المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثلاث سنوات من الجَزْر الديمقراطي!



جواد البشيتي
31/01/2007, 02:19 PM
ثلاث سنوات من الجَزْر الديمقراطي!

جواد البشيتي

شيئان، على ضآلتهما قبل ثلاث سنوات، تضاءلا ويتضاءلان؛ إنَّهما "الديمقراطية" و"جودة الحياة الاقتصادية للمواطن". هذا بعضٌ ممَّا انتهى إليه، وأظهره، استطلاع جديد لآراء المواطنين، أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية. وعلى أهمية هذا العمل الذي يقوم به "المركز" بين الفينة والفينة تبقى النتائج التي ينتهي إليها مُفْتَقِرة إلى كثير من الموضوعية في الحقائق التي تشتمل عليها، وتُظْهِرها، ومُفْتَقِدة لحقائق كثيرة، نحتاج إلى كشفها وإظهارها من خلال "تثوير" السؤال، وتعدِّي بعض أنماطه، التي لا تفيد إلا في استخراج أجوبة، جديدها غير مفيد، ومفيدها غير جديد.. ومن خلال جَعْل المستجوَب، أو المستطلَع رأيه، بمنأى عمَّا قد يَحُول بينه وبين تضييق المسافة بين الباطن والظاهر من رأيه، أو جوابه، فهذا الذي يُسْأل يمكنه أن يقول أكثر وأوسع ممَّا قال لو استوفى استطلاع الرأي شروطه.

ليس بسؤال نحتاج إلى إجابته هذا الذي يقود إلى إجابة، تقود إلى الاستنتاج الآتي: الغالبية العظمى ممَّن اسْتُطْلِعت آراؤهم تعتقِد أنَّ الحرِّيات العامة، كحرية التعبير عن الرأي، وحرية الصحافة، وحرية انتخاب أعضاء مجلس النواب، وحرية الفكر، وحرية الانتساب إلى أحزاب سياسية، هي من مقوِّمات وأركان الديمقراطية، فكرا وممارسة.

الاستطلاع أماط اللثام عن التناقض الآتي: نحو 60 في المئة من المجيبين يرون أنَّ الانتخابات النيابية الأخيرة كانت حرَّة ونزيهة؛ ولكن أقل من 50 في المئة منهم ينظرون إلى مجلس النواب، لجهة عمله الأساسي والجوهري، نظرة إيجابية. وهذا إنَّما يعني أنَّ الناخب ينتخِب، في حرية، المرشَّح الذي لا يملك من الخواص البرلمانية والسياسية (والفكرية) إلا ما يُفْقِد المجلس النيابي خواصه البرلمانية الجوهرية، تمثيلاً، وتشريعاً، ومساءلةً، ورقابةً. إنَّه تناقضٌ لا نرى مثيلا له إلا في مثال مَنْ يزرع الشوك ليجني عنباً، فالناخب، بدافعه الانتخابي، والمرشَّح، بصفته التمثيلية، لا يمكنهما أن يَخْلِقا مجلسا نيابيا إلا على مثالهما.

إذا كانت "الخدمة لأهل الدائرة الانتخابية" و"صلة القرابة" هما المادة التي منها يُصْنَع الناخب والمرشح فكيف يمكن أن نؤسِّس لحياة ديمقراطية، قوامها "برلمان برلماني"، يملك من الصفة التمثيلية، ومن السلطات والصلاحيات البرلمانية الحقيقية، ما يجعل "البرلمانية" عندنا حقيقة واقعة، وموضعا تتركَّز فيه القيم والمبادئ الديمقراطية؟!

الديمقراطية لن تتمكَّن من إقامة الدليل على وجودها إلا إذا جاءت بحكومة تخشى يوميا البرلمان، وببرلمان يخشى يوميا الشعب والناخب. وليس من طريق إلى ذلك غير الديمقراطية التي لا مكان فيها لـ "ديمقراطية" من نمط "انتخابات أكثر وديمقراطية أقل"!

الديمقراطية، بحسب الاستطلاع، هي عندنا الآن تقف "في منتصف الطريق"، وكأنَّها في حال ركض موضعي. وأحسب أنَّ التطور الديمقراطي الذي نحتاج إليه هو الذي يؤسِّس لوضع يُوَلِّد فينا جميعا الشعور بأنَّ مجتمعنا قد تجاوز في تطوره الديمقراطي نقطة اللاعودة، فلا عودة إلى الوراء، أو عن الديمقراطية، لاستحالة العودة، ولا خيار، بالتالي، سوى خيار السير قُدُما، وصعود جَبَل الديمقراطية.

ومن أجل تجاوز نقطة اللاعودة، في تطورنا الديمقراطية، لا بد للديمقراطية من أن تُضاعِف، في استمرار، عدد الديمقراطيين، محوِّلةً غالبية المواطنين إلى جيش منظَّم، يحميها، ويدافع عنها، ويمنع الانقلاب عليها. إنَّ البرنامج السياسي الحزبي، مع ممثِّليه، هو الذي ينبغي له أن يغدو الجوهر والأساس في الانتخابات البرلمانية، فـ "تسييس" انتخابات البرلمان هو مهمة الساعة، ديمقراطيا، والتي قبل إنجازها، ومن أجل إنجازها، لا بدَّ لـ "التسييس" من أن يشمل "الناخب" و"المرشَّح".

وإذا كان للحكومة من مهمة جليلة فهذه المهمة إنَّما هي أن تقف من الحرِّيات العامة كافة موقفا (عمليا) يُقْنِع المواطن بـ "جدوى" ممارسته لكل حرية من تلك الحريات، فكل ما يؤدِّي إلى ردعه عن ممارسة حقوقه وحرِّياته الديمقراطية يجب أن يصبح أثرا بعد عين، ليَخْلِفه ويقوم مقامه كل ما يؤدِّي إلى تشجيعه على ممارستها، وإغرائه بها.

نَعْلَم أنَّ الحكومة تدعو، في استمرار، المواطنين إلى ممارسة حقوقهم وحرِّياتهم الديمقراطية؛ ولكنَّها تدعوهم، وكأنها تقول لهم: "هذه هي حقوقكم وحرِّياتكم الديمقراطية (الدستورية) فإنْ استطعتم أن تمارسوها فمارسوها..". تدعوهم إلى "التسوُّق"، فإذا ذهبوا إلى "سوق الديمقراطية" وجدوها خاليةً من "البضائع"، التي اعتقدوا بوفرتها، وبرخصها. وهذا "التسوُّق" المتعذَّر نراه على وجه الخصوص في ممارسة الحق في الاعتصام، والتظاهر، والإضراب، وكأنَّ الحقوق والحريات الديمقراطية جائزة، حكوميا، في "الممارسة الفردية"، ومحظورة في "الممارسة الجماعية"!

تطوُّرنا الديمقراطي نجح في إحاطة المواطن عِلْما بحقوقه وحرِّياته الديمقراطية؛ ولكنه فشل (حتى الآن) في إقناعه، عبر التجربة، بـ "جدوى" ممارسته لها، فرديا وجماعيا!