المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لهب بوشاح أحمر- قصيدة (الحلم) عند زاهر الجيزاني



وديع العبيدي
02/02/2007, 11:58 PM
وديع العبيدي
"هناك لهب آخر.. وشجيرة جميز أخرى"
– لهب بوشاح أحمر- قصيدة (الحلم) عند زاهر الجيزاني

يقول فرانسوا بيسوا : "بالنسبة للحكيم، الحياة والتفكير فعلان لا ينفصلان"!.

تمهيد.. أو ممر ضيق..
الحلم أحد الظواهر الملغزة والتعجيزية في سفر العقل البشري، رغم المساحة التي يشغلها من حياة الانسان في نومه ويقظته. يقول العلماء أن الحلم ظاهرة طبيعية (!!؟)، وأنه لا يوجد شخص لا يحلم ، في وعيه أو لا وعيه، بما فيه الطفل حديث الولادة أو الجنين قبل ولادته. أما تفسير الظاهرة والنظر إليها بمنظار العقل أو المنطق الواقعي، فلا ينجو من الاسقاطات والتجارب الشخصية كما عند فرويد ومن تبعه، أو الوقوع في خانة الخرافة والتأويل الديني. ويعتبر (تفسير/ تأويل) الأحلام جزء من الموروث الثقافي لكل شعب أو جماعة سكانية. بالمحصلة، يبقى الحلم، ذلك الممر الضيق بين الوعي السمبثاوي والباراسمبثاوي، بين الحيز السيكولوجي والبارا سيكولوجي، بين الواقع اليومي والميتافيزيك. انه قنطرة الشاعر ومعجزة النبي ونبوءة الملك وسحر العراف. وفي موروثنا الشعبي يستخدم الحلم للتنبوء بشيء يحدث، أو لقاء الموتى من الأقارب أو الصالحين. وهو الإطار المستخدم في قصيدة [لهب بوشاح أحمر] للشاعر زاهر الجيزاني.
[في ظهيرة السبت السيئة حلمت أن شخصاً أعرفه مات]..
حرص الشاعر على توظيف تقنية الحلم لصالح القصيدة من عدة وجوه. أولها: استخدام الحلم بحدّ ذاته، ثانيها: توقيت الحلم بيوم السبت. و[التسبيت] مشهور في الذاكرة العراقية الشعبية، عند المعروفين بموهبة (كشف المحجوب). فكانت المرأة تأخذ مبلغاً من المال وقطعة من لوازم الشخص المطلوب [كشف لغزه أو مستقبله (الطالع!)] ليلة الجمعة على السبت. فتضع المرأة المبرورة المبلغ والحاجة (أحيانا ورقة مكتوب فيها شيء أو سؤال) تحت وسادتها، وتنام، لتحلم بالردّ. وفي (الصبحية) تعودها صاحبة الحاجة لاستلام الجواب، ومعها هدية مضاعفة إذا كانت المناسبة سارة. والثالث: توصيف الحلم النهاري، [ظهيرة السبت]. ويحذر (العارفة) من أحلام النهار ويعتبرونها مدعاة للتشاؤم، لأن مكان الحلم هو النوم، ووقت النوم الطبيعي يكون في الليل، فما يحدث بشكل خارج المألوف والعادة و(الطبيعي)، هو شيء غير مألوف وغير طبيعي. ومنهم من يكذب أحلام (النهار) ويعتبرها واهية أو ضعيفة أو يتشاءم منها. وربما – من هذا الباب الضيق، عمد الشاعر إلى تكذيب (حلمه) طيلة النصف الأول من القصيدة، تارة بنفي الحلم، أو نفي ذات الشخص.
قصيدة زاهر الجيزاني هذه، الطالعة بعد صمت وغيبوبة طويلة، هي قصيدة (حلم) بحق!. وهذا ما يسجل لها بجدارة. ليس لأن شعراء وكتاب آخرين لم يفطنوا لذلك. على العكس. انما الاحتفاء بالحلم على مستوى التقنية والمعالجة لم يكن واضحاً. وكثير من النصوص (الحلمية) لا تكشف عن نفسها إلا في الفقرة الأخيرة لتحقيق عنصر المباغتة أو الغرائبية. لكن الجانب الآخر، بالمقابل، الأكثر أهمية، من التوظيف الفني التقني للحلم، هو ما يتعلق بطبيعة شخصية الشاعر نفسه. وهذا هو الأكثر أهمية، في معالجة، تتعلق بشخص (صديق)، أو علاقة شخصية محملة بالارهاصات والمعاناة والقلق. ان (المباشرة) ليس لها مكان بين خصائص شخصية الشاعر، فكيف عندما يتعلق الأمر بصديق، ومناسبة غير سارة. ان مغزى توظيف تقنيات (الحلم) في قصيدة (الرثاء) كما يصفها، هو مغزى نفسي شخصي، لتقليل أثر الصدمة (العصبية) للمناسبة، في بعدها المزدوج. وظيفة الحلم في القصيدة ، ليست واقية صدمات، ولكن دعامة لامتصاص الصدمات والارتجاجات الناجمة عنها. ان المناسبة تتجاوز (حدث) الموت، والمرثاء تتجاوز (كمال سبتي)، الذي كان ويبقى موته (صورة الموت)، مفردة مميزة إلى جانب قصص موت [الرصافي (1945)، السياب (1964)، عقيل علي(2005)] في ذاكرة الأدب العراقي.

[القسم الأول]
[حلم، سترة سوداء ووشاح أحمر، حركة مسرعة]، ثلاثة محاور رئيسة، تحمل بنية قصيدة زاهر الجيزاني المذيلة بعنوان فرعي(رثاء إلى كمال سبتي). مع أهمية وضع خط تحت مفردة (رثاء) للضرورة (الشعرية). هذه المحاور لا تتكرر خلال النص فحسب، وانما تتشظى منها صور جانبية تضفي ملامح جديدة لإضاءة المعنى. دون أن يعني هذا، - سهولة - ، تحديد المسافة التي يحتاج المعنى لقطعها بين الرؤية والتعبير، في لغة زاهر الجيزاني الأكثر استغراقاً في الأولى والأشدّ احتفاء بالثانية. هل يبرر هذا الاستغراق صمت الشاعر الطويل في عزلته (الأمريكية)؟. ألم تكن ثمة مناسبة ثانية (غير) موت [كمال سبتي]، تخرج زاهر الجيزاني من صمته الشعري أو عزلته الاختيارية. وهل ثمة نية مبيتة لدى الشعراء العراقيين في تلقيح المدونة الشعرية الراهنة التي لم تعرف (تيارات) في تاريخها بموجة من المراثي؟. نمط المراسلات الشعرية بين الأدباء، ظاهرة متعارفة ومتوارثة في تراثنا الشعري، وهي في تمفصلها الحداثوي استنبتت لها لبوساً أكثر تماهياً وتداخلاً–أفقياً وعمودياً- في النص الشعري، من النمط التقليدي السابق. والمراسلة، - بطبيعتها- أكثر سبقاً ، وحيوية، وبهجة، من (المرثاء). بل أن السمة الأكثر أهمية من ذلكم، هو (الراهنية) التي تقوم عليه فكرة المراسلة، ناهيك عن الألفة والوشيجة البينية. ضمن هذه المعاينة السريعة، تتكشف الصلة البينية بين [زاهر الجيزاني (1947)] و[كمال سبتي(1954)]، كشاعرين في السرب السبعيني ضمن الظاهرة الجيلية العراقية في القرن العشرين، ربطت بينهما جملة توافقات بينية..
- توافق الظهور الشعري ضمن مجلة الكلمة النجفية- العدد الخاص بجيل السبعينيات.
- توافق بيئي وجغرافي،الانتقال من (الجنوب) إلى بيئة العاصمة (بغداد) .
- عمل – كل منهما-، ضمن الصحافة الثقافية للعاصمة، ومرافقتهما مخاض بدايات مجلة (الطليعة الأدبية) في – حي المغرب- من بغداد قبل تأسيس دار آفاق وضمّها للشؤون الثقافية.
- تقاربهما في نزعة التمرد الفكري والاجتماعي التي وجدت لها تفريغاً أو (تعويضاً) في فكرة الاستبطان [روحانية متصوفة] على صعيد اللغة والمعالجة الشعرية، دون الجزم في درجة التقارب واختلاف الأصول.
- هيمنة قلق الشعرية المأزومة في البحث عن القصيدة الحديثة أو الحقيقية. ويمكن هنا، البحث عن صور قديمة متعددة لكل من الشاعرين من حقبة السبعينيات والثمانينيات، لقراءة ملامح الانشغال الدائم بشيء غير مرئي وغير محدد. هذا البحث الدائم عن القصيدة - الحداثوية- كان مركز استغراق واستبطان السبعينيَيْن، وانعكس بشكل مباشر على قلة منتوجهم الشعري (الكمي) قياساً لـأفراد الأجيال الأخرى.
*
قاعدة التواشج النفسي، والاجتماعي، بين الشاعرين، قادت إلى محصلة عملية شعرية جمعت بينهما في الهواجس والثيمات، وتمثلت في حالة شرود عن الواقع (الشعري والاجتماعي) السائد، على تباين في الظاهرة اللغوية ، التي كانت – إلى جانب غيرها-، مضمار مبارزة الجيل السبعيني وتمايزه عن غيره. بالمنظور العام، حمل التسعينيون صورة (المشاعية) الشعرية تحت وطأة الحصار التي عبّرت عنها داليا رياض بدقة (نفكر سوية ونكتب نفس الأشياء كأننا نعيش في مكان واحد). فظروف الحصار السياسية والثقافية وارتفاع معدل الهجرة الثقافية للخارج جعل من [الامبراطورية] العراقية قرية صغيرة يلتقي الجميع في فضائها المحدود. قبل ذلك كانت الحرب وشعاراتها (الطنانة) أنتجت (شلل) ثمانينية استعارت أدوات القبيلة (الجاهلية) في المبارزة والصراع على واجهات الاعلام وأعطياتها. في الحقيقة أن بوادر (الشللية المشاعية) تعود إلى الجيل السبعيني، رائد (الاغتراب) الفكري في الثقافة والمجتمع العراقي. لقد [دشّن] الجيل السبعيني مرحلة جديدة وخطيرة في التاريخ الرافديني. وكان الثالث بعد جيلين شعريين راسخين بحكم المؤسسة والأيديولوجيا. بين التيار القومي في قوته وبهائه، والتيار الماركسي والشيوعي في جبروته وتألقه. وبغض النظر عن العلاقة السياسية للمثقف بهذين التيارين، فأن فكره وثقافته كانت تمتح من مصادرهما الفكرية والفلسفية بصورة أو بأخرى. هذه الصورة اختلفت في السبعينيات. وجذورها ليست سياسية وانما شعرية وفكرية. فقد طبع الخمسينيون الحداثة الشعرية ببصماتهم التاريخية، وفرض الستينيون ايقاعهم الايديولوجي والخطابي على صعيد المؤسسة والشارع. وظهر السبعينيون جيل (شباب) متمرد على (أبوّة) الأجيال السابقة بنفوذهم المؤسساتي وايقاعهم التفعيلي. فكان أول جيل يولد خارج المؤسسة والأيديولوجيا، لم تبشّر به (المؤسسة)، وانما مجلة (الكلمة) الأهلية (1974) التي كان حميد المطبعي يصدرها من النجف. حاول الجيل السبعيني ترجمة اغترابه وعزلته عن الوسط السائد (شعريا) ووجوديا. وتمّ ذلك على صعيد اللغة والنحو و الجملة والاسلوب ثم المعنى والمرجعية. كان التمرد و(المخالفة) محور استراتيجية السبعينيين لاعلان القطيعة مع الخطاب (السائد). ورغم أن نصوصهم وجدت طريقها للنشر في الدوريات الصحفية إلا أنها كانت تلقى معارضة ونفوراً من الذائقة القرائية. سيما في انتهاكاتهم النحوية واللغوية. وبالمقارنة، فأن عدداً يسيراً منهم اصدر كتابه الأول في السبعينيات. ومع صدور مجلة (الطليعة الأدبية) فقد بقيت مجلة (الأقلام) تحتكر المشهد الثقافي والأدبي عراقيا وعربياً. بينما لم تنجح (الطليعة الأدبية) في ترجمة الخطاب الشعري السبعيني، وكانت عربية الفضاء والصدا أكثر منها عراقية. حافلة بملفات شعرية وقصصية (عربية) متواصلة. قطيعة السبعينيين مع الخطاب الأيديولجي أعاق امتدادهم الاعلامي خارج الجغرافيا المحلية. انتكاسة التجربة السبعينية كانت على يد المؤسسة (الستينية) وصياغتها قانون (حماية اللغة العربية). وصار على السبعينيين البحث عن بدائل تعبيرية عن مشروعهم. الهجرة السبعينية في أواخر ذلك العقد حررت عدداً من أبناء الجيل من ربقة الجغرافيا. واصلوا (حفرياتهم) اللغوية والبحث عن طريق (ثالث)، منهم: هاشم شفيق (5219)، ثالث شعراء العراق غزارة في الانتاج بعد البياتي وسعدي. أما الذين بقوا في الداخل، فانتقلوا من المفردة لما وراءها ومن اللغة للمعنى، ومن المعنى لما وراءه. فلا غرو أن نجد (الباطنية) في (التعبير) سمة لدى غير واحد من السبعينيين. الاتجاه إلى التراث كان ملمحاً آخر لخطاب المؤسسة ذاك، لـ(عقص) جدائل [قصيدة النثر اليومية] البيان الشعري السبعيني ، الذي ترجمته تجربة (عبد القادر الجنابي)* خارج الجغرافيا الرافدينية وفي بؤرة المركزية الثقافية التي متحت عنها تلك التجربة، في اشتقاقها الثاني عن البؤرة (الانجليزية) لتجربة الريادة الخمسينية. في هذه النقطة اختلفت قراءة السبعينيين للتراث (التصوف) عن قراءة غيرهم المباشرة ذات المسحة اللغوية والقومية. ان الحديث بهذه السعة وعدم التحديد لا يعني الشمولية الجيلية على الاطلاق. فالجيل السبعيني عانى تشظيات عديدة، لم تترك في الواجهة غير أسماء وتجارب محدودة. لكل منها منهجيتها الخاصة في التعامل مع الحداثة الشعرية، مع انقطاع تام أو جزئي عن (التراث) أو القراءة (المغايرة). في هذه الأخيرة، كانت الباطنية، ببعدها الوجودي الغائي أو الخطاب الصوفي صفة مقاربة بين زاهر الجيزاني وكمال السبتي في تجربتين منفردتين.
*
[القسم الثاني]
الغرض من هذه المقدمة، الوصول إلى فكرة (التماهي)، التي شغلت نص (الجيزاني) كفكرة غير منفصلة عن إطارها الصوفي والسايكولوجي. وهي تتمثل في القصيدة في ثيمة (الحلم)، أحد أكثر الثيمات إشكالية وجدلية لدى الصوفية وعلم النفس الحديث..
[في ظهيرة السبت السيئة حلمت أن شخصاً أعرفه مات].
ان نسبة التكثيف في هذا السطر تبعث على الألم، يزيد من وتيرة ذلك عدم رغبة الشاعر بالافصاح (شخص أعرفه)، في محاولة مقصودة لتصعيد وتيرة (تأنيب) النفس. وهو من ردود الأفعال النفسية المرتبطة بمشاعر [المحبة (أو) العداوة] الشديدة، فيكون للفقدان أو الغياب أثر انعكاسي مضادّ. ولذلك يتبعه بسطر قصير مرتبك لتصحيح المعلومة [لا لست أنت]!. مَنْ إذن؟.. يا حضرة الشاعر، ولماذا تقول لي ذلك الآن؟.. لكن الشاعر الذي يعيش جوّاً نفسياً يغيبه عن الواقع، أو يجعله في حالة تواصل مع بيئة (الحلم)، يستمر في نقل صورة المشهد.. [يرتدي سترة سوداء وعلى كتفيه العريضتين وشاح أحمر..].
في علاقة الشاعر بالحلم، وعملية (تمرير) ه للواقع، لا يملك غير تقنية اللغة لقطع (الصلة) بين (الحالم) و (المحلوم به). وجاءت هذه التقنية في عدة مستويات..
- استخدام النفي (لا) وتأكيده (لست). (لا) النافية للأسم أو الجنس، و(ليس) النافية للفعل أو الصفة . فلم يكتفِ بـ(نفي) الصلة (بالموت)، وانما نفى حالة (الموت) أساساً.
- ولذلك يستمرئ (إعادته) للحياة ومراقبته مثل [فيديو] متحرك.. [يجلس (يرتشف) قليلاً من الماء (البارد) ثم يقوم مسرعاً وسط الصالة/ كاللهب نحو المصاعد الكهربائية/ نحو الكافتريا/ نحو الحديقة الخلفية حتى بوابة الفندق].
هنا تجدر الإشارة ، إلى استخدام الشاعر تعبير (يرتشف.. ماء بارد)، وهي من المظاهر غير الواردة في الرؤيا (الأحلام)، حيث (لا) يمكن أن {يدخل أو يخرج} شيء من الجسد أو إليه، أثناء الحلم، ويشمل ذلك [الطعام والشراب والكلام والنزف]. فألغى حالة (الموت) أولاً، ثم عاد ونفى حالة (الحلم) كليّة.
- التقنية الثالثة خطابية متمثلة باستخدام إسلوب (المخاطبة) مع شخص [الميت/ المحلوم به]. فهو لم يكتفِ بنفي الصلة والموضوع، وايراد (صفات/ الشرب) التي تفسد أو تفند مصداقية الحلم، ولكنه يؤكد ذلك باتصال الحوار. طبعاً يغيب عن الشاعر، في ظلّ حالة شبه (الغيبوبة) أن هذا الحوار (غير) متصل ومن جانب واحد. وأن ما يجري هو حالة [مسرح الشخصية] حيث يتناوب البطل (تمثيل) جانبي الحوار بنفسه.
لا يخفى أن الشاعر يجلس لوحده في الحجرة وعلى سريره. وهو لا يقنع أحداً بتكذيب (الحلم) غير نفسه (هو). وقد تمت الإشارة في البدء إلى مبلغ الألم (المخزون) داخل النص، في بعده الذاتي، مما لا يكشف عن نفسه بوضوح كافٍ. ان وقع [الوحدة/ العزلة] إزاء ملكوت (الرؤيا) يوفر عامل (ضغط) إضافي لتوتير الحالة النفسية ودفعها أكثر وأكثر للتلبّس والتقمص في الموضوع. إزاء ذلك، لم يجد (الحالم)، غير - التماهي- في دور (المحلوم به). وهنا يظهر الشاعر (نفسه) في [سترة سوداء ووشاح أحمر] متنقلاً في أرجاء الفندق. مردداً بين السطور [لا، أنت لم تقلْ ذلك، لكني اشتقت أن أضع (ألوانك) في التناظر]، [لكني اشتقت أن أجمع –على عجل- المعنى المحطم في فمك كالزجاج]، [اشتقت أن أتذكر ما رأيته في عينيك]، حتى يصل لحالة من (إعياء) الذاكرة [لا أتذكر من تكلّم عن الخواء وهو يتكلم عن الانقطاع والوحشة].
حتى نهاية هذه الجملة، استنفدت القصيدة بنية التكرار المتعاقب على صعيد [اللغة والاسلوب والمعنى] إلى أقصى مدياته، دون أن تبرز مظاهر الترهل في النص. بنية (التكرار) هذه لا تعادل بنية (الايقاع) في القصيدة الكلاسيكية فحسب، وانما تترجم حالة الشدّ العصبي والتوتر النفسي التي تصدر عنها، وبنية غير مقطوعة لنقلها للقارئ، في صورة (رتم)/ [Rythmus] مفرد وعميق. الاشارة الأخرى هنا ظاهرة النفي (المزدوج) المزدانة في النص، منذ البدء [لا/ لست أنت، لا / أنت (لم) تقل ذلك/2].
*
النصف الثاني من القصيدة، يبدأ من [هذه اللازمة تشبه (اللهب الصاعد من شجيرة جميز) (لا اللهب ينطفئ) (ولا الشجيرة تحترق)]. ويقوم النصف الثاني بتسويغ (تكرارية)/ ايقاعية ثانية أساسها تعاقب صورة الجميزة واللهب والمقترنة بعلاقة (لونية) مع [سترة سوداء ووشاح أحمر]. وبشكل غير متوقع، تندفع في المشهد علاقة جديدة، [المرأة العجوز وابنها]، على خلفية الجميزة المحترقة. وهنا تبدأ حالة التقمص/ التلبّس/ التماهي بالتفكك والتحلل، فيتراجع الشاعر لمنصة المراقبة، تاركاً الشخص (الآخر) في حالة اشتباك (جدلي) مع المرأة العجوز. هو لم يقل أنها أمه. أو أن بينهما أيما علاقة. كما انه لم يخبر عن ابنها (!) أو عنها. ولكنه استخدمهما (قفلة) للقصيدة [كنت تفتعل الجدل كي تقول أن اللهب ينطفئ والشجيرة تحترق]، لتأتي النهاية بانسحاب الأثنين [(الحالم) و (المحلوم به)] من المسرح لترسم العجوز المخاطبة ابنها، لقطة النهاية [مهما قالت العجوز لابنها عن لهب لا ينطفئ وعن شجيرة لا تحترق].
*
[القسم الثالث].. قلق الخروج..
أولاً- اللون
في عام (1989) يغادر كمال سبتي بلده وتنقطع علاقته بالمشهد الداخلي. في ذلك العام كان آخر مهرجانات الثقافة الفارهة ببعدها العالمي والاعلامي في (المربد) قبل أن تطبق كماشة الحصار الدولي ويتراجع مستوى الحفاوة الاعلامية لتلك المهرجانات، إلى حدث داخلي محدود. وكان فندق (المنصور ميليا) مركز تلك المهرجانات ومقر إقامة وفودها. وهي المناسبة التي تتيح للأدباء العراقيين زيارة الفندق للمشاركة في النشاطات والتقاء أعضاء الوفود. بيد أن اللقاء المذكور بين الشاعرين والموثق في النص يعود لـ[عام (1986) تسرع وسط الصالة بيدك كتاب – حكيم بلا مدن- وبيدي كتاب – الأب في مسائه الشخصي-]. وهي آخر الكتب الشعرية الصادرة لكل منهما يومذاك، وهما - كما هي العادة- يوزعان نسخاً منها على (الأصدقاء).
حضور مهرجان / حفل تتسلط عليه أضواء الأعلام والكامرات يقتضي عناية خاصة بالمظهر الخارجي، وهذا ما تعبر عنه في النص [سترة سوداء ووشاح أحمر]. السترة السوداء مطلوبة كذلك في مناسبات (التأبين) ولا يصعب تحميل (وشاح أحمر) دلالة مناسبة. لكن ما يجذب الانتباه للجالس في الصالة (مسرح النص)، هو طبيعة حركة الشخص المحمّلة بصفتين [عدم الاستقرار/ سرعة الحركة]. فكان طيلة المشهد يتنقل بين الصالة والمصاعد الكهربائية والباب الخلفية والحديقة الخلفية. [يجلس ثم يقوم مسرعاً/ يسرع وسط الصالة كاللهب/ حتى بوابة الفندق ثم يعود يجلس/ يمشي وسط الصالة كأنه يركض]. السرعة والاضطراب قد تكون كناية عن (بحث عن مهرب)، في إشارة لما تحقق بعد ذلك بثلاث سنوات خلال مشاركة في وفد رسمي لحضور مهرجان الشعر العربي التاسع عشر في ليبيا(1989). واستعادة (نصوص) مضمنة من (قصائد) سابقة للشاعر محصورة بين أقواس تخدم هذا الاتجاه كقوله [وعي مهذب بوعي وجوده]، [أنا الريح الواقفة على يد الفوضى].
*
ثانياً- الاسطورة
تترك صورة [لهب صاعد من شجيرة جميز، لا اللهب ينطفئ، ولا الجميزة تحترق] مجالاً خصباً للتأويل باتجاهات متعددة، في ضوء مرتكزات التأويل وتوجيه الإشارات اللغوية. كما يمكن أن تكون لها دلالات ذاتية أو شعرية مضمنة داخل النص. الإشارة المقاربة لذلك ترد في الاصحاح الثالث من سفر الخروج [وهناك تجلى له ملاك الربّ بلهيب نار وسط عليقة. ونظر موسى فإذا بالعليقة تتقد دون أن تحترق]/2. ودلالة [العليقة] أنها المناسبة التي ظهرت فيها فكرة خروج اليهود من (العبودية) كما في العدد (8) من الاصحاح السابق. وهنا تنسجم دلالة القلق والبحث عن (مهرب) في النصف الأول من النص مع دلالة (الجميزة/ العليقة) في النصف الثاني. ويدخل الجدل المترافق في النص الشعري لزيادة توتير المعنى أو قيادته باتجاه معاكس. فليس ما يقسر النص الشعري على مطابقة (نص) آخر، سيما في ضوء مغايرة الصياغة التي تموه على صورة المصدر. نهاية القصيدة مصداق لعدم حسم الجدل (القلق) [في العادة الشجيرة تحترق واللهب ينطفئ] . رغم أن الصيغة غير الجازمة لمتوالية قول المرأة العجوز يعني الايجاب.
*
[القسم الرابع].. جدلية الموت..
أولاً-
صورة المرأة العجوز تبقى مغلفة في النص خارج البعد الذاتي، إذا لم تجد لها مقابلاً في نص آخر له مرجعية تاريخية مثل ملحمة جلجامش، بدلالة الكاهنة (سيدوري) التي يجدها جلجامش في طريقه إلى (أوتونبشتم) والتي تقنعه بأفضلية الموت على الخلود كمصير للجنس البشري، داعية إياه للتمتع بملذات الحياة ما أمكن له ذلك. وفي هذه الحال يتجاوز المعنى الإطار الجغرافي/ السياسي ويكتسب بعداً وجودياً/ فلسفياً، يتراوح بين [الحياة- الموت].
ثانيا-
المعادلة الثانية التي تترجم (قلق) الموت عبر قنطرة (الحلم) تدور بين [الولادة- الموت]. وهو المستوى الآخر في قراءة النص. وتتجلى هذه المعادلة في الأبيات التالية من مسرحية (ماكبث) لوليم شيكسبير
ألأجل الحياة أو الموت، قطعنا كل هذا الطريق؟
الحياة بالتأكيد. مررنا بتجارب بلا شك..
رأيت الحياة والموت، لكني اعتقدت أنهما مختلفان.
هذه الحياة كانت عذاباً شاقاً ومريراً لنا، كالموت..
موتنا.
*
حاول زاهر الجيزاني في قصيدة (لهب بوشاح أحمر)، تقديم رؤية محددة لظاهرة الموت في قراءة مركبة اختلط فيها البعد الصوفي بالفكر الوجودي والتجليات المتماهية لكل منهما، منظوراً إليه في إطار سيروي لم يعدم توظيف الظاهرة الدينية والعلوم النفسية لصالح وحدة الذات والموضوع والولادة والحرية. هذه القراءة حاولت إضاءة زوايا معينة دون أن تدعي استيفاء النص ما يستحقه. وقد تم تجنب الخوض في القراءات الصوفية والعلمية لظاهرة (الحلم) الجدلية الشائكة حفاظاً على وحدة الموضوع وعلاقة ذلك بالتجربة الشعرية الكاملة لزاهر الجيزاني.
لندن
يناير 2007
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 الشاعر عبد القادر الجنابي (بغداد- 1944). مقيم في باريس منذ (1972)، سبق السبعينيين في مشروع قصيدة النثر. (1973) أصدر مجلة [الرغبة الإباحية] وأعقبها بمجلات أخرى [النقطة، فراديس]. يعتبر من أهم المنظرين والدعاة المتحمسين لها في كتابه (معارك من أجل الرغبة الإباحية). من اصداراته الشعرية: في هواء اللغة الطلق (1978)، مسرح الغربة الشرقية، حياة ما بعد الياء. وفي عام 1994 صدر له (سيرة عبد القادر الجنابي) عن دار الجديد.
 د. صلاح نيازي- [Icy Words] دراسة شعرية مقارنة باللغة الانجليزية بين ملحمة جلجامش ونصوص من الشعر الانجليزي.
 زاهر الجيزاني (1947). مواليد العراق، مقيم في الولايات المتحدة الأميركية. من أعماله الشعرية: الأب في مسائه الشخصي.
 كمال سبتي [1954- 2006] مواليد العراق (ذيقار)، خريج معهد الفنون الجميلة. غادر العراق عام (1989) لليونان ومنها إلى اسبانيا حيث حصل على حق اللجوء السياسي ومنها انتقل إلى هولندا. له العديد من الأعمال الشعرية منها: وردة البحر (1980)، ظلّ شيء ما (1983)، حكيم بلا مدن (1996)، متحف لبقايا العائلة (1989)، آخر المدن المقدسة (1993)، بريد عاجل للموتى (2004) هولندا.
 وديع العبيدي (1960) شاعر وناقد، مقيم في لندن. له عدة إصدارات شعرية ونقدية منها: أغنية الغبار، منفيون من جنة الشيطان، دخول في خبر كان، أنطولوجيا الشعر العراقي 1980- 2000 بعنوان (أحفاد جلجامش).
 قصيدة (لهب بوشاح أحمر).. موقع الحافة الأدبي.. بتاريخ 17/12/2006.



زاهر الجيزاني
[لهب بوشاح أحمر]
(رثاء إلى كمال سبتي...)

في ظهيرة السبت السيئة حلمت أن شخصاً أعرفه مات
لا لست أنت
يرتدي سترى سوداء وعلى كتفيه العريضتين وشاح أحمر
يجلس يرتشف قليلاٍ من الماء البارد ثم يقوم مسرعاً وسط الصالة
كاللهب نحو المصاعد الكهربائية
نحو الكفتريا
نحو الحديقة الخلفية حتى بوابة الفندق
ثم يعود ليجلس قليلاً يرتشف ماء بارداً وبنظرة صياد يتأكد من جميع الجالسين
على الطاولات
ثم يسرع وسط الصالة كاللهب نحو المصاعد الكهربائية
نحو الحديقة الخلفية
نحو الكفتريا
حتى بوابة الفندق ثم يعود يجلس قليلاً يرتشف ماء بارداً
(سترته سوداء ووشاحه أحمر)
(أنا الظلام الأسود أنا النار الحمراء)
لا أنت لم تقل ذلك!
لكني اشتقت أن أضع ألوانك في التناظر
(المعنى في فمه زجاج محطم)
(أ،ا الأرض الواقفة على يدر الماء
أنا الماء الواقف على يد الريح
أنا الريح الواقفة على يد الفوضى)
لا أنت لم تقل ذلك!
لكني اشتقت أن أجمع – على عجل – المعنى المحطم في فمك كالزجاج
تركيزه ممزقاً أشلاء
(وعي معذب بوعي وجوده)
هذه الجملة ليست لك
لكني اشتقت أن أتذكر ما رأيته في عينيك
من ألعاب نارية
يمشي وسط الصالة كأنه يركض نحو المصاعد الكهربائية
نحو الحديقة الخلفية
نحو بوابة الفندق
ثم يعود يجلس قليلاً يرتشف ماء بارداً
(لا أتذكر من تكلم عن الخواء وهو يتكلم عن الانقطاع والوحشة)
هذه اللازمة تشبه اللهب الصاعد من شجيرة جميز لا اللهب ينطفئ ولا الشجيرة تحترق
لا هذه اللازمة تشبه رمل العقيدة
(المحمول في أكياس)
هل ننتظر الأكياس تتهرأً؟ هل ننتظر الرمل يتطاير؟
أكياس الرمل تشبه الكتب السميكة المكسورة تحت أقدامنا
(لكن في العادة الشجيرة تحترق واللهب ينطفئ)
يا كمال – هناك لهب آخر وشجيرة جميز أخرى
(تحكي عنهما امرأة عجوز لابنها غير ما تراهما العين التي تمسك الأشياء)
(كل نظرة نظام كل نظام طمأنينة)
(كل تأويل فوضى كل فوضى خوف)
التأويل هذه الكلمة التي تدحضها دائماً العين الأكثر عقلانية
الشخص الذي رأيته في الحلم يموت – مات-
هنا أتذكرك بالسترة السوداء والوشاح الأحمر (عام 1986 تسرع وسط الصالة بيدك كتاب – حكيم بلا مدن- وبيدي كتاب – الأب في مسائه الشخصي- ) بيننا هواء يحمل ألغازنا
هواء مملوء باللهب
تكلم تكلم أيها الشاعر
كي أسمع تصدع الأعمدة كي اعرف أن الأرض نافذة مفتوحة على السماء
كنت تفتعل الجدل كي تقول أن اللهب ينطفئ
والشجيرة تحترق
مهما قالت المرأة العجوز لابنها عن لهب لا ينطفئ وعن شجيرة لا تحترق.