المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اللوح غير المحفوظ..



حسام الدين نوالي
06/02/2007, 07:42 PM
اللوح غير المحفوظ

تتوهج رائحة النداوة والظل بين جدران الغرفة التي لا يضيؤها غير انفراج الباب ونافذة عُليا مستطيلة
كل الأطفال خرجوا واحدا تلو الآخر، وأنا أجلس على الحصير، أمتطي صهوة الغصّة والتمزق وحيدا. سيتجمعون على ضفة النهر، سارة ستخط على الرمل شمسا وجاموسة، وسعد سيشكّل من الطين وجه عروس، فيما يوسف يرسم عيون أطفال ويضحك...
يداي البضتان الصغيرتان تمسكان اللوح الخشبي ذا اللون البني الفاتح، أتهجى خطوط (السمخ) الرهيبة.. ويهطل مطر اللعنات والعويل في صدري..
سارة ستنظر إلى سعد وتقول عني أني أشكّل أطفال طين لا يعبث بها الليل والندى، وسيغضب سعد، ويحدق يوسف في عيون أطفاله..
عينا الفقيه (السي محجوب) رهيبتان. يتربع عند المدخل على لحاف مرتفع عن الأرض قليلا، يضع عصا جهة اليمين ويهدهد رأسه باستمرار، فيما يداه تعبثان بالسبحة.
يلتفت للخارج ليرد سلاما..
قلبي الصغير الذي يرف مرعبا يوقن بالقدر الرهيب، ويشيعني نبضة نبضة نحو مثواي، وينشر في عروقي الذهول والبكاء..
تدخل امرأة ملثمة للغرفة الندية متشحة برداء أبيض تزينه فراشات سوداء صغيرة. تقرفص جوار (السي محجوب)، ويوشوشان..
ينظر إلي فأصعد درج الذبول..
يسمي الله ويقف.
فيرف قلبي الصغير وينفجر الدمع في عينيّ، ويرتفع النشيج..
تنظر إلي المرأة.
يدخل (السي محجوب) الباب الضيق المفضي لغرفة الجلوس والأكل والنوم.. فتقف المرأة، تسوي رداء الفراشات. تلتفت للخارج، ثم تدخل الباب الضيق أيضا.
أفكر في الهروب فتتساقط عضلاتي. تخنقني كُتل الوحدة وتنشر رداءاتها حولي وعليّ. أبكي ويبتل صدري بالدمع.
ستقول سارة إنها حقل ذرة
ويرد يوسف: أصير جدولا
ثم صامتا يلتفت سعد.
ويقول يوسف صرتُ الآن مطرا
وستسأل سارة: من يكون عباد الشمس؟
لا أحد... لاأحد... لا أحد... وتركض باتجاه غابة القصب.
يحطم سعد وجه العروس ويشكل طفل الطين من جديد..
تخرج المرأة من الباب الضيق وتلتفت إلي. ويحمل إليّ (السي محجوب) برتقالة، ويمسح على رأسي فأطمئن..
قبّلت يده الكبيرة، ثم أمسكت المرأة يدي وخرجنا، سرنا معا تاركين الفقيه وغرفة النداوة والظل، وانعطفنا في زقاق جانبي، فأطلَقَت يدي وأطلقت ساقيّ للريح.
لم يكن غير مروان جوار النهر، وسعد كان هناك على الطريق بعيدا عن النهر. وضعتُ البرتقالة جنبي و جلست أخط على الرمل كائنات لا أحد يعرفها غيري، وأمسح؛ ثم أشجار برتقال كثيرة، وأمسح؛ ثم شمسا وفراشات صغيرة، وشكّلت طفل طين بعينين واسعتين، وضعتُه وسط دائرة الشمس بحيث تصير الشمس بيته...
تدحرجت برتقالتي في اتجاه مروان، كان يرتب دائرة الحجارة، فسألته عن سارة ويوسف، مدّ لي البرتقالة ونظر إلى طفل الطين، ثم قرص أرنبة أنفه، و ضحك بخبث...

عبد الحميد الغرباوي
07/02/2007, 01:25 AM
العزيز حسام الدين نوالي
عدت بي إلى تيمة لم تبرحني طوال تجربتي القصصية ، حتى أني أفردت لها كما تعلم، مجموعة قصصية " أيمن و الأفعى" ضمنتها كل النصوص التي حكت عن الطفل و جاءت متفرقة في مجاميع أخرى، و طبعا، أضفت إليها نصوصا جديدة،لم تنشر في أي منير مكتوب أو رقمي و سأعمل لاحقا على نشرها.
و أراك أنت الآن، تبرع في تصوير معاناة طفل سجين " المسيد"، بينما الأطفال الآخرون يمرحون و يلعبون..و طبعا لن يحفظ ما هو مكتوب على اللوح، فالعقل هناك، على ضفة النهر، مع الأطفال، و سارة،المعجبة ، المتباهية بأطفال الطين التي يشكلها و لا يعبث بها الليل و الندى.
...و عينا الفقيه الرهيبتان، و القلب الصغير المرعوب...
تصوير كنت فيه ناجحا و بامتياز. آه لو يعود كل الكتاب و الكاتبات إلى طفولتهم.. إنها دعوة للحفر في الذاكرة، إزالة غبار النسيان عن عالم باذخ بالصور و الأحاسيس... هناك المرأة و إن لم تخني ذاكرتي، المرأة عند الكاتب نوالي ، دائما يلفها غموض، غموض بائن..( استطاع أن يجمع ، في نظري بين متضادين)..تقوم بفعل يكاد يكون واحدا، يضاعف من عذاب الطفل الذي يعرف مغزاه و معناه. و أتوقف عند هذه النقطة حتى لا أسقط في فخ تقديم ملخص ،يفسد على باقي الأعضاء و الزوار ذائقة قراءة النص.
بناء النص:
نحن أمام نصين:
1 ـ المسيد و الطفل زائد:( الفقيه، المرأة)
2 ـ الأطفال على ضفة النهر زائد خيال الطفل.
و بمهارة، ينتقل بنا الكاتب من فقرة بهذا النص، إلى فقرة بالنص الآخر، تقنية القص القصير، و هي تقنية نجدها في المونطاج السينمائي.. و اعتماد هذا التقطيع يبعد الكاتب عن البناء التقليدي الذي يعتمد على خط واحد في سرد الأحداث :الحكي و الحكي فقط ، و الذي ما هو في الحقيقة إلا وحدة من وحدات الكتابة القصصية، أو النواة الأولى لكتابة قصة قصيرة، مثله في ذلك الخبر.
النهاية أتت موفقة، لن أقول إنها تكسر أفق انتظار أو إنها تفاجئ أو تصدم القارئ، بل سأقول إنها كانت أشبه بنهاية فيلم قصير، في مهرجان سينمائي، و الكل وقف في النهاية يصفق إعجابا، في انتظار أن يتوج صاحبه بجائزة المهرجان.
محبتي

حسام الدين نوالي
07/02/2007, 06:14 PM
العزيز عبد الحميد الغرباوي..
قراءتك تمنح النص ضوءً ولونا ، والنصوص تورق بين يدي قراء محترفين..
شهادتك فخر لي..
أعانقك

محمد البوهي
07/02/2007, 06:49 PM
الأستاذ القدير / حسام الدين نوالي

النص من النصوص الحساسة جداً ، والتي تضرب على وتر رفيع يكاد لا يرى أو يشعر ، ألا وهو الحرية ، لا سيما حرية الاطفال ، التكثيف جاء بشكل جيد ، واستخدام الرموز ، والشخوص ، جائ متلاحماً إلا من سعينا وراء ، سعد ، وسي محجوب ، سارة ، وغيرهم ، لكن الفكرة أتت مفهومة وواضحة ، ربما ضيعت من حالة التقاذف بين الشخصيات ، ليتني وجدت النص أكثر تركيزا على الرمز ....

دمت مبدعاً بلغتك ، وفكرتك .

محمد

حسام الدين نوالي
07/02/2007, 11:50 PM
المبدع محمد
أتابع باهتمام عددا من مداخلاتك في ركن القصة القصيرة،
وأحيي مثابرتك كقارئ ذكي.. وتسعدني ملاحظاتك..
وبخصوص الرمز في القصة، ربما لم أفهم ما المقصود بالرمز في مداخلتك، إذ أعتقد أن "الرمز" الذي تتحدث عنه "السرديات" حاولت الاشتغال عليه، مع الاحتياط أن لا يغدو النص "مغلقا"، خذ مثلا هذا المقطع:
ستقول سارة إنها حقل ذرة
ويرد يوسف: أصير جدولا
ثم صامتا يلتفت سعد.
ويقول يوسف صرتُ الآن مطرا
وستسأل سارة: من يكون عباد الشمس؟
لا أحد... لاأحد... لا أحد... وتركض باتجاه غابة القصب.
أظن أن حقل الذرة والجدول والمطر وعباد الشمس وغابة القصب رموز اشتغل عليها قبلي عدد من الكتاب من إفريقيا السوداء، و وجدتها أيضا عند زكرياء ثامر.
وإذ أكرر حاجتي لملاحظاتكم جميعا، هذه تحيتي ومحبتي..
أعانقك

محمد البوهي
07/02/2007, 11:55 PM
السلام عليكم ورحمة الله

الأستاذ القدير حسام

مساء الخير

ما قصدته بالتركيز على الرمز هنا ، أنك تكثف الرموز كلها ، وتلتقي بها في نقطة واحدة ، وهي بؤرة التنوير للقارىء ، بمعنى أدق وجود الرابط بين الرموز لإيصاله للرمز المقصود وهو الحرية .

دامت روحك طيبه مثل حرفك

ومداخلاتي هي مجرد رأي صغير لا أكثر

حسام الدين نوالي
09/02/2007, 03:01 AM
أعتز بتواصلك يا محمد البوهي..
دام حضورك البهي.
مودتي

شوقي بن حاج
18/06/2009, 02:12 AM
أخي / حسام الدين النوالي

وجدت النص الطفولي في البحث عن

الرائع المخبأ بين الجداول وغابات القصب

فلكم كنت رائعا في تصويرك لتلك اللحظات الطفولية

وفي اشتغالك بعمق عن الرموز دون فضح ودون غموض

وهو أساس جمالية نصوصك الراقية جدا

يحتاج النص إلى قراءة نقدية واعية

تقبل البرتقال كله