المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أي مواطن يا ولداه؟/ حسين العودات



نبيل الجلبي
25/10/2009, 12:34 PM
أي مواطن يا ولداه؟

حسين العودات


رفضت السلطات العراقية السماح لأربعة وثلاثين مواطناً عراقياً بالدخول لبلادهم، بعد أن أبعدتهم السلطات البريطانية عن أرضها بحجة عدم استكمالهم أوراق اللجوء، واحتجزتهم سلطات بلادهم في مطار بغداد، وبدأت مفاوضات مع نظيرتها البريطانية لإعادتهم إلى لندن ثم إعادتهم من حيث أتوا.

وصرح مسؤول حكومي عراقي بأن سبب رفض السلطات العراقية إدخالهم إلى العراق، هو مخالفة السلطات البريطانية اتفاقاً بين البلدين يقضي بالتشاور قبل إعادة طالبي الإقامة أو اللجوء السياسي، ولهذا قررت ما قررته.

أظن، بل أجزم، أنها المرة الأولى في التاريخ المعاصر، ومنذ قيام الدولة الحديثة في عالمنا المعاصر، التي ترفض فيها ومن خلالها حكومة أو سلطة عودة مواطن مهاجر من مواطنيها إلى بلاده، مهما كانت أسباب هجرته أو عودته، سواء كان مجرماً (قاتلاً أم سارقاً) أو معارضاً سياسياً أو زنديقاً أو غير ذلك، وكل ما نعرفه أن السلطات إذا غضبت على مواطن، تحيله إلى القضاء إذا كان قد ارتكب جرماً، أو تلفق له تهمة، وفي حالات استثنائية جداً ونادرة جداً، تجرده من جنسيته وتنفيه خارج البلاد، أو تطبق عليه قانون الطوارئ والأحكام العرفية إذا كان النظام شمولياً يعمل بهذا القانون.

أما أن ترفض سلطة عودة مواطن إلى بلاده، وتصب جام غضبها على دولة أخرى طردته، فهذه لم يشهدها عالمنا من قبل، ولم تطبقها سلطة أخرى سابقاً، وها نحن العرب نؤكد مرة أخرى أننا نحب التميّز، ونعمل ما لا يستطيع سوانا عمله.

يتعارض موقف السلطات العراقية مع المعايير الإنسانية والقانونية، ويتعذر وضعه تحت أي معيار، فكيف تبرر سلطة لنفسها منع مواطنيها من العودة لبلادهم؟ ولأن ذلك كذلك تلجلج المتحدث باسم الحكومة العراقية (وتأتأ ومأمأ)، خلال أجوبته عن أسئلة الصحفيين، ولم يجد جواباً مقنعاً، وأخيراً ألقى باللوم على البريطانيين، بارتياح واطمئنان لا مثيل لهما.

وبموقف قاطع كحد السيف، وكأنه اخترع العجلة واحتل القلعة، لكنه لم يدلّنا على المبرر القانوني أو الأخلاقي أو القيمي لاتخاذ هذا القرار، مما أثار دهشة أي مستمع أو مشاهد في مشارق الأرض ومغاربها، بل ربما أثار هذا العمل حقد المتلقي على هكذا سلطات، تتخذ مثل هذا القرار وتحجز مواطنيها في المطار تمهيداً لإعادة ترحيلهم ولا أحد يعرف إلى أين!

فكيف تقبل الدول الأخرى إيواء من رفضت حكومتهم رجوعهم إلى بيوتهم، تحت زعم عدم تنفيذ سلطة أجنبية (هي هنا السلطة البريطانية) الاتفاق مع الحكومة العراقية، إن وجد مثل هذا الاتفاق؟!

وحتى لو أخلّت السلطة البريطانية باتفاقاتها، فما هو شأن هؤلاء العراقيين بمواقفها؟ وهل هذا مبرر كاف للوقوف في وجه عودتهم إلى بلدهم؟

ماذا لو قرر المهاجرون العراقيون خارج بلادهم، والبالغ عددهم التقديري مليونين ونصف المليون، العودة إلى بلادهم؟

فهل سترفض السلطات عودتهم بحجة عدم وجود اتفاقات مع بلاد اللجوء، أو أن هذه البلاد خالفت الاتفاقات؟ ثم ماذا عن التصريحات والمزاعم والنداءات الموجهة للعراقيين المهاجرين خارج بلادهم ومناشدتهم العودة، والزعم بتقديم التسهيلات إليهم لتحقيق ذلك؟ فهل هذا من باب الدعاية والتدليس وذر الرماد في العيون؟

وهل ستمنعهم سلطات بلادهم من العودة وتتركهم مكدسين على حدودها البرية وفي مطاراتها وموانئها؟ إنه لمن البديهي أن واجب السلطات العراقية ليس دعوة هؤلاء المهاجرين أو المهجّرين للرجوع فقط، بل توعيتهم ثم تقديم الإغراءات لهم ليعودوا، وإلا من سيبني العراق إذا كان أبناؤه خارج البلاد!

نلاحظ أن حكومات العالم تهتم وتستنفر عندما يعتقل أحد مواطنيها في بلد آخر، وتدفع الفدية إن تعرض للخطف، ويحتل اهتمامها بقضية هذا المواطن درجة الاهتمامات الرئيسية، مع أنه قد لا يكون في الأساس مواطناً صالحاً أو بريئاً يستحق مثل هذه التضحيات.

وقد يكون متهماً بجريمة أو محالاً لمحاكمة، ولكن ذلك كله لا يجعل سلطات بلاده تتردد في محاولات تخليصه من ورطته وإعادته إلى وطنه، لتكرمه أو تحاسبه. ولعل هذا يسلط الضوء على الخطأ الكارثي الذي ارتكبته السلطات العراقية تجاه مواطنيها هؤلاء، وعلى خوار مبرراتها وبؤس هذه المبررات.

تسرب، ولا أعلم صدق ما تسرب، أن السلطات العراقية رفضت عودة هؤلاء لئلا يعود مواطنوها المهجّرون قبيل الانتخابات التشريعية المقبلة، مما قد يؤثر على نتائج هذه الانتخابات، باعتبار أن معظم المهاجرين أو المهجّرين من تيار سياسي أو طائفي أو اجتماعي بعينه، وستغير عودتهم من نتائج الانتخابات.

وإن صح هذا الافتراض يكون الخطأ مثلثاً، لأنه إقصاء للمواطنين عن بلدهم من جهة، وحرمانهم من ممارسة حقهم الانتخابي من جهة ثانية، والتلاعب بالديمقراطية والاختيار الحر من جهة ثالثة. والأهم من هذا كله انتهاك حق المواطنة الذي ضمنته دساتير جميع البلدان، وحق السكن والتنقل، وهي من المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وإعطاء معنى ومضمون للمواطنة لم يعرفه التاريخ المعاصر للإنسانية.

لقد ارتكبت السلطات العراقية خطأ تاريخياً، ذا أبعاد فلسفية وأخلاقية وسياسية ووطنية واجتماعية، يصعب التبرؤ منه يوماً، وأول من تأذى من هذا الخطأ هو معيار المواطنة واحترام حق المواطن، فأي مواطن يا ولداه؟ وأية ديمقراطية هذه التي دُمر العراق بزعم تحقيقها؟.

عن الدار العراقية