عبد الحميد الغرباوي
04/02/2007, 11:21 AM
المدينة
الآن صار عنده ما يكفي من صناديق أعواد الثقاب..
و عنده من اللصاق ما يكفي لتثبيت الدور و العمارات على اللوح..
و عنده دمى صغيرة...صغيرة جدا...
سيارات، حافلات، شاحنات، قاطرات، دبابات، طائرات، سفن، غواصات، أشجار، حدائق، حيوانات أليفة و متوحشة، و بشر من رجال و نساء و أطفال، و حتى جند و رجال أمن، كلها مكدسة داخل علبة كرطونية...
ثروة صغيرة من دمى، مكنته منها عمته التي تعتبره ابنا لها، هي التي لا تنجب، و تعمل خادمة عند أسرة فرنسية...
هذه الدمى صارت الآن ملكه الخاص، هو صاحبها و سيدها ، و له كامل الحرية في أن يفعل بها ما يشاء..
رسم ابتسامة رضا على شفتيه:
" كل الأدوات جاهزة الآن للبدء في العمل.."
اللوح الخشبي الرقيق أمامه... هذا اللوح سيتحول قريبا إلى مدينة. مدينة تعج حركة ، حياة..
استجمع أنفاسه..
" أف"..
من أي طرف من أطراف اللوح سينطلق؟...
و بأي دمية من الدمى سيبدأ؟
هل يشرع في العمل بتثبيت الصناديق، ثم بعد ذلك يلونها؟، أم يبدأ أولا في إخراج الدمى من العلبة الكبيرة و يستعرضها أمامه، ثم يختار منها نخبة تكون صالحة لبث الروح و الحياة في المدينة؟...
اللوح الخشبي بدون بنايات هو مجرد لوح. قد يصلح لأي شيء... هو كأرض عارية.. و العري فضيحة، هذا ما سمع أمه تقول، ذات يوم، لجارتها...
لكن ، إذا ما ثبت عليه دورا و بيوتا و عمارات و متاجر، و وضع هنا و هناك شوارع و أرصفة تقف عليها أشجار، يصير اللوح مدينة..
المدينة بلا بشر و حيوانات و حركة ، هي مدينة بلا حياة.. مدينة ميتة، كأنما مر فيها وحش هائل مفترس فابتلع في طريقه كل كائن تسري في عروقه دماء..
تأمل مليا كل الأدوات المطروحة أمامه.. حَارَ.. حك رأسه مفكرا..
و فجأة، هب واقفا. أسرع إلى مكتبه الصغير، جلس ، و شرع في وضع تصميم لمدينته...
لحظات بعد ذلك، عاد إلى لوحه الخشبي، و صناديقِه و دماه و لصاقه و صباغته و أدوات العمل من مقص و ورق مقوى ، و شرع في تعمير الأرض الخالية..
دور،
عمارات،
متاجر،
و شوارع عريضة، تتسامق على أرصفتها الصقيلة أشجار..
و الأزقة؟..
يريدها بلا أزقة، اُنظرْ إلى الزقاق حيث يسكن، أ ليس مجمعا للأوساخ و القاذورات؟...
يريدها مدينة عصرية مئة في المئة..
و البحر؟..
أيضا بلا بحر.. قد يغضب البحر و يغرقها..
و بدل الأزقة و البحر، وضع، وسطها و حولها، حدائق مشذبة... حدائق بلا أبواب ، بلا سياجات.. الحدائق تضفي على المدينة رونقا و بهاء..
جعل بضع سيارات تربض على جنبات الأرصفة، و أخرى تملأ عرض الشوارع ..
"هذه سيارة إسعاف... يجب أن يكون لها مسلك خاص بها...
شرطي مرور في وضعية من يعمل، صفارته المنبهة بين شفتيه...
مشاة، نساء، أطفال، و رجال..
بعضهم يقف كمن ينتظر... و بعضهم في وضعية من يسرع إلى هدف معين..
فتيات بأزياء مختلفة، يتأملن واجهات متاجر تعرض ملابس و عطورا و مجوهرات..
عجوز يقودها كلبها، و كأنما يجرها أو يحثها على بذل مزيد من الجهد و السير بخطى خفيفة...
امتلأ اللوح الخشبي. ما عاد اللوح، الآن، لوحا...
صار مدينة.
هدير محركات من كل نوع. طرْقُ أحذية. حفيف خطوات رشيقة. أصوات موسيقى منبعثة من داخل محلات تجارية. قهقهات. حسناوات...
تراجع إلى الخلف، قليلا، يتأمل مدينته..
أقبلت أمه. انحنت تتفحص بإعجاب ما صنعت يداه..
صاحت:
" وليدي مهندس كبير، و مصمم بارع.."
قبلته.
" إنها مدينتي يا أمي.."
" رائعة مدينتك، يا عزيزي.."
ردت الأم ، و ذهبت تشغل التلفاز..
ظهر على الشاشة مشهد برج يحترق...
صاحت مقدمة الأخبار تسأل مبعوث القناة إلى عين المكان:
" ما هذا الحريق؟.. كيف حدث كل هذا..؟ هل لديك معلومات؟...أرى طائرة،.. إلهي.. الطائرة تصطدم بالبرج الثاني، يا له من انفجار هائل.."
و يأتي الرد من مبعوث القناة:
" إنهما طائرتان،.. طائرتان ارتطما بالبرجين الهائلين... لا نعرف لحد الساعة الأسباب.."
قالت الأم لابنها:
" انظر، هذه مدينة.."
" أمي، ما هذا الحريق؟.."
" ارتطمت طائرتان بالمبنيين الهائلين... شيء فظيع..."
عاد الطفل إلى مدينته، يتأملها، يتفحصها من كل جانب...
لم يبق له من الصناديق ما يكفي ليملأ أجزاء من اللوح الخشبي بقيت خالية...
ما زالت المدينة في حاجة إلى ملاعب و منتزهات و مسارح...
أزال عدة صناديق تمثل طوابق من عمارة هنا، و عمارة هناك، و واصل عمله..
الآن صار عنده ما يكفي من صناديق أعواد الثقاب..
و عنده من اللصاق ما يكفي لتثبيت الدور و العمارات على اللوح..
و عنده دمى صغيرة...صغيرة جدا...
سيارات، حافلات، شاحنات، قاطرات، دبابات، طائرات، سفن، غواصات، أشجار، حدائق، حيوانات أليفة و متوحشة، و بشر من رجال و نساء و أطفال، و حتى جند و رجال أمن، كلها مكدسة داخل علبة كرطونية...
ثروة صغيرة من دمى، مكنته منها عمته التي تعتبره ابنا لها، هي التي لا تنجب، و تعمل خادمة عند أسرة فرنسية...
هذه الدمى صارت الآن ملكه الخاص، هو صاحبها و سيدها ، و له كامل الحرية في أن يفعل بها ما يشاء..
رسم ابتسامة رضا على شفتيه:
" كل الأدوات جاهزة الآن للبدء في العمل.."
اللوح الخشبي الرقيق أمامه... هذا اللوح سيتحول قريبا إلى مدينة. مدينة تعج حركة ، حياة..
استجمع أنفاسه..
" أف"..
من أي طرف من أطراف اللوح سينطلق؟...
و بأي دمية من الدمى سيبدأ؟
هل يشرع في العمل بتثبيت الصناديق، ثم بعد ذلك يلونها؟، أم يبدأ أولا في إخراج الدمى من العلبة الكبيرة و يستعرضها أمامه، ثم يختار منها نخبة تكون صالحة لبث الروح و الحياة في المدينة؟...
اللوح الخشبي بدون بنايات هو مجرد لوح. قد يصلح لأي شيء... هو كأرض عارية.. و العري فضيحة، هذا ما سمع أمه تقول، ذات يوم، لجارتها...
لكن ، إذا ما ثبت عليه دورا و بيوتا و عمارات و متاجر، و وضع هنا و هناك شوارع و أرصفة تقف عليها أشجار، يصير اللوح مدينة..
المدينة بلا بشر و حيوانات و حركة ، هي مدينة بلا حياة.. مدينة ميتة، كأنما مر فيها وحش هائل مفترس فابتلع في طريقه كل كائن تسري في عروقه دماء..
تأمل مليا كل الأدوات المطروحة أمامه.. حَارَ.. حك رأسه مفكرا..
و فجأة، هب واقفا. أسرع إلى مكتبه الصغير، جلس ، و شرع في وضع تصميم لمدينته...
لحظات بعد ذلك، عاد إلى لوحه الخشبي، و صناديقِه و دماه و لصاقه و صباغته و أدوات العمل من مقص و ورق مقوى ، و شرع في تعمير الأرض الخالية..
دور،
عمارات،
متاجر،
و شوارع عريضة، تتسامق على أرصفتها الصقيلة أشجار..
و الأزقة؟..
يريدها بلا أزقة، اُنظرْ إلى الزقاق حيث يسكن، أ ليس مجمعا للأوساخ و القاذورات؟...
يريدها مدينة عصرية مئة في المئة..
و البحر؟..
أيضا بلا بحر.. قد يغضب البحر و يغرقها..
و بدل الأزقة و البحر، وضع، وسطها و حولها، حدائق مشذبة... حدائق بلا أبواب ، بلا سياجات.. الحدائق تضفي على المدينة رونقا و بهاء..
جعل بضع سيارات تربض على جنبات الأرصفة، و أخرى تملأ عرض الشوارع ..
"هذه سيارة إسعاف... يجب أن يكون لها مسلك خاص بها...
شرطي مرور في وضعية من يعمل، صفارته المنبهة بين شفتيه...
مشاة، نساء، أطفال، و رجال..
بعضهم يقف كمن ينتظر... و بعضهم في وضعية من يسرع إلى هدف معين..
فتيات بأزياء مختلفة، يتأملن واجهات متاجر تعرض ملابس و عطورا و مجوهرات..
عجوز يقودها كلبها، و كأنما يجرها أو يحثها على بذل مزيد من الجهد و السير بخطى خفيفة...
امتلأ اللوح الخشبي. ما عاد اللوح، الآن، لوحا...
صار مدينة.
هدير محركات من كل نوع. طرْقُ أحذية. حفيف خطوات رشيقة. أصوات موسيقى منبعثة من داخل محلات تجارية. قهقهات. حسناوات...
تراجع إلى الخلف، قليلا، يتأمل مدينته..
أقبلت أمه. انحنت تتفحص بإعجاب ما صنعت يداه..
صاحت:
" وليدي مهندس كبير، و مصمم بارع.."
قبلته.
" إنها مدينتي يا أمي.."
" رائعة مدينتك، يا عزيزي.."
ردت الأم ، و ذهبت تشغل التلفاز..
ظهر على الشاشة مشهد برج يحترق...
صاحت مقدمة الأخبار تسأل مبعوث القناة إلى عين المكان:
" ما هذا الحريق؟.. كيف حدث كل هذا..؟ هل لديك معلومات؟...أرى طائرة،.. إلهي.. الطائرة تصطدم بالبرج الثاني، يا له من انفجار هائل.."
و يأتي الرد من مبعوث القناة:
" إنهما طائرتان،.. طائرتان ارتطما بالبرجين الهائلين... لا نعرف لحد الساعة الأسباب.."
قالت الأم لابنها:
" انظر، هذه مدينة.."
" أمي، ما هذا الحريق؟.."
" ارتطمت طائرتان بالمبنيين الهائلين... شيء فظيع..."
عاد الطفل إلى مدينته، يتأملها، يتفحصها من كل جانب...
لم يبق له من الصناديق ما يكفي ليملأ أجزاء من اللوح الخشبي بقيت خالية...
ما زالت المدينة في حاجة إلى ملاعب و منتزهات و مسارح...
أزال عدة صناديق تمثل طوابق من عمارة هنا، و عمارة هناك، و واصل عمله..