المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رحيل الاستاذ الدكتور ابراهيم جانان/ حازم ناظم فاضل



حازم ناظم فاضل
17/10/2009, 02:28 AM
عرفته قبل سنوات قليلة من خلال كتبه وبحوثه ، وزاد معرفتي به عندما التقيته في استانبول على هامش مؤتمر دولي سنة (2004) ،فهو عالم جليل متواضع ، بسيط الى الدرجة التي لا يمكن معها ان تصدق ان هذا الرجل احد علماء تركيا في مجال علم الحديث النبوي وتربية الطفل والأسرة ، لا يحب الظهور ولا الشهرة، ورغم انه كان في العقد السابع من عمره تراه مجد ومثابر ، يلمس فيه من صاحبه غزارة علمه ، وهو صاحب رأي علمي ،وكان مثالاً للخلق القويم والنصح الجميل ، لا يحب الإفراط والتفريط واتخذ الوسطية في جميع كتاباته .
ولد الاستاذ الدكتور ابراهيم جانان في قرية كوجوك قره بنار التابعة لقضاء أرمنك بمحافظة قونيا سنة 1940م.واكمل تعليمه الابتدائى في بلده. وتخرج في ثانوية قونيا للبنين سنة 1958م. وعمل مدرساً في المدرس المتوسطة في مدينة قيصري "1962-1964م" ومدينة آق شهير "1966- 1967" تخرج في كلية الالهيات بجامعة أنقرة سنة 1962م. أكمل دراسة الدكتوراه في جامعة السوربون في باريس بفرنسا سنة 1967- 1972م. بدأ التدريس كعضو تعليمي في كلية العلوم الاسلامية بجامعة أتاتورك سنة 1972م، واستمر في كلية الالهيات التي تأسست فيما بعد بنفس الجامعة. وانتقل الى كلية العلوم الاسلامية في ارضروم سنة 1973م. وحصل على درجة الاستاذ سنة 1979م. وعين عميداً لكلية الالهيات بجامعة حران سنة 1993م.
* وقد حصل على جائزة وقف الثفاقة التركية القومي سنة 1979م بكتابه : تربية الاولاد في المدرسة والاسرة عند رسول الله(صلى الله عليه وسلم) .
* يتقن اللغات العربية والانكليزية والفرنسية . وهو عضو في مجلس أمناء المجمع الثقافي العربي .
* توفي يوم الاربعاء ( 14 تشرين الاول 2009 ) اثر حادث سير وقع في طريق يالافا Yalovaعند عودته الى منزله ووري جثمانه الطاهر في مقبرة ابي أيوب الانصاري (رضي الله عنه ) يوم الخميس (15 تشرين الاول 2009) .

* نشر مقالاته وبحوثه في المجلات التركية الديانة ، وحق سسى، وإسلام، وإسلام مدنيتي، وظفر، وسور، واجمال، وقادين وعائلة، والتين اولوك، واوكول، الى جانب المجلات التي تصدرها الجامعات التركية .

* جاوز كتبه المطبوعة الثمانين كتاباً . ومن آثاره باللغة التركية:
(1)الدين من زاوية المؤرخ "ترجمة عن ارنولد توينبي 1988م"
(2)السكن الخاص في جامعة أتاتورك ومحاسبة التقليد "1979م"
(3)حقوق الاطفال في الاسلام "1988م"
(4) اسس التعليم الاساسي في الاسلام "1980"
(5) خط الصلح "1980م"
(6) الهجرة من زاوية التبليغ والتربية .
(7) التكتيك السياسي "1981م"
(8)التربية في سنة محمد (صلى الله عليه وسلم) "1980م"
(9)أصول الحديث الجديدة "ترجمة عن ظفر احمد العثماني 1982م"
(10)الفتنة والفوضى في القرآن والحديث "1981م"
(11) الطفل في القرآن "1984م"
(12)الحضارة والثقافة والتقنية في أحاديث نبينا "1982م"
(13) احكام الصغار "ترجمة عن اوستروشاني 1984م"
(14)حملة الرسول لتعليم القرآن والكتابة وسياسة التعليم "1985م"
(15) تنظيم الوقت في الاسلام "1985- 1988م"
(16)الحلول عند بديع الزمان "1993م"
(17)اخلاق البيئة "1994.
(18) موسوعة الحديث النبوي الشريف في 18 مجلداً، 1988م".
(19) تربية الأولاد في المدرسة والأسرة عند رسول الله(صلى الله عليه وسلم).

ونعاه الاستاذ محمد فتح الله كولن برسالة نشر على موقعه :
عندما سمعت نبأ وفاة صديقي العزيز البروفسور الدكتور ابراهيم جانان الأستاذ في كلية الإلهيات في جامعة مرمرة ، والذي نذر حياته في خدمة القرآن والايمان وتعمق في علم الحديث النبوي الشريف ، اثر حادث مروري مؤلم تأثر قلبي الممتلىء له بداء الصلة تأثراً كبيراً .
وقد وضع نفسه في مقدمة الذين يخدمون هذا الدين بكل فخر وشوق وكان يتحكم الى القرآن والسنة النبوية في علمه الذي نال طيلة سنوات عمره ولم يعرف الملل طيلة حياته في الخدمة وخصص جل وقته للدروس والمحاضرات والمؤتمرات وفي برامج اذاعية وتلفزيونية ، وكان اخر مؤتمر شارك فيه هو بداية طريقه الى الدار الاخرة .
وإن كان الموت فراقا مؤقتا إلا انه ليؤسفني عدم حضور تشييعه الى الاحبة الحقيقيين في تلك الدار الآخرة . أدعو الله العلي القدير العفو والغفران للمرحوم والصبر والسلوان لرفيقته في هذه الحياة ولأهله جميعاً ولجامعته وجميع اقربائه واحبائه .

د.محمد فتحي الحريري
17/10/2009, 02:32 PM
شكرا للاستاذ حازم على ماتفضلتم به من دراسة قيمة حول المرحوم د. ابراهيم جانان
واشير هنا الى نقطة بدافع الفضول الم يكتب بالعربية التي كان يجيدها ؟؟
ام هل ترجم شيء من فكره الى لغة القرآن ؟
اخي ان كتابات الاتراك وفكرهم سلعة نادرة في مكتبتنا العربية الاسلامية .......
دمت بود .....

حازم ناظم فاضل
17/10/2009, 11:39 PM
الاستاذ الفاضل د.محمد فتحي الحريري
اشكر مروركم الطيب .
لم أطلع على كتابات الاستاذ الدكتور ابراهيم جانان باللغة العربية سوى بعض البحوث المترجمة له .
وهذه احد البحوث للفقيد حول : القضايا الأساسية للعالم الإسلامي .

القضايا الأساسية للعالم الإسلامي وطرق حلها في نظر بديع الزمانأ.د. إبراهيم جانان
جامعة اتاتورك “

ما السبيل الى حل الخلاف في العالم الاسلامي؟” يجيب بديع الزمان على هذا السؤال: “يجب اولاً النظر الى المقاصد السامية التي يُجمع عليها، ذلك لان الهنا واحد ورسولنا واحد وقرآننا واحد ونحن متفقون على الضروريات الدينية.
ساقوم بتقديم ثلاث مسائل اساسية كانت خلاصة نضال بديع الزمان في حياته التي دامت ما يقارب قرناً. ولكي يتوضح الموضوع اكثر فسآشير اولاً الى بعض النقاط:
النقطة الاولى: التكامل الفكري لبديع الزمان
بديع الزمان شخص قضى عمراً مديداً قارب قرناً واحداً. وهذا القرن لم يكن مهماً فقط بالنسبة للتاريخ التركي، كان عهداً جرى فيه اكبر الانقلابات في التاريخ الانساني كذلك. فما اكثر من بدل افكاره كما تبدل الحية جلدها، بينما يسترعي الانتباه عند بديع الزمان “هو انك لاتستطيع ان تجد فرقاً بينما قاله او كتبه في اول عهده وبين ما قاله وكتبه في اواخر حياته”.
لقد بلغ نضوجه العلمي والفكري في وقت مبكر جداً، حتى ان احد اساتذته في بتليس وهو الشيخ امين حاول ان يلبس سعيد “الكسوة العلمية”1 وهو صبي لم يبلغ بعد، وهذا يدل على ان بديع الزمان كان شخصاً استثنائياً استرعى اليه جميع الانظار.
لقد تطرقت لهذا لكي ابين ما يلي: لقد قام بديع الزمان منذ بداية عمله بتنظيم افكاره “التي سيجاهد في سبيلها طوال حياته” ضمن برنامج ومنهاج Program معين . ومسألة “الاعداء الثلاثة” التي سنتناولها تعد مركز وقلب هذا البرنامج الذي وضعه لنفسه. ولكي تتوضح مكانة “الاعداء الثلاثة” في نظام تفكيره فان من المفيد تقديم ملخص للبرنامج المذكور.
النقطة الثانية: برنامج افكار بديع الزمان واسس دعوته
لخص بديع الزمان افكاره في تسع مواد في المقالة التي نشرها عام 1909 في “الجريدة الدينية” تحت عنوان “ثمرة الجبل وان كانت مرة الا انها دواء”. والعنوان الفرعي الذي وضعه لمقالته هذه تبين انه ادرج بشكل واعٍ اهدافاً معينة في برنامج نضاله، لذا فهو يستحق الذكر والعنوان الفرعي هو “فهرست لمقاصد بديع الزمان وبرنامج افكاره”.
نستطيع تلخيص هذه المواد التسعة كما يلي:
المادة الاولى: تأمين اليقظة التي تدفع العالم الاسلامي الى الرقي.
المادة الثانية: ازالة الخلاف بين المراكز التي تؤمن المعارف الاسلامية. وهذه المراكز هي: المدارس الدينية، المدارس الحكومية، التكايا.
المادة الثالثة: تأسيس الحرية العلمية في الاوساط العلمية.
المادة الرابعة: تأسيس شعب اختصاص في المدارس الدينية.
المادة الخامسة: الاهتمام بتنشأة الخطباء والوعاظ الذين يعدون مرشدين عامين.
المادة السادسة: ايقاظ الاتجاه نحو الرقي لدى العثمانيين. وهنا يرد موضوع الاعداء الثلاثة الذي يشكل موضوعنا الاصلي.
المادة السابعة: اصلاح مقام الخلافة.
المادة الثامنة: لكي لاترجع الدولة العثمانية الى عهود امراء الولايات فيجب نشر وتقوية الوحدة المحمدية بين الجماهير المسلمة 2.
المادة التاسعة: الاستفادة من القوة الكبيرة التي يملكها الاكراد والتي ضاعت نتيجة الخلاف الكردي وذلك بتأمين الوحدة الملية.
ويجب الا ننسى ان بديع الزمان الذي حضر الى اسطنبول عام 1907 كان قد طور افكاره هذه قبل هذا بكثير، وقد سعى قبل مجيئه الى اسطنبول بسنوات عدة الى تحقيق بعض هذه الافكار بين العشائر. بل انه حضر الى اسطنبول بقصد تحقيق افكاره هذه 3.
لقد قام بديع الزمان بتلخيص افكاره في هذه النقاط التسعة “لكي يظهر انه يتبع مسلكاً “طريقة عمل” معيناً 4” و “لكونها تشكل حقائق” ثم لكي يري بشكل جيد اسس دعوته الحقة، لذا فانه يرى “ضرورة اعادة النظر فيها بشكل متكرر” وهذا ما دعاه الى تناولها في جميع كتبه ونشرياته بشكل متكرر 5.
النقطة الثالثة: مقارنة
لكي نفهم مدى شمولية مسألة “الاعداء الثلاثة” التي نحن بصددها الآن ولكي ندرك الدور الذي يلعبه بديع الزمان في العالم الاسلامي، فاننا نود اجراء مقارنة بينه وبين كلفن “19509 - 1564” الذي اجرى في حياة الغرب عملية جراحية كبيرة. فكما يعلم الجميع فقد اجرى كلفن عملية تغيير وتجديد كبيرين في العالم المسيحي، وحسب الايضاحات التي لم يردها احد والعائدة لعالم الاجتماع الالماني “ماكس ويبر” فان التكنولوجيا الغربية التي تمتلكها الرأسمالية مدينة في وجودها الى كلفن. ذلك لانه اعطى الغرب ثلاثة افكار اساسية، واكتساب هذه الافكار الحياة هو الذي ادى الى نشوء واتساع وتقدم العلم والصناعة والتكنولوجيا في الغرب. وشرح هذه الافكار الثلاثة الرئيسية قد يطول ولكنها باختصار هي: العلم والعمل والزهد. وقد دلت ابحاث “ويبر” ان التقدم العلمي والتقني بدأ في الاوساط البروتستانتية السالكة مذهب كلفن وذلك في جميع بلدان الغرب.
الأعداء الثلاثة: ان أعداء بديع الزمان الثلاثة هي: الجهل والفقر والفرقة.
وقد ذكر “سعيد القديم” هذه الاعداء الثلاثة في جميع مقالاته وكتاباته، وعبّر عن افكاره هذه باساليب مختلفة اذ يقول مرة: “ان كل مؤمن مكلف باعلاء كلمة الله، والوسيلة الكبرى لهذا في هذا الزمن هو التقدم المادي. ذلك لان الاجانب يسحقوننا تحت سيطرتهم واستبدادهم المعنوي بوساطة اسلحة العلوم والصناعات، وسنجاهد نحن باسلحة العلم والصناعة ضد الجهل والبؤس والفرقة التي هي اعدى اعداء اعلاء كلمة الله”6.
وفي مقالة اخرى يقول: “ان اعداءنا هي الجهل والبؤس والفرقة، وسنجاهد ضد هذه الاعداء باسلحة الصناعة والمعرفة والاتفاق”7.
وعندما كان بديع الزمان يكرر هذه المسألة كان يضع احياناً كلمة “العلم” او “العلوم الوضعية” محل “المعرفة” ويضع كلمة “الفقر” و”الحاجة” محل كلمة “البؤس”. او يستعمل كلمة “الاتفاق” محل “الاخوة” او يستعمل كلمة “النفاق” او “الفوضى” او “العداوة” او “الخصومة” او “العداء” محل كلمة “الاختلاف” او يستعمل كلمة “السعي” محل “العلم والفن”.
عندما استعرضنا اعلاه قبل قليل المواد التسعة التي تشكل فهرساً لمنهج افكاره ومقاصده قلنا ان المادة السادسة تناولت مسألة الاعداء الثلاثة. ولكي نفهم بشكل شامل الهدف الذي كان يسعى اليه بديع الزمان من نضاله ضد هذه الاعداء الثلاثة فان علينا ان نتفحص تلك المادة كما هي، يقول:
المادة السادسة
السعي من اجل تنشيط اتجاه الدولة العثمانية نحو الرقي، إذ لما كان مبعث حياة هذه الدولة ودينها هو الدين الاسلامي فان كل عثماني مكلف باعلاء الشوكة الاسلامية، وكل مؤمن عليه واجب اعلاء كلمة الله، ان الرقي المادي في هذا الزمن اكبر عامل في هذا الاعلاء، ولما كان الجهل والبؤس والخلاف افظع عدو لهذا الرقي، فاننا سنجاهد ضد هذا العدو بسيف المعرفة وبالسعي الانساني وبالاتحاد وبالاتحاد باسم الدين.
اما بالنسبة للاعداء الخارجيين فهم لكونهم مدنيين لذا يجب ان ننتصر عليهم فكرياً، وسنحيل ذلك الى براهين الشريعة”8.
الجهل هو رأس الشرور، اذ مع ان بديع الزمان يحول الانظار الى هذه الاعداء الثلاثة على الدوام، الا انه في بعض شروحه يعدها كلها نابعة من الجهل:
“ثم ان الجهل هو عدونا ويسعى لابادتنا، وهو ابن الآغا “السيد”اما البؤس فهو ابنه والخصومة حفيده”
“اذا كان الارمن قد اعلنوا عداوتهم لنا، فانهم فعلوا ذلك تحت إمرة هؤلاء المفسدين الثلاثة”9.
واذا اخذنا العبارات التالية لبديع الزمان بنظر الاعتبار تبين لنا ان جميع المفاسد الاجتماعية تنبع من هذه الاعداء الثلاثة وبالتالي من الجهل:
“ثم ان اعداءنا ليسوا هم “اي الاجانب” بل ان عدونا هو الجهل وماتولد منه من منع اعلاء كلمة الله ومانتج عنه من مخالفة الشريعة. ثم البؤس وثمرته سوء الاخلاق وسوء التصرفات، والخلاف ومايتولد عنه من الحقد والنفاق . وغاية اتحادنا هي الهجوم على هذه الاعداء الخالين من الانصاف”10.
وبديع الزمان الذي يرى الجهل اساس كل سوء، يرى ان الخلاص يكون بالعلم، فهو يقول:
“كنت ارى الاحوال البائسة للعشائر في الولايات الشرقية، فادركت ان جزءاً من سعادتنا الدنيوية سيتحقق بالعلوم الجديدة للمدنية”11.
وهناك عامل آخر او قناعة اخرى ساقت بديع الزمان لاعطاء كل هذه الاهمية للعلم، وتعد هذه نظرة جديدة تماماً من زاوية معاصريه آنذاك، إذ من الصعب ان نجد رجل علم في اوائل هذا العصر يملك كل هذه البصيرة النفاذة حول مستقبل العلم. فهو يقول:
“ان البشرية في اواخر ايامها على الارض ستنساب الى العلوم، وتنصب الى الفنون، وستستمد كل قواها من العلوم والفنون فيتسلم العلم زمام الحكم والقوة”12.
وكذلك فان “الحكومات التي تستند الى القوة ستشيخ - مثلها في ذلك مثل قوتها - بسرعة، ولكن لما كان شأن العلم ومجده في تزايد مستمر، فان الحكومات التي تستند الى العلم ستكتب لها حياة ابدية”13. وهو بذلك يشير الى وجوب استناد دولتنا الى العلم.
حل مسألة الجهل
لقد رآى ان ازالة الجهل “الذي عده السبب الاصلي لكل انواع سوء الخلق والتأخر والهزائم امام الاعداء الخارجين” تتم بنشر المدارس الدينية، غير انه لم يكن راضياً عن هذه المدارس لا من حيث عددها ولامن حيث كفائتها ومستواها. اجل كان من الضروري زيادة عددها، ولكن قبل هذا يجب اصلاحها، بل عمل انقلاب وثورة فيها، فهذه المدارس لم تكن تستطيع تنشئة رجال يستطيعون مجابهة ومواجهة احتياجات العصر وذلك لوجود ثلاثة نواقص فيها 14.
هذه النواقص هي: النظام.. والرقي.. والتخرج.
ويقصد بالنظام النواقص المهمة في بنيتها الداخلية.
فالمدارس الدينية كانت تُخرّج نمطاً واحداً من الانسان، اذ لم تكن تملك شعباً متخصصة، بينما يتمنى ان تكون لهذه المدارس شعباً متخصصة مثلها في ذلك مثل دار الفنون “اي الجامعة”، اي تنقسم الى شعب مترابطة فيما بينها. يقول: “يجب ان يطبق هنا تقسيم الاعمال بتمامها”15. واذا تناولنا بياناته الاخرى نرى انه كان يرغب ان تُنظم هذه المدارس من جديد فيوضع لها اولا قسم فيه دروس اساسية ثم ينقسم الى اقسام متخصصة اي تكون جامعة لها كلياتها المختلفة.
ويقصد بالرقي الرقي العلمي، وهو يرى ان لهذا النقص اسباب عديدة:
1- احتلت دروس الآلة محل الدروس الاصلية. ويقصد من دروس الآلة اللغة ومايتعلق بها من علوم. فالطلاب لم يكونوا يستطيعون تجاوز هذه العلوم ويقضون اعمارهم في فك رموز العبارات.
2- كانت البرامج الرسمية لهذه المدارس الدينية حافلة بالكتب التي تتناول المسائل نفسها ولم يكن بمقدور الطلاب ان يتجاوزوا هذه الكتب التي كانت تستغرق اعمارهم . فالمتون الاصلية وشروح هذه المتون وهوامش هذه الشروح، واحياناً هوامش الهوامش.. الخ. كانت سجناً لافكار الطلاب وهدراً لاوقاتهم، وما كانت تسمح لهم بالخروج عن قبضتها.
3- لعدم وجود الاختصاصات لم يكن امام الطلاب اية فرصة للابداع حسب ميولهم الفطرية، وحسب تعبيره فان الميل عند الجميع كان نحو البروز وحب السيطرة والنزوع الى التحكم، ولم يكن هناك من يهتم بتطوير نفسه علمياً، لذا “فقد سارت هذه المدارس الدينية نحو الاندثار”17.
وعامل آخر كان يعرقل الرقي العلمي وهو عدم وجود العلوم الوضعية في هذه المدارس الدينية. ويقترح بديع الزمان ادخال هذه العلوم الوضعية “او العلوم المدنية بتعبيره” الى هذه المدارس. وان عدم وجود هذه العلوم يؤدي الى تعصب الطلاب . وكما سنذكر فيما بعد فان بديع الزمان عندما كان يقترح ادخال العلوم الوضعية الى المدارس الدينية كان يقترح في الوقت نفسه ادخال الدروس الدينية الى المدارس الاعتيادية. فعدم وجود العلوم الوضعية في المدارس الدينية كان يقود طلاب هذه المدارس الى التعصب وعدم وجود الدروس الدينية في المدارس الاعتيادية كان يقود الطلاب الى الشك والى الاحتيال.
مسألة التخرج
وتتعلق بساحة عمل خريجي هذه المدارس الدينية. لقد ادت النواقص الموجودة في المدارس الدينية الى عدم توجه الطلاب الاذكياء واصحاب الكفاءات الى هذه المدارس “فالاذكياء ذهبوا الى المدارس الاعتيادية، والاغنياء استنكفوا من طراز عيش المدارس الدينية”19. يقول بديع الزمان هذا منبهاً الى الآثار السلبية التي يلعبه موضوع التخرج على هذه المدارس الدينية. وعندما كان يعدد الشروط والامور التي يجب توفرها في “مدرسة الزهراء” - التي كانت المثل الاعلى للمدارس الدينية عنده - والتي بذل جهوده لتأسيسها طوال 55 عاماً، نراه يقول بان الملتحقين بها يجب ان يعاملوا على قدم المساواة مع طلاب الدراسات العليا الملتحقين بالمؤسسات التعليمية الاخرى ويجب ان تُعد امتحاناتهم على نفس الدرجة من الاعتبار والاهمية لامتحانات المؤسسات التعليمية الاخرى والا تكون امتحانات عقيمة 20.
علموا اطفالكم
بينما كان بديع الزمان يناضل من اجل اصلاح المدارس الدينية وزيادة عددها، كان يشجع ويدعو في الوقت نفسه الى تعليم الصغار، وعندما سن قانون توحيد التدريس بعد اعلان الجمهورية ومنعت الدروس الدينية تماماً في المدارس انتشر في طول البلاد وعرضها شعار لانعرف مصدره يقول: “ان هذه المدارس مدارس كفار لاترسلوا ابناءكم اليها” وعندما بدأ مفعول هذا الشعار في بعض العهود يسري لدى الاوساط الدينية كان بديع الزمان يقول: “ان جميع العلوم الوضعية تتحدث بالسنتها الخاصة بها عن الله. لاتستمعوا انتم الى المعلمين بل استمعوا اليها” اي انه بدلاً من التوصية بمنع ارسال الصغار الى المدارس كان على العكس من ذلك يشجع على ارسالهم اليها. ويمكن العثور على امثلة متعددة على هذا الحض والتشجيع في الذكريات المروية عن بديع الزمان 21.
العدو الثاني: البؤس
ويعني بديع الزمان بـ”البؤس” التخلف المادي والتقني الذي اصاب المسلمين. وقد عبر عنه بعدة تعابير منها “الفقر” او “الجوع” او “الحاجة”.. الخ. ويعترف بديع الزمان بهذا الفقر وبهذه الحاجة وبهذا التخلف الذي يئن تحت عبئه العالم الاسلامي والذي يحس بثقله على عاتقه وبالذل الناتج عنه... يعترف به كما هو في الواقع. ولكنه لايجعل هذا - كما يفعل بعض الماديين - وسيلة يأس يدفع الناس الى حالة من الشلل يمنعهم من القيام باية محاولة ومن بذل اي مجهود، على العكس من ذلك فانه يجعل هذا دليلاً على قناعته بان المسلمين سيتقدمون في المستقبل وسيترقون وسيلحقون بالغرب في مضمار العلم والتقنية بل سيسبقونه 22. ويشرح ذلك بالحاجة التي ظهرت في الغرب والفاقة هي التي دفعته الى التقدم. ويورد في هذا الصدد مثلاً كثيراً مااستعمله وكرره وهو: “الحاجة هي معلم المدنية”23. ويقول بان هذا المبدأ ليس قناعة شخصية له، بل انه “ثابت حكمة - اي علماً -”. ويستشهد بنظريات لعلماء الاجتماع تقول بان الحروب والجفاف والزلازل والاوبئة تلعب ادواراً ايجابية في تطور المدنيات ورقيها 24.
يبين بديع الزمان بان الفقر والحاجة تحفز الناس نحو بذل السعي وبذل المجهود، وهكذا ينقلب الميل الفطري الموجود لدى الافراد نحو الرقي من القوة الى الفعل، وبنتيجة بذل المساعي وبذل المجهود يأتي الرقي.
ولكي يبلغ هذا الموضوع درجة مقنعة من الوضوح يقوم بديع الزمان بتحليلات عديدة لذا نراه يتناول مواضيع عديدة يعدها مواضيع الساعة ويعطي الايضاحات حولها، فيقول: “ماهي العوامل التي تدفع الى السعي؟ لماذا انطفأت عندنا شعلة السعي والشوق اليه؟ وكيف نوقظ هذا الشوق؟ وكيف نحيي لدى الناس نبض الحياة؟ وماهي الاخطاء في انموذج عملية النمو والتطوير المتبعة حالياً؟ وما الانموذج الذي يجب ان نتبعه في عملية الارتقاء والنمو؟”.
ويقول مثلاً “ان الحياة عبارة عن حركة وفعالية والشوق مطيتها”25 او “السعي هو بخار الانسان”26 اي يبين ان الشوق يشكل الاساس لجميع الفعاليات والجهود. ويقول بان بعضاً من العلماء غير الكاملين الذين لم يأخذوا بعين الاعتبار ظروف وشروط الزمن اطفأوا شوق الناس الى العمل بدفعهم الى تواكل خاطئ استناداً الى المعاني الظاهرية لبعض المتون الدينية والى كسل وبطالة.27 ثم يبين المعنى الصحيح للتوكل الاسلامي في هذا الموضوع. ثم يبين العلاقة الوثيقة بين الشوق الموجود لدى الفرد وبين همته اي شعوره بمصالح امته. ويوضح كيف ان من يحمل هدفاً سامياً مثل هدف خدمة الدين لابد ان تزداد همته. فيقول: “ان من كانت همته موجهة لأمته فهو امة صغيرة”28 ويقول بان الغرب “الذي سرق منا شعور الامة وشعور الملية ترقى بهذا الشعور”29 وان الارمن ادوا تضحيات كبيرة بقوة وعظمة هذه الهمة 30. فبديع الزمان يرى بان اس الاساس لرقي الغرب هو شعور الملية31 لذا يجب اثارة هذا الشعور لدينا ايضاً، الا انه عندما يذكر شعور الملية عندنا فانه يعني بذلك الاسلام اذ يقول “الملية جسم وروحه الدين” ويقول “الدين هو حياة الملية وروحها”32. يجب ان نأخذ علوم الغرب، ولكننا عندما نفعل هذا يشترط الا ننسى عاداتنا الملية والا نضحي بها. ان ترك العادات الملية - حسب رايه - يدل على شيخوخة تلك الامة 33. لذا يرى من المناسب اتباع طريق اليابان في الرقي.
“عند اكتساب المدنية يلزمنا الاقتداء باليابان، فمع انهم اخذوا بمحاسن المدنية من اوروبا الا انهم حافظوا على تقاليدهم الملية، هذه التقاليد التي بها تدوم حياة الامم”34.
ويقول بان السعي نحو الرقي المادي وجيبة دينية على المسلمين:
“ان كل مؤمن مكلف باعلاء كلمة الله. واكبر عامل لهذا في هذا الزمن هو الرقي المادي”35.
ان السعي والعمل من القوانين والشروط الكونية لله سبحانه وتعالى، وان المكافأة جزاء اتباع هذه القوانين والشروط او العقاب جراء تركها يكون عاجلاً وفي الدنيا. ويقول “ان جزاء العمل والسعي هو الثروة وجزاء الكسل والبطالة هو البؤس”36.
ويقف طويلاً وبشكل مستقل حول الاعداء الذين كسروا الهمة التي هي منبع الشوق الذي يدفع الانسان نحو العمل، ويبحث عن حلول لعلاج هذا الامر وتلافيه 37.
ولكي يكون هناك عمل مثمر وجهد منتج فانه يوصي باختيار المهن حسب القابليات الفطرية 38.
ويبين ان الممكن الاستفادة من صناعة غير المسلمين، فكفر الكافر وفسق الفاسق لايضر بالمهارة ولا بالصنعة 39.
وهو يوصي باستعمال المنتوجات المحلية، ومثلما فعل غاندي فقد قاطع طوال حياته مصنوعات الغرب “انني البس فقط النتاج المادي والمعنوي لبلدي”40.
ولاوضح نقطة اخيرة في موضوع الفقر: فحسب رأى بديع الزمان فان احد اسباب زيادة غنى الاقليات، وزيادة فقر المسلمين في الدولة العثمانية يعود الى كيفية اختيار المهنة “لقد لقينا عقابنا لاننا اخترنا طرق الامارة في المعيشة التي تساعد على الكسل والتي تدغدغ غرور الانسان” ويقول ان الطرق “الطبيعية” و”المشروعة” و”الحيوية” للمعيشة هي “الزراعة” و”التجارة” و”الصناعة” ويقول: “انني ارى بان من يتقلد وظيفة او امارة يجب ان يدخلها من اجل ايفاء خدمة، ولكن ان دخلها كطريقة كسب ومعيشة فانه يكون قد تصرف بحمق”41.
النقطة الثالثة: الاختلاف
والمسألة الثالثة التي يتناولها بديع الزمان ويتفحصها اي العدو الثالث فهو “الاختلاف” ويعبر عنها احياناً بكلمات وتعابير اخرى مثل “الفوضى” او”النفاق” او”الخصومة” وضدها هو “الاتفاق” واحياناً يستعمل كلمات اخرى امثال: “الوفاق” او “التساند” او “التعاون” او “الاتحاد” او “الاخوة”.
واذا نظرنا الى بياناته المختلفة نجد انه يقصد بـ”الاختلاف” الاختلاف الظيق النطاق بين المسلمين وكذلك الاختلاف بين المجموعات الدينية، ويتناول كلا منها ويكررها حسب اهميتها. والاختلاف الذي يقف عنده طويلاً ويقدم الحلول لتلافيه هو الاختلاف الموجود بين المدارس الدينية والمدارس الاعتيادية والتكايا وهي الشعب الثلاثة لمنابع الفيض.
ولكي يبين مدى جدية ووخامة الاختلافات على نطاق المجتمع في نظره فانه يستعين بقاعدة من علم الرياضيات فيقول:
“اذا لم يكن المجتمع واحداً صحيحاً فان الجمع والضم يؤدي الى النقصان مثلما يؤدي الى ذلك ضرب الكسور” ثم يوضح فيقول “من المعلوم في علم الحساب ان الضرب والجمع يؤدي الى الزيادة. فاربعة مضروبة في اربعة يساوي ستة عشر. ولكن الضرب في الكسور يؤدي الى النقصان، فالثلث في الثلث يساوي التسع، ونجد نظير هذا في عالم الانسان، فاذا لم يتحد الانسان مع الصحة ومع الاستقامة فان النتيجة يكون نقصاناً وخللاً ودون اية قيمة”42.
ولكي يظهر مدى الالم الذي يلم به نتيجة الاختلاف في المجتمع فانه يستفيد من الابيات التالية للسلطان ياووز سليم:
ان الخشية من الاختلاف والتفرق
يجعلني اضطرب حتى وانا في القبر
ان الاتحاد هو وسيلتنا في الصولات
ان لم تتحد الامة اكون مجروح القلب 43.
وحسب راى بديع الزمان فان “الحياة في الاتحاد”44.
ان الحياة وكل شئ يُعد امتداداً لها لايظهر للوجود الا بعد اتحاد معين “هناك قوة في الاتحاد، وهناك حياة في الاتحاد، وهناك سعادة في الاخوة”45.
ويقول بان العالم الاسلامي ان اسس فيما بينه اتحاداً تاماً فليست هناك قوة دنيوية تستطيع ان تقف امامه.
ولكي يبين مدى القوة الحاصلة نتيجة الاتفاق يقول “نعم.. ان لم تتحد ثلاث “الفات” فستبقى قيمتها ثلاثاً فقط، اما اذا اتحدت وتساندت بسر العددية، فانها تكسب قيمة مائة واحد عشر “111”، وكذا الحال في اربع “اربعات” عندما تكتب كل “4” منفردة عن البقية فان مجموعها “16” اما اذا اتحدت هذه الارقام واتفقت بسر الاخوة ووحدة الهدف والمهمة الواحدة على سطر واحد فعندها تكسب قيمة اربعة آلاف واربعمائة واربع واربعين “4444” وقوتها”46.
اسباب الخلاف
يوضح بديع الزمان اسباب الخلاف بين المسلمين فيقول انه يعود الى بعض النواقص والى بعض التصرفات غير السليمة، مثل ضعف الايمان والانانية والبحث عن الأحق، وحسب رايه فان المرض الرابع من الامراض الستة التي ادت الى تأخر المسلمين هو “عدم معرفة الروابط النورانية التي تربط اهل الايمان بعظهم ببعض”47.
اذن يجب اظهار هذه الروابط الايمانية والدينية الى ضوء النهار واعادة الفعالية اليها. وهو يقول:
“الاتفاق من الله تعالى وليس من الهوى ورغبات النفس”48. وهكذا فهو يبين ان الاتفاق والوحدة لايمكن ان تتم بصيغ بشرية. فمثلاً لايمكن ان تتحقق الوحدة بالتخويف او بالضبط او بالاكراه، على العكس من ذلك فهذا يؤدي الى زيادة الفرقة والنفاق بين الاطراف 49.
حلول التوحيد
يذكر بديع الزمان في هذا الصدد حلولاً عديدة وطرقاً كثيرة وايضاحات مختلفة، والمهم بالنسبة الينا الاشارة الى بعضها:
الشعور الايماني
يأمر القرآن الكريم المؤمنين بالرجوع الى الله تعالى والى رسوله صلى الله عليه وسلم عندما يقع بينهم اي خلاف، والمؤمن مادام مؤمناً فهو لايستطيع اهمال او تناسي هذا الامر.
ويقول بديع الزمان “فكما انك اذا استعظمت حصيات تافهة ووصفتها بانها اسمى من الكعبة المشرفة واعظم من جبل احد، فانك بلاشك ترتكب حماقة مشينة”50.
“ما الحل الذي يعالج الخلاف في العالم الاسلامي؟” يجيب بديع الزمان على هذا السؤال بالاجابة التالية: “يجب اولاً النظر الى ما هو متفق عليه من المقاصد السامية، ذلك لان الهنا واحد، ونبينا واحد وقرآننا واحد ونحن متفقون حول الضرورات الدينية”51.
المساواة
من بين الخصائص والعوامل التي تؤمن وحدة الامة يعير بديع الزمان اهمية كبرى لموضوع المساواة “ما الذي يؤدي الى وحدة الامة غير رفع الامتياز؟” 52.
وهذه يمكن تحقيقها بتأمين الحاكمية التامة للقانون والا فان كل اداري سيكون مستبداً مستقلاً وتزداد محاولات الجمعيات السرية مما ستؤدي الى زيادة الاستبداد53.
مجاراة السواد الاعظم
يرى بديع الزمان بان مجاراة السواد الاعظم من الناس في بعض المسائل يزيل الاختلاف، لان من الخطر الانشقاق عن الاكثرية 54.
المعارف
لقد تنبأ بديع الزمان منذ بداية هذا القرن بهذا الفوضى الذي يعصف بمناطقنا الشرقية، وقال بان العلاج يتم عن طريق المعارف، واقترح على الدولة القيام بفتح المدارس الدينية في المراكز المهمة التي سماها بالمنطقة الشرقية وتنشئة وتربية الطلاب، وهو يقدم هذا الاقتراح مع ايضاح اسبابه كما يلي:
“.. بهذا يتم تأمين اساس التربية والثقافة. وبعد تأسيس هذا المبدأ يتقرر الاتحاد ويتحقق اننا ان اعطينا هذه القوة العظيمة التي تذهب هدراً نتيجة الخلاف الداخلي الى يد الحكومة لكي تستعملها في الخارج ولكي يظهر انهم بفطرتهم السليمة يستحقون العدالة وانهم مهيأون ومستعدون لتقبل المدنية “55.
ان هذه الجمل تبدو وكأنها تشير الى ظروفنا الحالية.
البحث عن الاحق
هذه صيغة لازالة الخلافات المذهبية والخلافات بين المجموعات الدينية على الاخص.
يقول بديع الزمان “عندما يكون هناك اتفاق على الحق، ولكن مع وجود خلاف حول الاحق، يكون الحق احق من الاحق”56، ويقول ان كل واحد يحق له ان يفهم ان مسلكه “حق” وانه أجمل، ولكن لايحق له ان يفهم او يتصور ان مسلك الآخرين باطلة وقبيحة. وهو يرى بان الشخص ان اعتقد بان مسلكه فقط هو المسلك الحق فان هذا يدل على ضيق افقه وعلى انانيته وحبه لنفسه. وهو لكي يعالج مثل هذا المرض فانه يستعرض امثلة على امكانية تعدد الحق 57.
حب المحبة والعداء للعداوة
في سبيل ازالة الخلاف يوصي بنشر المحبة بين المؤمنين وازالة العداء، فهو يقول: “نحن فدائيو المحبة، لاوقت لدينا للخصومة”58. وقد اعلن انه عفا عن جميع الذين عذبوه طوال حياته وملأوا حياته الماً وضيقاً، وعن جميع الذين جروه من محكمة الى محكمة ومن مركز شرطة الى مركز شرطة، والذين القوا به في السجون، وسامحهم وصفح عنهم 59.
الذين يجب ان يتفقوا
وبجانب قيام بديع الزمان بتقديم الصيغ التي تؤدي الى الاتفاق فانه بيّن المؤسسات التي يجب ان تتفق. لذا يجب ان نشير الى هذه المؤسسات.
اتفاق ثلاث شعب كبيرة
وهذه الشعب “مثلما سجلنا سابقاً” هي: المدارس الاعتيادية، والمدارس الدينية والتكايا، اذ يقول: “ان من اهم اسباب تأخرنا في مضمار المدنية، هو تباين الافكار واختلاف مشارب منتسبو ثلاث شعب كبيرة يعدون مرشدين عموميين بعد عهد الاستبداد وهم منتسبو المدارس الاعتيادية ومنتسبو المدارس الدينية ومنتسبو التكايا”60.
فهو يرى “ان هذاالتباين في الافكار هزّ اساس الخلق الاسلامي وفرّق وحدة الامة”. ويستمر بديع الزمان تحليله فيقول بان منتسبي المدارس الدينية كفروا منتسبي المدارس الاعدادية، وهؤلاء اتهموهم ورموهم بالجهل. ولكي تتقبل جماهير الشعب العلم، فانه يجب نقله اليهم بوساطة علماء يثق فيهم الشعب61. ومن هذا المنطق يجب تدريس العلوم الوضعية في المدارس الدينية، وتدريس علوم الدين في المدارس الاعتيادية. ومدرسة الزهراء التي ستضع مفردات هذه العلوم في مفردات مناهجها ستقوم باصلاح البين بين هذه الشعب الثلاثة، وستكون هذه احدى فوائد هذه المدرسة.
واريد ان اذكرهنا بانه بعدما تم اغلاق شعبتين من هذه الشعب الثلاثة ظهر مدى صواب اقتراح هذا الحل وذلك بعد ظهور الفوضى في الجيل الجديد. وهذا موضوع مطروح للنقاش.
اتفاق الجماعات الدينية
قدم بديع الزمان في هذه المسألة اقتراحات حلول نعتقد انها لاتزال حتى الان معتبرة. فقبل كل شئ عد وجود هذه الجماعات المختلفة ضرورية ومفيدة. ولكنه يريد منها ان تكون غايتها واحدة. ولاشك في وجوب كون هذه الغاية ايجابية وبناءة وتهدف الى خدمة الدين والامة. فاذا تحقق هذا فلا يُشترط ان تكون الطرق والمشارب واحدة. بل تكون مثل هذه الوحدة ضارة لانها قد تدفع الناس الى اللامبالاة والى قول: “ليفكر غيري بهذ”63 اذ يقول:
“ان الجماعات التي تتشكل بدافع المحبة الدينية ان حققت شرطين فنحن على استعداد لتهنئتها جميعاً والاتحاد معها:
الشرط الاول: المحافظة على الحرية الشرعية وعلى الأمن العام.
الشرط الثاني: أن يكون طراز حركتها قائماً على المحبة وعدم محاولة ابراز نفسها بالقاء التهم على الجماعات الاخرى وتلويث سمعتها”64.
وهكذا يتبين هكذا ان بديع الزمان ضد الجمعيات الثورية.
لا للامركزية
يعجب بديع الزمان بفكرة اللامركزية وتوسيع وزيادة الصلاحيات التي طرحها الأمير “صباح الدين”. ولكنه لايناصرها، وذلك لان الاتجاه نحوها قبل تقوية الروابط العثمانية بين افراد الامة وقبل تأمين المحبة بين الامة سيؤدي الى احياء العنصرية التي ماتت قبل 13 قرناً والى ايقاظ الفتنة وارجاع البلد الى عهد الامارات شبه المستقلة. وتفكيره على هذا النمط يدل على مدى اهتمامه بوحدة الامة، لذا يجب الا يغيب عن الانظار هذه الملاحظات من بديع الزمان ولاسيما في هذه الايام التي اثيرت فيها هذه المسائل من جديد وباتت من مواضيع الساعة.
العدو الخارجي
امام اصرار بديع الزمان على ان اكبر الاعداء الحقيقيين هم الجهل والفقر والاختلاف فلابد ان يرد للخاطر السؤال التالي: وماذا يقول عن العدو الخارجي؟ والحقيقة انه يتناول هذه المسألة عند قيامه بشرح نفس المواضيع. فهو لايرى فيهم اعداءً يجب محاربتهم باسلحة مادية، بل انه يقول بانه يجب النظر اليهم نظرة صداقة ويقدم لتبرير ذلك عدة اسباب:
1- انهم سبب ووسيلة ليقظتنا.
2- اننا نكتسب منهم العلوم الوضعية.
3- يجب ان نقنعهم بان الدين الاسلامي دين صلح.
4- انهم جيراننا، والجيرة تستوجب الصداقة.
وهذه احدى عباراته:
“يجب الا ننظر للاجانب نظرة عداء، بل ربما يتوجب علينا ان ننظر اليهم كاصدقاء ومساعدين لانهم اصبحوا وسيلة لسعادتنا ولاعلاء كلمة الله في هذا الزمن لكونهم وسطاء لرقينا ومشوقين بل حتى مجبرين لنا لاكتساب المدنية”66.
ويبدي بديع الزمان اهمية اكبر لموضوع ازالة القناعات الخاطئة لاوروبا حول الاسلام، فهو يقول:
“لقد حزنت من اعماق قلبي عندما علمت بان اوروبا تظن بان الاستبداد الناشئ عندنا نتيجة الجهل والتعصب مرده - حاشا لله - لموافقة وملائمة الشريعة له. ولكي اقوم بتكذيب ظنونهم هذه فقد ايدت باسم الشريعة اعلان المشروطية اكثر من الجميع”67.
والشئ الذي يكرره باصرار في هذا الموضوع انه لكون غير المسلمين مدنيين، فان الجهاد ضد المدنيين لايكون بالسلاح بل بالاقناع. فهو يقول عندما يتكلم حول جمعية الاتحاد المحمدي:
“ان سبيل هذا الاتحاد هو المحبة وخصومته موجهة للجهل وللبؤس وللنفاق. وليكن غير المسلمين مطمئنين وواثقين بان اتحادنا هذا ضد هذه الصفات الثلاثة. واسلوبنا مع غير المسلمين قائم على الاقناع ذلك لاننا نعرف انهم اشخاص مدنيون لذا يجب اظهار الاسلام بشكل محبوب وبشكل سامٍ”68.
السلاح ضد المدنيين
اذا كان الاقناع هو السياسة الرئيسية المستعملة تجاه الاعداء الخارجيين، فلا بد ان يتغير مفهوم “السلاح”، لذا نراه يكرر بشكل متواصل بان اسلحتنا تجاههم هي البراهين القطعية والاكيدة للشريعة 69. وجوابه على سؤال “كيف سنغلب الارمن؟” يلقي ضوءً على مفهومه “للسلاح” اذ نراه يقول:
“سنغلبهم بالسلاح نفسه الذي غلبوكم به اي تستطيعون التغلب عليهم بالعقل وبالفكرة الملية والاقبال على الرقي والتقدم والميل نحو العدالة”70.
وفي بيان آخر له: “ان السلاح الذي يُغلب به الاعداء ويُشتت في المستقبل سيكون المدنية الحقيقية بدلاً من السيف، والتقدم المادي، وسيكون السيف المعنوي للحق وللانصاف”71.
وفي موضوع آخر نراه يوصي يعيش الاسلام فعلاً وحقيقة كسلاح 72. فلو عشنا الاسلام، وظهر الاسلام في افعالنا وتصرفاتنا فان قارات عدة ستدخل الى الاسلام برغبتها 73.
والبلاغة والفصاحة ستكون من امضى الاسلحة في المستقبل كما بينه بديع الزمان74. ويقول بان عهد الشجاعة الفطرية انتهى وفات اوانه، اذ حلت مكانه الشجاعة العلمية 75. ويخاطب الجيل الجديد فيقول:
“يجب ان تصنعوا اسلحتكم من العلم ومن الصناعة ومن التساند ومن جوهر الحكمة القرآنية”76.
اذن فان الجهاد بدل ان يكون في جبهات القتال سيكون في ساحات العلم والصناعة وفي سبيل الحصول على التساند وعلى الحكمة القرآنية التي ساحتها النفس. يقول بديع الزمان:
“لما كان كل واحد قائداً في عالمه الذاتي، فانه مكلف من عالمه الاصغر بالجهاد الاكبر”77.
النتيجة: امل المستقبل
اذا ذُكر بديع الزمان ذكر الامل مجسماً، ولو تم تلخيص كل مؤلفاته في ثلاث او خمس نقاط رئيسية لكان الامل في المستقبل احدى هذه النقاط دون اي شك. لذا فاننا نحب ان ننهي محاضرتنا بالامل. فقد كان يؤمن بان العالم الاسلامي سوف يستطيع التغلب على هذه الاعداء الثلاثة التي قمنا حتى الآن بتحليلها، وسوف يكون رائداً للانسانية حتى من الناحية المادية وسيؤسس السلام العالمي، فهو يقول:
“بما ان العقل والعلم هما اللذان سيحكمان في المستقبل، لذا لابد ان يحكم القرآن الذي تستند جميع احكامه على البراهين العقلية والذي يستمد جميع احكامه من العقل”78. ويقول: “ان المستقبل سيكون فقط للاسلام، والحقائق القرآنية والايمانية ستكون هي الحاكمة”79.
ويقول: “انني اعلن دون اي تردد وبكل ما املك من يقين وعقيدة... سينتشر الحق وسيترعرع. وانا اعتقد ان الحقائق الاسلامية هي التي ستحكم جميع القارات حكماً مطلقاً في المستقبل”80.
ويقول الابيات التالية شعراً:
يقيني ان تربة المستقبل وسماءها هي آسيا
وان اليد البيضاء ستكون مع الاسلام 81.
ثم يقول:
ستعلو راية الهلال والنجمة التي هي راية اعلاء كلمة الله وستصل الى سابق قوتها وشوكتها ان شاء الله”82.
____________________
- بديع الزمان سعيد النورسي: الآثار البديعية “وهو كتاب يجمع فيه الرسائل المنشورة باللغة العثمانية “ المقصود باللغة العثمانية هو كتابة اللغة التركية بالاحرف العربية من جهة واستعمال اسلوب يكثر فيه استعمال الكلمات العربية والفارسية. المترجم.” صفحة 669.
2- الآثار البديعية ص:372 - 378.
3- بديع الزمان سعيد النورسي: ديوان الحرب العرفي، اسطنبول 1990 ص: 28 - 29.
4- الآثار البديعية. ص: 385 المثنوي العربي النوري، اسطنبول 1958 ص: 217.
5- Weber Max Ethique Protestant et Lespritdu Captilazim.
“ترجمه الى الفرنسية Jacques Chavy بلون، باريس.
6- ديوان الحرب العرفي: ص57 “اخذت هذه العبارة من مقالته التي ظهرت في “الجريدة الدينية” بتاريخ مارت 1909 عدد 70.
7- المصدر السابق ص: 15.
8- الاثار البديعية ص: 375.
9- بديع الزمان سعيد النورسي: “مناظرات” اسطنبول 1991 ص: 69.
10- الاثار البديعية ص: 381.
11- ديوان الحرب العرفي: ص 28.
12- بديع الزمان سعيد النورسي: “الكلمات” ص: 292.
13- “مناظرات”: ص 134.
14- “كلمات”: ص 264.
15- “مناظرات”: ص128.
16- “محاكمات”: اسطنبول 1977، ص 47.
17- المصدر السابق
18- “مناظرات”: ص 127.
19- المصدر السابق: ص 134.
20- المصدر السابق: ص 128.
21- نجم الدين شاهينر “آخر الشهود” اسطنبول 1988 - الجزء الرابع، ص 372.
22- الآثار البديعية، ص 349 - وقبلها ص 69.
23- “سنوحات”: انقرة 1976 ص 55.
ان نظرة بديع الزمان هذه تصدر من منطلق “الحاجة للنجاح جزء من شخصية الانسان” وهي تذكرنا بالابحاث التي اجراها العالم الاجتماعي الامريكي ماكلالند والتي اظهرت ان القصص وحكايات البطولة والاساطير التي تدرج ضمن كتب الدراسة بشكل ادبي لتلقين الجيل الجديد الحاجة الى النجاح تؤدي بعد مدة الى تقدم ملحوظ في الحياة الاقتصادية لتلك الامة. ولكن لاشك ان هناك فرقاً كبيراً بين تلقين الحاجة الى النجاح بصورة اصطناعية بوساطة القصص والاساطير وبين تلقين هذه الحاجة الصادرة من اعماق الوجدان كنتيجة لامر الايمان والشعور بانه واجب من الواجبات الدينية. ولمن يرغب في الاستزادة من المعلومات حول نظرية ماكلالند نشير الى كتابنا “التربية في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم “ ص:117 والى كتابنا “التقنية والثقافة والمدنية في احاديث النبي صلى الله عليه وسلم ص: 54 - 55.
24- توجد المعلومات حول هذا الموضوع في كتاب ارنولد توينبي المعنون بـ L'historia ترجمته الى الفرنسية Elizabeth Jullia Gallimarol باريس 1951 ص: 104 - 157 وما بعدها.
25- “مناظرات” ص: 136.
26- المصدر السابق ص: 30.
27- المصدر السابق ص: 78.
28- بديع الزمان سعيد النورسي: “الخطبة الشامية”، اسطنبول 1990 ص: 56.
29- “الخطبة الشامية” ص: 58 - 59 . “المناظرات” ص: 100 - 101.
30- “مناظرات” ص: 98.
31- المصدر السابق ص: 100.
32- “الخطبة الشامية” ص: 64.
33- “الاثار البديعية” ص: 64.
34- المصدر السابق ص: 350.
35- بديع الزمان سعيد النورسي: “محاكمات” ص: 37.
36- “الخطبة الشامية” ص: 129. وكذلك “كلمات” ص: 726.
37- “مناظرات” ص: 136 - 139.
38- “محاكمات” ص: 46.
39- “الآثار البديعية” ص: 396.
40- “ديوان الحرب العرفي” ص: 15 - 16 “الهامش
41- “مناظرات” ص: 77- 79.
42- “الخطبة الشامية” ص: 142.
43- “ديوان الحرب العرفي” ص: 21 - 22.
44- “الاثار البديعية” ص: 356.
45- “محاكمات” ص: 42.
46- بديع الزمان سعيد النورسي: “اللمعات” ص: 243.
47- “الخطبة الشامية” ص: 20.
48- = = ص: 89. و”ديوان الحرب العرفي” ص: 58.
49- “ديوان الحرب العرفي” ص: 52.
50- بديع الزمان سعيد النورسي: “المكتوبات” ص: 341.
51- بديع الزمان سعيد النورسي: “الطلوعات” ص: 84 “طبعت معاً مع “السنوحات”.
52- بديع الزمان سعيد النورسي: “ديوان الحرب العرفي” ص: 41.
53- المصدر السابق ص: 41.
54- “الخطبة الشامية” ص: 124.
55- شاهينر، نجم الدين “بديع الزمان سعيد النورسي بجوانبه غير المعروفة”/ اسطنبول 1974 ص: 64. و”الاثار البديعية” ص: 465.
56- “الخطبة الشامية” ص: 124 - 125.
57- “كلمات” ص: 719.
58- “ديوان الحرب العرفي” ص: 57.
59- بديع الزمان سعيد النورسي “السيرة الذاتية”،اسطنبول 1976 ص: 604.
60- “ديوان الحرب العرفي” ص: 80. و”الاثار البديعية” ص: 355.
61- “ديوان الحرب العرفي” ص: 28.
62- “مناظرات” ص: 132.
63- “الخطبة الشامية” ص: 99. و “الاثار البديعية” ص: 391.
64- “الخطبة الشامية” ص: 98. “الاثار البديعية” ص: 390.
65- “الاثار البديعية” ص: 357.
66- “الاثار البديعية” ص: 389.
67- “ديوان الحرب العرفي” ص: 16.
68- “الاثار البديعية” ص: 379.
69- ديوان الحرب العرفي ص: 57. والخطبة الشامية ص: 88.والاثار البديعية ص: 375.
70- “مناظرات” ص: 68.
71- “الخطبة الشامية” ص:35.
72- “الخطبة الشامية” ص: 96.
73- “الخطبة الشامية” ص: 24.
74- “كلمات” ص: 264.
75- “ديوان الحرب العرفي” ص: 28.
76- “ديوان الحرب العرفي” ص: 54.
77- “المناظرات” ص: 68.
78- “الخطبة الشامية” ص: 27.
79- “الخطبة الشامية” ص: 21.
80- “المحاكمات” ص: 7.
81- “كلمات” ص: 694. بديع الزمان سعيد النورسي “الشعاعات” ص: 502.
82- “الاثار البديعية” ص: 679.