المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجيوبوليتيكا تؤخر تشكيل الوزارة اللبنانية



جورج حداد
05/11/2009, 03:30 PM
جورج حداد*
بعد ثلاثة اشهر من ماراتون الاستشارات، قدم رئيس الوزراء المكلف الشيخ سعد الحريري اعتذاره الى رئيس الجمهورية، ولكن من المرجح ان يعاد تكليفه هو نفسه بتشكيل الوزارة العتيدة، والدخول في دوامة استشارات جديدة، بما يشبه طبخة بحص، الهدف منها تطمين اللبنانيين وتخديرهم بأنه "لا داع للعجلة" و"كل شيء على ما يرام" و"الامور ماشية والحمد لله". ويعزز هذا الانطباع الوضع الامني الداخلي الهادئ في البلاد، مما يوحي بوجود "قرار عدم تفجير" في المرحلة الراهنة على الاقل.
وخلال هذا "الوقت الضائع" صوريا، تستمر حكومة "تصريف الاعمال" برئاسة السيد فؤاد السنيورة، الذي اصبح ـ مثل ضريبة الـ"تي في آه" ـ كالضربة اللازبة على التركيبة اللبنانية عامة والطائفة السنية الكريمة خاصة. وهناك من يعتقد ان فؤاد السنيورة هو الذي سيكون رئيس الوزراء العتيد الجديد.
طبعا ان هناك "بازارا سياسيا" كبيرا، سريا وعلنيا، حول تشكيل الوزارة وتحديد الحصص واسماء الوزراء. ولكن من السذاجة التامة الاعتقاد بأن هذا "البازار" هو السبب الاساسي في المماطلة والتأخير. على العكس ان هذا "البازار" ليس اكثر من غطاء محلي للاسباب الاساسية للتأخير، التي هي اسباب جيوبوليتيكية كبيرة، اقليمية ودولية، والتي تنطلق من معطيات ونقاط ارتكاز كامنة في اساس الجغرافيا والتركيبة الكيانية اللبنانيتين، منظورا اليهما من الزوايا: الداخلية والاقليمية والدولية.
ودون اي تقليل من اهمية "بازار" التوزير، فإنه يوجد شبه اجماع على دور العامل الخارجي في تأخير تشكيل الوزارة اللبنانية العتيدة؛ وعلى التداخل بين "البازار" الداخلي و"البازار" الخارجي. ويمكن تلخيص العوامل الخارجية، وتداخلها مع العوامل الداخلية في النقاط التالية:
ـ1ـ بعد ان طلبت المحكمة الدولية ذاتها، المشكلة للنظر في قضية اغتيال رئيس الوزراء الاسبق المرحوم رفيق الحريري، اطلاق سراح الجنرالات الاربعة الذين اعتقلوا حوالى اربع سنوات تحت الشبهة، وبدون توجيه اي اتهام محدد لهم، في قضية الاغتيال، فإن أفرقاء "فريق 14 اذار"، وبالرغم من ظاهرة العمى السياسي لدى البعض، اصبحوا قادرين ان يروا، وبدون نظارات مكبرة، ان اميركا والحلف الاطلسي والاتحاد الاوروبي والفاتيكان وهيئة الامم المتحدة والمحكمة الدولية، ناهيك عن روسيا والصين، لا تضبط ساعاتها على ساعات "قريطم" او "معراب" او "المختارة" او "قصر الشيخ بيار الجميل" في بكفيا؛ وأن السياسة الدولية هي "شيء اكبر قليلا!!!" من سياسة "المختار والناطور" التي غرق فيها "فريق 14 اذار" كما تغرق ذبابة في فنجان قهوة. ولا يكاد هذا الفريق يجد من يخلصه من ورطته، الا اذا اعتبرنا ان "تكويعة" الاستاذ وليد جنبلاط تتضمن (وهو ما نستبعده شخصيا) مراجعة حقيقية وقراءة جديدة لمجريات الاحداث، ويمكن ان تشكل "طوق نجاة" لـ"فريق 14 اذار"، كي يعيد حساباته اللبنانية، باستثناء بعض "القيادات" المعروفة الميئوس منها، المرتبطة "تاريخيا" باسرائيل، والتي تمتلك من القحة السياسية ما يجعلها حتى الان تتمسك عن غير حق بجنسيتها اللبنانية.
ـ2ـ بعد ان انتـَحر، او انتـُحر، "المفوض السامي" السوري السابق المرحوم غازي كنعان؛ وعاد "المفوض السامي" التالي رستم غزالي ليأخذ حجمه الطبيعي كضابط مخابرات عادي او اقل او اكثر من عادي؛ وبعد ان هدأ تورنادو "ثورة الارز"، من مصادره الاميركية ذاتها؛ وبعد ان بارت سوق المزايدة بـ"السيادة اللبنانية" التي تأكد للعالم اجمع انها ليست "ماركة مسجلة" لفريق دون فريق، بل ان "فريق 8 اذار" هو الاحرص على السيادة اللبنانية، وهو الذي قدم التضحيات الجسام لتحرير الارض اللبنانية المحتلة من قبل اسرائيل واستعادة "السيادة اللبنانية" وتعزيزها؛ وبعد ان اعلنت السلطة السورية عن موافقتها على تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين بدون اي عقد او شروط مسبقة؛ ـ بعد كل ذلك لم يعد من حجة لاحد في عدم النظر بواقعية الى حقائق التاريخ والجغرافيا، والى التكامل الجغرافي (ومن ثم التجاري والاقتصادي والحياتي والستراتيجي العام) بين لبنان وسوريا، وانه ـ بصرف النظر عن طبيعة النظام في كل من البلدين وعن الميول السياسية الطائفية والفئوية ـ فإن مصلحة البلدين تكمن في اقامة علاقات ايجابية وبناءة، حدها الادنى: علاقات حسن جوار، وحدها الاعلى: علاقات اخوية لبلدين عربيين شقيقين يواجهان عدوا مشتركا هو اسرائيل يهدد البلدين معا ويحتل اجزاء من اراضيهما.
ـ3ـ قبل الهزيمة العسكرية (بالمعنى الستراتيجي العام، وليس بميزان الخسائر الانسانية والاقتصادية فقط) لاسرائيل في حرب تموز ـ اب 2006، بمواجهة المقاومة الوطنية الاسلامية بقيادة حزب الله في لبنان، كانت اسرائيل تضطلع بدور "قبضة حديدية" للامبريالية العالمية الصهيونية ـ الاميركية، ضد الشعوب العربية والاسلامية المظلومة، قادرة ان تحطم في ساعات او ايام اي قوة عربية تقف بوجهها؛ ولكن بعد الهزيمة، وبنتيجتها، فقدت "القبضة الاسرائيلية" مرة اولى واخيرة هذا الدور، وبدأت بالتدريج تتحول الى "عبء" ستراتيجي، عسكري وسياسي واقتصادي، على الامبريالية العالمية الصهيونية ـ الاميركية. ومذ ّاك بدأ سباق محموم، غير محسوم الى الان، بين احتمالين لتطور وجهة الصراع العربي ـ الاسرائيلي:
أ ـ احتمال وقوع حرب ضروس جديدة، سيكون لبنان اول المستهدفين فيها.
وهذا ما تدركه الدول العربية جميعا، وبالاخص الدول التي وقعت اتفاقات سلام مع اسرائيل، وعلى رأسها مصر، او قدمت مبادرات سلام، وعلى رأسها السعودية. وقد اكتشفت هذه الدول ببطء ان محاولة تقديم المقاومة بقيادة حزب الله ككبش فداء على المذبح الاسرائيلي في احداث 5 ـ 7 ايار 2008، كانت ليست جريمة فظيعة وحسب، وليست غير ممكنة التنفيذ وحسب، بل الافظع: انها كانت خاطئة تماما. وقد ساعد فشل مؤامرة 5 ـ 7 ايار 2008 تلك الدول في ان تعيد النظر في حساباتها. وجاء الفوز الانتخابي لليمين الاسرائيلي المتطرف، وخصوصا نتانياهو وليبرمان، ليعزز مخاوف هذه الدول بالاخص، من امكانية ان تنهار اوضاعها الداخلية بالذات، في حال انهيار "السلام" الوهمي مع اسرائيل، ونشوب صدام جديد، خصوصا اذا انهارت فيه اسرائيل، وهو الارجحية الاكبر للحرب القادمة (وهذا ما يؤكده تراكض المسؤولين الاسرائيليين، سرا وعلنا، الى موسكو، لمعرفة "حقيقة ما يجري"). ولذا فإن هذه الدول العربية المسالمة بالتحديد تجد ان من الضروري اعادة النظر جذريا في موقفها المعادي من المقاومة، واعادة تقييم للمقاومة الوطنية الاسلامية بقيادة حزب الله في لبنان، والمقاومة الفلسطينية البطلة خصوصا في غزة، والصمود والقدرات الايرانية، والممانعة السورية، بوصفها عوامل ضرورية في المواجهة المحتملة مع اسرائيل. ومن ثم فإن هذه الدول وجدت ان مصلحتها تقتضي ايجاد "اللغة المشتركة" و"القواسم المشتركة" مع جبهة المقاومة والممانعة اللبنانية ـ الفلسطينية ـ العربية ـ الايرانية، مما يتجاوز تماما الحسابات والحرتقات "البلدية" الصغيرة لـ"فريق 14 اذار" الذي اثبت انه ليس لديه اي رؤية استراتيجية، لبنانية او اقليمية او دولية.
ب ـ في حال وصلت القيادة الامبريالية ـ الصهيونية العالمية، وخادمتها الادارة الاميركية، الى "قناعة" بأنه من الافضل لها ان لا تغامر تماما بمصير اسرائيل، ومصير الانظمة العربية "المسالمة" الموالية لاميركا، وربما مصير اميركا ذاته، وانه من مصلحتها ان تتنازل، وان تجبر اسرائيل على التنازل، لقبول "حلول سلمية" ترضى بها الاطراف العربية والاسلامية والدولية المعنية، بما فيها المقاومة الوطنية الاسلامية بقيادة حزب الله، والمقاومة الفلسطينية وخصوصا حماس، وسوريا، وايران، وروسيا والفاتيكان، ـ اذا كان بالامكان ان تحدث هذه الاعجوبة، في غير زمن الاعاجيب، ويبدأ عهد "سلام ما!" في الشرق الاوسط، يحل محل عهد الصراع المزمن الحالي، فإن لبنان (بموقعه الجغرافي، وتركيبته التعددية، وخبراته السابقة، وعلاقاته الدولية، وميزة الانتشار اللبناني في العالم) هو مؤهل لان يتحول في بضعة شهور فقط الى مركز مالي وتجاري عالمي، لا يمكن ان تضاهيه لا هونغ كونغ، ولا غيرها.
ودول الكتلة المالية ـ النفطية العربية، وعلى رأسها السعودية، تعرف تماما، ان احد اهم اهداف سياسة العدوان الاسرائيلي على لبنان، هو وضع اليد عليه، لهذا الاعتبار المالي ـ التجاري بالذات. وعلى هذا الصعيد ينبغي التذكير ان الكتلة المالية ـ النفطية العربية سبق وان تلقت ضربتين شديدتين على يد الكتلة المالية العالمية اليهودية ـ الانغلو/ساكسونية هما: اغتيال المرحوم رفيق الحريري؛ و"سرقة" الوف مليارات الدولارات العربية التي كانت مودعة في البنوك الاميركية في الازمة المالية التي نشبت في اميركا السنة الماضية، والتي كانت فحواها الاساسية "سرقة" تلك الاموال العربية بالذات، عن طريق الافلاس الاحتيالي للبورصات الاميركية، وشحن تلك الاموال بالطائرات الحربية الاميركية الى اسرائيل، لاستخدامها لاحقا في الهيمنة على الاسواق والبورصات والاقتصادات العربية، انطلاقا من اراضي السلطة الوطنية (جدا!) الفلسطينية، وانطلاقا من... لبنان، بعد تحقيق "السلام!" المنشود مع اسرائيل.
ودول الكتلة المالية ـ النفطية العربية، وعلى رأسها السعودية، وقبل ان تستفيق من هول الضربتين السابقتين، تجد الان ان مصلحتها تقتضي عدم الاستمرار في وضع كل بيضها في "السلة الاميركية" فقط، وايجاد "اللغة" و"القواسم" المشتركة للتعاون مع اقطاب دولية ومالية اخرى، كالفاتيكان وروسيا والصين، وخصوصا مع ايران، التي هي على كل حال (وبدون اذن من السعودية) اصبحت موجودة بقوة على الساحة اللبنانية ومن مصلحة السعودية وكتلتها المالية ـ النفطية العربية، لا مواجهتها ومعاداتها لصالح اسرائيل، بل التنسيق والتعاون معها، لمصلحة الجميع باستثناء اسرائيل.
هذه هي، في رأينا المتواضع، الاسباب الجوهرية الكامنة خلف تأخير تشكيل الوزارة اللبنانية العتيدة؛ حيث توجد ـ خلف الستار ـ مفاوضات اقليمية ودولية محمومة محورها الرئيسي: السعودية، وموضوعها الرئيسي: مستقبل لبنان، حربا او سلما!!
اما ما يجري عرضه في "صندوق الفرجة" الذي ينوء الشيخ سعد الحريري بحمله على ظهره، فلتسلية "الصغار" وتقطيع "الوقت الضائع" فقط!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب لبناني مستقل

د.محمد فتحي الحريري
05/11/2009, 11:25 PM
رؤية وجيهة وتحليل منطقي محتمل يستحق التقدير
شكرا للاستاذ المفضال الكاتب جورج
لك التحايا العطرة