المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بلاغة الوصف في "زقاق الموتى" لعبد العزيز الراشدي



مصطفى لغتيري
04/02/2007, 12:30 PM
بلاغة الوصف في "زقاق الموتى"
لعبد العزيز الراشدي
مصطفى لغتيري

ساهمت التجربة القصصية الجديدة، بما راكمته من انتاجات، في تحقيق نوع من الزخم الإبداعي أصبح معه الحديث عن الفورة القصصية له ما يبرره.. و الملاحظ أن قصاصينا الجدد لا يتشابهون إلا في ما ندر. فكل منهم يسعى، بكل ما يملك من طاقة، إلى التميز و التمايز عن الآخرين .. و لعل المتأمل في المتن القصصي الجديد، سيلاحظ، لا محالة، ذلك التباين الصارخ في الرؤى، و التقنيات، يصبح معه الأمل في المستقبل مشروعا كي يحقق على المدى القريب ذلك الحلم الذي طالما راود الرواد في إنتاج قصة محلية تجد لها موطيء قدم في الساحة العربية ولم لا على المستوى العالمي.
ويعد القاص عبد العزيز الراشدي أحد القصاصين الذين، لا ريب، سيساهمون بشكل فعال في تحقيق هذا الحلم...ليس هذا ادعاء أو كلاما يطلق على هوانه، فإذا أخذنا بعين الاعتبار ما أنتجه هذا القاص إلى حد الآن، مع حداثة سنه بحيث أنه لم يبلغ الثلاثين بعد، تبين بشكل واضح أن ما ذهبنا إليه يمتلك قدرا لا يستهان به من المصداقية.
خلال قراءتي المتأنية للمجموعة القصصية الأولى للقاص الراشدي "زقاق الموتى" توقفت كثيرا عند ميزة خاصة يمتلكها هذا القاص، وان كان يشترك معه فيها قلة من القصاصين، غير أنه برع فيها وأجاد، فانطبعت النصوص جميعها بها، وهي ما يمكن أن نطلق عليها :بلاغة الوصف:. إذ لا تكاد القصة من قصص المجموعة، وهذا ما سنبرهن عليه- تخلو من تلك الرغبة العميقة لدى الكاتب في جعل القارئ يتمثل بالملموس فضاءاته بكثير من البذخ.. ولعل ما يلفت الانتباه أكثر أن هذا الوصف في كثير منه ليس للوشية أو إظهار براعة ما، و إنما نبع من عمق النص، ليضيف إلى السرد أبعادا دلالية، ما كانت لتتحقق بدونه.
ففي القصة الأولى يحكي القاص عن قبة تتداو لها الفصول، يتغير الزمان و لا يطالها أي تغيير، فتغدو علامة من العلامات التي تسم المكان وتمنحه عمقا أسطوريا.. وقد حاول السارد من خلال إطنابه في الوصف تقريبنا من الفضاء الذي يستوعب تلك القبة.. و يلاحظ أن هذا الوصف تميز بسكونيته حينا وديناميته أحيانا، يقول السارد:" ففي أيام المطر، على ندرتها تبدو القبة وحيدة وسط المياه، ملتصقة بنفسها، كبائعة الكبريت، تنوء تحت ضربات المطر، يخالها الجميع ستسقط، لكن لسبب غامض، تتحاشها السيول، تصنع مجاريها بعيدا، فتتغدى أسطورتها" ص 8 إنها قبة قد لا تتميز بشيء عن باقي القبب المنتشرة على امتداد ربوع الوطن، غير أن عين القاص رصدتها فبرعت في وصفها " داخل القبة حصير ممزق قلة ماء، حيطان مسودة جراء الشمع، سقف متهالك: 90 ويكتمل المشهد حين يتأنسن الفضاء الضارب في تخوم الأسطورة، يقو السارد: وحده ذلك الرجل يسمونه المجذوب يظل هناك، كقطعة من القبة يرعاها، يستقبل الغرباء و الهدايا و النذور وشمع النساء " 100 نلمس هذا الاهتمام بالفضاء متجسدا كذلك في قصة "زقاق الموتى " حين جعل القاص من الزقاق أكثر من مجرد ممر بل عمد إلى أسطرته، يقول السارد: "تتحرك الكائنات في الزقاق وفي مخيلتي فترتعش ساقاي ص 17. كيف لا، وهو الزقاق الذي يصارع الموت في لا وعي السارد: هناك في "زقاق الموتى" ص 12... وليس غريبا- فالبياض في مستوى من مستويات التأويل يحيل على الموت: " ظل البياض يغزوني" رشوا الحليب في كل مكان :إشارة إلى لونه.. " أرتعد كلما تبدى البياض". وقد هيمنت ثيمة الموت على رؤيا السارد، فأضحى لا يرى الأشياء إلا من خلالها يقول: " الحياة زقاق الموتى".
ويتأكد منحى بلاغة الوصف عند القاص في باقي النصوص، فقصة البحث عن زمن آخر " لا تشذ عن هذه القاعدة، فلنتأمل هذا المقطع: "تحت ضوء القمر، بدت المنازل الطينية متناثرة على جنبات الطريق.. أشكال هندسية من الطين و القصب و القش.. صوت الحشرات القادم من الحقول كنغم حزين، وخطاي المبثوثة في المشهد المألوف تحتك بالتراب "ص 15.. و القصة تحاول أسطرة الزمن بدل المكان أو الفضاء .. الرجل الغريب في القصة تلميح لزمن أو شك على الانقضاء، لكنه لا يزال مستعصيا، يأبى الاستسلام يقول السارد: عند مدخل الزقاق بدا الباب صلبا صارما، على جنباته توزعت المسامير الغليظة، ويكتسب المشهد بعده الدرامي حين يقول السارد كاشفا نواياه: " سأدخل الغرفة لأقول له إن الزمن قد تغير. إنني لم أعد صبيه الذي كان، وأنه من اللازم أن يذهبه إلى الجحيم وادا كان هناك من شك يراود القارئ فيما ذهبنا إليه، فان قصة عزلة الكائن تطيح بهذا الشك ليترسخ في ذهنه أن الوصف عماد الكتابة عند الراشدي، فهو يهتم بالتفاصيل ليؤثث عالمه المتخيل، ليضفي بذلك على النصوص طابعا جماليا يبهج العين ويفسح المجال للمخيلة للتداعي في فضاء يحاكي لوحة أبدعت ريشة الفنان في رسم تفاصيلها، يقول السارد: ""أرسم قرية، أطفالا حول الشجرة، تتشابك الأغصان حول الشجرة، تتشابك الأغصان ودهشتهم، أرسم امرأة تستوي أمام باب قديم، أضيف إلى شيخوختها قليلا من اللون الداكن، أراها متخمة بالاحتمالات، تمد رجليها، و القدمان فوق الصندل، جسدها يغطي المدخل بنحافته، أكاد أتلمس عروق اليد النافرة " ص 28. تحتفي القصة، كعادتها عند الراشدي- بالكائن البشري، متسربلة بالحلم و الأسطورة، وهل الكتابة في عمقها سوى ذلك الزخم من الرؤى المتأخمة لعوالم الخرافة و الأسطورة؟ إنها تنقع الواقع وشخوصه في ماء الحلم يقول السارد: " تأتيها طافحة بالرعب أيام الشتاء، تخال حائطا سيغطيها إلى الأبد، تناجي رائحة التراب البليل، تفكر في الأغنام العارية خائط الزربية القصير، زوارها الدائمين في الحاح علال.. ص 22. وان كان القارئ يسجل للقاص تفانيه في الوصف كتقنية تحاول تكديس التفاصيل بغية انبثاق المعنى، فانه لا يملك سوى أن يتوقف عند خاصية أخرى تميز كتابة الراشدي وأعني بها تنوع الشخوص..ونلمس على الخصوص في قصة " اللسعة" احتفاء بالطفولة، عبر رصد حالة مأساوية يتعرض خلالها طفل للسعة عقرب.. تحاول أمه جاهدة إنقاذه، فنقف من خلال هذا الموقف على عاطفة الأم الجياشة، يقول السارد: " وأمه تراقبه، تراقب تنفسه المنتظم، وتقيس حرارة جبهته بأصابعها المرتجفة ثم يفتح عينيه ببطء فيتملل وجهها وتشرع في بكاء غزير هادئ "ص 29.
و الكتابة عند الراشدي تمتح من ذاكرة مثقلة بالصور، فلا عجب أن تطغى لفظة "الذاكرة" في بعض القصص ومنها قصة "فقدان" أو طغيان بعض الألفاظ التي تنتمي إلى حقلها الدلالي "على مشارف الذاكرة" تنهض ذاكرتي من غفوتها متدفقة" و يمكن أن نلمس بعض الانسجام في هذا التوجه وما سبق أن أشرنا إليه ببلاغة الوصف، حيث إن الصور المتكدسة في الذاكرة، عبر المعاينة أو المقروء- تنعكس في سرد الراشدي "كانت الملامح الغرفة الضيقة تزداد وضوحا، الباب الصغير المهترئ، وجه المرأة بارد الملامح، وصورة الموت التي انطبعت على صفحة الذهن بوضوح.
و أخيرا أتمنى أن أكون قد قدمت للقارئ صورة تقريبية عن هذا القاص الذي أكد ويؤكد- عبر ابداعاته- أنه من فرسان القصة القصيرة الذين يصرون على الحضور الدائم و المتميز في تشكيل مستقبل هذا الفن الجميل .