعلى أساسها، أحرار في أن يعتنقوا تصوراتهم الخاصة للحقيقة وأن يعلنوها ويعبروا عنها بجميع الوسائل والأساليب المشروعة قانونياً، والتسامح في كل ما يجب التسامح فيه يجعل هذه الحرية ممكنة، من دون أن تنجم عنها آثار سلبية، ومن دون أن تحوِّل الحرية نفسها فكرة التسامح إلى نوع من عدمية أخلاقية أو عدم مبالاة بالآخرين. ولعل هنالك صلة ما بين فكرة التسامح وفكرة المواطنة تجلوها المقولة العلمانية الشهيرة: "الدين لله والوطن للجميع"، ذلك لأن الله لا يمكن أن يحصر في دين واحد أو في مذهب واحد، وكذلك الحقيقة ، لا يمكن أن تكون حكراً على أحد.