المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : طاقات هادرة وحب حتى الموت!



محمود عباس مسعود
12/11/2009, 06:13 PM
بلـــــــــــــــــــــزاك:

كان أونوريه دو بلزاك من أكبر الروائيين الفرنسيين، وقد صورت رواياته المجتمع الفرنسي بكافة أطيافه وتشعباته تصويراً دقيقا وشاملا. لقد كان هذا الروائي الفذ كبيراً لا بفنه وحسب بل بجسمه الضخم والمكتنز أيضاً، مثلما كان حالماً ومليئاً بالحيوية والنشاط مما ساعده على إنتاج الرواية تلو الأخرى بسرعة فائقة، وكلها تعتبر أعمالا أدبية متميزة. وكأن رأسه كان مصنع إبداع دائم التشغيل، لا يكف عن إنتاج كل ما هو عالي الجودة، رفيع المستوى.
لم يعرف الأدب الفرنسي أدباء بوزنه (المعنوي والجسدي) وبموهبته ممن تمكنوا من تسليط الضوء بدقة وبراعة على بعض زوايا الحياة. وبالتأكيد لم يكن أحد يضارعه في إظهار الصورة كاملة على الطبيعة، دون زخرفة أو رتوش.
لقد كان أديبنا الفذ بلزاك أول من حاول أن يرسم على صفحات كتبه حياة الناس بكل ما تحويه من جيد ورديء وما بينهما، وما فيها من ضعف وقوة وسعادة ونضال ونبل ووضاعة.. كل ذلك جمعه في خلطة واحدة لا يقدر عليها سوى الشيخ بلزاك.
رواياته نابضة بالحياة وواقعية كما لو تم تصويرها سينمائياً فظهرت التفاصيل بكل دقة ووضوح. وتحصيل حاصل أن بلزاك كان يمتلك مقدرة فريدة على النفاذ إلى عقول وقلوب الناس، وتعليل الكيفية التي يمكن بواسطتها لحادثة ما أن تجر معها حادثة أخرى ثم أخرى وهلم جرّا.
ولقد امتلك عدسة عقلية صافية مكنته بفعل وفضل عبقريته وفهمه الغزير من اختراق سطح الأشياء والوصول إلى باطنها.
الفيلم السينمائي يرينا شارعاً يغص بالناس المتدافعين والذاهبين هنا وهناك ليس أكثر. لكن صديقنا بلزاك استطاع أن يرينا إلى أين هم ذاهبون، وما سيحدث لهم بعد الوصول إلى ذلك المكان، وما الذي يفكرون به أثناء سيرهم ، وما السر من كون عيونهم ذات بريق أو شفاههم ذابلة أو حلوقهم ناشفة. كما كان يتميز بقدرته على إظهار الناس كجزء من العالم بأسره لا ككائنات فريدة صغيرة مجزئة وبائسة. ولذلك قيل أنه كان يتمتع بحس شمولي وهذا ما يفسر الوضوح في كتبه بالرغم من التفاصيل المذهلة التي تحويها تلك الكتب. ولقد كان الغرض من سلسلة رواياته المشهورة (الكوميديا الإنسانية) إعطاء صورة كاملة وشاملة عن الحياة المعاصرة.
خلال 20 سنة من عمله الدؤوب أنتج بلزاك 85 رواية أو أكثر مما يجعلنا نتساءل مندهشين عن سر ذلك النشاط العجيب الذي دفع هذا الرجل العاطفي البدين لإطلاق شلالات من النشاط غير العادي، في الوقت الذي كان يحب الحياة الهانئة والأكل الطيب ومسامرة الأصحاب وجمع قطع الأثاث القديمة، وغير ذلك.
وُلد بلزاك عام 1799 في مدينة تور (التي حدثت بالقرب منها معركة بلاط الشهداء) وتلقى تعليمه فيها وفي باريس حيث كان قارئاً نهماً ولم يكن بالضرورة طالباً لامعاً. درس القانون ولم ينجح في ممارسة مهنته. في السنوات الأولى لم يكتب سوى بعض روايات خفيفة سخيفة (من مستوى الفيديو كليب هذه الأيام). ولكن عندما نشرت روايته Chouans كانت الحد الفاصل بين الجد واللعب.
في عام 1834 قابل الحسناء البولندية الكونتيسة هانسكا فغرق في غرامها حتى أذنيه وراح يبعث إليها برسائل الحب الواحدة تلو الأخرى. لكن الفارق الكبير في الوضع الاجتماعي بينهما والثراء الذي كانت هانسكا معتادة عليه جعلاه يشمّر عن ساعد الجد ويتحدى نفسه والأقدار في استقطاب قوى الحظ السعيد، فراح يكدح كدح العبيد ويضرب أعصابه بسياط وقضبان من حديد، ويشفط فناجين القهوة السادة الواحد تلو الآخر وهو جالس إلى مكتبه يقلب فكره في مغامرات مالية محسوبة وغير محسوبة حتى يتمكن من الزواج من المحبوبة التي طار قلبه معها وجن عقله بحبها. وكان من هذه الناحية شبيها بالسر وولتر سكوت في عمله المتواصل لتسديد الديون المتراكمة عليه كالجبال.
وعندما لمع نجمه وارتقى السلم الإجتماعي بكل ثقة أصبح شخصية لامعة وبارزة في المجتمع الفرنسي بل وأصبح اجتماعياً من مستوى حبيبة قلبه الكونتيسة هانسكا. وما أن سمحت ظروفه المالية حتى تزوجها في عام 1850، لكن للأسف كان زواجاً قصيراً لم يدم سوى بضعة شهور لأن أديبنا العاشق كان قد فجّر كل طاقاته في السنين القليلة السابقة للزواج مما أستنفد قواه فمات شهيد الوفا.. ومن الحب ما قتل!
المصدر: موسوعات
ت: محمود مسعود