المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من يبيعني قليلا من النوم - قصة قصيرة - ابراهيم درغوثي - تونس



ابراهيم درغوثي
31/01/2007, 03:21 PM
من يبيعني قليلا من النوم ؟
قصة قصيرة

ابراهيم درغوثي / تونس

- 1 –

البارحة ، عدت من رحلتي التي دامت أطول من الهم على القلب . حطت الطائرة بالمطار الدولي عند منتصف الليل إلا ثلاث دقائق . واصلت العجلات احتكاكها بالأرض وهي تئز مدة دقيقة ، ثم سكنت ... وجاء صوت المضيقة رخيما يدعونا إلى فك الأحزمة ، فوقف الركاب وهم يتزاحمون عند باب الخروج ، ثم هبطوا بخفة فوق السلالم المتحركة التي حاذت باب الطائرة . ولم أقف ... بقيت جالسا في مكاني أنظر من النافذة الصغيرة . رأيته واقفا عند الباب بمعطفه الأشهب ونظارته الشبيهة بلون السماء الداكنة وبلامبالاته التي يتظاهر بها ، فأشعلت سيجارة وبدأت أدخن إلى أن دق كعب المضيفة داخل صدري عوضا عن دقات القلب حين رأيتها تقترب مني وبسمتها الآسرة تملأ المكان . حطت يدها بلطف ودعتني للوقوف لكنني ما استجبت لها في أول الأمر ، فضغطت على معصمي بلطف ، فأطعتها ووقفت .
عند باب الطائرة ، رأيته واقفا ينتظرني . وعندما حاذيته ، استلمني بخفة ووضع حول يدي اليمنى سلسلة صغيرة وأغلق القفل . ونزلنا درجات السلم جنبا إلى جنب وكأننا صديقان منذ بداية الخليقة واتجهنا إلى باب جانبي يقود إلى خارج المطار .

- 2 –

القاعة التي بت فيها صغيرة ، متران في مترين . وفانوس الكهرباء المعلق في السقف يضيء المكان بعنف . وهذا الضوء يزعجني وأنا أريد النوم . وشخير رجل تمدد في الركن الذي يقابلني يقرع كالنواقيس داخل أذني . والناموس الذي يحط عاليا عند السقف ويغافلني ليلسع في الأماكن الحساسة من الجسد : في شحمة الأذن ، على الجفنين ، في العنق ، في كف اليد ... وأفيق ... أخبط وجهي بعنف ، وأسب الناموس الذي يطير عاليا ويحط عند السقف .
الناموس يزعجني ، وأنا أريد النوم .
والجزمات الغليظة تدك الأرض دكا عند رأسي المسنود على حائط العنبر الرئيسي .
وأمسع أصوات نساء تتوسل :
- جيتك بجاه ربي ...
أصوات نساء الشوارع الخلفية اللاتي ضبطن وهن يراودن المارة ومخموري منتصف الليل .
- سامحني يا سيدي ، ابراس أمك سامحني ما عدتش انعاود ...
وأصوات فضة غليظة تزجر هذه النهنهات :
- اسكتي يا ... كلبة
وتعود الأصوات الرقيقة تطلب الرحمة . وتستجير بالنبي ، وبسيدي محرز ، وتحلف برؤوس الأولاد . وتبكي بحرقة . وترفض المشي داخل الممر . تحرن كما تحرن الأحمرة التي هدها التعب ، فتنزل الصفعات على الوجوه . وتهبط الركلات على المؤخرات . وتملأ اللعنة جو المكان
وأنا أريد النوم .
وهذا العويل الممزوج باللعنات يخنقني . وشخير الرجل المتكوم في الركن يكاد يذهب بروحي .
ويعود الصياح يملأ المكان .
- شوف يا سي أحمد سراق آخر الزمان ... لابس كرافات ، وحاطط على وجهه ريحة من باريز ... وعاما روحو باندي ... وماشي يسرق في فيلات الجيران ... والله غرايب يا سي أحمد ...
وتنزل الصفعات على الخدود السمينة الحمراء ، فينزل الدم من الأنوف الطرية ممزوجا بالمخاط والعياط .
ويبكي سراق آخر الزمان ، ويعولون :
- أنا ابن فلان الفلاني
- وأنا ابن علان العلاني ،
- وأنا بنت فلتان الفلتاني .
ويدكهم صوت جهوري :
- اسكتوا يا ... قردة .
فيتبولون على أثوابهم من شدة الخوف ، وتجري دموعهم على الخدود .
وينفتح باب القاعة الصغيرة ذات المترين في مترين ويحشر هذا الخلق معي ، فيكف صاحبي المتكور في الركن عن الشخير ويفتح عينيه ثم يعود لإغلاقهما ، فضوء الفانوس المعلق في السقف قوي . ويفرك الرجل عينيه ويختلس النظر ثم يتنحنح ويبصق على يمينه ، فتسقط البصقة في حجر واحد من أولاد الذوات . ولد فلان الفلاني ، فيرفع عينا حوراء ينظر بها إلى الرجل . ويحدجه صاحب البصقة بنظرة صقر ، فيستسلم الطفل إلى قضاء الله وقدره ويخرج من جيبه ورقا معطرا يمسح به آثار البصقة وطشيشها من على بنطلونه . ويتنحنح صاحبي من جديد ويعود إلى النعاس والشخير .
وأنا أريد النوم .
ورائحة الورق المعطر تملأ المكان . والشخير يملأ المكان . وواحد من أولاد الأسياد يهمس :
ما اتخافوش ، غدوة اتجي مامي واتخرجنا من هوني .
وانا لم أعرف طعم النوم منذ ثلاثة أيام يا أولاد مامي .

- 3 –

باكرا ، انفتح باب الغرفة بعنف أفزع الأولاد النائمين ، فهبوا واقفين .
أشار إصبع لي بالخروج من القاعة ، فتبعت الإصبع .
وجدت سيارة أمام الباب ، فركبت خلف السائق .
وزمجر المحرك وشخر ، فغزتني أصوات البارحة .
امتلأت بأصوات بنات الشوارع الخلفية وأولاد الأسياد ، فهبط النوم على كتفي ثقيلا كالرصاص المذاب ...