المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأم الرحيمة/د.عثمان قدري مكانسي



نبيل الجلبي
24/10/2009, 10:45 AM
الأمُّ الرحيمة

الدكتور عثمان قدري مكانسي

روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول :
(( إنّ لله تعالى مئة رحمة ، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام ، فبها يتعاطفون ، وبها بتراحمون ، وبها تعطف الوحشُ على ولدها ، وأخّر الله تعالى تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة )) وفي رواية (( جعل الله الرحمة مئة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين ، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابّةُ حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه )) (1) .
وتظهر رحمة الأم ببنيها في أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واضحة جليّة ، فهي مثال العطف والحنان ، ونبع الشفقة والرأفة ، خلقها الله سبحانه وتعالى ينبوعاً يفيض على أبنائها بالحب ، ويؤثرهم بالرفد والعطاء ، فقد جعلها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صورة حية ، ينفذ منها إلى توضيح رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده ، فقد روى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قدم رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بسبيٍ ، فإذا امرأة من السبي تسعى ، إذ وجَدَتْ صبياً في السبي (2) ، فألزقته ببطنها (3) ، فأرضعته ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
(( أترون هذه المرأة طارحةًً ولدها في النار ؟ ))
قلنا لا والله ، فقال :
((الَلّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها )) (4).
امرأة وقعت في ذلّ الأسرِ ، حزينة كاسفةُ البال ، كانت سيدة في أهلها وعشيرتها ، حرّة في كنف رجال قبيلتها ، مطاعةٌ في بيت زوجها ، فجعلها الأسر أمةً مملوكة وجارية مأمورة . . حالةٌ نفسيّةٌ صعبة يَذهلُ الإنسانُ بها عما حوله ، ويعتصر الألم قلبه ، ولكنَّ هذا كلّه لم يلهها عن ابنها وفلذة كبدها ، فقد بحثت عنه جاهدة حتى رأته ، فاحتضنته راغبة ، وألقمته ثديها حانيةً ، وضمّته إلى صدرها بين ذراعيها مشفقة ، امرأة كهذه لا تُسلِمُ ابنها إلى مكروه مهما صغُر ، وتدفع عنه الأذى مهما حقـُر ، وتفديه بنفسها من كل ضرِّ .
امراة كهذه تَهَبُ ابنها كلَّ ما لديها ، وتسعى جاهدة ما وسعها الجهد إلى الذود عنه . . إنها الرحمة ما بعدها رحمة . . فحين انتبه المسلمون إليها ، ورأوا ما فعلته بولدها قالوا بصوت واحد : لا والله ، لا تسلمه إلى النار ولا تطرحه فيها .
وهنا يلفتُ الرسول الكريم نظر المسلمين إلى رحمة الله بهم ، لهو تعالى أشدُّ رحمة بهم من هذه الأم بولدها . . أيّ رحمة إذاً يدّخرها الرحيم الرحمن لعباده ؟ والربُّ العظيم الغفور لمن آمن به وأطاعه ، وامتثل أمره ؟
وهذه إحدى بنات النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُحتضَر ابنُها فتودُّ أن يحضر أبوها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفاته ، فترسل إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنّ ابني قد احتُضِرَ (5) فاشهدنا ، فأرسل يُقرئها السلام ويقول :
(( إنَّ لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمّى ، فلتصبر ولتحتسب (6) فأرسلت إليه تـُقسم عليه ليأتينّها . . . )) (7) .
فهذه ابنة الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ شأنها شأن الأمهات جميعاً ، ترى ابنها يذوي ويموت . . وبمن تستعين في هذا المصاب الجلل ؟ إنه أبوها رسول الله ـ صلى لله عليه وسلم ـ ، فحين يرسل إليها أن تصبر وتحتسب تفزع إليه مقسمة عليه أن لا يخيّب رجاءها ، وأن يوافيها ، فهي في أشدّ الحاجة إليه ليهوّن عليها المصاب أو يسرّي عنها في فلذة كبدها . .
وهذه أم الربيع بنت البراء ، وهي أم حارثة بن سراقة الذي قتل في بدر تأتي إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ترجو أن تسمع منه عن ابنها الشهيد ما يثلج صدرها فقالت : يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة ؟ . . فإن كان في الجنّة صبرت ، وإن كان غير ذلك اجتهدتُ عليه في البكاء ، فقال :
(( يا أم حارثة ، إنها جنانٌ في الجنّة ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى )) (8) .
إن فقدان الولد أمر عظيم يمزق القلب ، ويقطع الأحشاء ، ويفتت الكبد . . . وهي تسأل النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن كان في الجنة فسوف تلقاه إن شاء الله ، وصبرُها على فراقه رفعٌ لدرجتها ودرجته (9) في الجنة ، وإن لم يكن كذلك لتبكينّه بحرقة مَن يفقد العزيز الغالي إلى الأبد . . وهذا ما تستطيعه ، وجلّ ما تقدر عليه . . إنها الأم الثكلى والراحمة العطوف .
وتعال معي إلى هذه الصورة الرائعة المتجسدة رحمة فيما روته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت :
أ ـ جاءتني مسكينة تحمل ابنيتن لها . .
ب ـ فأطعمتها ثلاث تمرات .
جـ ـ فأعطت كل واحدة منهما تمرة .
د ـ ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها .
هـ ـ فاستطعمتها ابنتاها .
و ـ فشقّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما .
فاعجبني شأنها ، فذكرت الذي صنعتْ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال :
(( إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنّة ، أو أعتقها من النار )) (10) .
إنه الإيثار الرائع الذي جعلها ـ عن رضا ـ تتخلّى عن نصيبها لابنتيها ، ولهذا كانت الجنّة تحت قدميها ، وأوصى النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها ثلاث مرات وربَّع بالأب بعد ذلك .
وقد مرّ في بحث المرأة الكريمة ما فعلته السيدة أم سلمة رضي الله عنها حين سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إنفاقها على بنيها حين قالت :
أ ـ هل لي أجر في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم ؟
ب ـ ولست بتاركهم هكذا وهكذا .
جـ ـ إنما هم بَنيَّ . . .
وتقرّر أنها لن تتركهم قبل أن يجيبها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالإيجاب ، فالفطرة أجابتها قبل إجابته .
وهل يحضُّ الإسلام إلا على المبرّات ، وفعل الخيرات ، والعطف على الأرحام وصلتهم ، وغرس الرحمة والودَّ في المجتمع كي ينشأ الأبناء صالحين أبراراً .
وقد أورد النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصة المرأة كان ابنها يرضع من ثديها ـ وكل أم تحبُّ أن يكون ابنها وجيهاً ، عظيماً ، يُشار إليه بالبنان ـ فمََرَّ رجل راكب على دابّة فارهة وشارَةٍ حسنَةٍ ، فقالت :
(( اللهمَّ اجعل ابني مثل هذا ، وكلُّ امرأة لا ترضى لابنها أن يكون خسيساً فاسداً مرذولاً . . فمرَّت به على جارية يضربونها ، ويقولون : زنيتِ سَرَقْتِ . . فقالت الأم حين رأتها : اللهمَّ لا تجعل ابني مثلها . . (11) .
أما أم أيمن رضي الله عنها حاضنة النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي تكبره سنّاً بست سنوات ـ خدمته رضي الله عنها حتى شبَّ وبلغ مبلغ الرجال ، وكان يناديها أمي . . كان يجلُّها عليه الصلاة والسلام ، وزوَّجََها من أنصاري فولدت له أيمن ، فلما مات زوجها زَوَّجها من زيد بن حارثة رضي الله عنه فولدت له أسامة (( الحِبَّ ابن الحِبَّ )) ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزورها لفضلها ـ
يقول أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ـ بعد وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزورها ، فلما انتهينا إليها بكتْ ، فقالا لها : ما يبكيكِ ؟ ألا تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ! قالت : إني لا أبكي أني لا أعلم أنّ ما عند الله خير لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء ، فهيّجتـْهما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها (12) .
فقد أحبته كأفضل ما تحب أم ابنها ، وترجو الخير بوجوده ، وانقطع الوحي حين التحق الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرفيق الأعلى ، أفلا تبكي أغلى الأبناء وأفضل الرجال !! ؟
والرحمة تنفع صاحبتها ولو اقترفت ملء قراب الدنيا آثاماً ، لأنَّ الراحمين في الأرض يرحمهم الرحمن (( وارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء )) (13) . . فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن َّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
(( بينما كلب يُطيف بِرَكيّةِ ، قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغيُّ من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقَها (14) فاستسقت له به ، فسقته ، فَغُفِرَ لها به )) (15) .
وهناك كثير من الأحاديث الشريفة تتحدّث عن رحمة المرأة بمن حولها . . .
اللهمَّ ارحم نساء المسلمين ، ودلَّهُنَّ على الخير ، واملأ قلوبهن بحبك وحبَّ دينك ورسولك ، ونحن معهن يا رب العالمين .

الهوامش:

(1) رواه البخاري برقم ( 6000 ، 6469 ) ، ومسلم برقم ( 2752 ) ، وأحمد برقم ( 9326 ) .
(2) هو ابنها .
(3) كناية عن شدة الشفقة والرحمة .
(4) رواه البخاري برقم ( 5999 ) ، ومسلم برقم ( 2754 ) .
(5) احتُضر : حضرته مقّدمات الموت وعلاماته .
(6) تنوي بصبرها طلب الثواب من الله وأن يجعل ذلك في صالح عملها .
(7) رواه البخاري برقم ( 1284 ، 5655 ، 6655 ) ، ومسلم برقم ( 923 ) ، وأحمد برقم ( 21282 ) وغيرهم .
(8) رواه البخاري برقم ( 2809 ، 3982 ، 6550 ) ، وأحمد برقم ( 12788 ، 12838 ) ، والترمذي برقم ( 3174 ) .
(9) قال تعالى في سورة الطور الآية 21 : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ).
(10) رواه مسلم برقم ( 2630 ) ، وأحمد برقم ( 24090 ) .
(11) يرجع إلى القصة في كتاب (( قصص رواها النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) للمؤلف تحت عنوان : المرأة التي كلّمَتْ وليدها ص 49 ، والقصة رواها البخاري برقم ( 3436 ، 3466 ) ، ومسلم برقم ( 2550 ) ، وأحمد برقم ( 8010 ) .
(12) رواه مسلم برقم ( 2454 ) .
(13) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد برقم ( 6458 ) ، وأبو داود برقم ( 4941 ) ، والترمذي برقم ( 1924 ) ، وانظر : المشكاة برقم ( 4969 ) .
(14) الموقُ : الخُفُّ . الركيّة : البئر . يَطيفُ به : يدور حوله .
(15) رواه البخاري برقم ( 3467 ) ، ومسلم برقم ( 2245 ) ، وأحمد برقم ( 10205 ) .

د. محمد اسحق الريفي
24/10/2009, 09:45 PM
أخي الكريم الأستاذ نبيل الجلبي،

هذا هو الموضوع الذي تبحث عنه، رفعته حتى يظهر للجميع.

تحياتي واحترامي

نبيل الجلبي
25/10/2009, 11:33 AM
أخي الكريم الأستاذ نبيل الجلبي،

هذا هو الموضوع الذي تبحث عنه، رفعته حتى يظهر للجميع.

تحياتي واحترامي
أشكرك أخي الكريم الدكتور محمد اسحق الريفي
وعذرا للإزعاج حيث يفترض أن يظهر الموضوع الجديد في بداية القائمة
وأرجو حذف المكرر