المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العثماني الأخير تحت ظلال القبة الخضراء



خالد العسيلي
16/10/2009, 05:15 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

العثماني الأخير تحت ظلال القبة الخضراء

أحمد مير أوغلى نقلا ً عن كتاب فريدون قاندمر( الدفاع عن المدينة: آخر العثمانيين في ظلال نبينا – صلى الله عليه و سلم-، استانبول 1991م، ص 235)

أسطورة المدينة المنورة:

في يوم من الأيام.. كانت شبه جزيرة العرب بما فيها مكة المكرمة و المدينة المنورة جزءا ً من الدولة العثمانية منذ عام 1517م حينما أعلن الخطيبُ على المنبر السلطانَ سليما ً الأول -الذي تغلب على المماليك- حاكما ً لتلك البلاد و نعته على الأرجح بلقب " خادم الحرمين الشريفين". وقد كان سلاطين آل عثمان الذين استحقوا هذا اللقب و طبقوا فحواه بجدارة مذ ذاك و حتى زوال نفوذهم عن مكة و المدينة يخدمونهما بولع و تعلق كبيرين، و أعظم به خسارة انتهاء حكمهم لتلك الأراضي. و سنسعى في موضوعنا هذا لسرد قصة ضياع الأراضي المقدسة من أيدي العثمانيين بإيجاز.

خاضت ممثلة الإسلام قرونا ًَ بشرف- الدولة العثمانية- في أواخر سنيّها الحرب العالمية الأولى ثم خرجت منها مهزومة في النهاية، و لم يجد الجيش العثماني بدا ً من الاستسلام بموجب معاهدة موندروس (1918م)، و لكن بينما كان الجيش على جبهتي فلسطين و الحجاز يستسلم بأكمله أبى قائد القوات العثمانية في الحجاز " فخر الدين باشا" إلا المقاومة فلم يذعن لأوامر الآستانة بالاستسلام و قال بأنه لن يفرط بمرقد النبي – صلى الله عليه و سلم-. و رغم عدم تمكن الإنجليز بأي وسيلة من الاستيلاء على المدينة المنورة بشكل مباشر أو الزج بأي من جنودهم فيها إلا أنهم استولوا عليها عنوة بواسطة زعماء بعض القبائل العربية الذين اشتراهم بالأموال " لورنس العرب" الجاسوس الغني عن التعريف و بفضل شريف مكة آنذاك.

و هكذا لم يجد " فخر الدين باشا" الذابّ عن حياض الأراضي المقدسة مناصا ً من تسليم المدينة المنورة، و القبر النبوي الشريف، و تلك البلاد رغم نجاحه في صد الغزاة عنها أشهرا ً متحملا ً و جنوده وطأة الجوع و العطش.

الخدعة الإنجليزية التي فرقت الإخوة:

لم تكن ثورة العرب على الدولة العثمانية مردها طلب الاستقلال؛ لأن العرب حاربوا مع الترك جنبا ً إلى جنب في جميع الجبهات انطلاقا ً من " جاناق قلعة" و حتى نهاية الحرب العالمية الأولى بل كان ثمة عرب بين الشهداء في جبهة " آيدين" حاربوا ضد اليونان أثناء حرب الاستقلال، و زد على هذا أنه لم يُر عربي واحد في أي بلد عربي سواء في العراق أو سورية أو لبنان أو اليمن أو فلسطين يخرج على الدولة و يعلن عليها العصيان. لم يكن المتمرد و الثائر الوحيد سوى " الشريف حسين باشا" أمير مكة.

لقد كان حسين باشا أميرا ً على مكة برتبة حاكم لواء ( مير ميران)، و كان يقيم في استانبول و أفراد عائلته " حيدر باشا" و "جعفر باشا" حيث يتمتعون بالعضوية في مجلس الشورى العثماني و يتقاضون راتب الباشاوات. كان حسين باشا موضع شبهة لدى السلطان عبد الحميد الثاني فكان دوما ً يرفض بلطف طلبه في أن يصبح أميرا ً على مكة المكرمة حتى تأتى له ذلك في عهد أخيه السلطان محمد رشاد ثم استغل الإنجليز طموحه فجعلوه يصدقهم بأنه سيصبح ملكا ً على العرب بل إمبراطورا ً يجمع العرب كافة تحت لواءه، و وعدوه بتأمين ما يحتاج من مال و سلاح و ذخائر و طعام و عون و مدد و بإقامة دولة عربية مستقلة ذات حدود معينة حال انقلابه على الدولة العثمانية.

بدأ الاتصال مباشرة بين الشريف حسين و الإنجليز - وفق الوثائق المصرح بها لاحقا ً - في يوليو 1915م و طلب منهم نظير تعاونه معهم تمكينه من إقامة دولة مستقلة للعرب تمتد شمالا ً حتى إيران بما في ذلك مرسين و أضنة في الأناضول و شرقا ً حتى خليج البصرة ( الخليج العربي)، و جنوبا ً حتى سواحل المحيط الهندي و غربا ً حتى البحر الأحمر فالبحر الأبيض المتوسط حتى مرسين في الأناضول. استمرت الصفقة حتى أواسط عام 1916م حيث كان الشريف حسين يقوم بإلهاء الدولة العثمانية ثم أرسل إشعارا ً يعلم به السلطات العثمانية بتمرده ثم رفع لواء الثورة رسميا ً في 27 يونيو 1916م، جامعا ً حوله فيالق من البدو يعيشون حياة الترحال و السلب و النهب في صحارى الحجاز، و أصحاب جهل مدقع إلى أبعد الحدود لا يدرون عما يدور حولهم في جنبات العالم شيئا ً. أما أهل الحضر في مكة و المدينة جدة و الطائف فلم يشاركوا في هذه الثورة ولم يسع قائدها لاستمالتهم أساسا ً.

لقد نجحت هذه الثورة في سوق الجيوش العثمانية نحوها مما أحدث أثرا ً سلبيا ً في إدارة هذه الجيوش، و كان هذا عين ما يهدفه الإنجليز، و كانت النتيجة في النهاية وخيمة؛ فكما كانت ثورة اليمن سببا ً في خسارة الدولة العثمانية حرب البلقان وفقدانها إياه، كانت الثورة العربية سببا ً في خسارة الدولة حرب فلسطين فخرجت بلاد الشام بأكملها من ربقة الحكم العثماني.

كانت مكة في البداية:

تولى " فخر الدين باشا" منصب " محافظ المدينة المنورة " قبل بداية عصيان الشريف حسين بفترة وجيزة حيث أرسله " جمال باشا " قائد الجيش الرابع إلى المدينة في 28 مايو 1916م قريبا ً من وصول إشعار الشريف حسين للآستانة خطيا ً ببدء ثورته، فوصل " فخر الدين باشا " إليها في 31 مايو 1916م، و في بضعة أيام بلغت الرسالة جمال باشا، و في 3 يونيو 1916م استهل الشريف حسين ثورته بتخريب الخط الحديدي الحجازي و خطوط التلغراف بالقرب من المدينة المنورة ثم هاجم المخافر فيها ليلتي 5 و 6 يونيو و لكن الإجراءات الاحترازية التي اتخذها " فخر الدين باشا" نجحت في تشتيت شملهم و إبعادهم عن المدينة.

استهل " فخر الدين باشا" حربه ضد العمليات المناوئة للدولة بهزيمة المتمردين القابعين في المواقع المعروفة ثم تم تعيينه قائدا ً للقوة الحربية الحجازية التي تعززت بوحدات عسكرية جديدة، إلا أن المتمردين شنوا هجوما ً في 9 يونيو بسبب سوء تدبير " غالب باشا" والي مكة أسفر عن دخولهم جدة في 16 يونيو، ثم مكة في 7 يوليو ثم الطائف في 22 سبتمبر فآلت بذلك جميع المراكز الكبيرة التي دافع عنها فخر الدين باشا إلى العصاة المتمردين، و لم تتمكن الحكومة العثمانية من إرسال تعزيزات عسكرية إلى المدينة بسبب شدة وطيس معارك عمليات القنال.

مقاومة باسلة طيلة سنتين و سبع أشهر:

لقد دافع " فخر الدين باشا" عن المدينة المنورة طيلة سنتين و 7 أشهر رغم إمكاناته المحدودة، و أراد في البداية تشكيل خط أمان للمدينة و ضواحيها فطهر من المتمردين كلا ً من " خليج عسر" (1) و " بئر درويش" و " بئر الرحاء" مما أدى إلى تكوين قطاع آمن حول المدينة طوله 100 كم في 29 أغسطس 1916م. و قد رغب " فخر الدين باشا" في أن تمده الحكومة في استانبول بقوات مساندة لكن الحكومة أبلغته بأنها لا تستطيع تلبية رغبته.

حين قررت الحكومة العثمانية إخلاء قسم من المدينة المنورة اقترح " فخر الدين باشا" عليها نقل 30 غرضا ً هي الأمانات النبوية الشريفة إلى الآستانة خوفا ً من تعرض المدينة المنورة لأعمال سلب و نهب فوافقت الحكومة على طلبه شريطة تحمله المسؤولية كاملة لهذا الأمر، فقام الباشا بإرسالها إلى استانبول نظير عمولة خاصة تحت حماية 2000 جندي.

رضخ الأعراب القاطنون في الصحراء الفاصلة بين الحجاز و بلاد الشام، و الذين يعيشون على السلب و النهب لحيل الشريف حسين و أموال الإنجليز بتقوية الدفاعات حول خط سكة الحديد الرابط بين بلاد الشام والمدينة، ثم أمر الجاسوس الشهير " لورنس" بزرع المتفجرات على امتداد الخط الحديدي، و بمرور الأيام صارت المدينة المنورة معزولة في وسط الصحراء عن المحيط الخارجي فتقرر إخلائها فقام الشريف حيدر باشا أمير مكة و أسرته بمغادرتها فتبعه 3-4 آلاف شخص من الأهالي.

طالما استمر التوفيق الإلهي و الرضا النبوي و الإرادة السلطانية:

استمر " فخر الدين باشا" بالدفاع عن المدينة المنورة و الطرق الصحراوية رغم قلة قواته، لكن الأعداء حاصروها بعدما استولوا على محطة " المدوّرة"- إحدى محطات الخط الحديدي الحجازي- القريبة من المدينة المنورة، و بدأ الجوع و المرض يغزو الأهالي و العسكر بسبب عدم إمكانية تلقي المساعدات من أي جهة، و لكن فخر الدين باشا لم ييأس من المقاومة بل أنه قبل حصار حصن المدينة أبلغ الحكومة في استانبول ردا ً على طلبهم إخلاء المدينة بالكامل قائلا ً: " لن أنزل العلم الأحمر بيديّ من على حصن المدينة.. و إن كنتم مخليها حقا ً فأرسلوا قائدا ً آخر مكاني" و كان يردد " الدفاع عن المدينة المنورة قائم حتى يحل علينا القضاء الإلهي و الرضا النبوي و الإرادة السلطانية قرناء الشرف..
"، و أقسم أن يفدي الأماكن التي يذود عنها ولو طارت روحه في الهواء بدل تسليمها للأعراب و الإنجليز.

و بينما كان فخر الدين باشا و جنوده يحاربون الأعداء من جهة و الجوع من جهة أخرى أسفرت عملية القنال عن كارثة حيث سقطت فلسطين و أصبحت أقرب القوات العثمانية عن المدينة بعيدة مسافة 1300 كم عنها، و في تلك الأثناء انهزمت الدولة العثمانية و وقعت اتفاقية موندروس في 30 أكتوبر 1918م و بموجب المادة 16 توجب على فخر الدين باشا الاستسلام لكنه لم يفعل بل أبى إلا الصمود. كان أهل المدينة على غير علم بهذه الاتفاقية لانقطاع الأخبار عنهم بسبب الحصار، بينما كان الباشا يتابع أحدث التطورات عن طريق اللا سلكي، و قد قامت إحدى الغواصات الإنجليزية في البحر الأحمر بإبلاغه بشروط المعاهدة لكنها لم تتلق منه أي جواب، و قد أرسلت استانبول ضابطا ً كبيرا ً إليه لنفس الغرض لكنه أمر بحبسه.

لم يرضخ " فخر الدين باشا" لمطالب القوات الإنجليزية و العربية التي تحاصر المدينة المنورة بالاستسلام، ثم أرسلت الحكومة العثمانية- تحت ضغط الإنجليز- ناظر العدلية حيدر ملا ّ إلى المدينة و معه رسالة تحمل توقيع السلطان فيها أمر للمقاومين بالاستسلام فلم يذعن " فخر الدين باشا" لهذا الأمر كذلك؛ و أبقى المقاومة قائمة بالرغم من مرض معظم الجنود و نفاد مخزون الذخيرة و الأدوية و الملابس، لكن في النهاية نزل " فخر الدين باشا" على إلحاح ضباطه و أعلن استسلامه في يناير 1919م. و هكذا طويت آخر صفحات الحكم العثماني أو بالأحرى " خدمة العثمانيين" للأراضي المقدسة بعد أن ختمت بنهاية حزينة.

ماذا جرى لأحلام الشريف حسين:

نصّب الشريف حسين نفسه أميرا ً على مكة بعدما غادر العثمانيون الحجاز، لكن الحظ لم يحالفه بعد ذلك لأنه دفع ثمن إجلائهم على يد عبد العزيز بن سعود؛ فقد سحب بساط الحكم من تحت قدميه لحساب ابنه علي نزولا ً على اقتراحات من حوله، و حينما لم يُجْدِ ذلك اضطر للصراع مع ابن سعود فلم يفلح كذلك ثم لاذ بالفرار إلى قبرص مع ابنه علي حيث مكث هناك حتى وفاته و دفن فيها.

أدرك عبدالله بن الحسين المعين من قِبَل أبيه أميرا ً على المدينة أنه لن يصمد في وجه آل سعود فهرب إلى عمّان حيث وضع أسس " المملكة الأردنية" بحماية الإنجليز، و حينما أراد أن يثور عليهم بغية الاستقلال عنهم قتلوه. تولى طلال بن عبدالله بن الحسين مقاليد الحكم في الأردن إلا أنه فقد عرشه بسبب اضطراب عقلي أصابه فلجأ إلى استانبول للعلاج فحل محله ابنه الحسين. و بوفاة الأخير تولى ابنه " عبدالله" مقاليد الأمور إلى الآن كما هو معروف.

أما فيصل الابن الثاني للشريف حسين فكان ينوي أن يصبح ملكا ً على سورية لكن الفرنسيين حالوا بينه و بين ذلك ثم جلبه الإنجليز إلى بغداد و نصّبوه ملكا ً على العراق، و بعدما تلقى الشعب العراقي عدة نكبات سبّبتها الحكومات الملكية قامت جموعه الثائرة بالقضاء على أفراد عائلته جميعا ً.

و بذلك تبخرت أحلام الشريف حسين شيئا ً فشيئا ً و لم يبق من الإمبراطورية الإسلامية التي داعبت خياله سوى دويلة صغيرة هي مملكة الأردن.

إن السبب في عدم استطاعة الشريف حسين السيطرة على العرب يكمن في عدم تمكنه من كسب دعمهم لأن مصدر دعمه الوحيد هم الأعراب الفقراء الذين وقفوا في صفه بفضل ذهب الإنجليز، و لم تشارك في الثورة مكة أو المدينة أو الطائف و زد عليها عمّان و الكرك و السلط و درعا، و لم تتجاوز أعداد الثوّار في دمشق ثلاثين أو أربعين شخصا ً، وفي بغداد لم يرد أحد انتظار الاستقلال. و على الصعيد العثماني كانت الحكومة عاجزة مقيّدة بعد هزيمتها في فلسطين و فرار القائد الألماني ليمان فون ساندرس باشا من الجبهة بثياب النوم! وفي خضمّ هذه الأحداث استطاع آل سعود رغم ضعفهم بسط سيادتهم على الأماكن المقدسة بفضل تقويتهم قبيلتهم داخليا ً.

كيف ودّع العثمانيون المدينة المنوّرة:

لم يكن ينتظرأفراد الجيش التركي المقاوم الذين أصيبوا جميعهم أثناء الحصار حيث أجسادهم امتلأت بآثار الطلقات و الإصابات، و بعضهم فقد ذراعه أو ساقه، سوى التسلل بلا حول و لا قوة بمعاونة بعضهم بعضا ً إلى الحرم الشريف للمرة الأخيرة و الدعاء بخشوع عند الروضة المطهرة. بل إن بعض العرب الذين كايدوا الأتراك بفعل ملايين الإنجليز لم يستطيعوا حبس دموعهم وهم يشاهدون هذا المنظر، كما كان العرب الأهالي الذين صمدوا و تعرضوا معنا لجميع الأخطار، و عانوا من وطأة الجوع أثناء الحصار قد أشاع خروج الجيش التركي من المدينة بينهم أجواء المآتم فبكوا بحرقة و مرارة، و إن القلم ليعجز عن وصف حال من شاهدوا آغاوات الحرم الذين خدموا في رحاب الحرم الشريف على مدى سنين – وأنا واحد من المشاهدين- يعانقون الجنود الأتراك تخنقهم العبرات و تسمع لهم أحر الزفرات.

هكذا افترق العثمانيون عن المدينة، و الواقع أن بعض الجنود الجرحى و المصابين مكثوا في المدينة لتلقي العلاج في مستشفياتنا و لكن الرحيل كان بالنسبة لهم واقعا ً حزينا ً جعلهم يعلمون أنهم مغادرون بلا عودة عاجلا ً أم آجلا ً.

و بعد رحيلهم لم يكد يبق للأتراك في المدينة سوى أضرحة الشهداء.. الشهداء الذين وهبوا أرواحهم للموت فداء للمدينة المقدسة و الحرم الشريف و هم يذودون عنهما أمام الثوار المتمردين الذين أيقظ " لورنس" في نفوسهم نزعة التمرد و الانقلاب.